إحياء التوحيد في وصية الشهيد الحاج “قاسم سليماني”
للوصية في التّشريع الإسلامي أهمية عظيمة، فهي عهد المؤمن إلى غيره ليصل ما بعد وفاته بأيام حياته، فيلقى ربه وقد أدّى ما عليه من كلّ حق لله أو للناس، أما عن تاركها فقد روي أنه “مَن مات بغير وصيّة، مات ميتة جاهليّة”[1].
وتزداد أهمية الوصية حين تصدر عن أصحاب المقامات المعنوية العالية، لدورها في صناعة الإنسان وحفظ المجتمع. وقد عرف التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر العديد من تلك الوصايا الصادرة عن المعصومين والأولياء الصالحين والشهداء، منها وصية الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني، التي تكشف عن معالم الإنسان التوحيدي، المتجاوز للمعرفة الذهنية بأصول الدين إلى العطاء العملي، لتقدم تجربة إنسانيّة توحيدية إحيائية، زاخرة بالقيم التربوية والأخلاقية، الكفيلة باستنهاض عزائم الفرد في بناءاته التكوينية والاكتسابية المتعددة، وزاخرة بالمبادئ العملية الأساس لإخراج المسلمين من كبوتهم إلى المجتمع التوحيدي، في إطار عملية تكاملية (فردية/ اجتماعية) تقود الأمة إلى الحضارة الإسلامية المقتدرة على مستوى متطلبات العصر وتحدياته.
ونظرًا لأهمية هذه الوصية، واحتفاءً بذكرى هذا القائد الاستثنائي الشريف، نتوقف عند أهم المسائل التي وردت فيها، من منطلق التوحيد الإحيائي الذي يشكل المحور الأساس في القضية:
التوحيد الإحيائي.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[2]،[3]، فالولي الحقيقي للمؤمنين هو الله سبحانه وتعالى، وإحياء المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور هو مشروع تلك الولاية الإلهية.
وقد اهتمت الرسالة التوحيدية بحياة الإنسان المركبة من الذهن والواقع، أي من الفكر والعمل، فالتوحيد ليس مجرد مبدأ فلسفي ذهني مفاده أن االله واحد وليس اثنين وكفى، دون أن يكون له أثر في الخارج، أو مجرد تنظيم للسلوك الخارجيّ، إنّما هو رسالة تهدف إلى صنع الإنسان قبل كلّ شيء، على اعتبار أن تطور المجتمعات أو انحلالها، مرهون باختيار الإنسان وإرادته، أو ما يطلق عليه الشهيد الصدر المحتوى الداخلي للإنسان، ثم منحه الحياة التي تليق بموقعه كخليفة الله، لأنّ “الإسلام يريد أن يعطي للإنسان حياة لا سلوكًا فحسب”[4].
في هذا الإطار، فإن الممارسة الدقيقة للتوحيد على مستوى المحتوى الداخلي للفرد تعني أن كل تعبير في القرآن الكريم عن صفات الله سبحانه وتعالى يتضمن ما ينبغي أن يتحلى به الموحدون، فقوله تعالى: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾[5]؛ يعني ما يجب أن يتحلّى به الموحدون من وعي وصحوة وبصيرة[6].
ويؤطر التوحيد كافة مرافق الحياة لتقوم صناعة الفرد وصوغ نظام الحكم والعلاقات الاجتماعية، وتوجيه حركة التاريخ، ورسم الهدف من هذه الحركة، وتقرير مسؤوليات الناس تجاه الله وتجاه بعضهم الآخر، وتجاه مظاهر الطبيعة[7]، كلها وفق أصول وقيم إلهية محددة.
أما اقتصار التوحيد على المسائل الذهنية الجامدة، والعيش خارج إطار تلك الترجمة العملية فهو ما يساهم في تأخر الفرد والمجتمع، وتكريس سيطرة الطواغيت على العالم، ويجعل العالم منقسمًا إلى سادة وعبيد، طواغيت ومستضعفين. فالتوحيد العملي يعني أنه لا خضوع لغير الله، وأن “الحق لله وحده في أن يكون مهيمنًا على حياتنا الفردية والاجتماعية”[8].
في هذا السياق، زخرت وصية الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني بدعوات النهوض بالتوحيد العملي، فما هي دوائر الإحياء في تلك الوصية؟ وما الأسلوب الذي اتبعه؟ وما هي معالم الإحياء فيها؟
دوائر الإحياء في وصية الشهيد القائد سليماني.
انطلاقًا من يقينه بعالمية الإسلام وقدرته على إدارة كافة شؤون الفرد والمجتمع، شملت دعوات الإحياء في الوصية المستويات الإنسانية والدوائر الاجتماعية كافة؛ بدءًا من المحتوى الداخلي للفرد، ثم السلوك الخارجي. وبدءًا من الداخل الإيراني بكل أطيافه المجتمعي؛ المجاهدون، الشعب، الآباء والأمهات، عوائل الشهداء، السياسيون، الحرس الثوري والجيش، العلماء والمراجع العظام، .. إلى ما يتخطى الحدود الجغرافية والمذهبية، متوجهًا إلى المسلمين كافة من الشيعة والسنة، ثم إلى المجاهدين في كل هذا العالم، لاستنهاض التّوحيد من الأذهان الراكدة إلى الممارسة الفعلية على طريق إحياء الحضارة التوحيدية.
أسلوب الإحياء في وصية الشهيد القائد سليماني.
كشفت أساليب الإحياء في وصية الشهيد سليماني عن شخصية القائد الأخلاقي، الذي يتقن استنهاض الوعي الأخلاقي المرتكز على العقل والشعور معًا، ظاهرًا واستبطانًا، فقدّم من خلال مناجاته الإلهية نموذجًا لتجربة إنسانية رسالية كشفت ما تختزنه تلك الشخصية من قيم وسلوك خاصة، انطلاقًا من إدراكه أن التغيير الاجتماعي ينطلق من إرادة الإنسان واختياره، ثم توجه برسائل إلى الدوائر الاجتماعية المختلفة، وقد سمّى كل دائرة بالخصوص ليثير انتباه الجميع والتفاتهم. ومراعاةً لاختلافات الناس في تلك الدوائر من حيث الأعمار والمستويات التعلمية والمهنية والاهتمامات والطبائع…، فقد استخدم مفردات تخاطب المنطق والعاطفة معًا، بالتحبب الصادق إليهم مرةً “إخوتي وأخواتي، أعزائي، أهالي كرمان الأهالي المحبوبين أنا أحبكم أكثر من أبي وأمي وأبنائي، هذه الولاية هي علي بن أبي طالب وخيمتها خيمة الحسين بن فاطمة، هذا خطابي لكم جميعًا حيث إنكم تعتبرونني فردًا منكم وأخًا لكم وواحدًا منكم…”، والإقرار لهم بالتضحيات التي يقدمونها هم وآباؤهم ثانيةً “كما أنكم قدّمتم مئات الآلاف من الأرواح، الذين قدّموا أسمى التضحيات وبذلوا للإسلام قادة ومجاهدين رفيعي المنزلة، …”، وبتذكيرهم بمسؤولياتهم تجاه حفظ الجمهورية الإسلامية، وبالخطر المحدق بالعالم جراء سيطرة هذا الاستكبار العالمي مرةً أخرى، بخطاب وحدوي عابر للجغرافية والمذاهب “العالم الإسلامي بحاجة دائمًا إلى قائد؛ قائد متّصل بالمعصوم، ومنصّب بصورة شرعيّة وفقهيّة”، ولاية الفقيه الوصفة المنقذة الوحيدة لهذه الأمّة؛ لذلك عليكم أنتم الشّيعة الذين تعتقدون بها اعتقادًا دينيًّا، وأنتم السنّة الذين تعتقدون بها اعتقادًا عقليًّا، أن لا تتخلّوا عن خيمة الولاية”، وقد استخدم مفاهيم ومفردات لها قدرة التأثير النهضوي مثال “الخامنئي وحيدًا وفي منتهى المظلومية”؛ فالوحدة والمظلومية هي مفردات تعيد الذاكرة إلى يوم عاشوراء حين وقف الحسين (ع) وحيدًا مظلومًا يطلب النصرة والمعين، وما تزال حرارة تلك المظلومية تحرق قلوب شيعته وقلب كل حر في هذا العالم، محاولًا تحريك تلك المشاعر الملتهبة، والعقول الحرة نحو الالتفاف حول الولي السيد علي الخامنئي.
وقد كثف الشهيد سليماني من استخدام المفردات التي تمثل القضايا ذات الأولوية “دعم الجمهورية الإسلامية” و”ولاية الفقيه”، مقدّمًا التوحيد بصورة مسائل حياتية لينقل إنسانيّة الدين من الأذهان إلى الحياة العملية، بعد أن شخّص مكمن المشكلة في الذهنية الراكدة، حيث لا تواجه الأمة أزمة معرفة- فالأمور واضحة- بل هي أزمة الإرادة والهمّة في الفرد والأمة – إرادة تفعيل التوحيد في الحياة- باتباع آلهة الأنانية والمصلحة الشخصية، والركون إلى الراحة والخمول …
معالم الإحياء التوحيدي الاستنهاضي في وصية الشهيد القائد سليماني.
تضج الوصية بالكثير من معالم الشخصية الإحيائية عند الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني على مستوى المحتوى الداخلي للفرد والسلوك، بما يختزن من وعي حضاري وحس تغييري، وهي في الوقت نفسه تستبطن دعوات للنهوض بالفرد والمجتمع التوحيدي في سيرهما العملي والتكاملي معًا نحو الحضارة الإسلامية.
نتوقف عند بعض تلك المعالم لقصورنا عن الإحاطة بها كلها، في ورقة بحثية واحدة.
تدرّج الشهيد سليماني في تقديم وصيته منطلقًا من التّشهّد بأصول الدين، وعلى رأسها “التوحيد” بما يتضمنه هذا الجانب العقائدي من مبادئ ومفاهيم، كاشفًا الغطاء عن اعتقادٍ واعٍ قائمٍ على الفهم والشعور لا على التعصب والتقليد الأعمى، حيث يقول: “إلهي أشكرك أن نقلتني من صلب إلى صلب وسمحت لي بالظهور ومنحتني الوجود حتى أتمكن من إدراك أحد أبرز أوليائك.. فإن لم أحظ بتوفيق صحبة رسولك الأعظم .. فقد جعلتني في نفس المسار”.
إلا أن ذاك الاعتقاد الواعي لم يتوقف عند حدود الذهن والقول، بل اقترن بالشعور بالمسؤولية والحركة، فلم يكتفِ الشهيد سليماني بالبكاء على عدم اللحاق بولاية محمد وآل محمد (ص) متحسرًا بالقول “يا ليتني كنت معهم” – كما يفعل أصحاب العقيدة الراكدة- بل بحث عن ذلك الولي الصالح في زمانه، عرفه وفهم فكره وتبنّاه، وفهم عمله، وسار وفقه، وكشف عن اسمه “الخميني” و”الخامنئي” كإعلان عن انتماء لا لبس فيه ولا تردد، وبايعه على السمع والطاعة في الشدة والرخاء تعبيرًا عن صدق انتمائه وولائه وإخلاصه لتلك الولاية الشرعية، معلنًا استعداده للتضحية بكل وجوده فداءً له، فيقول “اللهم أشكرك على أن جعلتني بعد عبدك الصالح الخميني العزيز، سائراً في درب عبد صالح آخر من عبادك الصالحين، … رجل هو حكيم الإسلام والتشيّع وإيران وعالم الإسلام السياسي اليوم، الخامنئي العزيز روحي لروحه الفداء”.
كما لم يكتفِ بذرف الدموع وإقامة مجالس البكاء والعزاء على مصاب ومظلومية الحسين (ع)، وبيان فضائله فحسب، إنما قضى العمر متنقلًا في أصقاع الأرض باحثًا عن طاغوت فيقصيه، ومظلوم فينصره، إحياءً للحق وتكريسًا لمبدأ التوحيد القائم على مبدأ السواسية بين الناس؛ لا أسياد ولا عبيد تحت سلطة إله واحد لا شريك له. مُخرجًا حركة الإمام الحسين (ع) من دائرة الصراعات السياسية والطائفية، إلى نهضة إنسانية أخلاقية عابرة للمذهب والجغرافية وكل الاعتبارات الضيقة “وقد جئتكَ بعينين مغلقتين، ثروتهما .. ذلك الذّخر العظيم المتمثّل بجوهرة الدّموع المسكوبة على الحسين ابن فاطمة (ع)؛ جوهرة ذرف الدّموع على أهل البيت (ع)؛ جوهرة ذرف الدّموع عند الدفاع عن المظلوم واليتيم والدّفاع عن المظلوم المحاصر في قبضة الظّالم”.
وقد قادته المعرفة الحقيقية إلى اليقين بأن الشفاعة لا ينالها إلا العاملون، فلم يتراخَ ركونًا إلى الراحة والرخاء، ولم يتواكل مستجديًا شفاعة قد لا يستحقها، بل عمل على طلبها بالتضرع المقرون بالجد والحركة من جهة: “إلهي! يداي خاويتان؛ .. لكنّني ادّخرت في يديّ شيء وأملي معقودٌ على هذا الشّيء؛ إنّهما كانتا دائمًا ممدودتين إليك، .. وعندما كنت أضعهما لأجلك على الأرض وعلى ركبتيّ، وعندما حملت السّلاح بيدي لأجل الدّفاع عن دينك؛ هذه هي ثروة يداي وأملي بأن تكون قد تقبّلتها”، وبالصبر والثبات مهما تأخرت النتائج من جهة أخرى “من جنديّ قضى 40 عامًا في الساحات”.
سمة أخرى تنكشف أمامنا وهي “الإنسان الخاشع بين يدي الله”، وهذا الخشوع ليس من نوع الخائف من جرمه حين يقف أمام القضاء، إنما هو خوف ناتج عن معرفة، “حين يقف الإنسان أمام ذات عظيمة وحقيقة جليلة فإنه يصاب بالرهبة، هي الرهبة الناتجة عن إحساس بالعظمة وشعور بالصغر أمام تلك العظمة”[9]، فلقد ارتفع في معرفة الله حتى امتلأ قلبه بالرهبة والخشوع والخضوع، فانطلق يجد بالحركة والعمل في سبيله قائلًا: “إلهي! قدماي مترنّحتان، لا رمق فيهما، لا جرأة لهما على عبور الصّراط الذي يمرّ فوق جهنّم. فأنا ترتعش قدماي حتى على الجسر العاديّ، فالويل لي أمام صراطك الذي هو أرفع من الشّعرة وأحدّ من السّيف؛ لكنّ بصيص أملٍ يُبشّرني بإمكانيّة أن لا أتزعزع، وقد أنجو. لقد تجوّلت بهاتين القدمين في حرمكَ وطفتُ حول بيتكَ وركضت حافيًا في حرم أوليائك وبين الحرمين، بين حرمي حسينكَ وعبّاسك؛ كما أنّني ثنيتُ هاتين الرجلين في المتاريس لمدّة طويلة وركضت، وقفزت، وزحفتُ، … لأجل الدّفاع عن دينك آملُ أن تصفح عنّي لأجل تلك القفزات وذلك الزّحف وبحرمة تلك الحرمات”.
وقد اقتلعت تلك الرهبة من الله جذور الخوف من قلبه، فـ “الله هو المعبود ولا معبود سواه، والإله هو الذي يخضع له الإنسان خضوع تقديس وتعظيم وتكريم، ويسلّم له مقاليد أموره”[10]، حتى صار حرًّا سيّدًا لا يكبله قيد دونيّ؛ فلا يخاف الفقر فيهرب منه إلى التملّق والتزلّف والفساد والإفساد سعيًا لاكتساب الجاه أو الغنى، بل كان الفقر على درب العشق لآل بيت محمد (ص) نعمة تستحق الشكر والبرّ، حيث يقول: “إلهي! أشكرك على أن رزقتني والدين فقيرين، إلّا أنّهما كانا متديّنين وعاشقين لأهل البيت وسائرين دائمًا في درب الطّهر والنّقاء. أطلب منكَ متضرّعًا أن تسكنهما في جنّتك ومع أوليائك وترزقني لقاءهما في عالم الآخرة”، ولا يرغب في المكانات الزائلة، بل كان الزهد في كل المكانات الاجتماعية والرتب – مع قدرته عليها- هوية، وقد اكتفى منها بـ” … جنديّ ..”، ولا يخاف الموت، بل كان مطلبه، يطلبه طلب لقاء العاشق بالمعشوق، شهادةً يتفتت فيها جسده “إلهي، الخوف يغمر كلّ وجودي. أنا عاجزٌ عن لجم نفسي، فلا تفضحني. أقسم عليك .. ألحقني بالقافلة التي سارت إليك .. يا معبودي، ويا عشقي ومعشوقي، أحبّك. لقد رأيتكَ وشعرتُ بك مرّات عديدة، ولا أقدر على البقاء بعيدًا عنك. إذن، اقبلني، لكن بالنّحو الذي أكون فيه لائقًا للإتصال بك”.
ولأنه صاحب العقل المبدئي الذي يريد توحيد المسلمين والمستضعفين في خط مواجهة واحدة في كل الميادين في مشروع سياسي واحد، ها هو ينطلق إلى الساحة الاجتماعية والسياسية العامة، مفعّلًا – على خطى الإحيائيين – ثقافة الإصلاح ومسارات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأبعاد العامّة المجتمعيّة؛ الإعلام والثقافة والتربية والسياسة .. مصوّبًا الاهتمام نحو أولويّة “دعم الجمهورية الإسلامية والاعتقاد الحقيقي والعملي بولاية الفقيه”، انطلاقًا من:
-
يقينه بأن الظلم والذل والاستضعاف ليسوا قدرًا محتومًا على الشعوب الإسلامية، فسعى إلى تحرير الأذهان من سطوة الشعور بالضعف والانكسار، وغرس الثقة بالله في النفوس والأمل بالمستقبل قائلًا: “الجمهوريّة الإسلاميّة تطوي اليوم أكثر مراحلها شموخًا”، “فلتعلموا أن نظرة العدوّ إليكم ليست مهمّة”.
-
إدراكه أن سيطرة الطواغيت على العالم وتسخيرهم المسلمين لطاعتهم يعود إلى حصر المسلمين للتوحيد في الأذهان الجامدة، والعيش خارج إطار الترجمة العملية لتلك العقيدة بالانشداد إلى الصغائر على المستوى الفردي والجمعي، “فالذي يخضع لهوى نفسه فإن هذا الهوى هو إلهه، والذي يخضع لطاغية ويجعله مسيطرًا على شؤون حياته فهذا الطاغية هو إلهه، والذين ينصاعون لمجموعة من العقائد والتقاليد الفارغة فهي إلههم … والواقع أن الحياة الإنسانية تعج بألوان الآلهة”[11]، فيتوجه إليهم بالقول: “فلتقدّموا صبغة الله على أيّ صبغة أخرى”، “إياكم أن تختلفوا في المبادئ”، “ما كنت أتألّم لأجله دائمًا هو أنّنا بشكل عام ننسى الله والقرآن والقيم..، بل نضحّي بكلّ هذه الأمور”، “فليجعلوا التصدّي للفساد والابتعاد عن الفساد والبهارج مسلكًا ومنهجاً لهم”، “تؤدّي تصرّفاتكم وتصريحاتكم أو مناظراتكم إلى إضعاف الدين والثورة بنحو من الأنحاء”، “إنني أرى سماحة آية الله العظمى الخامنئي وحيدًا وفي منتهى المظلوميّة”، “إنّ الشّرط الأساسي لكلّ من يسعى في الجمهوريّة الإسلاميّة لاستلام مسؤوليّة معيّنة أن يكون لديه اعتقاد حقيقي وعمليّ بولاية الفقيه”، “الاعتقاد العمليّ بولاية الفقيه؛ أي أن تنصتوا إلى نصائحه، وتطبّقوا من أعماق القلب توصياته وملاحظاته”..
-
وعيه مركزية الجمهورية الإسلامية في التأسيس للمشروع الإسلامي الحضاري، والحفاظ على استقلال الأمة، فيقول: “الجمهوريّة الإسلاميّة هي الحرم، وسوف تبقى سائر الحُرم إنْ بقي هذا الحرم”،”إن الجمهوريّة الإسلاميّة قطب الإسلام والتشيّع، مقرّ الحسين بن علي، اليوم، هو إيران”، “أهمّ إنجازٍ مميّز للإمام الخميني العزيز كان أنّه جعل في بادئ الأمر الإسلام ركيزة لإيران، ومن ثمّ جعل إيران في خدمة الإسلام”، “هذه الولاية هي ولاية عليّ بن أبي طالب وخيمتها خيمة الحسين بن فاطمة، فطوفوا حولها”، “الاعتقاد الحقيقي بالجمهوريّة الإسلاميّة وركيزتها الأساسية من أخلاق وقيم وصولًا إلى المسؤوليّات”، “المسؤولون آباء المجتمع وعليهم أن يعتنوا بمسؤولياتهم فيما يخصّ تربية المجتمع والسهر عليه، لا أن يقوموا بسبب عدم اكتراثهم ولأجل بعض العواطف واستقطاب بعض الأصوات العاطفيّة العابرة بدعم أخلاق تروّج للطلاق والفساد في المجتمع وينتج عنها انهيار العوائل .. عندما يتمّ العمل بالمبادئ، فسوف يكون الجميع حينها على خطى القائد والثورة والجمهوريّة الإسلاميّة”.
-
وعيه حجم وخطورة المؤامرات التي تتعرض لها الجمهورية الإسلامية في مواجهتها لقوى الاستكبار العالمي، وخطورة نجاح تلك المؤامرات على القرآن والأمة الإسلامية من جهة، ويقينه في المقابل من توفر عوامل في ولاية الفقيه تمكّنها من المواجهة والغلبة، وقد أطلق عليها تسمية “الخيمة” بما يختزن ذاك المفهوم من معاني التضافر واللحمة والحماية، فيقول: “لا تتركوا الإسلام وحيدًا في هذه البرهة من الزمن وهو متجلٍّ في الثورة الإسلاميّة والجمهوريّة الإسلاميّة”، “إمامنا الخميني العظيم الجليل، جعل ولاية الفقيه الوصفة المنقذة الوحيدة لهذه الأمّة”، “أساس معاداة العالم للجمهوريّة الإسلاميّة يهدف إلى إحراق وتدمير هذه الخيمة، فلتطوفوا حولها”، “والله والله والله لو أصاب هذه الخيمة أيّ مكروه، فلن يبقى لا بيت الله الحرام ولا المدينة ولا حرم رسول الله، … وسوف يلحق الضّرر بالقرآن”…
-
يقينه بأن رحمة الله لا تنزل على الأمة كمعجزة من السماء، بل بتوفّر العقيدة السليمة مقرونة بالعمل والسعي والحركة والصبر والثبات في أشد الظروف، ووعيه ضخامة القدرات والإمكانات المتوفرة في المجتمع الإسلامي، فيدعو الجميع إلى تضافر تلك القدرات والإمكانات في مواجهة العدو المتمثل بالاستكبار تحت عباءة الولي الفقيه الحكيم، فيقول: “الدفاع عن الإسلام يحتاج ذكاءً واهتمامًا خاصين”، “معرفة العدوّ في الوقت المناسب والإحاطة بأهدافه وسياساته، واتخاذ القرارات والتصرف في الوقت المناسب؛ كلّ واحدة من هذه الأمور عندما لا تتمّ في وقتها سوف تترك أثرًا عميقًا على انتصاركم”، “عليكم أنتم الشّيعة الذين تعتقدون بها اعتقادًا دينيًا، وأنتم السنّة الذين تعتقدون بها اعتقادًا عقليًّا، أن لا تتخلّوا عن خيمة الولاية وأن تتمسّكوا بها”، “تمسّكوا بها (أي ولاية الفقيه) من أجل إنقاذ الإسلام بعيدًا عن أيّ نوع من أنواع الخلاف”، “عليكم باحترام قواتكم المسلّحة التي يقودها الوليّ الفقيه اليوم، وذلك من أجل الدفاع عن أنفسكم، ومذهبكم، وعن الإسلام والبلاد”..
حاولنا من خلال هذه الدراسة، وعلى ضوء وصية الشهيد الحاج قاسم سليماني الكشف عن الجانب الإحيائي الاستنهاضي في تلك الشخصية الرسالية الاستنهاضية، ذاك القائد الذي قاده التزامه بالتوحيد العملي إلى صدق الولاء، وإلى أن يقضي أربعين عامًا من عمره الشريف على جبهات القتال، ملتزمًا مبادئ الجمهورية الإسلامية في دعم المستضعفين، وفي الوقوف إلى جانب حركات التحرر والمظلومين، مهما بلغت التضحيات والأثمان، مساهمًا في خلق وعي واقعي زمني متواصل متصل زمنيًّا بمن سبقه وبمن سيلحق به، وقد تحوّل إلى قوّة استنهاضيّة متجدّدة تحيّر الطغاة؛ لا حياته راحة لهم ولا قتلهم له نجاة.
في الجانب الآخر، وفي السياق نفسه، حفلت الوصية بالدعوات إلى إحياء التوحيد العملي بالإيمان الواعي المفعم بالأمل والنشاط، وحمل الهم والهمّة الرّساليين، وتقديم أولوية الوطن على الذات، وأولوية الأمة على الفرد، ورفض الخضوع للظلم والانحراف الاجتماعي والسياسي، ورفض استغلال السلطة والموقع، والالتزام بالمبادئ الإسلامية المتمثلة – من خلال الوصية- بالإيمان العملي بولاية الفقيه، فـ “التوحيد مشروع عظيم وضخم يدخل حياة الإنسان فيؤثر في مجالاته الاقتصادية بإزالة الفقر أو تعديل الثروة، ويدخل في المجال الاجتماعي، فينتج أخلاقية خاصة في التعامل، ويدخل في مجال النظرة إلى الكون والحياة فيجعلها إلهية، ويدخل في دائرة النفس فيخلق منها نفسًا ذات خصائص سامية، مثل التخلص من ضيق النظر، ومن الشعور بالضعف والهزيمة، فلا يرى صاحبها متطلباته محمودة في الأمور المادية، ولا ينشد إلى الصغائر، ولا يرى هذه الدنيا هي نهاية الحياة، بل يؤمن بحياة أخرى خالدة، ومن هنا يرى الموت بداية لحياة أخرى، وهذه الرؤية لها الأثر الكبير على حياة الإنسان وسلوكه وتعامله”[12].
[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الجزء 19، الصفحة 259.
[2] سورة البقرة، الآية 257.
[3] يشير الشهيد الشيخ مرتضى مطهري في كتابه “التعرف على القرآن” إلى ما التفت إليه المفسّرون من أن لفظة الظلمات في القرآن كما في الآية الكريمة ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات﴾ لا ترد إلا بصيغة الجمع، بينما لفظة النور ترد بصيغة المفرد، وهذا يعني أنّ الطريق الصحيح واحد لا أكثر، وطرق الضلال كثيرة، ولو كانت الظلمات تنحصر بالجهل فحسب، فقد كان بإمكان الفلاسفة أن يقوموا بتلك المهمة، غير أن هناك ظلمات أخرى أخطر بكثير من ظلمة الجهل، ولا يستطيع العلم أن يعالجها، فهناك مثلًا المصلحة الشخصية، حب المال، والأنانية، واتباع الشهوات، وغيرها مما يعتبر ظلمات فردية أخلاقية، وتوجد ظلمات اجتماعية كالظلم، والتفرقة، وغيرهما،.. مما يوحي بنوع من الظلام الاجتماعي المعنوي، وإن مكافحة هذه الظلمات من شأن القرآن والكتب السماوية الأخرى. إنها ظلمات الظلم، والنور هو نور الحرية والعدالة.
[4] محمد باقر الصدر، الكلمات القصار “تربية الإنسان”، (شبكة المعارف الإسلامية، 2013).
https://www.almaaref.org
[5] سورة البقرة، الآية 255.
[6] السيد علي الخامنئي، مشروع الفكر الإسلامي في القرآن، ترجمة: محمد علي آذر شب، (مؤسسة صهبا، 2017)، الصفحة 13.
[7]المرجع نفسه، الصفحة 116.
[8]المرجع نفسه، الصفحة 13.
[9] مشروع الفكر الإسلامي في القرآن، مرجع سابق، الصفحة 25.
[10]المرجع نفسه، الصفحة 106.
[11]مشروع الفكر الإسلامي في القرآن، مرجع سابق، الصفحة 106.
[12] مشروع الفكر الإسلامي في القرآن، مرجع سابق، الصفحة 19.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الشهيد الحاج قاسم سليمانيوصية الحاج قاسمعبقرية الشهادةالشهيد الحاج أبو مهدي المهندسالشهيدالعرفانالشهادةالتوحيد المقالات المرتبطة
زينب (ع) سند الأحرار وشافعة أهل الولاء
عجيبٌ ذاك التضاد في سيرتها التي جمعت بين خَفَر بالغ، وتصدٍّ ثوريّ حاكى الدنيا في تحدّياته.. عجيبٌ ذاك الحنوّ الذي ملأ الدنيا حبًّا ورحمة…
الإنسان الحَبْريّ والإنسان البروميثيّ
كان للانقلاب البروميثيّ على السماء أثرًا وبيلًا على هذه الحياة الأرضيّة. فالإنسان، في قابليّاته التألّهيّة، محوريّ في هذا العالم، ويؤثّر في تناغمه.
دور الدعاء في تكامل الإنسان
العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فحقيقة العبودية بأن يدرك الإنسان بأن له رب مالك الملك، وهو مفردة من مفردات السموات والأرض…