تلخيص كتاب الموعظة الخالدة
الموعظة الخالدة هي دروسٌ لسماحة الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي في شرح وصيّة أمير المؤمنين الإمام علي (ع) لابنه الإمام الحسن المجتبى (ع). يبلغ عدد تلك الدروس ثلاثة وأربعين درسًا، عرض فيها الشيخ مطوّلًا ومفصّلًا لمعاني وعِبر تلك الوصيّة الخالدة.
هذه الوصية ذكرها العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، والمرحوم الحرّاني في تحف العقول، كما أدرجها الشريف الرضي في نهج البلاغة، وقد كان علي (ع) قد بلغ من العمر الستين سنة، ورجع لتوّه من معركة صفّين. اعتمد اليزدي في ترتيب شرحه على أصل نصّ الوصيّة، وبيّن المراد منها، ثمّ فصّل في الدروس والعبر التي أرادها أمير المؤمنين (ع).
فلا يقصد بمفردة الوصية الاصطلاح الفقهي الذي يستعمل لما بعد الموت، بل تحتوي على مواعظ لا تقتصر على أبنائه (ع) فحسب. هي موعظة سماويّة، ليست من قيبل وعظ معصوم لمعصوم، لأنّ العبارات التي كان يستخدمها أمير المؤمنين (ع) في معرض كلامه لا تناسب مقام العصمة الإلهيّة، وهو دليل على أنّها وُضعت في متناول جميع البشر، ولكلّ الأزمان للإفادة منها.
ولأجل أن يحقق علي (ع) مقبوليّة الاستماع إلى وصيّته والعمل فيها، لجأ إلى أسلوبه المعروف بالحبّ والمحبّة الأبويّة الخالصة، وبإشعار المقابل، الذي يستمع إليه، بالطمأنينة منه وممّا يقول.
بدأ وصيّته لا باعتباره إمامًا معصومًا، بل بما يحمل في قلبه كإمام معصوم لكلّ البشر، أراد أن ينقل حصيلة عمره، وهو في لحظاته الأخيرة. هذه اللحظات التي يكون فيها الإنسان مشغولًا بنفسه وعمّا حوله، إلّا أنّه اختار التفاته إلى ضرورة ما يقوله، وبذلك أعطى انطباع الرغبة في مصلحة الآخر – كلّ آخر – بغض النظر عن رتبته ومكانته.
كما رسّخ قواعد أساسيّة من جهة الموصي والموصى إليه.
فمن جهة الموصي، فـ:
- يذكّر نفسه والآخر بأنّ الحياة الدنيا سوف تنتهي بالموت.
- يدعو إلى الرضوخ والاستسلام بمرور العمر وعدم القدرة على مواجهته.
- يدعو إلى الزهد في الدنيا، وأنّ الرحيل حتميّ منها.
ومن جهة المخاطَب، فإنّ الشباب تتّصفون بأنّهم:
- أصحاب أملٍ زائد.
- سالكون طريق الذين قد ارتحلوا.
- معرّضون للأسقام.
- رهائن الأيّام، وهدف الأسقام.
- خاضعون لقوانين الدنيا الحاكمة، بما فيها العوامل الطبيعيّة.
- مشغولون بمتاع الدنيا.
- ملازمون للأحزان والآفات.
- أسرى الشهوات والأهواء النفسانيّة.
- خلائف الموتى.
وبعد أن أنشأ ارتباطًا عاطفيًّا وعقلائيًّا بينه كموصٍ والمستمع إلى وصيّته الذي اطمأنّ إلى أنّه يريد له الخير ، بدأ باستعراض وصاياه تباعًا، من الأهمّ فالمهمّ.
مبتدئًا بالتقوى، وهو المحور الأساس لمطالب ومواعظ جميع الكتب السماويّة ووصايا العظماء والأنبياء والأولياء. وهي محور الكرامة والاعتبار في محضر الحقّ تعالى التي لا بديل عنها ولا خلف.
دعا (ع) جميع أهل الأرض من الذين يحملون أمانة التكليف في أعناقهم إلى لزوم أمر الله تعالى في مراعاة الواجبات والتكاليف الإلهيّة وترك المحرّمات. فإنّ التقوى والخوف من الله أوّل شرط في مسير الإنسان التكامليّ، بحيث يجعل لأعماله وسلوكه معيارًا وضابطة يسيطر من خلالها على أهوائه النفسانيّة.
وبعد أن يحصّل الإنسان ذلك الشرط الأساسي، يلتفت إلى قلبه الذي هو الأرض الخام التي يمكن أن يزرع فيها المرء أنّى شاء من الزرع، وما أفضل أن يعمره بذكر الله تعالى. وإنّه لمن الأمور العجيبة أن يكون للقلب نوعٌ من الحياة ونوعٌ من الموت، مثلما يكون له تلك الطمأنينة أو معايشة بعض المشكلات أو التصديق ببعض الحقائق.
ومن الوصايا المهمّة التي ابتدأ فيها (ع) هي الاعتصام بحبل الله تعالى، بمعنى التمسّك أو الاستمساك في حالة الصعود والتسلّق في سلّم الكمال، أو التعلّق خشية السقوط والانحداد، وحبل الله ينفع في الحالتين. ويجب على المؤمن أن يكون دائم التيقّظ والإحساس بالخطر الداهم من المصاعب الدنيويّة والأخرويّة التي نواجهها، والتي تنشأ من حالة الغفلة. ومن مصاديق حبال الله التي تربط المبدأ بالمقصد، والتي تنجي أيضًا هي: القرآن الكريم، والإسلام، وأهل البيت (ع)، والولاية. ولا شكّ أنّ هذا الحفظ الإلهيّ لا يحصل بالجبر والإكراه، فقد أُسس نظام الوجود على اختيار كلّ إنسان طريق سعادته بنفسه. وإذا اعتصم الإنسان به تعالى، فإنّه سبحانه سيصونه، ويعصمه عندئذٍ.
ولأنّ القلب عرش الرحمان، أفرد الإمام علي (ع) مواعظ خاصّة به، فإنّ طريق صلاح الإنسان يكمن في إصلاح قلبه، بل إنّ حقيقة الإنسان هي في قلبه.
ولكلمة القلب في فكر علي (ع) حيثيّتان:
- حيثيّة العلم والإدراك، ويتحقّق إحياء القلب في هذا القسم بتحصيل اليقين تجاه المعارف الاعتقاديّة عبر التفكّر الاستدلالي والبرهاني.
- وحيثيّة الميل والاندفاع، ويتحقّق إحياء القلب في هذا القسم بالموعظة الحسنة التي توجّه هذا القلب بالاتجاه الصحيح، وإماتته بالزهد؛ فيحصل من خلال ذلك على سيطرة النورانيّة عليه، وهو ما أسماه بالحكمة التي تدفع الإنسان إلى التصرّف اللائق مع نفسه ومجتمعه وربّه.
ومن الأمور التي تميت القلب من ناحية الأمور الدنيويّة، وتوجب سكينته هو ذكر الموت حيث تروّض النفس، وتأخذ إقرارًا بأنّها لن تبقى على قيد الحياة للأبد، وأنّها محكومة بالفناء، وبالتالي، فإنّها تبقى على حذر على الدوام من أن تسقط في أيّ لحظة.
فحتّى لو استطاع الإنسان أن يروّض نفسه، ويمرّنها على الصبر وسعة الصدر؛ يجب أن يضاعف قدرتها على تحمّل المشاكل والتمكّن من التغلّب على حوادث الدهر. إذ ليس المطلوب هو التصبّر الذي هو حالة ظاهريّة من السكون، بل المطلوب هو التدرّب على الصبر، ليصبح حالة باطنيّة من الاستقرار، توجب أنس المرء بما وصل إليه، ينفذ إلى أعماق الروح، فيمتلك البصيرة والوعي في قبال فجائع الدنيا وخُدع أهلها حتّى لا ينخدع، فيأخذ العبرة، ولا يغترّ بنفسه، وبما وصل إليه في مسيره، فلا يغفل عن المخاطر التي يمكن أن تجعله ينزلق في تقلبات الدهر والحياة في مراراتها ومشقّاتها، وكذلك في نجاحاتها وتوفيقاتها.
بالتالي، فإنّ ما يجعل الإنسان يرحّج الحياة الدنيويّة المحدودة على الآخرة هو ذاك التعلّق القلبي بأصدقائه وأحبّائه، بحيث سيكون الأمر أصعب عليه وأشدّ حين يرحل عنهم، وهو قد كان آنسًا بأهل الدنيا ومتعلّقاتها، ولم يهيّئ زادًا لعالم الآخرة الذي هو عالم أبديّ.
ولو أنّ الإنسان أيقن أنّ الأيّام تجري، وهي ليست تحت تصرّفه، وشاء أم أبى فإنّ الزمن يمضي، وإنّ هذه الطريق لا تحمل له ذلك الفرح الذي يعتدّ به، وإذا حصل فيها الأشخاص على السعادة، فإنّها مؤقّتة ومحدودة وممزوجة بآلاف الآلام والهموم والغصص لن يتعلّق بها تعلّق الواله الذي لا يفارقها، وعمل على إصلاح قلبه من أدرانها، ولم يبِع آخرته الأبديّة بدنياه الفانية.
هذا لا يعني أن نبغض الدنيا بما فيها، فهي رأسمال الإنسان الذي يكتسب بواسطته السعادة الأبديّة، فيسعى لاستبدال ما فيها إلى متاع قيّم يعينه على الوصول إلى دار البقاء. وأوّل خطوة في ذلك أن نعمل فيما نعلم، ونحدّد مسؤوليّتنا جيّدًا، ولا نتحرّك خبط عشواء، ولا ننطق بكلام لا نعلم إذا كان ما نقوله صحيحًا أم لا، أو أن ندلي بكلام لا معنى له.
فإنّ الشخص الذي يختار طريقًا مشكوكًا بأمره لا يكون دافعه إلهيًّا ومرضيًّا عند الله تعالى، لأنّ الطريق الملتبس يحرم المرء من الوصول إلى مقصده، واختياره هذا الطريق الملتبس هو الذي يمنعه، ولا يمكنه لوم أحد بذلك غير نفسه. والطريق الواضح اليقيني هو الذي يوصل إلى الصراط المستقيم.
وتعدّ خديعة الحريّة الشخصيّة التي ابتدعها الغرب من أعقد الخدع التي جعلت من الشذوذ أمرًا عاديًّا، والتي تضرب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شدّد عليه الإسلام، والذي هو تكليف يحثّ الآخرين على عمل الخير واجتناب الشرّ، وليس مهنة لا قيمة لها.
وهو – أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – من المسؤوليات الاجتماعية التي يوليها أمير المؤمنين (ع) الأهميّة الكبرى، لما لهذه التكاليف الاجتماعية من تأثير على الصعيد المجتمعي ككلّ، وإنّ تركها غير مصانٍ من العقاب والآثار السلبيّة على الفرد أيضًا.
ولا ينحصر الجهاد بمحاربة الكفّار فحسب، بل للجهاد مصاديق مختلفة كالجهاد العلمي والثقافي والاقتصادي والسياسي، وأفضل الجهاد جهاد النفس، وقد أسماه رسول الله (ص) بالجهاد الأكبر.
ومن مصاديق الجهاد أيضًا الجهاد الثقافي الذي له مجموعة من الشروط أهمّها: معرفة العدو الثقافي، وخلوص النية والدافع لرضا الله تعالى، وانسجام الأنشط الثقافيّة مع الحاجات المجتمعيّة.
أمّا من آفات الجهاد الثقافي، فهي انحراف الذهن البشري بعد تشخيص التكليف وتحصيل مقدّمات العمل والاستعداد تحت تأثير الآخرين، فيضعف على مستوى النية والدافع. ومن الآفات أيضًا الانحراف العملي بأن يضعف عن القيام بالتكليف نتيجة ردّات فعل الآخرين السيئة له، ويعالج هذا الانحراف بأن ندرّب أنفسنا، ونربّيها كي نمتلك الوعي والبصيرة في تحديد الأولويّات والقيام بالوظائف التي تجعل الله راضيًا عنّا، ولا نقع تحت تأثير كلام الآخرين ولومهم لنا.
ومن شروط أداء التكليف أن يسعى الإنسان إلى معرفة تكليفه بدقّة، وأن يكون مدركًا لشروطه وضوابطه إدراكًا كاملًا، ثمّ ينزل إلى ساحة العمل، والتي فيها الكثير من المخاطر والبلاءات، وعلى الإنسان المؤمن أن يدرك ذلك، ويكون على استعداد لخوض كلّ هذه الغمار في سبيل إحقاق الحق.
لكن عليه أن يلتفت إلى أنّ آفة العمل التسرّع والكسل. فمن الممكن أن يقحم الإنسان نفسه بمشاكل جمّة نتيجة حماسته الزائدة للعمل، فيتهوّر في بعض الأعمال، والمطلوب هو التروّي والعمل على قدر من الحكمة في تحديد الأهمّ فالمهمّ. وأمّا الكسل، فعلى الإنسان أن يدرك أنّ هذا التكليف صعب وشاقّ، ويحتاج إلى الصبر، فلا يستسلم لطلب الراحة من المشكلة الأولى التي يوجهها، فعليه أن يتدرّب، ويجبر نفسه على تحمّل المصاعب، حتّى يتخلّص شيئًا فشيئًا من روحية الدلال والغنج.
فالمخاطر في الحياة نوعان؛ الخسارة الماديّة، وهي خسارة قابلة للجبران، إلّا أنّ الإنسان أحيانًا يخاف منها أكثر، وهذا الأمر ناشئ من نقص معرفة الإنسان وضعف إيمانه. والخسارة المعنويّة، وهي غير قابلة للجبران سوى بالعلاقة السويّة مع الله تعالى، فهو الملجأ والكهف الآمن الذي لو اعتمد عليه المرء، وتوكّل عليه لأمكنه الخروج من كلّ مأزق يعترضه.
وهنا، يلفت الإمام علي (ع) إلى أهميّة الاستخارة بمعنى طلب الخير من الله تعالى. فحين لا يقدر الشخص بمعونة عقله ومشورة الآخرين تشخيص المصلحة يلجأ إلى جعل الاستخارة وسيلة بينه وبين الله، وليس بمعنى ترك العقل، والاستخارة في كلّ عمل سهل وبسيط.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاستخارة ليس الهدف منها كشف الوقائع والعلم بها والاطلاع عليها، بل على الإنسان أن يوظّف قدراته وفكره وتجاربه لحل مشاكله، وحين يرى نفسه عاجزًا، وعقله قاصر يستعين بأهل الاختصاص، فيستشيرهم، وإذا رأى أنّ طريق الوصول إلى الحقّ غير واضح، فلا ينبغي أن يستسلم للحيرة والتردّد، بل يطلب الخير من الله، وهذا طبعًا لا يصحّ في مقام حلّ المطالب العلميّة والمسائل الفكريّة.
ثمّ ينتقل الإمام علي (ع) بعبارة “يا بني” إلى القسم الثاني من الوصية، وهو تفصيلي. فبعد أن مهّد أرضية قبول الوصية، وذكر وصايا عامّة، بدأ بالوصايا الخاصّة بعالم الشباب، وذكّر بأهميّة المبادرة إلى إصلاح النفس في سنّ مبكرة، وأنّ الشباب كالأرض البكر التي لم تُزرع من قبل، والتي تتقبّل كلّ ما يُلقى إليها.
فعلى الإنسان أن يشغل نفسه بما يثمر في قلبه ثمرًا طيّبًا قبل أن يهرم، ويصبح من الصعب أن يزيل منه الأدران والمفاسد، ويصبح قاسيًا لا تؤثّر فيه المواعظ، ولا يستطيع أن يصغي لصوت الحقّ تعالى.
ولا يخفى ما لعبارة “يا بنيّ” من تأثير يخرق أسماع المتلقي، ويشعره بالمحبة والعطف الخالصين اللذين يتيحان له الاستماع للنصيحة والعمل بها، وخاصة أنّه يسرد عليه ما جرى وما سيجري خلال هذا العمر من أحداث ومواقف، وأنّ حوادث التاريخ وتجارب الشعوب تتكرّر بحسب السنن التاريخيّة الجارية.
فالخطوات الأولى في تربية الشباب هو البدء بتعليم العقائد والأفكار الصحيحة، والمعارف النافعة والمضرّة، ولا يسمح الوالد العطوف للأفكار الباطلة أن تنفذ إلى قلب الشاب. وأوّل الغيث أن يعلّمه معارف القرآن وحلال الدين وحرامه.
ومن هذا المنطلق، يمكن للمربّين والمعلّمين الحريصين أن يستنتجوا أصلًا تعليميًّا وتربويًّا بالأخذ بعين الاعتبار إمكانات المتعلّم وقابليّاته والظروف المحيطة به، وكذلك الإجابة عن الشبهات والشكوك التي تعترضه، فلا يبقيها دون إجابة واضحة شافية، لأنّه سيبحث عن إجابات في غير ما يريده المربّي، وهو الهدف الذي أراده الله في إرسال الأنبياء والرسل، أن لا يبقى الإنسان في حيرة وضلالة. ويشكّل القرآن وعترة أهل البيت (ع) الركنين الأساسيّين للهداية ولمعرفة الحقّ.
ويعرض الإمام (ع) طريقين لتحصيل المعارف الدينيّة؛ الأوّل هو العقل، ولا ينفي قدرة الذهن البشري على إدراك المعارف من خلاله، إلّا أنّه طريق محفوف بالشبهات وعلوّ الخصومات. والطريق الثاني ما ورد في القرآن الكريم وسيرة أهل البيت (ع) وتقليد المراجع، وهو الطريق الأضمن للحفاظ على أنفسنا من مخاطر المسير. فالواجب والتكليف الأساسي هو التقوى الإلهيّة وإطاعة الله سبحانه، والاقتصار على ما فرضه الله.
أمّا عن شروط تحصيل العلم فهي: النيّة الصافية، والاستعانة بالله والتوكّل عليه، واجتناب الأدلّة المليئة بالشبهات، والهمّة العالية والرغبة العارمة في إدراك الحقائق وتحصيل العلم.
ثمّ يعرض الأمير (ع) أحوال الدنيا وأهلها وما هم عليه، وكيف ينظرون إليها؛ فمنهم من يعتبرها هدفًا وملاذًا، وأنّ الحياة تنحصر بها، ومنهم من يرى فيها دار عبور إلى دار المقرّ الآخرة. وهاتان النظرتان يؤديان إلى ظهور نوعين من السلوك؛ الرؤية الأولى تجعل أصحابها حريصين وطمّاعين لا يفكّرون إلّا بالملذّات المادّيّة. والرؤية الأخرى تجعل أهلها من أهل المعنويّات الذين يحسبون أنفسهم في سفر، كلّ همّهم أن يتزوّدوا ما يعينهم في سفرهم يترقّبون الوصول إلى المقصد.
وبعد ذلك، يذكر (ع) أنّ سبيل الانتفاع والتزوّد من الدنيا هو العلم الذي يعدّ عطشًا فطريًّا للفرد يبدأ من مرحلة الطفولة، ولا ينتهي، يدفع إلى تبديل الجهل إلى نور، إلّا أنّ الغرور هو آفته، بل هو المحور الأساسي للآفات كلّها. وحبّ النفس هو منشأ هذه الآفة، فيظنّ الإنسان بمعرفته بعض الأشياء أنّه أدركها جميعها، وأنّ لديه إجابات على كلّ ما يمكن أن يدور في فكره، وقد يؤدي ذلك إلى انحرافه عن جادة الصواب. ومن أجل علاجه منها، يجب أن يذكّر نفسه على الدوام بأنّه مخلوق ضعيف، وأحد مظاهر هذا الضعف هو قلّة الاستعداد. فيتواضع إزاء العلماء، ويهتمّ بآرائهم، ويأخذ منهم، ولا يتكلّم فيما لا ينفع ولا يفيد.
وينتقل (ع) إلى فصل آخر من الأصول والمبادئ القيميّة والمسائل الفائقة الأهمية المتعلّقة بالعلاقات والروابط بين البشر. فمعيار الأخلاق الحميدة هو الإنسان نفسه وسلوكه وتعامله وتصرّفه اللائق مع الآخرين. كما أنّ كيفية التعامل مع الآخرين ترتوي من نبع الرؤية المتعلّقة بمعرفة الوجود والإنسان، وأنّ جميع البشر متساوون في الإنسانية والكرامة. هذه القاعدة تضمن علاقات متبادلة وسلوكيات اجتماعية سليمة في المجتمع بغض النظر عن العرق والدين. ويوصي (ع): “اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك. أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك. واكره لها ما تكره لنفسك…”، وما يتبع هذه الوصية من أمور. وهذه الوصية من الأجدى أن تُكتب بماء الذهب، وهي تؤسّس لقواعد اجتماعيّة مهمّة لو التزم بها المرء لصلُحت العلاقات بين أبناء المجتمع.
وكما كلّ الأشياء، فإنّ آفة العلاقات الاجتماعيّة السليمة هي إعجاب الإنسان بنفسه التي يراها أفضل من غيره، ويتصوّر هؤلاء الأشخاص لأنفسهم امتيازات مفقودة عن غيرهم. والإنسان الذي يُبتلى بهذا المرض، لا يمكن لعقله أن يعمل بشكل جيّد، ولا لقلبه أن يخشع كما ينبغي.
وفي كلّ منعطف، يذكّر أمير المؤمنين (ع) من يوصيه بالدنيا، وبالسبب الذي يجعلنا نذمّها بالرغم أنّها بوابة عبور إلى الآخرة، وسبيل الوصول إلى الكمال. ويكمن السبب الحقيقي لذلك هو أنّ مشاهدها ومسموعاتها خدّاعة تستعرض نفسها أمام الإنسان، وهو بدوره يأنس بالمحسوسات، فتنسيه أمر الآخرة. لذا، يدعو إلى التذكير الدائم بالحياة الأخروية وأهميّتها، وأنّ الدنيا دار عبور لا غير، وطريق طويل مليئ بالمخاوف والمخاطر، لا مهرب من عبوره، وهو يحتاج إلى تخطيط ودراية كي لا ينزلق المرء في مهالكها، وعليه أن لا يحمل منها سوى ما ينفعه في رحلته، ويعينه على درء المهالك.
وقد أتاح الله تعالى للإنسان من خلال الدعاء والتوبة بابًا لتحصيل المزيد من الاستعداد لرحلته في الدنيا. فالدنيا، وبرغم ما فيها، من أكبر نعم الله تعالى علينا، تفتح المجال أمام البشر للتعلّم والإدراك والوصول عن وعي وبصيرة وعلم إلى درجات الكمال الإلهي الذي أراده لنا الله. وفيها نعرف الله، ونؤمن به، ونرتبط به، وقد أتاح لنا طرقًا لا تعدّ ولا تحصى، لم يحصر الوصول إليه بطريق واحدة، ولا يمكن أن يردّ طالب لقاء بلا استجابة، إذ إنّ باب رحمته مفتوح دائمًا في أيّ وقت شاء العبد أن يلجأ إليه داعيًا راجيًا، أو تائبًا عابدًا.
وتعدّ التوبة من تجلّيات رحمة الله تعالى، فهو سبحانه لم يغلق بابه على أحد، ولم يعاجل الناس بذنوبهم، بل اشترط على عبده اللجوء إليه بالندامة والعزم على عدم ارتكاب المعصية مجدّدًا ليجبر ذنبه، ويدخله في ساحة قدسه نقيًّا مقبولًا، ولم يشترط عليه وقتًا لذلك، بل على قدر ما يتقرّب العبد من الله بهمّته تفيض عليه بركات اللطف والمنّة الإلهيّة.
ويدعو أمير المؤمنين (ع) إلى الإلحاح في الطلب والمسألة، إلّا أنّه كذلك دعا العبد إلى عدم اليأس في حال عدم الإجابة السريعة؛ ففي ذلك حكمة إمّا من جهة الداعي أو من جهة الدعاء نفسه. وفي كلا الحالات، فإنّ الدعاء جوهرة العبادة، واعترافٌ عمليٌّ بالعبوديّة لله وبالربوبيّة الإلهيّة، وهو مطلوب لنفسه، ولو لم يترتّب على الدعاء سوى أن يقترّب الإنسان إلى الله سبحانه، ويحصل على ثوابه لكفاه ذلك، ولفاق كثيرًا نيل الحاجات من الله، والتي تتأخر في بعض الأحيان لمصلحة العبد. وأعظم من ذلك حين يأنس العبد بالعبور، فينتقل من مرحلة الدعاء إلى الحضور بين يدي الله، حيث يضحى فيها استجابة الدعاء مجرد وسيلة للوصول إلى ذلك الهدف السامي.
ولا ينبغي الإنسان أن يطلب من الله الشيء اليسير من الدنيا فحسب، فليكن دعاؤه وطلبه على قدر من الأهميّة التي تتناسب مع أصل وجوده، ومتناسب مع الذي يطلب منه وهو الله تعالى. ولأنّ أصل الحياة ومبتغاها هو في الآخرة، فعليه أن يطلب أمورًا أعمق من الماديّات التي مصيرها إلى الزوال مهما طال التلذّذ بها.
ويعود أمير المؤمنين (ع) للتذكير بالموت؛ ليكون لاجمًا للإنسان من الانغماس في ملذات الدنيا. والاعتقاد بالمعاد سبيل لإصلاح النفس، والانتباه من الغفلة الناجمة عن نسيان أمر الآخرة. وذكر الموت يساهم في إبقاء الإنسان متيّقظًا لأداء واجباته، ولحقيقة الدنيا الزائلة، ولا يغترّ بها لكثرة مرتاديها، ولا يتأثر بما يتهافت عليه الناس من ملذّاتها. وهذا لا يعني أن يعزف عنها الإنسان بشكل نهائي وكلّي، ويقاطعها بشكل سلبي، بل ما أراده (ع) أن لا ينصهر الإنسان فيها، ويستكثر منها فتجرّه إليها دون أن يشعر.
وإنّ حب الدنيا وحب الله لا يجتمعان في قلب واحد، كلاهما من سنخ مختلف. ولحب الدنيا عوامل منها:
- جاذبية اللذائذ الدنيويّة وجماليّتها الحسّيّة.
- التيّار الجمعي الذي يشدّ الفرد إلى ما يشدّ الجماعة.
- الوساوس الشيطانيّة التي تغذّي إقبال الإنسان على مظهرها.
والسبيل إلى مواجهتها هو إعمال العقل واتباع الدليل، والتوجّه الذهني والقلبي للآيات القرآنيّة والأحاديث السماويّة، ومراقبة أهل الدنيا كيف يتناطحون فيأكل القويّ منهم الضعيف ويذلّه دون أدنى مراعاة، وهم نوعان: نوع ضعيف يتحرّكون كالأنعام المربوطة، ونوع آخر داس على جميع المعايير والقيم الإنسانيّة والإسلاميّة يندفعون دون قيد وحدّ من أجل الوصول إلى متاع الدنيا.
ومهما يكن الإنسان – مؤمنًا أم كافرًا -، فإنّ حياته سوف تنقضي بالموت، وسينتقل إلى عالم الآخرة لا مفرّ من ذلك، والسفر قهري. وليس المقصود من مبدأ الزهد في الدنيا أن يعيش الإنسان في المغارات والصحاري، أو أن يعتزل الناس، إنّما المقصود أن لا يعلّق قلبه بها، وإلّا فالحياة الدنيا تعدّ تكليفًا وعملًا واجبًا، والتقصير في تحمّل المسؤوليّات الدنيويّة سواء كانت على الصعيد الفردي أو الاجتماعي أو الصعيد المادي أو المعنوي أمر مذموم، ويؤدي إلى الهلاك الأبدي للإنسان المقصّر. فلا ينبغي أن يهمل الإنسان نفسه، حتّى ولو لم يستطع أن يزهد في الدنيا بشكل مطلق، فليسعَ بهمّة بالحدّ الأدنى من الزهد كالالتزام بالإرشادات، وأن لا يعلّق الآمال الطويلة على ما فيها، فينال منها بقدر حاجته للعبور.
وممّا يعين على السفر قرين صالح؛ فالعشرة إحدى سبل تقدّم الإنسان وفتح طريق الوصول إلى الأهداف العليا إن كانت قائمة على أساسٍ صحيح ومعيار سليم. وهو يفتح الباب أمام اختيار الرفيق أو الصديق، حيث يكون معيار هذا الاختيار ما يقرّبنا من الوصول إلى الأهداف العالية في سبيل الله تعالى وسلوك الطريق المستقيم، فتكون رؤية ذلك الإنسان تذكّرنا بالله، ومحادثته تزيد من علمنا، وعمله يرغّبنا بالآخرة. ولا مجال للإنكار بأنّ الرفيق والقرين الصالح له أهميّة استثنائيّة في حياة الإنسان، ويعدّ نعمة كبرى يكون الحفاظ عليها أصعب من إيجادها. إنّ الرفيق الصالح يمكن أن ينتزع مساوئ الإنسان من دون أي تعب، ويطهّره منها بكلّ بساطة.
وإذا أردنا أن نهتدي إلى ذلك الشخص فعلينا أن نسأل الله المنّان لكي يعطف قلبه علينا، ويهيّئ لنا الظروف المناسبة كي نتمكّن من الاستفادة من وجوده بأقصى حدّ، وبعد ذلك إذا حصل التعارف والتواصل فلا ينبغي أن نضيّع حقوقه.
ومن آفات كلّ أنواع العشرة من صداقة وجيرة وأخوّة وتعاون سوء الظن تجاه الجميع؛ فهو يفسد الصفاء والحميميّة والصفح والعفو بين الأشخاص. وهو من الصفات المذمومة في الإسلام التي هي حالة نفسية اختياريّة تطرأ على بال الإنسان فتشغله، وتجعله يرى الأشياء والأشخاص بشكل سيء، وهذا أمر مرفوض في الشريعة. صحيح أنّ الحذر واجب في مجتمع تسود فيه المعصية، ولا يمكن الوثوق بشكل كلّي بالأشخاص الذين هم حديثو المعرفة بنا، إلّا أنّ حسن الظن القلبي المطلوب لا يجوّز لنا إيداع المسؤوليّات عند الآخرين دون تحقّق. وينبغي أن نجرّب الصديق، ونختبره في مختلف الحالات؛ لنتأكّد من أنّه شخص تقيّ عاقل وقابل للصداقة، وبعد ذلك علينا أن نحسن الظن به دائمًا، ولو شهد في ارتكابه المنكر مئة شخص بعدها.
وأقبح الظلم، بمعنى تجاوز الحدّ وعدم رعاية حقوق الآخرين، هو ظلم الضعيف، وذلك لأنّ الضعيف لا يقدر على الدفاع عن حقّه. والفاحشة كاسمها قبيحة لا يمكن أن تكون حسنة، إن من ناحية الأقوال أو الأفعال. ولا شكّ أنّ الأهواء النفسانيّة هي رغبات تنشأ في القلب، ولكي يضبط المرء حركاته وسكناته عليه أن يسيطر على أحواله من خلال التصبّر، وهو فرض الصبر على النفس، حتى تتروّض، ويصبح الصبر ملكة راسخة تعيقه عن ارتكاب المعاصي.
ويحذّرنا أمير المؤمنين (ع) من الآمال الطويلة. فهناك خطران يهدّدان الناس: أحدهما السعي وراء رغبات القلب وأمان النس، والثاني وجود آمال دنيويّة طويلة تعطلّ الوصول إلى الكمالات الأخلاقيّة والقيام بالمسؤوليّات الإسلاميّة من خلال التسويف وتأجيل الأمور. ولا بدّ من مراعاة اختلاف همّة الأفراد وقدراتهم والاعتدال في جميع القضايا، فلا يقحم المرء نفسه فيما لا يعرفه، أو لا يقدر على القيام به. وهذا نهج حياة لا تنحصر فوائده بالآخرة، لأنّ الذي يعيش على الأماني فقط، ولا يبذل الجهد المطلوب للوصول إلى أهدافه، سوف يهدم دنياه ويخرّبها، لأنّه لم يقيّم هدفه تقييمًا صحيحًا، ولم يشخّص طريقه أو يسعى سعيه، فإنّه لن يصل إلى هدفه، لا في دنياه، ولا في آخرته.
كما يدعو (ع) الإنسان إلى أن يزكّي قلبه بالأدب كما تُزكّى النار بالحطب، فأفضل وأقرب طريق لتغيير السلوك وإصلاحه هو إصلاح القلب الذي هو قوّة الباطن في المرء، ذات استعداد للاشتعال والنورانيّة والدفء وبعث النور. وهذه الأمور لا تحصل من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى طاقة وتغذية دائمة مناسبة لازياد الرشد والكمال، وقد أسمى هذا الغذاء الروحي بالأدب الذي لا يجب أن يكتفي الإنسان منه بقدر قليل، بل يجب أن يبقى في حالة استحصال دائم وباستمرار، وهو ما يجعلنا نعرف سرّ وحكمة تكرار الأعمال العباديّة لتبقى قلوبنا حيّة مشتعلة، ولكي تصبح هذه الحالات الروحية ملكة راسخة في النفس.
وإنّ الذي يريد أن يحقّق اشتعال القلب عليه أن يسعى عن معرفة؛ ليميّز بين الحقّ والباطل، ويبتعد عن كلّ باطل وينزّه نفسه عنه. وصحبة الجاهل لؤم، أي لا يمكن للإنسان أن يصل إلى التكامل مع الجهل.
ومن الأمور التي تمّ التأكيد عليها في الوصية هو الاستفادة من تجارب الماضين بصورة مناسبة، وهو دليل على إعمال العقل والطاقة الفكريّة الباطنيّة في الإنسان. وأفضل تلك العلوم هي علوم القرآن، تلك الثروة اللامتناهية من المعرفة، مضافًا إلى الأحاديث والروايات الواردة عن أهل البيت (ع). ويأتي في الدرجة الثانية من التجارب التي يجب الاستفادة منها التجارب الشخصيّة التي يعيشها المرء، ويتعلّم منها، فتكوّن لديه ذخيرة تنفعه في الهداية واكتشاف الطريق الصحيح في الحياة.
ومن المواضيع التي تمّ التأكيد عليها والترغيب بها هي قضيّة اغتنام الفرص المناسبة، فكلّ مرحلة من المراحل العمريّة تناسب فرصًا محدّدة ومعيّنة وظروفًا خاصّة. وإنّ بُعد النظر يقتضي أن يغتنم الإنسان الفرصة، ويأخذ القرار في اللحظة المناسبة، ويعمل ما هو متناسب معها، ذلك لأنّ الفرصة لا تتكرّر، ولا تحصل كلّ مرة، فالحذر كل الحذر من إهمال القيام بالعمل المناسب ومن التساهل في الوقت المناسب، فكيف نغتنم هذه الفرص؟
يقول الإمام (ع) إنّ تأخير الأعمال والتساهل بشأنها والتأجيل والتسويف ليس أمرًا حكيمًا، لأنّ الغد قد لا يحمل معه فرصة الإنجاز، وليس كلّ أمرٍ يكون وقته ميسّرًا في كلّ حال. فينبغي أن يرغّب الإنسان نفسه، ويحثّها على النشاط وعلى مواجهة الكسل الذي يمنّيه به الشيطان كي يوجد الموانع للقيام به من جهة، أو يجعله يوكل الأمر إلى وقت آخر لتأمين مقدّمات وتمهيدات أفضل من جهة أخرى فيضيع العمل، وترتفع الوسوسات الشيطانية بشكل خاص إذا كان هذا العمل له علاقة بالأمور الأخرويّة.
لكن على الإنسان أن يستفيد من كلّ الفرص المتاحة له في وقتها، وما دام مَركب الدنيا مروّضًا له فعليه أن يصنع ما يمكنه، وما يقرّبه من الله، وأن يتنعّم بما لديه باعتدال، لا سيّما فيما يخصّ إشباع الغرائز الطبيعيّة من أكل وشرب وحاجات خاصّة، ولا يفرط في الميل لها لأنّها سبب في نسيان الحاجات الأخرى الأكثر دوامًا في النفس كالحاجة إلى الكمالات الحقيقيّة الموصلة إلى الله تعالى.
وأسوء ما في إشباع تلك الحاجات هي موضوع اللجاج، فيصرّ على تلبية جميع غرائزه، ولو بصورة سلبية. وقد توصل اللجاجة صاحبها إلى أن يتنكّر لفعله القبيح رغم أنّه يدرك الحقّ، ولا يكون مستعدًّا لأن يتقبّل ذلك ولو في ذهنه. وهذا الأمر خطير، ويستوجب العلاج السريع، لأنّ اللجاج مطيّة جامحة إذا ركبها الإنسان ستوقعه أرضًا، وتضيّع حيثيّته ووجوده، وهي شبيهة بمطيّة الشهوة والغضب إذا طغيا، فإنّهما سيحرقان الأخضر واليابس.
ومن القيم الأخلاقيّة الإسلاميّة التي شدّد عليها أمير المؤمنين (ع) هو موضوع الأمانة التي ليس لها مورد استثناء مطلقًا، فهي حسنة وضروريّة في كلّ الأحوال. ويستتبع هذه القيمة قيمة الوفاء بالعهد والوعد وعدم إفشاء السرّ مهما حصل.
وإذا ثبّتنا أنّ السنة الإلهيّة تقتضي أن ينال المرء رزقه في هذا العالم بسعيه، فإنّ السعي والتوكّل على الله هو طريق الاعتدال، حيث لا إفراط ولا تفريط، وأن ليس للإنسان إلّا بمقدار ما يسعى إليه من الأرزاق الماديّة والمعنويّة.
ويتكامل الإعداد الفردي للشخص مع العلاقات الاجتماعيّة السليمة في المجتمع على قاعدة التقوى والتكاتف. فالحياة الاجتماعية لا تصلح دون مجموعة من القواعد الأساسيّة التي تنبني عليه، ويتوافق عليها كلّ أفراد المجتمع، كأن يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ولا يظلم كما لا يحبّ أن يُظلم.
وفي مورد العلاقات الاجتماعية القائمة على المودّة والرحمة والمحبّة، يتنازل فيها الإنسان عن بعض رغباته لصديقه، وينتظر من الطرف المقابل أن يقابله الأسلوب نفسه. ومن الأمور الضروريّة أيضًا لهذه العلاقات هو الإحسان، بمعنى البذل والعطاء والصلة دون منّ أو أذى. وللحقيقة، فإنّ الروابط الاجتماعيّة هي طريق جعلها الله تعالى لأجل بناء الروابط السليمة وتأمين الحاجات الإنسانيّة المشروعة، وبناء مجتمع سليم متكاتف يمكنه أن يُنشئ مجتمعًا إلهيًّا كما أراده الله..
ومن لوازم الحياة الاجتماعية المثالية هي أن يكون للناس علاقات ودّية فيما بينهم، وأن يسعى الجميع من أجل حفظ هذه العلاقات وترسيخها ضمن سلوكيّات واتصالات جماعية.
ومن طرق ترسيخ الصداقة:
- المودة، ومِلاك المؤمن في صداقته رضا اله تعالى.
- إرادة الخير والمواساة والتعاطف.
- استمراريّة الصحبة والصداقة في جميع الظروف.
- تجنّب الانتقام في حال الخطأ.
أمّا عن طرق الصيانة من الآفات الاجتماعيّة فهي اجتناب الغضب، والتصرّف اللائق وضبط النفس في حالات الخلاف، وكذلك اجتناب قطع الصداقة عند أوّل موقف وسوء تفاهم أو مشاهدة سلوك مشبوه صادر من الصديق. وأقبح القبيح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد الإخاء، والخيانة بعد الائتمان. وإذا أردتَ أن تقطع علاقة، فاترك بينك وبينه حبلًا أو مجالًا يمكنك من خلاله أن تعيد تلك الصداقة، واجتنب أن تضع نفسك موضع تهمة وسوء ظن الآخرين.
فالمؤمن الموحّد يجعل ربّه أمام عينيه في كل عمل يقوم به على الدوام، فلا يضع نفسه في مواقف سيّئة، ولا يريق ماء وجهه لأحد، كما لا يعتدي على حرمات الآخرين. وآفة الصداقة هو أن يغفل الصديق عن حقوق صديقه، ويهمل مسؤوليّة الصداقة، أو يتخاطبان بنحو فيه نوع من رفع الكلفة والصفاء فيقلّل أحدهما احترام الآخر. فالصداقة السليمة تستوجب رعاية هذه الأمور والالتفات إليها على الدوام، ورعاية الاعتدال والتوازن في أداء هذه الحقوق. وتصبح هذه الأمور أعقد وأصعب فيما لو كان هذا الإهمال تجاه أهله كالأزواج فيما بينهم أو الأبناء أو العائلة الخاصّة.
ولا ترغب فيمن يزهد فيك، فإن لم ترَ رغبة في الطرف الآخر ضمن دائرة الحياة، فلا تصرّ عليه لأنّ هذه العلاقة لن تكون مثمرة. وصحيح أنّه للوهلة الأولى لا ينبغي للإنسان أن يفرض نفسه على الآخرين، ولكن إذا ثبتت علقة الصداقة فلا يمكنه بعدها ولأسباب واهية وقليلة الأهميّة أن يقطعها. وإنّ الأصل في الصداقة هو التراحم والعفو والصفح والتجاوز، ولكن قد يكون الصفح في بعض الأحيان موردًا لجرأة الطرف الآخر على الاستمرار في الأذية، فينبغي في هذه الحال أن يظهر الشخص ردة فعل مناسبة لكي لا يتكرّر فعل الظلم. وإن كان للعفو احتماليّة التأثير في إصلاح الطرف الآخر، فيجب القيام به.
ويذكر الإمام علي (ع) أنّ الرزق رزقان: رزق نطلبه ورزق يطلبنا. فمن لوازم الحكمة الإلهيّة حين يخلق الله أي كائن أن يهيّئ له ظروف حياته وشروط بقائه. وقد قسّم الله أرزاق جميع الموجودات ضمن تقدير كلّي، بما يشمل الإنسان والحيوان، واختيار الإنسان هو أحد أسباب ذلك التقدير الإلهي الذي لا يتنافى مع السعي والجهد الذي يبذله الفرد. ومن جملة التقديرات أيضًا، الأجل وتحديد الحياة، والصحّة والمرض. وما ينبغي بيانه هو أنّ التربية لها تأثير في القضاء والقدر، بحيث تكون المعرفة التوحيديّة في الإنسان سبيل لكشف أسرار الأرزاق التي تصل إليه، أو تلك التي يُحرم منها. والرزق لا ينحصر في تأمين حاجات البطن والفرج والأمور الماديّة، بل للرزق مصاديق معنويّة أخرى تفوق تلك الحسّية الزائلة. والأَولى أن يسعى الإنسان لاكتساب الأرزاق المثمرة التي لها علاقة بالآخرة، ويكتفي بالقليل من الدنيا الذي يعينه في مسيره فحسب، ولا يحزن على شيء فاته منها.
ويذكّرنا أمير المؤمنين (ع) بضرورة قراءة تاريخ الأوّلين وأخذ العبرة منه، لا سيّما أنّ السنن التاريخيّة ثابتة، وتتكرّر، وأنّ الماضي هو مصباح طريق المستقبل إن أحسن الإنسان فهم الأحداث وتفسيرها بشكل جيّد. فأحداث الزمان ووقائعه تتشابه، لكنّ هذا التشابه لا يكون من جميع الجهات، بل من جهات معيّنة. فيجب علينا أن نكتشف وجه الشبه المشترك هذا، كي نتمكّن من الاستفادة منه في المستقبل وأحداثه.
ويختم الإمام (ع) موعظته بالتنبّه إلى الأخذ بالنصح، لأنّ من العقل أن يستمع الإنسان إلى نصيحة من عاش في هذا الدهر، وخبُر تقلّباته. والعاقل يتعظ بالأدب الذي هو الحدّ الفاصل بين الإنسانيّة والبهيميّة، وبه يستطيع أن يتغلّب على هوى نفسه وميوله الحيوانيّة، ويتحرّك نحو منزل السعادة والهداية بالعقل وبالتربية.
كما ينبغي على المرء أن يأخذ الحقّ من أهله كائنٌ من كان، ولا ينظر إلى مَن يقول بقدر النظر إلى ما يقول. ولمواجهة المشكلات طرق منها:
- الصبر، وهو ملكة تصون من جميع هموم الدنيا وغمومها وآفاها.
- حسن اليقين والاعتماد على حسن تدبير الله وحكمته.
- الاعتدال في ميزان الأمور، والذي يورث الحكمة في تحديد الأولويّات ورعاية الشروط.
كان ذلك مختصر لما ورد في وصيّة الإمام علي (ع) لابنه الحسن (ع). وهي وصيّة جامعة لأمور الدنيا والآخرة، وهي دستور حياة لكلّ مَن أراد الدارين سالمًا وغانمًا.
المقالات المرتبطة
ومضات رمضانيّة
نحن اليوم في شهر رمضان المعظّم، ونفوسنا قد تعوّدتْ على مكارمه التي لا تحصى ولا تعدّ بفضل الجليل الكريم سبحانه وتعالى لما نجد فيه من نعم متكرّرة، وخيرات ظاهرة وباطنة، وبركات نشعر بها وأخرى لا نشعر بها .
تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة: سليماني ومشرب شهادة النصر والخلود
إنه جنون عبقري العارف إذا تداعت عليه نسائم العشق فأسكرت عقله، وهيّمت قلبه، وأثارت مآقي دمعه، فجاب في البلدان يبحث عن وصال، أفناه بدلال الفراق، ثم أذابه، ثم ابتعثه، ثم أبقاه في وصال عاشق لا حدَّ له ولا سكون.
اللاهوت الطبيعيّ ومعرفة الله الوجوديّة إشكاليّة الوحي في لاهوت رودولف بولتمان
في حين تسترسل تيّارات لاهوتيّة وفلسفيّة مسيحيّة، وغير مسيحيّة، بالكلام عن اللاهوت الطبيعيّ