زيت الشهادة
بسم الله الرحمن الرحيم
“يا أيها الانسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه” .
تتحدّث الآية الكريمة من سورة الانشقاق عن أمرين ظاهرين: عن رحلةٍ ونهايتها الحتميّة. أمّا الرحلة فلها صفتان: أن يكون فيها الكدح وأن تكون باتجاه الله. وأمّا النهاية فهي وعدٌ إلهيّ لا يمكن إلّا أن يتمّ متى تمّت الصفتان.
أصل أن تبدأ رحلتك الخاصة هو أمرٌ لا اختيار لك فيه، المسألة في ماهيّة الرحلة ومنتهاها. وهذان أمران قابلان للتبدّل في أيّ لحظة. فأنت، إذ خُلقت ووقعت عليك حجة العقل، لن تمضي في حياتك دون معنىً أو مشروعٍ عامّ. حتى أؤلئك الذين يرون أنفسهم بسطاء، الذين لا تعنيهم قضايا الوجود والخلق والمعاد والمجتمع وسائر الأمور العليا، لا بدّ لهم من رؤيةٍ لهذا الوجود وهذه الحياة الدنيا. لا أقلّ من همّ البقاء على قيد الحياة، وهذا بحدّ ذاته مشروعٌ فرديٌّ يتّخذه الإنسان لنفسه ويمضي به.
ثم ماذا؟
متى رأيت مشروعك قابلاً للتحقّق، فإنّك ستعزم على المسير أكثر، ثم بقدر يقينك بجدوى هذا المشروع وجلاء حقّانيّته أمام عينيك ستتغيّر سرعتك. فإذا فقدت الأمل؛ ستموت، ستذبل روحك قبل أن يفنى جسدك. ولعلّ هذا ما يجعل اليأس من رحمة الله ذنباً محاطاً بكلّ تلك الهيبة من الله جلّ وعلا.
إنّ الشهادة ليست نتيجة، بل هي الرحلة. ولا أعتقد بأنّ الله جلّ ذكره سيمنح إنساناً مّا مقام الشهود والحجّية على البشر مقابل موقفٍ أو لحظة إشراقٍ ختم بها حياته، مع ما لهذه الأمور من أهمية. إذ إنّ تلك اللحظة المفصلية، سمّها رحمةً أو فيضاً أو مكافأةً أو سمّها ما شئت، إنّما هي نقطةٌ متّصلةٌ بما قبلها، إنّها مصبّ مجرى النبع. وقد يحتجّ البعض بأشخاصٍ لم يكونوا من أهل الحق في حياتهم لكنّ الله ختم لهم بحسن العاقبة فرزقوا الشهادة، نعم.. لكنّنا مع ذلك لم نعهد ربّنا يمنح من ليس بأهلٍ للمنحة، فالسؤال إذن ليس عن أهلية الشهيد بالشهادة، فذلك علمه عند الله ولنا ظاهره فقط. السؤال هنا: متى أصبح الشهيد أهلاً للشهادة؟
هل انقلب جوهر الحرّ في يوم عاشوراء فجأة؟ أم كان مرجله يغلي لساعاتٍ وساعات وكان قبلها قد حافظ على جمر فطرته مشتعلاً تحت رماد دنياه؟
إنّ أحدنا، وهو يجهل نفسه، يدّعي إدراكه كنه الآخرين. فيما يتعلّق بقراءة البشر ودراسة تجاربهم والاتّعاظ منها، لا يمكن الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وأنا هنا أتبنّى عبارة الشهيد السعيد باسل الأعرج رضوان الله عليه حين يقول: ليست الحقيقة إلا الطريقة التي تتبعها في البحث عن الحقيقة. إنّ أقصى ما يمكن بلوغه هو التماس المؤشرات والدلائل التي برزت وتسرّبت من سيرة زيدٍ أو عمر، ثم مقارنتها بالسنن الإلهية وعرضها على دليل أهل البيت عليهم السلام، فنصل بذلك إلى تشخيص ما نحتاجه. أو أن يبلغنا المعصوم بحقيقة شخصٍ مّا فنبني آراءنا ومواقفنا على أساسه.
الشهادة إذن هي رحلةٌ بين حياتين، أو رحلةٌ من حياةٍ لأخرى، يتمّ تشييد مقامها في عالم الدنيا حجراً إثر حجر، ليتجلّى في عالم الآخرة كما يليق بذاك العالم. ومقتضى رحمة الله، ثم عدله، ألّا يكون ذاك المقام على قدرٍ واحد. وإلّا لفاته الكثيرون، أو بعبارةٍ أوضح، لوجب حينذاك أن يكون مقام الشهادة على قدر سيد عالم الشهادة، أي على قدر الحسين عليه السلام، فما حال من هم دونه حينها؟
يصف الإمام الخامنئي دام ظلّه الشهادة بأنّها “الزيت المراق نذراً لأبناء الأمّة” . فحسب تعبير الإمام، إنّ هذا الزيت سيراق حتماً، “كلّ نفسٍ ذائقة الموت” . والفرق بين الموت والشهادة يكمن في أثر ذلك الزيت. هناك هدفٌ مشتركٌ بين عامّة المؤمنين، ألا وهو النجاة في يوم الحساب. ثم هناك هدفٌ آخر يشترك فيه خواصّ المؤمنين، وهو خلاص البشرية وأداء تكليف الخلافة على الأرض. الواقع أنّ الهدف الثاني يشمل الأوّل، مثلهما كمثل المستحبّات للواجبات، فالفرد الذي يسكنه الهمّ للمواظبة على صلاة الليل لن تفوته الصلاة الواجبة، بل إنّ أداءها أوّل الوقت يصبح عنده من المسلّمات. مع فارقٍ في القياس، إذ إنّ خلافة الإنسان للّه ليست أمراً مستحبّاً، بل هي الواجب الأوّل الذي ينحدر عنه كلّ فرع. لكن كلٌّ ينهض منه بما اختار واستطاع.
أشخاصٌ كالشهيد الحاج قاسم سليماني والشهيد الحاج أبو مهدي المهندس، نذروا دنياهم لخدمة دين الله وعباده، يمكن أن تقول فيهم أنّهم نذروا زيتهم لأبناء الأمّة. فرموا أنفسهم في المواقع المتقدّمة دون مكاسب دنيوية مرجوّة، فأصبحوا في الواجهة. وصار فعلهم بمثابة التقرير وقولهم بمنزلة الحجّة على من عاشروهم ثم من عشقوهم دون أن يعاشروهم. ولمن لم يلتفت بعد، فإنّ تلك مسؤوليةٌ عظيمةُ تثقل كاهل الإنسان المخلص وتكاد تخنقه. فهل اختاروا هذا المسار لأجل بلوغ الجنّة فقط؟ إنّ عملاً كالجهاد وحياةً كحياة هؤلاء العظماء، من دشمةٍ لدشمة ومن جبهةٍ لجبهة، بعيداً عن الأهل والأمان، إنّ حياةً كتلك هي النموذج الواضح الذي لا لبس فيه للإنسان الذي يضع الأمانة الإلهية نصب عينيه، ذلك الإنسان الذي يليق بمقام الشهادة. ولا فرق بعدها إن مات مقتولاً أو مات على الفراش. إنّ رحلة هؤلاء كانت لآخر لحظةٍ فيها رحلة شهادة، فلم يكتفوا بأن يكونوا أحياء، بل قاموا ببثّ الحياة في الأرض.
لا يمكن لأيّ مخلوقٍ أن يشهد على من لا يعرفه، فلا يمكن للساني مثلاً أن يشهد على أقوالك أنت. كذلك الأمر، لا يمكن للإنسان أن يشهد على بشرٍ لم يعرفهم، وإن لم يعرفهم بالاسم فإنّه قد عرف طريقة معاشهم ونمط حياتهم وخبر أوجاعهم وآلامهم وحمل همومهم ورفع راية مظلوميّتهم وسعى في إصلاح دينهم ودنياهم. لهذا إنّهم شهداء من قبل مناياهم. لا يمكن لأيّ عراقيّ أو لبنانيّ أو فلسطينيّ أو إيرانيّ أو يمنيّ أو أفغانيّ أو أيّ فردٍ عاش في منطقتنا على الأقلّ أن يقف غداً أمام الله ويقول: أنا لا أعرف قاسم سليماني ولا أبو مهدي المهندس وأنكر فضلهم عليّ. غداً يوم الشهود، يوم انكشاف الحقيقة، يومٌ لا كذب فيه ولا إنكار، يومٌ لا مكان فيه إلّا للصدق والانصاف.
إنّ الشهيد في سباقٍ مع نفسه ومع العمر، يسأل الله أن يختم رحلته بالاستقامة. الشهداء لا يهربون إلى الشهادة، الشهداء ثابتو الخطى يعملون بجدّ وإخلاص في سيرهم نحو الموت. إنّ تخيّر أفضل أنواع المنيّة يحتاج أفضل أنواع الحياة.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الشهيد الحاج قاسم سليمانيعبقرية الشهادةالشهيد الحاج أبو مهدي المهندسجدلية الحياة والموتالاستشهادالشهادة المقالات المرتبطة
رؤى العالم بنظرة غربيــة: الإثنوجرافيا الجديدة
نشأت الإثنوجرافيا الجديدة New Ethnography في الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في سياق الاهتمام بمدخل منهجي يركّز
الأسرة المسلمة في الثقافة العاشورائيّة
من أهمّ ما يميّز مدرسة كربلاء وعاشوراء أنّنا نستطيع أن نستفيد منها دروسًا في شتّى مجالات الحياة، عكس ما يمكن أن يتصوّره الإنسان بأنّ دروس عاشوراء منحصرة في جانب من جوانب الحياة أو في الجانب الثوريّ، والجهاديّ أو ما شابه.
نزع الاستعمار عن المعارف ونظريّاتها المسافرة
إنّ الكلام عن نزع الاستعمار عن المعارف هو مساءلة تحويل الخبرات، وتنقّل الأفكار، والتساؤل حول ما نتعلّمه وما نعلّمه؛ ما يمكننا تعلّمه من الآخر أيًا كان ومن حيثما يأتي