العارف الثائر.. السائر إلى الجمال المطلق
شهادة الحاج قاسم بلغة “علم الجمال”
“اتّصل بي من سوريا، كانت أصوات القذائف والرصاص تُسمع بوضوح عبر الهاتف، سلّم وبادرني بالقول: علمت بأن الثلوج قد غطّت أطراف طهران، في هكذا طقس تنزل الغزلان من المرتفعات الجبلية بحثًا عما تأكله، جهّز فورًا كمية من الأعلاف والأعشاب المناسبة، وضعها بالقرب من الثكنة كي لا تعاني الغزلان وتموت جوعًا!
عاد واتصل مجدّدًا بعد الظهر! سألني: هل أنجزت ما طلبته منك؟ قلت له: قضي الأمر وتم كما تشاء. سألته متعجبًا: لكن كيف يتسنّى لك التفكير بطعام الغزلان ومتابعته وسط المعارك ضد الدواعش؟
أجاب الحاج قاسم: لدي إيمان واعتقاد عميق، بدعاء الغزلان لنا بالخير!”[1].
الحديث عن الجمال جميل بحدّ ذاته، فكيف إن كان عن إنسان جمالي بامتياز، يرشح ذكره حنين عشق ممن لم يعرفه، ودموع شوق ممن عرفه، وسؤال دهشة: من كان؟ هل عرفناه؟ وهل يمكن معرفته؟ إمامه الذي سماه من زمن “الشهيد الحي” طلب منّا أن نتعامل مع “رفيقه سعيد الحظ” كمدرسة ومنهج؛ ثم أردف بثقة المربيّ “كل ما ظهر منه قبل وبعد شهادته، ليس سوى غيض من فيضه”. رشحة من ضياه وشمة من أريجه.
شخصية متعدّدة الأبعاد والأسرار والأطوار، لا تشبه أحدًا وتشبه كل الأولياء والعرفاء والشهداء من أهل المعنى وأهل المعرفة والعرفان الجهادي الولائي “الناهل من ينبوع روح الله”.
نطلّ بحياء على لون من قوس ألوانه الزاهية، نتبرّك في محضره بالكلام عن الجمال والشهادة، عن جمال الشهادة، وشهود الجمال الإلهي المطلق لدى العارف الشهيد.
يقول روح الله:
“أما الشهداء فلا يمكن أن نقول عنهم شيئًا. الشهداء شموع محفل الأحباب. الشهداء في قهقهة سكرتهم، وفي بهجة وصولهم عند ربهم يرزقون. وهم من النفوس المطمئنة التي خاطبها خالقها: ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي﴾[2]. وهنا يكون الحديث عن العشق والعشق فقط، والقلم يعجز عن تصوير ذلك”[3].
فهو إذن حديث العشق، الذي يحيلنا بلا مقدّمات إلى حديث الجمال؛ فهما رفيقان لا ينفصلان سرًّا ولا جهرًا، في سير الإنسان وسلوكه في رحلة التكامل حتى لقاء الله، وحينها لا يوجد إلا الهناء وفرح الوصال والبشرى، ومقام “أحياء عند ربهم”.
نعترف بعجزنا أولًا وآخرًا، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليم الشهيد، وإنما نتعبّد بأمر أوليائه، ونسعى تلبية لنداء فطرته الأصيل؛ بحب الجمال والكمال والتحدث بنعمة الله، وتحليق الفراشة حول نور الشهيد العارف لتحترق بدهشة الوصول لجنة اللقاء.
ولكن ما هو الجمال؟
خلق الله الإنسان ووضع فيه ميولًا فطرية تساعده في مسيرته التكاملية الاختيارية للوصول إلى الغاية من خلقه، وبالنسبة للجمال يقول الشهيد مطهري: إنّ الإنسان مفطور على حب الجمال وكذلك على خلق الجمال[4]. الإنسان ينجذب للجمال ويقع تحت تأثيره فيتولد “الحب” للأمر الجميل والرغبة في التوجه نحوه، أو التماهي معه والحصول عليه، والتحقّق فيه حسب اختلاف موارد الجمال وأنواعه ومستوياته.
وقد قيل الكثير في تعريف الجمال، فهو التناسب والقدر “لدى أفلاطون، وهو “الكمال اللائق لكل موجود” عند السهروردي[5]، وصولًا إلى تعريف آية الله مصباح يزدي (رض) “بأن الجمال هو ما يبعث على الإعجاب واللذة”[6]، وما قرّره آية الله جوادي آملي بأن “الجمال هو الأمر الملائم لوسائل الإدراك عند الإنسان”[7].
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن علم الجمال يتبع منهجيًّا لعلم القيم (الأكسيولوجيا)، وأن القيم الجماليّة مثلها مثل القيم الأخلاقية تشكّل جزءًا من المباني الهامّة لأي رؤية كونية وفلسفية، (إضافة إلى علم الوجود وعلم المعرفة)، وبالتالي تساهم في صياغة فلسفة التربية الناتجة عن هذه الرؤية والفلسفة العامة. فحين يتقرّر في الفلسفة الإسلامية مثلًا، بأنّ الطبيعة والكون والموجودات كلّها آيات دالة على حكمة وعلم وجمال الخالق تعالى، فإنّ هذا المبنى الوجودي القيمي، ينعكس بشكل طبيعي في أهداف التربية وأصولها وأساليبها، ويصبح التعرّف على جمال المخلوقات والطبيعة ومستويات الجمال الأعلى – جزءًا لا يتجزّأ من حركة تكامل الإنسان والمجتمع في التربية الإسلاميّة وانعكاساتها في الفكر والعمل والمناهج ونمط الحياة.
وعليه، فحين يتقرّر في المباني المعرفيّة (أبستمولوجيا Epistemology ) للتربية الإسلامية مثلًا، بأنّ الإنسان يمتلك عدّة مصادر ووسائل للمعرفة والإدراك، وبما أنّ الجمال يتلاءم مع وسائل إدراك الإنسان، فإنّ هذا سيوضح لنا تعدّدًا لمستويات الجمال بحسب تعدد وسائل الإدراك عند الإنسان.
يعلمنا آية الله مصباح يزدي (رض) “فإن الذي يدرك الشاعر من لطيف المعاني في الأشعار المشتملة علی الاستعارات والکنايات ليس إلّا الجمال؛ وأن الذي يعجب الحکيم من تناسق الکون وحسن انتظامه، بل يراه صفة ذاتية للوجود، ليس إلّا الجمال؛ وأن الذي يروع العارف عند شهوده لملکوت السماوات والأرض ليس إلّا الجمال. فالجمال صوريّ ومعنويّ، والمدرك للجمال المعنوي هو الوهم في المعاني الجزئية، والعقل في ما فوقها”[8].
يرتّب الباحث أحمد نقي زاده[9] مراتب الجمال وعلاقة الإنسان بها، فيرى أن الإنسان يستشعر:
-
الجمال الحسّي المادّي بواسطة حواسه التي تنجذب للتناسب والنظم والتقارن والقدر وغيرها من معايير الجمال الملموس.
-
وفي مرحلة أعلى يستشعر الإنسان الجمال النفسي بقواه النفسية بما يؤدّي إلى انبساط وسرور لديه كشعوره بالعلم أو الحرية.
-
كذلك فإنه في مرحلة أعلى يلتذ ويُعجب بالجمال المعقول بواسطة عقله، فيدرك الحسن العقلي وقضايا الحق والخير والجمال و…
-
وصولًا إلى مرتبة أعلى من الجمال وهي الجمال الإلهي المطلق اللامتناهي والذي تدركه روح الإنسان.
وخلاصة القول: إنّ الجمال ذو مراتب متعدّدة، وأن الإنسان مفطور على حبه، ويمكنه إدراكه عبر أكثر من وسيلة. وعليه، فإن الجمال لا ينحصر بالجمال المادي الملموس، بل يتعدّاه إلى مراتب أعلى وأرقى، إنّ العقل في فكرنا الإسلامي يستطيع إدراك الجمال، وقد تمّ الارتكاز على هذا الأمر ليصبح أصلًا في المنظومة العقائدية تحت اسم “الحسن العقلي”، حيث إن العقل يميّز الحسن من القبح، وبذلك يُنتج حُجيّة العقل واعتباره “نبيًّا باطنيًّا” كما تُشير بعض الروايات.
فالعقل في هذه الرؤية يدير حركة الإنسان في إحساسه بالجمال وتفاعله معه، وتمييز حبه وخلقه (كخلق الفن والأدب والإبداع…)، وذهب الفيلسوف المسلم أبو حيان التوحيدي – الذي يُعدّه البعض مؤسّسًا لعلم الجمال قبل 4 قرون من تأسيسه في أوروبا – إلى “أنّ العقل وحده هو القادر على كشف معايير الجمال الحسي، وعلى إدراك الجمال الإلهي المطلق”.
ومن زاوية محورية البعد الجمالي في رشد الإنسان ومسيرته التكاملية، يمكن ابتكار تعريف مستنبط لعملية هداية الإنسان نحو الكمال والحياة بأعلى مستوياتها “إن التربية هي عبور تكاملي للإنسان، بإشراف العقل، من الجمال المادّي النسبي إلى الجمال المعنوي الإلهي المطلق”[10].
حيّ على الحياة،حيّ على الجمال.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[11].
وهكذا، فإن حياة الإنسان متعدّدة المستويات وهي مفهوم “تشكيكي” ذي درجات، وبالنظرة الجمالية فإن إدراك الجمال والسعي للتحقّق به، والتربّي به خطوة خطوة في مستوياته الصاعدة، يضاعف الحياة والإحساس بها وبمباهجها وآياتها كتجلٍّ لأسماء الله وصفاته وأفعاله. وبالمقابل فإن تنمية أجهزة الإدراك (حسًّا ووهمًا وعقلًا وروحًا) من خلال تهذيب النفس وتخليصها من شوائب “ما سوى الله” تجذب نحو مستويات الجمال والفرح والحب بما لا يمكن لذوي المراتب الأدنى من تصوره فضلًا عن إدراكه.
وحول علاقة الحياة بالجمال، يكتب آية الله مصباح (رض) الولاية والحكمة:
“الوجود مطلوب لکلّ موجود، ومن ذلك أن کل إنسان بل کل موجود شاعر فإنه يحبّ نفسه، ويحبّ مقوّمات وجوده ومکمّلاته. ولو حصل له مشاهدة ذاته لرآها تفيض بالجمال، وهذا بحسب وجوده مع صرف النظر عن مقايسته إلى وجود آخر، وهکذا الحال في شهود کل وجود.
فإذا أفاض الله على عبد بمعرفة شهودية وعلم حضوري بمراتب الوجود العالية لأدهشه جمالها، ولقضی عجبًا وخرّ صعقًا. فعرف أن الوجود في ذاته جميل، وعرف مغزی قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه﴾.
فالوجود يوصف أنه مطلوب لکل موجود، وأنّ کل موجود يحبّه ويلتذّ به فهو جميل کما أنه خير. وکلّما کان مرتبة الوجود أشدّ کان أجمل، والعالم بمجموعه جميل، وإنما القبح والشرّ يأتي من المقايسة والنسبة”[12].
إن إدراك الجمال – والذي مصدره الأصلي هو الجمال الإلهي – لا يمكن أن يتم فقط عبر الحواس، لأن هذه الحواس يمكن أن تضل وتنحرف، العقل هو الذي يهدي الإنسان، ويوجهه لمعرفة الله الخالق والرب والمالك الملك المطلق.
عندما يحكم العقل وفق قواعده المنطقية والاستدلالية على أمر ما بأنه جيد أو سيء، حسن أو قبيح، حق أو باطل فإن حكمه ثابت ولا يتغير ولا يعرض عليه ما يعرض على الحواس والخيال والوهم وغيرها من توابع الحس البشري، من خطأ واشتباه وضلال.
إن الإدراك الجمالي مقرون بلذة قصوى يحسها العارف لأنه يقف أمام حقيقة الحقائق. فإذا تعاملنا مع العالم على أساس أنه انعكاس لخالقه، فجماله من جماله، فكيف يمكن التعاطي مع هذا الجمال؟ للكرماني صاحب كتاب راحة العقل إجابة صريحة يقول فيها: “فكلما كان الشيء المُدرَك أجمع للكمال والجمال والزينة والموافقة والحسن والضياء، كان فرح المدرِك له به أعظم، ومسرته والبهاء به أشهر”.
شوقًا إلى موت الشهادة.
في العام 2016 تنهمر دموع الحاج قاسم وهو ينشد شعرًا في لقاء تكريمي لرفاقه الشهداء الواصلين إلى دار المقام “عند ربهم”:
“كل الأحباء رحلوا، فوأسفاه من بقي “أنا”
يا حسرتي، الورود تركت الشوك وهو “أنا”
جاء شيخ الطريقة وأرشدنا لدرب السفر
لكن ذلك الذي لم يسافر ولم يصل “أنا””[13].
حسرة الانتقال إلى شهود الجمال الإلهي، قد ترسّخت عند هذا “العارف المجاهد” من عبر مستويات الجمال الحسي والنفسي، وصولًا إلى لجمال العقلي، الذي تحقّق نظريًّا بعمق البصيرة وإدراك المشروع الإلهي للولي، ورسم الأهداف العالمية الكبرى والإخلاص للأولويات جهادًا وإبداعًا وتخطيطًا استراتيجيًّا وعمليًّا بحركة سير وسلوك عرفاني جهادي مفعم بالقتال، ودموع الدعاء والبكاء على أهل البيت وكل الأطفال والمستضعفين والمعذبين في كل أنحاء العالم، وطلب العلم والمعرفة والمطالعة، وتأليف القلوب بين كل المناضلين عبر الحدود المصطنعة، تعبّد بطاعة الولي بهمة عالية وذكاء حنون، وشجاعة مذهلة، وتدبير عقلاني محيّر للأعداء والأصدقاء.. وحان الوقت للانتقال إلى حضن الجمال الروحاني الإلهي والرزق والاستبشار..
يقول سيد عرفاء العصر الإمام الخميني (قده):
“إن الشهادة في سبيل الله ليست بالأمر الذي يمكن للعقل البشري المحدود أن يقيمها ويدرك مدى عظمتها، فالمقام السامي للشهيد في سبيل الحق والهدف الإلهي، لا تستطيع الرؤية المحدودة للممكنات أن تدركه، فمثل هذه القيمة العظيمة التي لا يمكن أن تُقيّم إلا بالمعايير الإلهية، وهذا المقام الرفيع لا يمكن أن يدرك إلا بالعين الربانية ولسنا نحن الترابيون فقط من نعجز عن درك كنه ذلك، بل حتى الخلائق الملكوتية لا تجد إلى درك كنه ذلك سبيلًا؛ لأنه من مختصات الإنسان الكامل. والملكوتيون تفصلهم مسافات عن هذا المقام المفعم بالأسرار. فليتوقف القلم عند هذا الحد ويعترف بعجزه.
ونحن الباقون والمتخلفون عن ركب الشهادة، علينا أن نعدّ الأيام في طلب وتمني هذا المقام وتلك القيمة. وأن نحمل معنا إلى قبورنا حسرة الشهادة والشهداء وذويهم، الذين قدموا ثمرة حياتهم وأفلاذ أكبادهم بكل إيثار وفخر على طريق الشهادة والشهداء.
وأن نشعر بالخجل من أنفسنا، أمام هذه الشجاعة المنقطعة النظير للشهداء وأصدقائهم من الأسرى والجرحى والمفقودين، وشوقهم الذي يفوق الوصف للعودة إلى ساحات الحرب والشهادة. فهؤلاء النساء والرجال والأطفال القدوة، الذين يهتفون وينشدون للشهادة من تحت الأنقاض، وعلى أسرّة المستشفيات، وبأيدٍ وأرجلٍ مقطوعة يتمنون العودة إلى جبهات بناء الإنسان. هم فوق ما يمكن أن نتصوره، أو ما يكتبه العرفاء والفلاسفة ويقدّمه الفنانون والرسامون.
فإن ما وصل إليه هؤلاء بالاستدلال والبحث والسير والسلوك، وصل إليه أولئك بالعيان، وما كانوا يبحثون عنه في الكتب وبين صفحاتها، وجده أولئك في ميادين الدم والشهادة في سبيل الله”[14].
إذا أرادوا أراد؛ حين يختار الحاج قاسم متى وكيف يستشهد!
ينقل لنا أحد العلماء المجاهدين في الحرس الثوري بأنه بعد أيام من شهادة الحاج قاسم ذهب إلى مركز اللواء (الشهيد) “عبد الرسول استوار” ليقدّم له العزاء برحيل رفيق دربه الطويل، ليفاجأ بأن “الحاج رسول” كما كانوا ينادونه، قال له: لن أعزّي أحد، ولن أتقبّل العزاء برحيل الحاج قاسم!
سأله صاحبنا: ما الخبر؟
قال الحاج رسول: منذ فترة كنت أتمشى مع الحاج قاسم في “حلب” ونتحدث عن حياتنا وذكرياتنا وأحوالنا، فقلت له: كل رفاقنا استشهدوا ولا بدّ أن هناك خلل عندنا ومشكلة ما فينا، أنا وأنت حيث إننا لا زلنا أحياء ولم نوفق للالتحاق بهم!؟ وخاصة أنت؛ كونك اقتربت من الشهادة مرات ومرات ولكن بقيت حيًّا!
يقول “الحاج رسول” – والذي عاد فاستشهد منذ شهرين في العراق بعد معاناته لسنوات من الإصابة بالأسلحة الكيميائية – بأن رفيقه وكعادته ضحك وقال له: “سأقول لك أمرًا ولا يحق لك أن تتحدث به طالما أنا على قيد الحياة! أنا قد حصلت على الشهادة! وهي بيدي وتحت تصرفي!
وقد “أعطوني” حرية الاختيار، وقرار متى وكيف أستشهد هو رهن إرادتي!”.
يقول “الحاج رسول”: “أدركت حينها، بأن الحاج قاسم قد وصل إلى غاية مناه، وها هو يخطط لتكون شهادته وما يليها بحد ذاتها معركة كبرى وجزء مستمر من العمليات التي سينتصر بها حيًّا وميتًا! وكنت أنتظر لأرى تحقّق إرادته وكيف سيبدع شهادته بيده!”.
اللواء “عبد الرسول أستوار” التحق برفاقه في شهر كانون الأول 2020 ولم يسمح لصاحبنا بنقل هذه الكرامة المدهشة في حياته، وتركها إشارة لمقام ذلك العارف الواصل؛ إن لله رجالًا إذا أرادوا أراد. ولعل في إشارات الولي العارف الإمام الخامنئي إلى “انتصارات” “رفيقنا سعيد الحظ” الحاج قاسم على الأعداء في حياته وبعد رحيله تلميحًا إلى تلك الخطة والعمليات الكبرى!
“فإذا كان المجاهد شهيدًا، كان “العارف الذي تضيء له أنوار العلم، فيبصر به عجائب الغيب”. ومن لطائف موافقات بعض العرفاء، أنه أرجع اسم الله “الشهيد” إلى اسمه تعالى “العليم”. فالله عالم الغيب والشهادة، فأمّا الشهيد الآدمي، فيعلم من الغيب في حياته الخاصّة ما لا يعلمه غيره من البشر. وطالما أنه يبعث و”اللون لون الدم”، فإنّه شهيد على الخلق أيضًا، ولما كان الأمر كذلك، كانت الشهادة اتّخاذًا، كما كانت النبوة اصطفاءً.
ولأنّ العبد قبل أن يصير عارفًا إنّما هو يتعرّف، فيقال له: “لا تختر شيئًا، ولا تكن مع اختيارك حتى تعرف، فإذا عرف، وصار عارفًا، فيقال له: إن شئت اخترْ، وإن شئت لا تخترْ، لأنّك إن اخترت فباختيارنا اخترت، وإن تركت الاختيار فباختيارنا تركت الاختيار، فإنّك بنا في الاختيار، وفي ترك الاختيار!”[15].
“أصحاب المشروع الولائي يصلون لحد من السكينة والطمأنينة، بحيث إنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وقد أخذ الله سبحانه على نفسه أن يوصل إليهم البشرى. وهي ما يرغبون ويحبون مما تعشقه قلوبهم. قد يراها بعضهم، حسب الروايات، في الرؤيا الصادقة، وقد يعيشها بعضهم نصرًا من عند الله سبحانه. وقد يتلمّسها بعضهم آيات وعلامات هي وجه الله في رحمته ووصاله كتلك التي أشار إليها الشهيد قاسم سليماني(في وصيته العرفانية)، عندما قال: “يا معشوقي أحبك لقد رأيتك وشعرت بك مرات عديدة”[16].
فإذا جاز لنا التعبير بأن الروح – التي هي من أمر ربي – هي أعظم أدوات إدراك الإنسان على الإطلاق، فإنها حين تتحرر وتنطلق ستعاين أعظم درجات الجمال والبهجة و “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر” من تجليات الجمال الإلهي المطلق. يشرح روح الله “لربما كان السر في ذلك أن الحجب التي فيما بيننا وبين الله تعالى وتجلياته، تنتهي كل هذه الحجب إلى الإنسان نفسه، الإنسان هو الحجاب الأكبر وكل الحجب الظلمانية أو الحجب النورية تنتهي إلى الحجاب الذي هو الإنسان بذاته، فنحن الحجاب بين ذواتنا وبين وجه الله، فإذا أزال أحد هذا الحجاب في سبيل الله وانكسر الحجاب بفضل التضحية بحياته، فإنه يكون قد كسر جميع الحجب مثل حجاب الشخصية وحجاب الإنية، نعم ينكسر هذا الحجاب بالجهاد والدفاع في سبيل الله وفي سبيل بلاد الله والعقيدة الإلهية”[17].
القتل بيد أشقى الأشقياء؛ سبيلًا لوصال الجمال المطلق!
“ويجب أن نعلم بأن رؤية الجمال المحدود المقطوع عن أصله هو في الحقيقة كـ “لا جمال”؛ لأن المحدود بما هو هو ليس سوى العمى وعين الفقر والنقص. وما لم نر وراء الجمال المحدود ذلك الجمال المطلق، فلن نصل إلى مشاهدة أي جمال في النهاية. يقول الإمام الخميني (قده):
وما دام الإنسان قاصر النظر إلى نفسه وكماله وجماله الموهوم فهو محجوب وبعيد عن الجمال المطلق والكمال الصرف.
اقتضت حكمة الله أن تكون تربية الإنسان بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى؛ وذلك لأن الجمال المقصود والمظهر المنشود هو ذاك الجمال الإطلاقي الذي لا طاقة للمخلوق المحدود أن يحيط به. فللجمال المطلق هيبة لا يقوم لها شيء، وصعقة لا يصحو منها أحد. فلكي لا يعرض عن هذا الجمال لشدة سطوته، ولكي يصل إلى ما كان الغاية من خلقه وإيجاده، ولكي لا يولّي وجهه عنه يوم يلقاه، كان لا بدّ أن يتدرج في مراتب الهيبة والسطوة، فيرتاض بقبول الشدائد والنقمات، فيما إذا صدرت عن جمال الجميل. إن السر الأعظم وراء نقمة الله بأوليائه يكمن في عملية إعدادهم لتقبل عظمة جماله”[18].
“إن أحد الفروق بين مدرسة الإسلام؛ مدرسة التوحيد، وبين المدارس المنحرفة؛ المدارس الإلحادية، هو أن رجال هذه المدرسة يرون الشهادة فوزًا عظيمًا لأنفسهم: (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا).
فهم يستقبلون الشهادة، لأنهم يعتقدون بأن وراء عالم الطبيعة هذا ثمة عوالم أسمى وأكثر نورانية من هذا العالم. المؤمن في هذا العالم يعيش في سجن، وباستشهاده يتحرّر من هذا السجن. هذا أحد الفروق بين مدرستنا، مدرسة التوحيد، وبين بقية المدارس.
إن شبابنا يطلبون الشهادة، وعلماؤنا الملتزمون سباقون إلى الشهادة. أولئك الذين لا يعتقدون بالله وبيوم الجزاء هم الذين يجب أن يخافوا من الموت، هم الذين يجب أن يخافوا من الشهادة. أما نحن، تلامذة مدرسة التوحيد فإننا لا نخاف الشهادة، لا نخشاها. فليأتوا ويجربوا، كما جربوا من قبل. إن إحدى المسائل التي تحققت وهي ما ورد في الحديث: (لا يزال يؤيَّد هذا الدين بالرجل الفاجر). فبواسطة الرجال الفجرة يتأيَّد هذا الدين بإرادة الله”[19].
يتحدث الحاج قاسم في تشييع رفيق دربه ومعاونه الذي سبقه للشهادة في سوريا، القائد الحاج “حسين همداني” فيقول: حين رأيته للمرة الأخيرة،كان ضاحكًا مستبشرًا، واثقًا من شهادته القريبة، قال لي تعالى نلتقط معًا صورة تذكارية، ولعلها ستكون الصورة الأخيرة.
تدمع عيون الحاج قاسم فيمسحها بكوفيته – فلا ندري أهي دموع حزن أو فرح أو شوق للقاء قريب – يضيف:
“حين سمعت منه هذه الكلمات، خطر ببالي أبيات شعر لمولانا (العارف جلال الدين الرومي) وهنا أنشدها في محضر الشهيد، ليفكّر الأعداء بمعانيها ولنتأمّل بها نحن بأنفسنا:
“لا تهددني بالقتل، فإني متعطش أتضرع شوقًا لمصرعي!
إن أراق دمي حضرة المحبوب، أنثر روحي راقصًا فرحًا”
ثم ينتقل إلى قصيدة أخرى لمولانا في وصف العرفاء الواصلين:
يتجولون ويتراقصون في الميدان
رجال مبتهجون تخضبوا بدمائهم
حين يتحررون من أنفسهم يصفّقون فرحًا
حين يخرجون من نقصهم يتمايلون طربًا
مطربوهم يعزفون على الدفوف من صميم القلب
وبحار تموج وتتناغم معهم وجدًا وشوقًا!”[20].
وهنا تخنقه العبرة وتنهمر دموعه مجدّدًا، فيصمت هنيهة ولا يكمل الشعر… قائلًا:
“نعم هكذا هم شهداؤكم”.
سلام على شهيدنا المربّي الجمالي الكبير هو يرشدنا إلى طريقة الشريعة السهلة السمحاء للسير والسلوك الجهادي، وصولًا إلى الفناء بجمال الحق المتعالي ومسك الختام!
سلام على روحه المتذوقة لكل درجات الجمال؛ والتي وصلت إلى أمنية الشهادة، فوصلت واتصلت بنبع الجمال المطلق، وتنعمت بضيافة الحسن الإلهي، و”ما أخفي لهم من قرة أعين”، كما وصف مربّي الشهداء والعرفاء روح الله “هنيئًا لهؤلاء الشهداء ما نالوه من لذة الأنس، ومجاورة الأنبياء العظام، والأولياء الكرام، وشهداء صدر الإسلام، وأكثر من ذلك، هنيئًا لهم بلوغهم نعمة الله التي هي رضوان الله من أكبر”[21]
[1] من سلسلة “فقط براى خدا” (فقط لأجل الله) باللغة الفارسية، إصدار “حوزه هنري”، كرمان 1399ه.ش (2021م).
[2] سورة الفجر، الآيتان 29 و30.
[3] صحيفة الإمام الخميني، الجزء 21، الصفحة 134.
[4] نقي زاده، مباني الفن الديني في الثقافة الإسلامية، [فارسي]، (طهران: دار مكتب نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة2، 1387 هـ. ش، 2008م).
[5] موسوعة علم الجمال، [فارسي] (طهران: فرهنكستان هنر، الطبعة 2، 1384 هـ.ش، 2005م).
[6] آية الله مصباح يزدي، كلمة موجزة حول الجمال، الموقع الرسمي لآية الله مصباح يزدي: W.W.W.mesbahyazi.Org/Arabic
[7] آية الله جواد آملي، الفن والجمال وفق الرؤية الدينية [فارسي]، مجلة نيستان، العدد 7، (طهران: 1385 هـ.ش، 2006م).
[8] كلمة موجزة حول الجمال، مصدر سابق.
[9] مباني الفن الديني في الثقافة الإسلامية، مصدر سابق.
[10] محمد محسن عليق، تبیین دور علم الجمال بين التربية الإسلامية والتربية الغربية: عنوان لأطروحة الدكتوراه في فلسفة التربية والتعليم (فارسي)، جامعة تربيت مدرس –طهران، 1390 ه.ش،2011م.
[11] سورة الأنفال، الآية 24.
[12] كلمة موجزة حول الجمال، آية الله مصباح يزدي، الموقع الرسمي لآية الله مصباح يزدي. W.W.W.mesbahyazi.Org/Arabic
[13] من اللطيف والمعبّر ما ذكره الشاعر الإيراني “مسعود نوروزي راهي” حيث قال: إنني التقيت الحاج قاسم سليماني بعد فترة من إلقائه هذا الشعر، فسألته: من أين أتيت بهذه الأبيات؟ فضحك وقال لي: ما بها؟ فبادرته: ليس لها وزن ولا رديف ولا قافية! فأجابني على الفور وقد وضع يده على كتفي: إن شعرنا الأصلي ننشده في ساحة الحرب! وزنه ثقيل على كاهل الأعداء! رديفه صف مقاتلينا المرصوص! وقافيته صرخة الله أكبر!
أذهلتني سرعة بديهته وبلاغته، فلم أكد أصحو من قوة جوابه، حتى استكمل بصدمة أخرى “إن شاء الله سأستشهد وتنظم أنت لي شعرًا فصيحًا ذا وزن وقافية!”. ولم تمض سنوات ثلاث حتى تحقّقت أمنيته وكتبت قصيدة في شهادته مطلعها:
قسمًا بحمرة ذاك الخاتم السليماني
يموت الشيطان وتبقى حيًّا أيها الشهيد
أي كيان لعشق الأرض بلا حدود أنت
صفوف الطهر من أفغانستان والعراق وإيران و…
[14] صحيفة الإمام الخميني، الجزء18، الصفحة 69.
[15] مقالة لساري عرابي بعنوان: “الشهادة والعرفان”، موقع “متراس”، 02 مايو 2018 https://metras.com/
[16] مقالة للشيخ شفيق جرادي بعنوان: “تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة”، موقع معهد المعارف الحكمية 1/1/2021 https://maarefhekmiya.org/11480/3abkaryat-shahada0
[17] صحيفة النور، الجزء 13.
[18] السيد عباس نور الدين، الله في العرفان؛ المنهج العرفاني ودوره في معرفة الله، (بيروت: بيت الكاتب للطباعة والنشر، الطبعة1، 2014).
[19] صحيفة الإمام الخمينی، الجزء7، الصفحة 140.
[20] مثنوي مولوي، مولانا (جلال الدين الرومي )، الدفتر الثالث (باللغة الفارسية ).
[21] الإمام الخميني، الكلمات القصار، الصفحتان 74و 75.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الشهيد الحاج قاسم سليمانيالشهيد الحاج أبو مهدي المهندسالجلالالعرفانالسير والسلوكعلم الجمالسليمانيالجمال المقالات المرتبطة
القلب وسائر الأعضاء
البُعد الأخلاقيّ في الإنسان، كسائر أبعاده، مركّب وغنيّ. ولا يُخلّ هذا التركّب في وحدة الكائن الإنسانيّ – ووحدة الحياة الإنسانيّة – بل يقوّمها.
جدل الداخل والخارج في تحديات الثورة الإسلامية
حرب هجينة ومثقفون مهجنون لم يعد سرًّا أو مستغربًا، أو اعتباره من أحاديث نظرية المؤامرة (المظلومة)، القول بأن الحصار الاقتصادي
المؤسسة الدينية في ارتكازات الإسلام والمسلمين
الصيغة الأولى: المؤسّسة المنضبطة بضوابط تشبه الصيغ العسكرية، حتى إذا ما حملت صبغةً دينية أكست نفسها طابع القداسة…