فينومينولوجيا الفاعل المعرفي: عناصر الخبرة الذاتية
تمهيد.
في عالم العلوم الإنسانية، نعيش في الوقت الراهن ومنذ مدة خروجًا عن الأطر المنهجية ذات البعد الأحادي في دراسة الظواهر والحالات المترائية للمراقب، فلم يعد من الإنصاف اتخاذ منهج ومقاربة منهجية واحدة لفهم الظاهرة والحكم عليها، فنجد أن طروحات مثل البين مناهجية، والعبر مناهجية وغيرها تلوح في آفاق العلوم الإنسانية لتحقيق نوع من التحرّر الإبستمولوجي للفهم.
ومن المقاربات المنهجية التي طُرحت محاولة تفادي التحيّز الذاتي للباحث عند دراسته لواقعة أو ظاهرة اجتماعية، والتي لا بدّ من أخذها بعين الجد، الفينومينولوجيا أو ما يسمّى بالظاهراتية، وهي باختصار محاولة لدراسة الظاهرة والفعل الاجتماعي من خلال الدخول إلى الخبرة المعاشة من قبل الفاعل نفسه لا من خارج ذات الفاعل، وباختصار، يجد أصحاب هذه الرؤية – وكليفورد غيرتز في كتابه “تأويل الثقافات” حاول جاهدًا التنظير لها وتطبيقها في دراساته الحقلية الأنثروبولوجية- أن الفخ الذي يقع فيه المفكّر والعالم الإنساني عند محاولته لفهم أي ظاهرة أو فعل يقع في الأفق الاجتماعي هو فخ القراءة من الخارج، أو بعينه هو لا بعين الفاعل نفسه والذي هو موضوع الدراسة.
الفينومينولوجيا سعت للاهتمام بالخبرة – كما يسمّيها بعض الأنثروبولوجيين الذين قابلتهم- التي يعيشها الفرد، فليس مصبّ الاهتمام هو الواقع الخارجي، بل النفس والذات التي تعيش الظاهرة، وبالتالي مركز الاهتمام هو الظاهرة المعرفية والخبرة الذاتية[1].
من هنا، ما أريد البحث عنه بشكل أساسي في هذه المقالة هو بعض المؤشرات التي تشكّل الخبرة المعاشة لدى فاعل المعرفة نفسه، وبتعبير آخر، موضوع البحث هو الشخص الذي يتعاطى الفعل المعرفي سواء أكان بتخصص جامعي، أم بمطالعات وقراءات أم غيرهما. هذا “المثقف” أو “المتخصّص” كيف يعيش خبرة المعرفة التي يتلقاها؟ من الممكن قراءة هذا الفعل من خارج الخبرة فيبحث عن إجابات لأسئلة مثل: ما هو موقع المثقفين ضمن البنية الاجتماعية التي يعيشون فيها؟ ما هي الوظيفة التي يؤدونها في مجتمعهم؟ ما دور هذه الطبقة ضمن الصراعات السياسية والاجتماعية التي تحدث؟ إلى غيرها من الأسئلة والإشكاليات التي تتضمّن منهجًا فلنسمّه “خارجيًّا” في التعامل مع “الفاعل المعرفي” أو المثقف أو المتخصّص، ولكن ما نريد بحثه هنا –وفق إطار الفينومينولوجيا والقراءة الداخلية للفعل والظاهرة- هو الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما هي الخبرة النفسية والفلسفية والروحية التي يعيشها الفاعل هذا؟ وكيف تؤثّر هذه الخبرة على سلوكياته تجاه نفسه واتجاه الآخر؟ وما هي العوامل التي تساهم في التغاير بين هذه الخبرات لدى الفاعلين المعرفيين؟
ولكن هناك بحث مهم يقع قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، وهو البحث عن العناصر التي تقدّمها للمعرفة للفاعل، ومن ثمّ بعد معرفة هذه العناصر يأتي دور الإجابة عن تلك الأسئلة التي تبحث عن التفاعل والخبرة، ولذا سأخصّص هذه المقالة لطرح بعض الأفكار التي تدور حول “العناصر التي تقدّمها المعرفة كمادة للخبرة التي يعيشها الفاعل المعرفي”.
ونلفت النظر أن المقالة تحاول استقصاء العوامل والمؤشرات، التي تشكّل فرضية أو موجّهًا للبحث الميداني الحقلي.
عناصر الخبرة المعرفية.
- التصوّرات والمعاني: ابتكار أبعاد الواقع.
من أهم العناصر التي تشتمل عليها القراءات والعلوم والفلسفات هي ابتكار أو نحت تصورات ومعاني جديدة للواقع الخارجي، والتي لا تكون متوافرة للمراقب الأولي وللملاحظة الساذجة – أي البسيطة غير المعمّقة-، بل يمكن أن نقول: إن أهم إنجازات الفلسفات والعلوم الإنسانية هي في إبداع مثل هذه التصورات، مثلًا نجد أن بعض علماء الاجتماع طرح تصور “الفيزياء الاجتماعية” في بداية نشوء السوسيولوجيا كفرع علمي مستقل، هذا النحت لهذا التصور يتضمن إعادة إنتاج لفهم جديد حول المجتمع من أن له قوانين ثابتة كقوانين الأجسام في الفيزياء، والأمر نفسه نجده في الفلسفة العربية والإسلامية، حيث نجد أن الكندي أو الفارابي بشكل أساسي حاولوا بعد وفود الترجمات اليونانية الفلسفية من ابتكار تصورات جديدة ومعاني جديدة للواقع، وكمثال على ذلك معنى “واجب الوجود” الذي كان فتحًا جديدًا لإعادة تصور معنى الخلق والإيجاد وعلاقة الخالق بالعالم، وكذلك مثلًا نجد “البرادايم” معنى جديد تم نحته لإنتاج فهم جديد للواقع المعرفي الإبستمولوجي.
إذًا، العنصر الأول الذي تؤمّنه المعرفة للفاعل، هو تشكّل التصورات غير المرئية أو غير المأخوذة بشكل ساذج من الخارج، عندئذ تعيد المعرفة تشكّل الهوية الذاتية المعرفية للفاعل فيصبغ الواقع بصبغة القوالب التصورية والمفاهيمية التي أخذها من التفاعل المعرفي مع الكتب والتخصّصات والعلوم والمعارف.
- الحجج والأدلة: ترتيب آليات اليقين.
لا يخفى، أن العلوم كما تشتمل على معانٍ ومفاهيم، فهي تشتمل كذلك على الأدلّة والبراهين التي يتوسّل بها الفيلسوف أو العالم الإنساني أو غيرهما لإثبات القضايا والمسائل التي يدعونها، واختلاف آليات البرهنة والاستدلالات هي عنصر آخر لا يقل أهمية عن العنصر السابق في تشكّل الخبر المعاشة لدى الفاعل المعرفي، وبالتالي في تشكّل الذات التي بها يفعل ويسلك في واقعه وعلى أساسها يأخذ القرارات والمواقف السياسية والاجتماعية، بل وحتى التي لها دخل في نمط حياته الفردي.
لا نريد هنا التبحّر في آليات الاستدلال بدءًا من المنطق الأرسطي وصولًا للتجريبية وما بعدها، ما يهمّنا هو تسليط الضوء على كون المعرفة المعتمدة على نوع خاص من البرهنة كالاستقراء، أو الإمبريقية تشكّل أساسًا للخبرة ولكيفية تشكّل معيار اليقين، وبتعبير آخر: إن المنطق الأرسطي لا يرضى باليقين الذي يعطيه الاستدلال الاستقرائي، وبالتالي لا يبني منظومته – جاهدًا- على الاستقراء، بخلاف بعض المناهج الأخرى والتي لا تقبل ما يذهب إليه المنطق الأرسطي في ذلك، وبناء عليه إن الفاعل المعرفي الذي يعيش في بطون الكتب الأرسطية – أي التي تؤمن بطرقه الاستدلالية- سيشكّل خبرة معرفية قائمة على محورية اليقين الأرسطي، وستتعقّد لديه طرق اليقين، هذه هي الخبرة، ولن يكون راضيًا عن أسلوب “الأرقام” في البرهنة لأن الأرقام هي “استقراء” في النهاية، بخلاف الفاعل المعرفي الذي نشأت خبرته المعرفية على الاستقراء كمنهج محصّل للمعرفة، عندئذ سيكون الرقم عنده مؤشرًا مقبولًا، وإذا تواجه هذان الفاعلان سنشهد أثر الخبرة التي أنشأوها في مناظرتهم بشكل واضح.
- اللغة المعرفية: الخبرة بين الوهم والواقعية.
لا نكون مبالغين إن قلنا: إن اللغة هي العنصر الأشد تأثيرًا في تشكيل الهوية والخبرة الذاتية للمثقف أو المتخصص، فالمعاني والتصورات وكذلك الحجج والأدلّة ستصاغ في نهاية الأمر ضمن القوالب اللغوية، التي بدورها ليست قوالب أداتية فقط، بل هي قوالب لها حيويتها في صناعة المعرفة.
لا يخفى أن لكل علم وتخصّص مصطلحاته الخاصة، فالعلوم الإنسانية مثلًا تمتلك منظومة من المصطلحات كالوظيفة والبنية والرمز والأسطورة والثقافة والمعرفة، كذلك الفلسفة العربية لها مصطلحاتها الخاصة كالقدم والحدوث والهيولى والصورة إلى غيرها من المصطلحات، ولا نطيل في ذكر النماذج، ولكن لا شك أن العيش ضمن أطر المصطلحات البعيدة عن الاستعمالات اللغوية المتعارفة والشائعة عند الناس، يعطي خبرة مضافة للفاعل المعرفي تتمثّل في نوع من العزلة الفكرية، ولذا قد نلحظ نوعًا من الغربة عند الفلاسفة الذين امتلأت فلسفاتهم بالمصطلحات التي أنشأت من خطاباتهم بُعدًا إلى حد ما عن الناس والمجتمع، بينما نجد أن بعض الفلاسفة – والأوروبيين خاصة منهم- الذين تعاطوا الشأن السياسي في مرحلة الثورة الفرنسية وما بعدها لم تكن كتاباتهم ذات طابع اصطلاحي مغرق بشكل عام.- وهذه ملاحظة نسجّلها وتحتاج لمزيد من التتبع والتدقيق-.
ثم إن المسألة لا تتوقف عند حدّ “المصطلح”، بل إن عمق القضية اللغوية يمتد إلى مدى “عجز” اللغة المتداولة في الأدبيات التقليدية عن ملاحقة العمق الفلسفي والفكري للباحث، ونجد هنا مثلًا أن الكندي نحت عديدًا من الاشتقاقات اللغوية لم تكن معهودة من قبل لإفادة بعض الأفكار الفلسفية، ومثال ذلك ” الليسية”؛ وهو اشتقاق من الفعل “ليس”، وذلك ليفيد فكرة النفي المحض والعدم المحض المقابل للوجود الذي هو محور أبحاث الفلسفة المشائية، وهذا الاشتقاق لم يعهد –حسب الظاهر- استعمال مثل هذا الاشتقاق في اللغة العربية التقليدية.
وعليه، فإن المسألة المركزية هنا، هي أن التفاعل مع اللغة الخاصة لعلم معيّن، تجعل الفاعل المعرفي على مسافة معيّنة من اللغة المتداولة والأصلية التي ينتمي إليها، ولا ينبغي استسهال هذه المسافة التي تنشأ، فإنّ لها أثرًا على العديد من المستويات، حيث إن البعض يختزل مشكلة المفكرين الذين لا يؤثرون في مجتمعهم في قضية “اللغة”، حيث يقال: إنهم أنشأوا لغة خاصة بهم كانت مانعة من أن يفكّروا، أو يتكلموا في إطار خارج عنها وهو ما حجب تأثيرهم على الناس، ويرى البعض كذلك أن الشعراء والأدباء لهم أثرهم في الثورات أكثر من المفكرين لهذه القضية، وهي قضية الخبرة اللغوية مع العلوم التي تنعكس على هيئة جمود في التأثير.
الخاتمة.
فيما سبق، حاولنا عرض ثلاثة فرضيات تحتاج لمتابعة وعمل ميداني وثقافي، وتتمثل هذه الفرضيات في كون الفاعل المفكر والمثقف، يعيش خبرة ذاتية أثناء تفاعله مع المعرفة والعلم، وهذه الخبرة لها عناصرها الخاصة، بدءًا من عنصر المفاهيم والمعاني التي يعطيها أي علم، والتي من خلالها يصوغ معاني جديدة للعالم، وهذه المعاني لها دور في بناء علاقة الفاعل مع العالم الواقعي، ومرورًا بطرق الحجاج والاستدلال التي تحيّث الذهن بحيثية خاصة لقبول الآراء والأقوال المتعددة، وانتهاءً بمسألة اللغة التي تشكّل حاضنة حيوية لكل مفكّر وفاعل معرفي فإمّا أن يصطدم بعجز اللغة أو لا، ولكلّ أثره الخاص.
[1] في إحدى المقابلات التي أجريتها مع البروفسور روبرت بيندكت، والذي أجرى دراسة أنثروبولوجية حول طقوس الموت عند الموارنة والشيعة في لبنان، ذكر لي أنه لا يهمه كباحث دراسة آثار الطقوس الاجتماعية والسياسية وغيرها، بل ما يهمه هو معرفة الخبرة التي يعيشها الفاعل، أي ماذا يشعر؟ كيف تؤثّر ممارسة الطقوس في رؤيته للعالم؟ إلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول هذه النقطة.
المقالات المرتبطة
الفكر العربي الحديث والمعاصر | علي زيعور رائد المدرسة النفسانية العربية – المؤلفات والتسويغ للمشروع
يعتبر الدكتور علي زيعور الرائد في مجال النفسانيات، فهو من الأوائل الّذين أدخلوا هذا العلم إلى العالم العربيّ، ويمكن اعتباره
الفطرة والدين في نصوص الشاه آبادي
للوهلة الأولى، يمكن اعتبار الفعاليات والأنشطة التي تصدر عن الحيوان بدافع غريزي بحت على انها ممارسات صادرة عن الطبيعة الحيوانية البحتة. ..
عزاء الإمام الحسين (ع) بصورة سياسية محضة
إنّ إقامة مجالس العزاء هي إحدى الثقافات التاريخيّة للشيعة، وأهل البيت هم أوّل مَنْ أقام العزاء على الإمام الحسين (ع)، وقد أوصُوا الشيعة مؤكِّدين على إقامة هذه المجالس