تلخيص كتاب أصلح الناس وأفسدهم في نهج البلاغة

تلخيص كتاب أصلح الناس وأفسدهم في نهج البلاغة

هذا الكتاب هو عبارة عن واحد وعشرين محاضرة لسماحة الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي في شرح مقتطفات من خطب أمير المؤمنين (ع) في كتاب نهج البلاغة. ويدلّ عنوانه على المغزى الذي أُريد منه، وهو بيان خصائص أصلح الناس وأفسدهم من وجهة نظر أمير المؤمنين (ع).

يتمحور التعرّف على خصائص عباد الله الصالحين على الخطبة السادسة والثمانون من نهج البلاغة، فيعدّد أمير المؤمنين (ع) لهم ثلاثًا وثلاثين سمة مميّزة من سمات أحبّ عباد الله.

فيبدأ بأهمّ سمة من سمات المؤمن، وهو القدرة على مجاهدة نفسه. فالإنسان لديه رغبات وشهوات عديدة، منها ما هو صالح، ومنها ما هو طالح، تتزاحم أحيانًا في مقام العمل، فيحدّد اختياره لأحدها موردًا للسعادته أو تعاسته.

وهذه العوامل والرغبات الداخليّة القبيحة في الإنسان تسمّى، في المصطلح الأخلاقي، النفس. وتُعطى تسمية العقل لما يميّز بين الخير والشرّ. وهما – النفس والعقل – وإن كانا في الإنسان هوية واحدة، إلّا أنّ الصراع بينهما قائم في كل الأحوال.بولنفس الأمّارة بالسوء هي التي تقود الإنسان إلى المعصية والانحطاط، وتعيق نموّه الروحي، وتمنعه من التقرّب من الله ونيل الكمالات الإنسانيّة العالية، وهي مرتبة من الوجود، يعقبها النفس اللوّامة، ثمّ المطمئنّة تبعًا لما يختاره الإنسان.

وإذا طرح الإنسان السؤال التالي: لماذا جعل الله فينا الاستعداد للانحراف والغفلة، وكوّن فينا الميول والعوامل التي تسوقنا نحو الشيطان؟ كانت الإجابة عنه أنّ الله تعالى أراد أن يختار الإنسان بنفسه طريق عبوديّته تعالى؛ ليصل إلى مقام القرب الإلهي. هذا، وقد أودع الله في الإنسان عوامل تقوده إلى الكمال، كما تلك العوامل التي تقوده إلى المعصية، وقد تكون أقوى وأشدّ، لكنّها تحتاج إلى عون ومساعدة من الباري لهزيمة الشيطان والعوامل الداعية إلى الشرّ والأمور القبيحة.

وممّا يتّصف به أحباب الله أيضًا الحزن والخوف، وهما صفتان ممدوحتان في التعاليم الإسلاميّة بالنظر إلى متعلّقهما، وهو الآخرة، ودورهما البنّاء في إقبال الإنسان على العبادة وطاعة الله واجتناب المعاصي.

وخلافًا لما يُعتبر في علم النفس نوعًا من الأمراض، فإنّ الإسلام يدعم مثل هذه الحالات السلبيّة وغير السارّة. وهذا لا يعني أنّ الإسلام أبى للمؤمنين الفرح والسعادة. بل إنّ الشرع المقدّس قد وهبنا الدين الكامل والجامع، وقد أخذ بعين الاعتبار جميع أبعادنا الوجوديّة وجوانبنا الحياتيّة، وهو يرى أنّ حالات من قبيل الفرح، والتي هي مفيدة للحياة الدنيويّة، قد تكون مؤثّرة في الوصول إلى طريق الكمال والسعادة الأخرويّة، لكنّ المهم ليس أصل الفعل والانفعال، بل أن يعلم الإنسان متى ينبغي أن يكون سعيدًا، ومتى يكون حزينًا.

إنّ أصل السرور والفرح أمرٌ حسن، وقد ورد بخصوص إفراح الآخرين أحاديث كثيرة، شرط أن لا يؤدّيا إلى الاختلال في حياة الإنسان، فيمنعاه من القيام بتكاليفه الاجتماعيّة والإلهيّة.

ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في النظرة الإسلامية أنّ السعادة واللذة لا تنحصر فقط بلذّة وسعادة ماديّة دنيويّة محدودة، وهي ليست مطلقة، إنّما تتعدّاه إلى السعادة واللذة المعنويّة الأخرويّة التي يسعى الإنسان إلى بلوغها، بل هي مرغوبة وقد وصفها الله بشتى الأوصاف لتشجيع الإنسان على الطاعة.

هناك ثلاثة أشياء يجب مراعاتها فيما يتعلّق بحالات الخوف والحزن والسعادة:

  • أصلها وسبب حدوثها.
  • متعلّقها.
  • مراعاة حدّ الاعتدال، وتجنّب الإفراط والتفريط.

وإذا تمّت مراعاة هذه الحالات، فلا يكره الدين للمؤمن الفرح.

إنّ الحزن والخوفّ اللذين يتّسم بهما المؤمن منشؤهما الذنوب والمعاصي التي تحجب عنه الفرص والتوفيقات المعنويّة. فالإنسان يعصي لأنّ التعلّق بالدنيا وتحسّس اللذة المادية في الذنب يمنعان الإنسان من الالتفات إلى الآخرة. أمّا بخصوص الحزن والخوف من الله فهما يمنعانه من المعصية، ويزيدان اهتمامه باللذة المعنويّة الآتية من أنسه بالله.

لذا، يعدّ الإمام (ع) الحزن والخوف سمة خاصة في عباد الله، ودليل على حب المؤمن لله ورغبة في وصاله دومًا، وهذه الحالة التي يشعر بها هي حالة فراق الحبيب لحبيبه الذي لا يمكنه أن يأنس دون قربه، فهو بذلك دائم الحزن لا تظهر عليه علامات الفرح المفرطة، وضحكه في الدنيا التبسّم.

إذ إنّ معيار الحياة الإنسانيّة التي يريدها الله لعباده هي الحياة التي يستخدمون فيها كل إمكاناتهم وطاقاتهم واستعداداتهم التي أودعها الرحمن فيهم للقيام بالتكاليف والعمل طبقًا لإدراته تعالى. ومعيار حياة القلب وموته من وجهة نظر القرآن الكريم هو التمتّع بهذه الفضائل الإنسانيّة، حيث إنّ الأموات لا يمكنهم الاستفادة من أبواب فهم الحقيقة وطرق الكمال والسعادة.

ويعدّ سبب كون الضالين أقلّ قيمة من الأنعام أنّهم لم يستفيدوا ممّا أودعه الله فيهم من العقل وأصول الفطرة، وقد قيّدوا أنفسهم في دائرة المحسوسات، وأسدلوا حجابًا على عين القلب وأذنه؛ فصُمّت آذانهم عن سماع الحقّ، وعميت أبصارهم عن رؤيته. ولكي يستطيع الإنسان امتلاك عين باطنية عليه أن يسعى جاهدًا لاستجلاب العناية الإلهيّة؛ من أجل استنقاذ نفسه من المرتبة الحيوانيّة إلى مقام الإنسانيّة التي يمكنه بها أن يضطلع على أسرار العالم وحقائقه.

وحين يسمح الإنسان لفطرته أن تؤدّي دورها، وهي التي أودع فيها الله تعالى العطش الدائم للحقيقة والمعرفة والشهود الإلهي والمحبّة للمعبود، فإنّ هذا العطش لن يهدأ إلّا بجواره، ولن يسكن إلّا بذكره تعالى.

وإن كانت الشهوة تعدّ في أصل اللغة ميلًا طبيعيًّا وتكوينيًّا وضعه الله تعالى في الإنسان لتلبية رغباته التكوينيّة كالجوع والعطش والحاجة إلى النوم، وهي أمور لا تتصف بالحسن والقبح، إلّا أنّ اللفظ استخدم في الأمور التشريعيّة للإشارة إلى الغرائز والرغبات الجسديّة لا المعنويّة. وإنّ الوصف المذموم لهذه الشهوات يتأتّى من ترجيح الملذّات الدنيويّة الزائلة على ملذّات الآخرة الأبديّة، حيث ينغمس الإنسان فيها؛ فتغرقه في حبّ الدنيا، وتنسيه الآخرة.

وما أراده الإمام (ع) من أنّ عباد الله المحبوبين قد نزعوا جلباب الشهوة هو أنّهم لم يسمحوا لملذّات الدنيا أن تربطهم فيها رباطًا وثيقًا لا يمكنهم بعدها أن ينفكّوا عنها، ولم يتركوا أنفسهم تحت تأثير الشيطان. لأنّ الانغماس في ملذات الدنيا لا تورث أصحابها سوى الهمّ والحزن، لأنّه مهما حصّل منها فلن يزيده ذلك سوى عطشًا. في حين أنّ عباد الله الذين تحرّروا من قيودها يتمتّعون بالنشاط وببساطة العيش، ولا يأسفون على شيء زوى منها، لأنّها لا تساوي عندهم لحظة وصال مع الله.

إنّ هدف المؤمن أولًا وأخيرًا هو أن يكون عبدًا حقيقيًّا لله تعالى، ولو تمتّع بلذّة ماديّة كالطعام والزواج مثلًا، فهذه اللذة ليست هدفًا بحدّ ذاتها، والأصل أن لا يصبح الإنسان أسيرًا لهذه الشهوات، فتصبح همّه وشغله الشاغل. فهو يقوم بها على قاعدة تلبية الحاجات التكوينيّة من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى، وهو العبادة المُثلى لله. ولا تأخذ هذه الأمور الدنيويّة حيّزًا من تفكيره بقدر توفير احتياجاته لها، فهي ليست سوى وسيلة لإرضاء الله، ورغبة في حلال الله عن حرامه.

وإنّ المؤمن ليس في قلبه سوى عبادة المعبود وتحصيل رضاه، لا تشتّت تفكيره مقتضيات الحياة والعمل والتواصل الاجتماعي مع الآخرين، وإنّ اهتمامه وخوفه الأساسي أن لا يفارق محبوبه ولو طرفة عين، لأنّ ذلك بنطره نوع من أنواع الشرك الذي يهرب منه، ويسعى لأن لا يخسر علاقته مع معشوقه جرّاء أي شيء من فتات الدنيا.

وهنا تبرز أهميّة التقوى في إدراك الحقائق والمصالح والمنافع الواقعية، وامتناع الإنسان عن ارتكاب الأخطاء، ولجم طائر هوى النفس وكبحه؛ ليبقى في إطار رعاية العلاقة بينه وبين محبوبه الحقيقي، وهو الله تعالى. كذلك يعطي أهميّة للعقل في ممارسة دوره في إدراك القبح من الحسن واختيار الحسن من الأمور، وتحديد التصرّف اللائق الذي يكون محلّ رضا الله تعالى.

كما أنّ أحد مميّزات العبد السالك هو التزيّن بنور البصيرة، التي تمكّنه من مواصلة مسير السعادة في آخره، فيتبع سبيل الأنبياء والأئمّة (ع) كمنار لطريق وصولهم إلى الحقّ تعالى، وكي لا يضيعوا البوصلة، ويصونوا أنفسهم من الضلال. فهم (ع) حبل الله المتين الذي يتمسّك به المؤمن خوفًا من الانزلاق والسقوط. وهذا الحبل قويّ غير قابل للانقطاع والتفتت يحفظ الإنسان من دوّامة الانحراف والمعصية.

إذ إنّ طريق السعادة والكمال الأبدي ليس معبّدًا، والسير فيه ليس سهلًا، وتكمن الحكمة في وجود المصاعب من أنّها ترفع الإنسان درجات ومراتب لا عدد لها في رحلة سيره الصعودي، وكلٌّ يقطع الطريق بحسب قدرته واستعداداته وسعته الوجوديّة، وكلّما ارتقى كلّما صعُب عليه الطريق، وكلّما كان أهلًا للعروج والسير بشكل أوثق.

وهذا المسير ليس له وقت محدّد، بل على الإنسان أن يسعى في كلّ الأزمنة والأمكنة، حتّى، وإن وصل إلى مقام عالٍ من العبادة، فهذا السعي يزداد، ولا ينقص لأنّ القرب الإلهي ليس له حدود. وها هم أولياء الله، ومن هم في أعلى الهرم كالنبي محمّد (ص) كان يقضي ليله في الدعاء والمناجاة وطلب الاستغفار ليس لأنّه يعصي ويذنب بقدر ما يطلب من الله القرب أكثر، وأن لا يبعده عن الله شيئًا.

وإن كانت الدراسة واكتساب المعرفة تنمّيان عقل الإنسان، إلّا أنّهما لا تورثان اليقين في قلب المؤمن. وإنّ الحيرة والشبهات إنّما تزولان من روحه وقلبه بنور اليقين والمدد الإلهي؛ فيتحرّر من شراك الشيطان ووساوسه فيكون مشعلًا للآخرين ومنارًا لهدايتهم.

ومن الخصال الأخرى التي يتحلّى بها أحباب الله الإخلاص. وهو عبارة عن إخراج ما سوى الله من حرم القلب، وهو يعني أيضًا تطهير النفس من الخيالات والأوهام الملوّثة، ومنع نفوذ هذه الخيالات إلى القلب ممّا يؤدّي إلى كونه عاملًا بنّاءً في ثبات الإنسان في مسير الحياة العقلانيّة الإلهيّة.

كما يذكر أمير المؤمنين (ع) نوعين من الإخلاص:

  • مقام المخلِصين، ويكتسب من خلال الرياضات والمجاهدات والإخلاص في النوايا والكلام والسلوك.
  • مقام المخلَصين، ويتحصّل بعد جهاد النفس وتحصيل الإخلاص في الفكر والقول والعبادة.

لا يقتصر تحصيل الإخلاص على مرحلة معيّنة من السير والسلوك، إنّما هو مطلوب باستمرار لأنّ العمل ينعدم دونه، فلا ينبغي للمؤمن أن يتأثّر بمدح الآخرين أو ذمّهم لعمله، بل أن يكون مطمئنًا لدوافعه وسلوكيّاته، ولا يغترّ كذلك بنفسه وبعمله، بل يسعى جاهدًا كي يؤدّي ما عليه من التكليف على أحسن وجه.

وتكمن عوامل تحصيل الإخلاص بـ:

  • معرفة أهميّة الإخلاص وقيمته ودوره في منح التعالي للعمل ولروح الإنسان.
  • مقاومة العادات السيّئة التي تُزاحم الخلوص والإخلاص لدى الإنسان.

والإخلاص بحسب شرح الشيخ اليزدي جوهرة يصعب الحصول عليها، ولا تُكتسب إلّا من خلال طلب العون والتوفيق من الله. لكن عندما يستولي الإخلاص على وجود الإنسان، يفيض الله على قلبه المعرفة والحكمة، بعد ذلك يصبح المخلص المؤمن ينبوعًا للدين الإلهي، ومقصدَ الذين يبحثون عن المعارف الدينيّة الأصيلة، ويستفيدون من نبع وجوده.

كما يشكّل وجود أهل البيت (ع) أهمّ رافد من روافد العلم والمعرفة والمعنويّة، والنبع الفيّاض الذي هو سبب استقرار الأرض ودفع البلايا، وكذلك سبب لنزول البركات الإلهيّة.

هناك معياران لمعرفة طريق عبوديّة الله والوصول إلى مقام الإخلاص:

  • الفطرة والعقل، وهما عاملان باطنيّان يساعدان الإنسان على تمييز الحقّ من الباطل، والحسن من القبيح.
  • والوحي، وهو عامل خارجي بالتوازي مع إرشاد الأنبياء والأولياء.

فتنشأ مَلَكة العدالة من الأفعال الفاضلة، وحين تترسّخ هذه الملكة في روح الإنسان، فإنّه يقوم بالأفعال الصالحة والخيّرة على الدوام؛ ليصل إلى الإخلاص في عمله.

أمّا في القسم الثاني من الوصية، بدأ الإمام علي (ع) في عرض خصائص الفاسدين. وصفهم بالجهلة الذين يدّعون العلم والمعرفة، والذين يأخذون بعض الكلمات والأفكار الباطلة والمضلّة، وينسجون منها قالبًا نظريًّا برّاقًا؛ ليسيطروا فيها على أفكار الناس، ويضلّونهم عن جادة الصواب.

ومن هذه الأوصاف أيضًا أنّهم يستغلّون كتاب الله والأحكام الإلهية بشكل سيّء، ويفسّرون القرآن بالرأي؛ وهذا النوع من التفسير مذموم في الروايات لأنّه يسبّب الضلال.

وهم كذلك مستصغرون للمعاصي، يحسبون أنفسهم مأمونين من المعاصي والذنوب؛ فيصغّرون المفاسد في أعين الناس حتّى يهون عليهم فعلها وعدم الالتفات إلى مساوئها في الدنيا والآخرة.

ثمّ يصف الإمام (ع) صورة أولئك الناس الذين هم في الظاهر على صورة الإنسان، أمّا باطنهم فهي صورة حيوانيّة مقيتة تشبه أفكارهم وتصوّراتهم واهتماماتهم. كما يكمن خطرهم في جرّ غيرهم إلى الأفكار الضالّة التي يؤمنون بها، ويهيّئون ظروف الانحراف لهم. فينبذهم الإمام (ع)، ويدعو إلى الانتباه منهم ومن أفكارهم وأفعالهم، ويدعو طلّاب العلم والفكر أن ينتبهوا، وأن يسعوا؛ لينهلوا المعارف الإلهيّة من معين القرآن وأهل البيت (ع)، وأن يقيّدوا حركتهم بالأحكام والقوانين التي تأتي عن طريق المصادر الإسلاميّة الصحيحة.

فإنّ أبغض رجال الله برأي أمير المؤمنين (ع) أشخاص يتجاوزون حدود الله عن قصد، ويدوسون الأوامر الإلهية تحت أرجلهم، فيحرمهم الله من عنايته ولطفه وهدايته. هؤلاء الأشخاص تركهم الله لحالهم، ووكلهم إلى أنفسهم، يسيرون على غير هدى، دون أيّ إرشاد. حرموا أنفسهم من مجاورة الصالحين، فانصرفوا إلى الدنيا يغرفون منها، ولا يشبعون، يطلبون ما لا ينفعهم ولا يغنيهم كمثل طالبٍ في الجامعة يسأل ما لا يفيده في درسه، ويسلّي نفسه بقراءة الكتب التي ليس لها منفعة.

ثمّ يحذّر (ع) من زمان يصبح فيه الإسلام غريبًا، ينصرف أهله إلى الدنيا وملذّاتها، فيوجّه الشيخ اليزدي للناس نصيحة أن يرتبطوا بمنبع المعارف الإلهيّة الرسول (ص) وأئمة أهل البيت (ع)، وأن يوثّقوا رباطهم بالعلماء الحقيقيّين الذين يستنبطون هذه المعارف بإخلاص واحتياط شديد؛ ليرشدوا الناس إلى جادة الصواب.

فإنّ الله يستحيل على نفسه أن يكون ظالمًا لعباده، ويترك هؤلاء الفاسدين يعبثون بخلق الله، إلّا أنّه يختبرهم ليخرج أنقى ما فيهم. والاختبار سنّة قطعيّة وثابتة لله، وهو تعالى قد أعطاهم كلّ الأدوات اللازمة في رحلة الاختبار؛ ليتمكّنوا في اجتيازها بنجاح، وليكونوا عند الله من المصطفين.

وإنّ أبغض الخلائق أيضًا مَن آثامهم وشرورهم تسري إلى الآخرين؛ فيستوجبون بذلك غضب الله العظيم، لأنّهم استغلّوا مناصبهم وأساليبهم فكانوا سببًا في هلاك أناس مشوا وراءهم، واقتدوا فيهم. وكانوا فتنة لهم، خدعوهم، واحتالوا عليهم، مضافًا إلى أنّهم حملوا ثقل معصيتهم ووزر انحرافهم.

وبعد، يعدّد الإمام (ع) فئة أخرى من أبغض خلق الله، الذين يستغلّون جهل الناس وبساطتهم، فيبثّون أفكارهم المسمومة ويستحوذون على عقولهم، ويسمّون أنفسهم بالعلماء، ويستعملون المصطلحات والخطب الخادعة والادعاءات الواهية، ويجدون لهم أنصار من خلال هذه الخطابات يتخذونهم قدوة في العلم والعمل. لذا، هناك مسؤولية كبيرة وثقيلة تقع على عاتق الأشخاص المعروفين في المجتمع، والذين يستطيعون أن يؤثّروا في الآخرين.

ويوجد نوع آخر من المضلّين أولئك الذين يسعون في محاضراتهم وكتبهم ومقالاتهم إلى إيجاد الانحراف في الدين وإلقاء الشبهات، أو يحدِثون سننًا باطلة أو يحييونها، ويوقعون الآخرين تحت تأثير هذه الأفكار والتصرّفات، وبعض هذه الطقوس خرافية، أو تعود إلى أديان مجوسين.

كما أنّ من الآفات التي يتعرّض لها طالب العلوم الدينيّة حين يصبح بمكانة بارزة بين أصدقائه أن يغترّ بنفسه، ويطلق العنان لأفكاره، فيطرح ادعاءات كاذبة مضلّة، ولا يضع عليها رقيبًا، بغية السمعة والمال. وهذا الأمر خطير جدًّا لأنّه يفسح المجال لإفساد بعض من الناس.

فيشكو أمير المؤمنين (ع) من الذين يحسبون أنفسهم على الإسلام، وبدل أن يشيعوا الحقائق القرآنية يعمدون إلى مخالفة أهل البيت (ع)، ويسعون من خلال فهمهم الخاطئ للقرآن لتبرير سلوكهم القبيح أمام الملأ وتطهيره.

وإنّ من أهمّ عوامل انحراف الفرد والمجتمع هو حبّ الذات والأنانيّة التي تستسيغ للإنسان السعي وراء أمور ترضيه، فيجد لها المبررات بما ينسجم مع آرائه ومع إبقاء نظرة المجتمع له نظرة الطاهر النقيّ. والأخطر أن ينسج من القوانين الإلهيّة ما يبرّر فيها عمله خاصّة إذا كان من الأشخاص المطلعين على هذه الأحكام، وهؤلاء أكثر خطورة على المجتمع من غيرهم.

ثمّ يعرض الإمام علي (ع) ثلاث مراتب للناس:

  • مرتبة الملَخصين، وهم المعصومون الذين يئس الشيطان من إغوائهم.
  • مرتية المتّقين، وهم الذين نالوا مقامًا من التقوى؛ فتجنّبوا المعاصي، وللشيطان طمعٌ في خداعهم.
  • مرتبة المذنبين، وهم الذين يزيّن لهم الشيطان المعاصي؛ فيقبِلون عليها كل يوم أكثر فأكثر.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الشيطان لا يمكن أن يتسلّط على قلب الإنسان دون إذن ورغبة منه. فقد وضع الله تعالى عوامل لهداية البشر وسعادتهم، وهي: العقل والفطرة والأنبياء، ومع وجودها لا يبقى للشيطان مجالٌ لإضلال الإنسان، إلّا في حال رغب هو في ذلك، فحاد عن أصل فطرته واستجاب له، وسلّمه أمره، فانتقاد له، وانصاع حتّى صار جنديًّا من جنوده، فغفل عن الله تعالى، ولم تعد أسماعه تستجيب لكلام الحقّ، وصار أداة طيّعة بين يدي الشيطان.

كما يعزو الإمام (ع) الدوافع والأسباب التي تؤدّي إلى قبول الناس الآراء المتعارضة في مجال الدين في زماننا إلى غيبة المعصوم. ففي غياب المعصوم، لا يمكن تحقيق معرفة قطعيّة للأحكام الشرعية والعامّة، ويُفتح باب الاجتهاد على مصراعيه. وهو، وإن كان أمرٌ حسن أمر به الشراع المقدّس، إلّا أنّه يفتح المجال أيضًا إلى إبداء الرأي والاختلاف في هذه الأحكام، وقد تكون أحيانًا متعارضة. وهذا السبب هو أحدّ أدلّة ضرورة وجود الحاكم الإسلامي ووليّ أمر المسلمين في رفع الاختلافات ومنع الاختلال والهرج والمرج الذي يحصل بسبب اختلاف الفتاوى في مجال المسائل الاجتماعيّة.

أمّا في حال وجود المعصوم، فمن المستقبح أن يحصل هذا الاختلاف، ويمكن الرجوع إليه لاستعلام التفسير الحقيقي للقرآن والأحكام الواقعيّة والقطعيّة، لكنّ أنانيّة البشر وعنادهم قادهم إلى ترك المصادر الأصليّة واللجوء إلى التفسير بالرأي.

إذ إنّ الإنسان حقيقة واحدة لا تتجزّأ، والله تعالى قدّم بواسطة الأنبياء الأحكام والتكاليف التي تعكس مشيئته في مصالح البشر ومفاسدهم، والاختلاف الحاصل في الدين والأحكام إنّما ينشأ من الجهل وإدخال الأفكار السخيفة التي لا أساس لها.

ومن الأسباب والدوافع أيضًا اقتراح فكرة التعدّديّة الدينيّة التي أرادها المستعمرون لكسر قداسة دين الإسلام كدين إلهي، ولحرف المسارات التي تؤدي إلى حقيقة واحدة، كما إبطال الأديان والقوانين التوحيديّة.

يذمّ الإمام علي (ع) أولئك الأشخاص الذين يسعون إلى تحريف المعارف الدينيّة، ويتسبّبون في إضلال الناس من خلال تحريفهم لحقائقها، ويعود سبب ذلك إلى أنّهم لا يمتلكون روح التسليم والعبوديّة أمام الله تعالى، لأنّهم لو امتلكوا هذه الروحية لما رفضوا الأوامر التشريعيّة التي لا تتوافق مع رغباتهم وأهوائهم. والأخطر حين يتعمّدون أن يخلطوا الحقّ بالباطل، ويستغلّون الأشخاص العاديّين الذين لا يستطعون التمييز بين الحقّ والباطل لتحقيق مصالحهم، والوصول إلى المكانة التي يرغبون فيها. وإنّ الوحدة في المجتمع لا تحصل إلّا حين يدور جميع مَن فيه حول محور الحقّ والقرآن.

فمعيار المحبوبيّة عند الله هو الإيمان الثابت، الإيمان المتزلزل الذي يزول بعد مدّة. وكلّما زادت مراتب إيمان الإنسان كان محبوبًا أكثر عند الله. وفي مقابل ذلك، فإنّ معيار المبغوضيّة عند الله هو الكفر والشرك. فليحسن الإنسان علاقته مع الله ليضمن آخرته ويحسن عاقبته. وقد سعى أعداء الحقّ جاهدين في كلّ مسيرة حياتهم من التفنّن بالأساليب لحرف البشر عن الحقّ وعن الإيمان بالله تعالى، وابتدعوا لذلك السبل.

فأدخلوا على الدين ما ليس منه، وحذفوا بعض ما فيه من أصالة، وهو ما يسمّى بالبدعة. وهي في الدين شركٌ في ربوبيّة الله التشريعيّة، وإثمٌ عظيم، تهدّد كيان الدين الإلهي وأصالته نظرًا إلى الخطر الذي تشكّله على الدين والشريعة.

وقد ذمّ (ع) ذلك بشدّة وحزم، ويعود سبب ذلك لما تسبّبه من ضرر على صعيد المجتمع ككلّ، لأنّ مَن يأتي بالبدعة يرى لنفسه الحقّ في إصدار قوانين وأحكام ليست من الدين في شيء، وهو بذلك يصرّح أنّ هداية الله والأنبياء والقرآن غير كافية، وبأنّه يمتلك الكفاءة اللازمة لوضع تلك القوانين ويكون نتيجة بدعته انحرافه وانحطاطه وهلاكه إضافة إلى انحراف مَن تبعه وانحطاطه. وهو بذلك يرتكب خيانة عظمى بحق المجتمع أكثر من أيّة خيانة أخرى.

وهذا ما ارتكبه الشيطان الذي لم يكن منكرًا للتوحيد في الخالقيّة، بل كان يعتقد بوحدانيّة الله وبالربوبيّة التكوينيّة، لكنّه  لم يقبل بربوبيّة الله التشريعيّة؛ فأصبح مطرودًا ومغضوبًا عليه من الله.

إنّ العلاقة بين البدعة والكفر الباطني مترابطة، فصاحب البدعة، ولو كان يدّعي الإسلام، ويقوم بالتكاليف الظاهريّة إلّا أنّه يضمر كفرًا باطنيًّا ومبتلًى بغضب الله كمثل المنافقين في صدر الإسلام الذي يتعاملون مع المسلمين، ويشيحون وجوههم عن إطاعة رسول الله (ص).

فالإيمان المنجي هو فقط ما ينطوي على التزام عمليّ بكل ما أنزله الله سبحانه من أحكام، ولو رفض شخص حكم الله – ولو بنسبة واحد في المئة – فإنّه لا يملك حدّ النصاب للإيمان بالله.

وتؤدّي البدعة إلى حدوث الفتنة في المجتمع الإسلامي، فعندما يطرح فردٌ ما بدعة في الدين، ويتّبعه بعض الأفراد ويدافعون عنه، فإنّ أولئك الذين لا يرضون بالبدعة والفساد في الدين سيقفون في مواجهتهم، ونتيجة لذلك ستقع نقاشات لفظيّة ونزاعات جسديّة بينهما، ومن المحتمل جدًّا أن يؤدي ذلك إلى حصول مفاسد اجتماعيّة كبيرة وإراقة الدماء.

والبدعة لا تسري في المجتمع إلّا إذا عُرض الباطل بلباس الحقّ، والتبست الرؤية الواضحة على الناس العاديّين، فساقهم الشيطان وأعوانه إلى حيث يريد. أمّا المهتدين والصادقين فإنّهم يرون الباطن الفاسد الملوّث وراء ظاهر البدع والتعاليم الباطلة، ويبتعدون عن انحرافات الشيطان وأصحاب البدع.

ويبقى السبيل الوحيد للنجاة من فنتة البدع القرآن والسنة اللذين هما معايير معرفة الحقّ وتمييزه عن الباطل، وكونهما سببًا في نجاة الإنسان وسعادته. وتعدّ المتشابهات في الأحكام ذريعة أصحاب البدع في الدين، ولوجودها في الآيات القرآنيّة حكمة في لحاظ الاختلاف البشري من حيث الفهم والإدراك. وأنّ الأحكام الإلهيّة إنّما تقدّم على هذا النحو مراعاة لمستوى تفكير الناس من جهة، وعموميّة أمر الهداية لجميع البشر من جهة أخرى.

إنّ لأصحاب البدع مراتب متعدّدة. برزت في العصور منذ رسول الله (ص) إلى يومنا هذا كالمنافقين في زمن رسول الله (ص) الذي بنوا مسجد ضرار، وكالخوارج في زمن الإمام علي (ع) الذين ألزموه بالتحكيم، وانقلبوا عليه، وكبروز فرقة المرجئة التي لا تتخذ موقفًا من المنكر مهما كان، وهو أمر خطير للغاية.

فليس النطق بالشهادتين وادّعاء الإسلام سببًا في نجاة الإنسان ونيل السعادة إذا لم يرافقه العمل والتصديق القلبي. فالإيمان غير المعرفة. ولا يتحقّق الإيمان الكامل إلّا عندما يصدّق الفرد بجميع ما أتى به النبيّ ويقبل به، ويقوم به في مقام العمل بإخلاص سواء أكان موافقًا لميوله أم لم يكن.

ثمّ ذكر الإمام علي (ع) تصنيفًا لمخالفي أحكام الله، فهم على مجموعتين:

  • يقبلون بأحكام الله، ولكن لا يعملون بها، ويرتكبون الذنوب من ضعف نفوسهم وغلبة الشهوة عليهم، إلّا أنّهم يراجعون أنفسهم، ويندمون على الذنب.
  • لا يقبلون بحكم الله، بل قد يستهزئون بالأحكام الإلهيّة، فيصبح ارتكاب الذنب خِصلة وملكة ثابتة في نفوسهم.

فلا يكفي مجرّد القبول بالله وبرسوله (ص) بالإجبار والإكراه لتحصيل الإيمان، ولا يمكن التعامل الانتقائي مع الأحكام الإلهيّة لأنّ ذلك يؤدي إلى زوال الإيمان.

يسعى البشر في مسيرة حياتهم إلى التجديد والتغيير بغية تسهيل وتيسير أمورهم. إلّا أنّ البعض استغلّ هذه المعاني ليحرف معنى البدع المذمومة إلى معاني مقبولة عند الناس. ومن ناحية أخرى، يمكن لآخرين بسبب سوء فهم معنى التجديد يتّجهون إلى التحجّر والتصلّب، ويرفضون كل أنواع التغيير كالجماعات التكفيريّة التي سادت في الآونة الأخيرة، فحرّموا كل أنواع الفرح، ورفضوا كلّ أنواع التجديد في الفقه، والتزموا بظاهر ما فهموه من الآيات. وفي مقابل هذه الفئة، أباحت فئة أخرى كلَّ نحو من التجديد والابتكار، وهذا النحو قد يسيء أحيانًا إلى الدين، فينحرفون لدرجة أنّهم يعتقدون أن الأوامر الإلهيّة لم تعد صالحة لزمن هم فيه، فأرادوا تغييرها من جذورها.

أمّا الابتكار المطلوب الذي أكّد عليه العظماء والعلماء هو الاجتهاد والتحقيق في العلوم الإسلاميّة، وخصوصًا في الفقه في إطار الكتاب والسنّة والتعاليم الوحيانيّة، واستعمال المنهج السليم في التحقيق في تلك المجالات، وكان للشيعة إسهامات كبيرة في هذا المجال.

ومن هنا، فللبدعة بمعنى سنّ سنّة وجهان: حسن وسيّء.

كما أنّ التغيير والتحوّل في بعض أحكام الدين مقبولٌ بمعنى من المعاني في بنية الشريعة الإسلاميّة وفي إطار القوانين الإلهيّة وفي إطار الشرع، لا سيّما في الحكم الحكومتي الذي هو حكم صادر عن الحاكم الإسلامي؛ لرفع المشاكل التي تواجه الحكومة والمجتمع الإسلاميين، وهو يصدره بناءً على المصالح والمفاسد القائمة ضمن إطار الأحكام والقوانين الإسلاميّة الكليّة، وفي هذا الإطار يمكن أن تتغيّر بعض الأحكام الفرعيّة من خلال حكم الحاكم الإسلامي.

وإنّ أصل الولاية وإعمال حكومة الوليّ الفقيه أمرٌ مشروع، وقد تمّ تأييده في الشرع بمنزلة الحكمة الأوّليّ. إذًا، جميع الأحكام وأوامر الحاكم الإسلامي التي تصدر في إطار القوانين الكليّة الإسلاميّة هي أوامر مشروعة ونافذة وواجبة الاتباع ولا يمكن اعتبارها بدعة في الدين، وهذه الأحكام بلحاظ استناد ولاية الحاكم الإسلامي إلى الولاية والحاكميّة الإلهيّة، فهي أحكام إلهيّة بنحوٍ غير مباشر.

لقد لخّص هذا الكتاب بالمجمل الصفات العامّة لأحباء الله وأحبّاء الشيطان، وعرض الإطار العامّ الذي يمكّننا من اكتشافهم حتّى يسهل التعرّف إليهم، فنتّبع أولياء الله وأحبّاءه، ونتجنّب مفاسد الخلق وأعوان الشيطان.



المقالات المرتبطة

الذات المغتربة في فكر إريك فروم

“يمكننا القول إنه مات الإنسان لتحيا الأشياء”. يعدّ الفيلسوف وعالم النفس الألماني إريك فروم (1900-1980) من روّاد المدرسة الفرانكفورتية الناقدة

مبدأ الإمام

ما هذا المنطق؟! وما هذا الميزان؟! نعل بالية لا تُقدّر بشيء، ولا يبذل بإزائها قليل من متاع الحياة، توزن بالملك والسلطان، بل بالدنيا بكاملها، فترجح عليها وعلى لذّاتها جميعًا، وتكون خيرًا منها ومن أشيائها كافّةً، إنّ هذا لشيء عجاب؟!

دور علماء الدّين ومساهمتهم الإنسانية

ما مرَّ من أدوارٍ قد تصدّى علماء الدِّين لتحمّل مسؤوليتها، إنما هي بعضُ وظيفتِهم وواجبهم الإنساني الطبيعي، وعهدٌ قد أخذه الله عليهم، ومساهمتُهم الضرورية في حركة الإنسان والمجتمعات.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<