الخط العربي نشأته وتطوره وصولًا إلى العصر الأندلسي

الخط العربي نشأته وتطوره وصولًا إلى العصر الأندلسي

قال العرب في الخط: (الخط لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووصي الفكر، وسلاح المعرفة، وآنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور).

وقال أقليدس: (الخط هندسة روحانية، وإن ظهرت بآلة جسمانية).

بداية الكلام.

هي رحلة قصيرة، نحاول من خلالها السفر مع الخط العربي وحروفه.

هذا الحرف الذي شكّل كلمات القرآن الكريم، الكتاب المُعجز، الذي شكّل تحدّيًا للمجتمع الذي نزل به. فعلى ما عُرف به المشركون من الأخذ بمقاليد الكلام وبلاغته، عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وجاءت الحروف المقطعة فيه إيغالًا في الإعجاز.

تمهيد.

احتاج الإنسان التواصل مع الآخرين، فهو مدني بطبعه، وكانت اللغة قديمة قِدَم الوعي، فهي وسيلة للتعبير عما في الضمير. وبما أن البشر يتحكّمون في الأشياء من حولهم، ويجعلونها طوعـًا لإرادتهم، حوّلوا هذه اللغة إلى رسومات ونقوش، تطورت فيما بعد بحسب التطور التاريخي للمجتمعات، فكانت الكتابة. وقد قال البعض: إنه لا توجد معلومات مؤكّدة تُبين، بالتحديد، أسباب ابتداع الكتابة، أو تُظهر الزمن الذي بدأت فيه لأول مرة.

رُوي عن النبي سليمان (ع) أنه سأل عفريتًا عن الكلام، فقال: ريح لا تبقى، قال: ما قيده؟ قال: الكتابة.

نشأة الخط العربي.

يذكر العلماء، أن أول حلقة من سلسلة الخط العربي، هو الخط المصري القديم، الذي كان على ثلاثة أنواع:

  • هيروغليفي؛ وهو الخط المصري المقدّس، الذي كان خاصًّا بالكُهّان وخدمة الدين.
  • خط الهيراطيق؛ خط عمّال الدواوين، وكتّاب الدولة.
  • خط الديموقيط؛ خط الكاتبين من الشعب.

 والحلقة الثانية: الخط الفينيقي؛ نسبة إلى فينيقيا، وهي أرض كنعان على ساحل البحر المتوسط. فقد اشتغل الفينيقيون بالتجارة، وخالطوا المصريين، فتعلموا منهم حروف كتابتهم، ثم وضعوا لأنفسهم حروفًا بسيطة، ليستعملوها في مراسلاتهم التجارية.

 أما الحلقة الثالثة من سلسلة الخط العربي، فهي الخط الآرامي، الذي توَلّد منه عدة أنواع من الخط. كان منها الخط النبطي؛ فالنبط قبائل عربية أغارت على بلاد آرامية، فتحضّرت بحضارتها، واستعملت لغتها وكتابتها في النقوش وسائر الشؤون العمرانية، ولكنها ظلّت تستعمل اللغة العربية في أحاديثها اليومية، ويُذكر أن الخط النسخي مأخوذ من الخط النبطي. فالكتابة مرّت بمراحل تطويرية عديدة، لتصل إلى ما وصلت إليه في يومنا هذا.

الخط العربي في العصر الجاهلي.

عاش العرب قبل الإسلام، كأمة بَدْوية، بعيدة عن المَدَنِيّة والتّحَضّر، شديدة الفقر، فاعتادت الشظف وخشونة العيش، وكان همها تربية الإبل والماشية، والترحال بحثًا عن مواضع الكلأ.

أما التجارة إن مورِسَت، فهي لسد حاجات ضرورية. لذلك كان نمط الحياة هذا، لا يتطلب انتشار الكتابة والقراءة، فإذا وُجد من يقرأ ويكتب، (فإنما هو نزيل هبط إليهم، أو آيبٌ من سفر بعد طول إقامة في أرض مُتحضرة).

ومما يذكره المؤرخون، أن الذين كانوا يقرأون ويكتبون بين قبائل العرب، لا يزيد على سبعة عشر، حتى الديانات السماوية القديمة بقيت محدودة الأثر في المساهمة بتطوير البيئة الفكرية لديهم…

 الخط العربي في عصر النبي الأعظم محمد (ص).

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ[1]. وقال عز وجل: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً[2]. وفي سورة النحل حكاية عن النبي سليمان (ع)، ﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلاَ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ[3].

أما في سورة القلم فإنّ الله عز وجل، يقسم بالقلم وما يسطرون، ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ[4]. ويروي المفسّرون، أنّ المراد بذلك مطلق القلم، ومطلق ما يسطرون به، وهو المكتوب. فإن القلم وما يُسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية، التي اهتُدِيَ إليها الإنسان. وقد امتنّ الله سبحانه على خلقه بهدايتهم إليهما، وتعليمهما فقال: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[5].

لقد حمل جبريل الأمر الإلهي لرسول الله فكانت أول آياته ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[6]. ومنذ ذلك الحين، حمل رسول الله (ص) على عاتقه الدعوة إلى العلم والتعلّم، والحث على القراءة والكتابة.

وتُظهر الحادثة المعروفة في غزوة بدر حرص النبي على ذلك، فبعد أن أسر المسلمون سبعين رجلًا من قريش، وفيهم كُتّاب، فكانت فدية الكاتبين، أن يعلّم الواحد فيهم عشرة من صبيان المدينة. فأخذ العرب بعد ذلك يتسابقون في تَعلُّم الخط.

لذلك يمكن القول: إنّ عصر النبي الأعظم (ص) هو بداية التأسيس، وإبداع الخط العربي بدأ في زمنه، وإن كانت بداية متواضعة.

ويُروى أن أول من كتب للنبي الأعظم، هو الإمام علي (ع).

 الخط العربي في عصر الخلافة.

أسس النبي (ص) دعائم الدولة الإسلامية، وتوسّعت دائرة نفوذها، فدُوّنت الدواوين، وأصبح للخط مكانة.

كان أمير المؤمنين علي (ع)، يحث على تحسين الخط وإتقانه، ومما يُنقل عنه (ع)، قوله: الخط الجميل يزيد الحق وُضوحًا. فبدأ الابتكار في الخط العربي في الكوفة، وظهر الفن الإسلامي من خلال الخط العربي، ووصل إلى جمال زخرفي لم يصل إليه خط آخر في تاريخ الإنسانية، وما زاد جماليّته، صفة القدسية التي اتصف بها من خلال استخدامه في تدوين القرآن الكريم، وأصبح الخط علم وفن له قواعد وأصول.

وبطبيعة الحال، بعد التوسّع الجغرافي للأمة الإسلامية، واختلاط العرب بالأمم المجاورة، ظهر اللحن في الكلام، وعرا اللسان العربي بعض الانحراف، فكانت الخشية من أن تضعف اللغة، وتفسد الألسن. عندئذ كان لا بدّ من العمل على تقويم اللغة، فرأى الإمام علي (ع) أن يضع الضوابط والقواعد للغة العربية، فأوعز إلى أبي الأسود الدؤلي أن يضع تلك القواعد، والتي باتت تُعرف بعلم النحو.

الخط العربي في العصر الأموي.

بعد أن اشتغل كثير من الناس بالعربية، أخذ الخط يسمو ويرتقي، فظهرت مهنة الخطّاط.

وظهر في هذا العصر الترف والميل إلى البذخ والتحضّر، ونشطت حركة العمران. فزيّن الخطاطون القصور والمساجد بخطوط جميلة، وظهرت الكتابات على الأواني والتحف، وقد برزت أسماء عدد من الخطاطين، وابتُكرت خطوط جديدة، ساهمت في نهضة الخط العربي وتطوره.

الخط العربي في العصر العباسي.

بعد سقوط الخلافة الأموية، نقل العباسيون عاصمة الدولة الإسلامية من دمشق إلى بغداد، فأصبحت بغداد مقصد للعلماء. وانتقل إليها الفنانون والأدباء والخطاطون، فازدهرت العلوم والفنون، وكان الخط العربي منها. فتنافس الخطاطون في تجويد الخطوط، حتى زادت على العشرين خط. ويذكر البعض أن عدد الخطوط في العصر العباسي وصل إلى ثمانين خطًّا. وكانت القفزة الكبرى في تطور الخط في العصر العباسي الثاني، وظل التطور مستمرًّا عبر العصور المتعاقبة.

الخط العربي في العصر الأندلسي.

دخل الخط العربي إلى الأندلس عن طريق الفاتحين الذين استقروا في القيروان، هذه المدينة التي انطلقت منها الفتوحات الإسلامية نحو بلاد المغرب العربي وإسبانيا.

فأخذ الخط العربي يتطور في تلك البلدان من أبنائها أنفسهم، فكان الخط القيرواني الذي حمل سمات الخطوط العربية، والذي تابع فيما بعد تطوره في الأندلس.

لقد اكتسب الخط العربي مكانته في إسبانيا، وهو من الآثار العربية التي ما زالت موجودة حتى الآن على واجهات المساجد والقصور الأثرية التي بناها المسلمون. وأغلب هذه الآثار زُيّنت بالآيات القرآنية وأبيات الشّعر المكتوبة بالخط العربي الأندلسي. ورغم أن الإسبان لا يجيدون اللغة العربية، إلّا أنهم لا يعتبرونها لغة أجنبية. فالقليل منهم يعرف قراءة الحرف، والأغلبية تعرف الشكل. ورغم ذلك، هناك حرص على اقتناء القطع المزخرفة بالخطوط العربية، كرمز للتاريخ الإسباني.

أخيرًا، الخط العربي فن من الفنون التي تعتبر جزءًا من الحضارة والتراث الإسلامي. هو فن برع فيه المسلمون، فعكس روح العصر الذي كانوا فيه. وما استمرارية تطوره عبر الزمن، إلّا دليلًا على أنه، وكما وصفه البعض، كائن حي، ينمو ويتجدّد باستمرار.

 

مصادر المقالة:

  1. القرآن الكريم.
  2. مقدمة ابن خلدون.
  3. أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام.
  4. حياة اللغة العربية.

رحلة الخط العربي.

[1] سورة البقرة، الآية 282.

[2] سورة الأعراف، الآية 145.

[3] سورة النحل، الآيتان 28 و 29.

[4] سورة القلم، الآية 1.

[5] سورة الرحمن، الآيتان 3و 4.

[6] سورة العلق، الآيات 1- 5.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
القرآن الكريمالخطالخط العربي

المقالات المرتبطة

إيزوتسو ودراسته لفلسفة السبزواري*

بادئًا ذي بدء، نقول: إن حقبة متطاولة انقضت وانصرمت، وجهودًا مضنية بُذلت وصُرفت قبل أن يدرك المنهمون بالقول الفلسفي أن

لعنة الجعرافيا

تدور رحى الصراعات حول قطب الجغرافيا، وما لها من أبعاد هامة خاصة اقتصادية في توجيه السياسات وتصنيف المحاور والتوجهات السياسية

عزاء الإمام الحسين (ع) بصورة سياسية محضة

إنّ إقامة مجالس العزاء هي إحدى الثقافات التاريخيّة للشيعة، وأهل البيت هم أوّل مَنْ أقام العزاء على الإمام الحسين (ع)، وقد أوصُوا الشيعة مؤكِّدين على إقامة هذه المجالس

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<