حقبة الانتظار

حقبة الانتظار

إنّ في اختيار عنوان “حقبة الانتظار” وليس “حقبة الغيبة” دلالة، لأنّنا لا نتحدّث عن الإمام (عليه السلام) كمفردة، أو إشكاليّة تاريخيّة، وإنّما نتحدّث عنه كتوجيه للمسؤوليّة. ينبغي أن نتجاوز النقاش التاريخيّ القديم حول الأدلّة على وجوده، وولادته، وعمره الطَّويل، أو صدق الرواية الواردة عن أئمّة الهدى (عليهم السلام)، أو عدد الأئمّة (عليهم السلام). والتجاوز يكون من خلال أنّ الوجدان يرتقي على البرهان.

جاء بعض تلامذة الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (قدّس الله سرّه) لكي يسترخصوه للذهاب إلى مدنهم، وقراهم، وقالوا له أنهينا فترة الدراسة، ونعتزم العودة إلى بلادنا، ولكنّنا نحتاج إلى وثيقة من قبلكم بأنّنا درسنا بين أيديكم، وعلى أنّنا من أهل الاجتهاد، والاستنباط. فقال لهم: “سأجري لكم اختبارًا”، وأخرجهم إلى باحة المدرسة، وكان فيها بركة ماء، وقال لهم: “سأقيم لكم أدلّة على أنّه لا يوجد ماء داخل هذه البركة”، فأقام لهم الأدلّة، وطلب منهم الإجابة، فلم يتمكّنوا من الإجابة عن الدليل، مع أنّهم كانوا يرون الماء. فسألوه عن الجواب؟ فقال لهم: “الجواب بسيط جدًا، وهو أنّه ما ثبت بالوجدان لا يبطله البرهان”. وهذا أمر شديد الأهميّة، لأنّ الشيطان قد يستطيع التمويه بالشكل، وبتعبير القرآن الكريم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[1]، والزخرف يزيّن به الشيء، وهو في الحقيقة غير ما يبدو لنا، نحن قد نتّصل وجدانًا بالحقيقة مباشرة، ولكنّنا لا نستطيع إقامة البرهان عليها، لأنّ إقامة البرهان تحتاج إلى تقنيّات يتّصل فيها الإدراك العقليّ، والتصوّر الذهنيّ مع قدرة البيان، وامتلاك المفردات.

إنّ بعض الأبحاث العلميّة مربكة في شكلها، أمّا الوجدان فهو يحلّ الكثير من المشاكل، راهنوا على وجدانكم، ولكن ميّزوا بين الوجدان، والهوى؛ فالهوى هو الميل نحو الإثبات أو الإنكار بما يتناسب مع الأنا، أمّا الوجدان فهو انكشاف حقيقة الشيء، حتى لو استلزم الألم، وهو من نقاط القوّة المعرفيّة بخصوصيّة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

نحن بصدد تكثيف المعرفة بالإمام بالمقدار الذي يخدمنا في نظم علاقة وجدانيّة به، والعلاقة الوجدانيّة تحدد لي ماذا يجب أن أفعل في الانتظار. إنّ أفضل طريقة لربط العلاقة بالإمام (عليه السلام) هي أن نعرفه، وهذه المعرفة على مراتب، إحداها، أن تنكشف لنا إرادته، حينها يقودنا دون أن نعلم. وهذا الأمر ليس خيالًا، ويحتاج إلى مجموعة من المقدّمات.

تشرّفنا بلقاء أحد أهل المعرفة أمس، وروى لنا مجموعة من الأمور، قال أنّ السيد عبد الكريم الكشميري (العارف الكبير) في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل فوجد الإمام الخميني (قدّس الله سرّه) يزور، فوضع يده على كتفه، وقال له: “أقسم بأمير المؤمنين أنّي أحبك”. فالتفت الإمام وابتسم، وقال له: “أنا أيضًا”. فقال له: “دلّني كيف سلكت؟ “فأجابه الإمام بكلمة واحدة، وقال:” بالقرآن”.

لقد سلك بسبع مراتب، فالمرتبة الأولى كانت الأنس بالتلاوة من أوّله إلى آخره، والثانية كانت بالأنس بسورة سورة، والثالثة الأنس بقصّة قصّة، والرابعة الأنس بآية آية، والخامسة الأنس بجملة جملة، والسادسة الأنس بكلمة كلمة، والسابعة الأنس بالأحرف المقطّعة.

وهذا النصّ لم يكن حرفيًّا عن الإمام، ولكنّي صغته لكم. وهذه الهديّة منها تحتاج في كل واحدة منها إلى أربعين يومًا بالحدّ الأدنى لبلوغ مرحلة الأنس، وبعض النفوس تحتاج إلى أكثر. وأفضل أوقات العناية بها بحسب وصيّة هذا العالم هي وقت السحر”.

ينبغي في الانتظار أن نعرف من ننتظر؟ والمعرفة السطحيّة أنّه الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهو حجّة الله على خلقه، الباقي إلى أن يأذن الله تبارك وتعالى بخروجه وظهوره، لتتمّ به إرادته التي منع الناس من إتمامها طوال ذلك الزمن. هذه الحجّة لها عدّة ألقاب، ولكلّ لقب معنى، ومن ألقابه المهدي، والمهدي هي صيغة اسم مفعول تستخدم بمعنى اسم الفاعل. والمهدي هو الهادي، والمهدي هو الذي لا يحتاج إلى الهداية، وفي نصّ القرآن الكريم ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾، يقول العلّامة الطباطبائي أنّ هذه الآية هي من الأدلّة القويّة على وجوب العصمة في الإمامة. فهناك قسم من الناس يحتاج في هدايته إلى هادٍ، وقسم آخر أخذ الهداية بالله سبحانه وتعالى، لا بواسطة بينه وبين الله، وهم الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام).

إنّ الإمام الحجّة (عليه السلام) هو المهدي، بمعنى الهداية، وبمعنى الهديّة. فهو هديّة الله، وهدايته. ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) هو مرجعيّة بشريّة لكلّ أنواع الإشراق النفسيّ، أو العقليّ. العلم، والهداية، والرزق، والخلق، إفاضات إلهيّة وهي تتعلّق بحكمة ما. بقاء هذه الأرض، وعلّتها، ومبرّرها، وما تتعلّق به الإرادة الإلهيّة بالإفاضة هو وجود الإمام الحجّة (عليه السلام) لذلك به يهتدي الناس، وبه يبقى الناس أحياء، وإذا كانت الهداية جزء من لوازم الخلق، والوجود، فالنهاية متعلّقة بوجوده المبارك.

من ألقابه (عليه السلام): الصاحب، وهو لقب أمنيّ، وقد أطلق على غيره من الأئمّة (عليهم السلام) كالإمام الكاظم (عليه السلام)، وهذا التعبير كان لتضليل الأجهزة الأمنيّة الحكوميّة بالرسائل التي كانت تُنقل، ففي حال كُشفت الرسالة، لا يكون فيها الاسم صريحًا، وهو بمعنى المصاحبة.

ثمّ اللقب الثالث وهو الحجّة، وهو مشترك مع بقيّة الأئمّة، ولكن اختُصّ به لأنّه آخر الحجج، والذي سيرد في حجّته شك، فإذا أمسكت بحجّته استغنيت بها عن إثبات حجّة من قبله، ولكن إذا أمسكت بحجّة من قبله، لا تستغني بها عن حجّته، فالقائل بحجّة الإمام (عليه السلام) هو متمّم للعقد الإلهيّ بالحجج منذ آدم (عليه السلام) إلى آخر الزمان، وهذا أمر شديد الأهميّة. عندما تقول أنا من أتباع الحجّة الإلهيّة فلا يمكنك إلّا أن تؤمن بالإمام الحجّة المنتظر (عليه السلام). ولهذه الحجّة مفاعيلها  في أنّها حجة لله على الناس، وحجّة أيضًا في الحساب. فهو له مقام الرقابة، وعليه تُعرَض الأعمال.

أمّا اللقب الخطير، والمهمّ هو لقب بقيّة الله، ويقول بعض أهل المعرفة أنّ أكثر الألقاب التي يرغب الإمام (عليه السلام) باستماعه إليها في التوسّل به هي بقيّة الله، وخاصّة بصيغة “يا بقيّة الله أدركني، يا بقيّة الله أغثني”. ومعنى بقيّة الله أنّه آخر الذخيرة، والشعور بالحزن والخوف، والقلق، وهذا مع ظروف الناس في غياب إمامهم. وبقيّة الله هو الذي ادّخره الله لآخر الزمان من أجل إقامة الحقّ، وهو ما من أجله رُسمت استراتيجيّات المعصومين، فلا يمكننا فهم أفعال المعصومين بين التقيّة، والمهادنة، والجهاد، والشهادة، وتقبُّل السجن، والتركيز على الأولويّات، وحفظ الشيعة، وتنظيم الوكلاء، لن يمكننا فهم هذه التفاصيل إن لم نفهم أنّهم يعملون لأجل البقيّة.

ومن الأدلّة على هذا الأمر أنّ غيبته عُلّلت بكونه البقيّة، وفي الخبر أنّ: “أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم (عج)”[2]. والبيعة هي أن تعطي عهدًا للحاكم بعدم القيام، أو التآمر، وهذا الأمر مارسه الأئمّة ولم يثبّتوه من باب الشرعيّة. وميزة البيعة في الإسلام أنّها التزام الطاعة لمن له حقّ الطاعة، ولكن الإمام علي (عليه السلام) قلبها، فكان صاحب الحقّ الذي يشترط على المبايع، فهو لم يبايع بقبول الشرعيّة، وإنّما بايع بشرط تحقيق الغاية التي هادن من أجلها. ومن مستلزماتها أن لا تقوم عليه.

والشاهد على كلامنا أنّ ما جعل الأئمّة (عليهم السلام) يهادنون كان من أجل أولويّتين: الأولى هي حفظ الدين، فالإمام الصادق (عليه السلام) كان يرى من الأولويّة أن يبثّ علوم النبي (صلّى الله عليه وآله) في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ، حتىّ ولو كان تلامذته لا يقولون بإمامته. وكلّ ما نجده في المذاهب الإسلاميّة من فقهٍ سليمٍ يعود إلى مولانا الصادق (عليه السلام). ثمّ لو أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) انقبض عن تسريّة الحقّ الفقهيّ في المذاهب الأخرى، لوجدنا الانحراف أكبر. وكلّ إمام من أئمّتنا (عليهم السلام) التزم بالمهادنة لغاية حفظ الشيعة والشريعة، وكان تكليفهم الحفاظ على حياتهم، لأنّ قتلهم في ذلك الظرف كان يشكّل انتحارًا، وقد مارسها الإمام الحسين عشرة سنوات، والإمام الحسن (عليه السلام) مهّد له الأرضيّة لإقامة الحجّة الكبرى لتخليد عاشوراء من خلال فضيحة معسكر الخصم، لذلك عندما أسقط معاوية الصلح لم يقم الإمام الحسن. وعندما ذهب معاوية، وأصبح يزيد ثمرةً من ثمار تخاذل المسلمين قام الإمام الحسين (عليه السلام) حمل وجدان المسلمين جميعًا ليخلّد الموقف بالقتل. كما أنّ بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) هادنوا بهذا الشكل، وتجوز لهم الهدنة بل تجب عليهم في بعض الأحيان. أمّا المبرّر لمهادنتهم فهو الإمام الأخير، وحفظ الشريعة هو لإقامتها، وحفظ الشيعة هو من أجل بقائهم، وقيمتهم، ليظهرها على الدين كلّه، ولأجل قيامة الإمام المهدي (عليه السلام) مارسوا هذه الاستراتيجيّة.

فمن هادن منهم كانت مهادنته لأجل غاية، وهي لا تتحقّق إلّا بالإمام الأخير،  فلأجله صارت الهدنة، ولذلك لُقِّب ببقيّة الله،  فله مدخليّة في رسم استراتيجيّة الأئمّة (عليهم السلام) وهو يحدّد لنا في حقبة الانتظار مسؤوليّة أخرى، والناتج من هذا الأمر خطير جدًا، أنّ الإمام لن يظهر، وهناك فترة مهادنة، فهو لن يظهر ليمهّد لنفسه ظاهريًّا، إنّما سيظهر عندما يمهّد لنفسه غيابيًّا.

إنّ لقب بقيّة الله هو خلاصة الجهد، والمشروع، والذخيرة الأخيرة، وهو ما من أجله رسمت الاستراتيجيّات، والسياسات، وكانت غيبته لأنّه بقيته. فالغيبة متبقيّة فيه على أنّه بقيّة الله. وإذا كانت العلّة الأولى أن لا يهادن، والثانية أن لا يقتل، إذًا لن يظهر إلّا إذا كان المشهد العالميّ في لحظة اصطكاك، واحتكاك، وليس في مرحلة مهادنة. والعنصر الآخر هو عنصر خوف القتل، فالإمام لن يظهر، ويقود هذا المحور في مواجهة الباطل إذا لم يكن هناك توازن قوّة يمنع من استهدافه.

ثمّ إنّ اللقب الأخير هو القائم (عليه السلام)، والقائم مشتقّ أصلًا من مجمع الصفات الإلهيّة الفعليّة. وينقل العلّامة الطباطبائي عن صدر المتألّهين الشيرازي تفسيره لآية الكرسيّ، وهو وصفٌ لطيفٌ، يشرح فيه أنّ في آية الكرسي كلّ مراتب التوحيد، وكلّ الصفات. فعندما نقول ﴿الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم[3] يعني ذلك أنّ الصفات الذاتيّة واضحة، وهي العلم، والحياة، والقدرة، والقيّوم هي مجمع الصفات الفعليّة، أي رزقه قائم به، وجوده قائم به، ورحمته قائمة به، وهذه الصفات لها تجليّات، ومن أهمّ تجليّاتها هي قيامات الأنبياء فتارةً تكون بالصفات الأخلاقيّة، وطورًا بالعلم وبسطه، وأخرى بالرحمة للعالمين، وأعظم تجلٍّ لرحمة الله هو النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله). ولكنّ الذي سيهيّئ النفوس جميعًا لتجلي الصفات الإلهيّة في النفوس البشريّة هو القائم (عليه السلام). ومن الصفات الفعليّة هي الجبروت، والسلطان والهيبة، وهي لا تتجلّى بتمامها إلّا بإقامة دولة الحقّ، وهو الذي سيقيم الصلاة إقامة اجتماعيّة. والإمام الذي سيجعل كلّ الناس في محور واحدٍ هو واسطته، لكي يقيموا الصلاة لله دون منافسة أحد، وهي صلاة الانقياد العبوديّ لله سبحانه وتعالى.

لا شكّ في أنّ بعض الأشخاص يقيمون الصلاة، والبعض الآخر تقيمهم الصلاة. فالقائم هو القائم بأمر الله وإرادته، وصفاته، والقائم بغاية الخلق، وبأحلام الأنبياء، وبثأر الأنبياء. وزمن ولادة الإمام هو الزمن الذي مُهّد له بغيبة تدريجيّة، فإنّ غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي غروب قرص الشمس، والحمرة المغربيّة. وغيبة الإمامة بدأت فعليًّا من عند السقيفة، عندما غُصِب منصب القيادة السياسيّة، ولكنّ الغيبة المباشرة بدأت منذ زمن الإمام الكاظم (عليه السلام) والذي قضى ثلاث عشرة سنة في السجن، والإمام الرضا (عليه السلام) سُمّي بغريب الغرباء، وفي طريقة اعتقال الأئمّة (عليهم السلام) فعلى سبيل المثال أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) كان يُحمل من المسجد من صلاته ويُسار به في أربعة مواكب حتىّ لا يعلم شيعته أين اتّجاهه.

وأيضًا كانت للإمام الجواد (عليه السلام) غيبتان، الأولى غيبة صغر السنّ، وهو ابتلاء، ولكنّه كان في الوقت نفسه فرصة، لأنّ الله أظهر وعلى صغر سنّه، وعلى وجوده المبارك، ويده المباركة حجّة مفحمة، لكي يأنس الناس فكرة أن يؤتى الحكم صبيًّا. والغيبة الثانية كانت عند الشكّ في نسبه، والمشكلة أنّ الشكّ كان من أبناء عمومته، حتىّ أظهر الله ذلك ببيان النسّابين، وقالوا: “إنّه إمّا نبيّ، وإمّا من سلالة الأنبياء”.

أمّا مع الإمام الهادي (عليه السلام) فقد كان الأمر صعبًا جدًا، فقد أُشخص من المدينة إلى سامرّاء، وقد قرأتُ أنّ البيت الذي سكنه الإمام الهادي (عليه السلام) كان قد اشتراه فيها قبل ذلك. والغريب أنّ وكيل الأوقاف الشيعيّة السابق في العراق أخبرني أنّه تبيّن لديهم – بعد تفجير مقام العسكريّين، وأثناء عملية التنظيف – وجود سردابٍ آخر طويل يصل إلى محراب مقام العسكريّين، غير السرداب المشهور الذي يزار الآن، وهو داخل البيت. فالإمام ولأنّه يعلم أنّه سينفى ويُسجن في مكان ما، كان عليه أن يهيّئ البيئة لحماية الإمام، وهي قد تحتاج إلى حفر هذه السراديب التي يمكن أن يتّقي بها الإمام حينما يتعرّض البيت إلى مداهمة، وذلك فعلًا ما حصل.

ثم ّكانت الأمور أصعب مع الإمام العسكري حيث أنّه حينما قدم من المدينة كان بعمر الثلاث، أو  الأربع سنوات، وبقي مسجونًا في سامرّاء حتىّ شهادته. كانت مسؤوليّته عظيمة جدًا، وهي أن يقيم الدليل على حجّة الإمام المهدي (عليه السلام) وأن يخفي ولادته. وهو الإمام الوحيد الذي لم يحجّ، وظلّ حتى استشهاده لا يخرج من بيته إلّا بأمر السلطان، وإذا أخرجوه، فقد كانوا يأتون بهودج، ويضعون على وجهه البرقع، ويصعدونه فيه، حتىّ إذا خرج إلى قصر السلطان لا يراه أحد. هذا المستوى من التضييق يدلّنا على مستوى عال من التوتّر، ومن القرائن على وجود روايات ولادة الإمام (عليه السلام)، وأنّه الإمام الثاني عشر، وأنّه هو المدّخر للبيئة الاجتماعيّة والأمنيّة لبني العباس في زمن الإمام العسكري (عليه السلام)، ودليل على أنّ هنالك حدثٌ عظيمٌ كحدث فرعون الذي كان يقتل الذكور، ولو كانوا في بطون أمّهاتهم.

إنّ مقتضى الحكمة الطبيعيّة أن تحصل الغيبة. وما يجب أن نعرفه هو أنّ الإمام لم يغب غيبة فرار، وإنّما غاب غيبة حضور. قد تسيطر علينا ذهنيّة أنّ همّ الإمام الوحيد كان أن ينجو من القتل، وحتّى لو لم يكن هناك تهديد بالقتل، فكان الأولى للإمام (عليه السلام) أن يغيب لأنّه لن يُقتل لوحده، ولكن سيُقتَل شيعته مع أي تحرّك. وفي نصّ لطيف بتوقيع الإمام (عليه السلام) للشيخ المفيد يقول فيه: “إنّا وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله سبحانه وتعالى من الصلاح لنا لشيعتنا في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين”[4].

فوجود الإمام (عليه السلام) مع عدم القدرة على حمايته، وحماية شيعته يشكّل تهديدًا عند الشيعة. وصارت الغيبة هي التكتيك الإلهيّ لأجل خروج الإمام من أعين الرقابة لكي يبدأ بفعاليّته. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ غيبة الإمام هي بداية لاسترجاع الفعاليّة التي اغتُصِبت من الأئمّة (عليهم السلام) السابقين بسبب حصارهم. ويمكنكم القول بأنّ الإمام خرج من السجن، وهذا الفهم يترتّب عليه مجموعة كبيرة من الآثار.

ثمّ بعد ذلك بدأت الغيبة، وأصبح الشيعة أمام منعطف تاريخيّ خطر، ومهمّ جدًا. ومن الانعكاسات الإيجابيّة للغيبة أنصحكم بقراءة تواريخ نشأة الدويلات الشيعيّة كالدولة الفاطميّة، والحمدانيّة، وبني عمّار، والإسماعيليين، وكيف نشأت هذه الدول، وسترون أمرًا ملفتًا، وهو أنّ أغلبها نشأ في مرحلة الغيبة الصغرى، ممّا يعني أنّ غياب الإمام (عليه السلام) من واجهة الأحداث أدّى إلى حالة استرخاء سياسيّة، مكّنت الشيعة من أن يجمعوا أنفسهم دون الإحساس بالخطر من السلطة.

ما يجب اعتماده في هذه المعرفة من مسار أنّ هذا الإمام المدّخر، والذي من ألقابه أنّه طاووس أهل الجنة، وهو بحسب روايات أولي العزم أنّ الله حينما كان يريد أن يأخذ منهم عهد العزم كان يعرّفهم بأهل البيت (عليهم السلام)، وهنا نصّ ملفت جدًا يقول: “وكان يعرّفهم بمحمّد، وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وبالمهدي، وسيرته”.

فمن أهمّ المحطّات في تكليف أولي العزم بوظائف كبرى، هي أن يكون دورهم مؤثّرًا في الإبقاء على حركة الصراع بما يخدم آخر الزمان. فقد حملوا هذا العبء الثقيل عن بقيّة الأنبياء لأنّه كان لديهم الاستعداد، والبصيرة والانكشاف، لمعرفة الإمام المهدي (عليه السلام)، وكلّ ما جرى عليهم ما كان ليخفّف عنهم أنّهم كانوا يرون أنّ هذا العناء كلّه سيصل إلى صاحبه في مستقبل الأيام، لذا سمّيوا بأولي العزم لإقرارهم بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) وإقرارهم بالمهدي، وسيرته (عليه السلام).

حقبة الانتظار 2

الشيخ حسين زين الدين

وعندما ندخل في حقبة الانتظار علينا أن نعرّف أوّلًا معنى الانتظار، ومعنى من مات منتظرًا لإمام زمانه، ومعنى أنّ أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج، لأنّ الفهم الخاطئ لهذه المفردة يترتّب عليه مجموعة كبيرة من الانحرافات.

لمّا كان الفعل الإلهيّ، أو القرار الإلهيّ بتغييب إمام الزمان قرارًا وإرادةً بمقتضى الحكمة، والحكمة يترتّب عليها مجموعة من الفوائد، فالعمل الذي يصدر من حكيم لا تُعرف علّته، ولكنّها ستتجلّى إيجابيّاته بعد فترة. ومن أهمّ هذه الإيجابيّات:

أولًا: حماية التكتّل الشيعيّ: جميع الموالين يحتاجون إلى حماية، وهم ليسوا قادرين على حماية الإمام، كما أنّه ليس قادرًا على حمايتهم، وبالتالي فإنّ غيابه يسهّل عليهم العيش في بيئة آمنة.

ثانيًّا: حماية الإمام نفسه: وهي استثنائيّة، ولها تدخّل خاصّ، فما دام التكليف ممكنًا لدى المكلّفين، فالله سبحانه وتعالى لا يتدخّل، ولا ترتبط مفردة النصر الإلهيّ، أو التدخّل الإلهيّ، أو اللطف الإلهيّ بالدُّعاء فقط. فالتَّدخُّل الإلهيّ ليس تعويضًا عن تقصير البشر، وإنّما هو تتويجٌ لجهودهم. لذلك فإنّ في كلّ مورد يحصل فيه التوكّل دون امتثال التكليف في إعداد المقدّمات يسمّى في بعض الروايات (خديعة)، “لا يخدع الله عن جنّته”[5].

فالتوكّل مطلوب في التوفيق للمقدّمات، كما أنّه مطلوب حين العجز عن إتمامها، ولكن ما دام الأمر مقدورًا، فإنّ الله لا يغيّر سنّته. وفهم هذا المنهج يؤثّر في تكوين التصوّر حول آخر الزمان. والقرار الإلهيّ ليس على طريقة أنّنا أقفلنا الآن باب الرحمة، ثمّ بعد 1180 سنة فتحناه. باب الرحمة لا يُقفَل، بل إنّ الناس لم تستقبل الرحمة التي هي إمام الزمان، فأقفل الباب أمام خسرانه، أي أنّ تغييبه كان لطفًا.

ثالثًا: تحرير الإمام من الرقابة: كانت بداية ظهور الإمام مقرونة ببداية غيبته. فبالنسبة إلينا هو غائب، ولكن بالنسبة إلى إمامته هو ظاهر. إنّ للإمام مجموعة من دوائر الولاية، إحداها اغتُصبت من الناس، فما حصل في السقيفة هو اغتصاب لسلطان الإمام، ولإمارة الإمام، فكان تمكينه بيد الناس، بينما شرعيّته بيد الله.

هناك مرتبة ثانية اغتُصبت وهي المرتبة العلميّة، فالإمام بقي أعلم الناس في كلّ زمان، ولكن السلطة أنشأت مرجعيّات علميّة صبغتها بصبغة القداسة، والاحترام، حتّى تكون منافسة لهذا المقام.

والمرتبة الثالثة، والتي يصعب أن تُغتَصَب هي مرتبة اللياقات الذاتيّة، أو المرجعيّة الأخلاقية، فهي كلّما اشتدّ الحصار يمكن أن تظهر أكثر، وأبرز مثال بتاريخ الحصار المباشر، والموضعيّ هو حول الإمام الكاظم (عليه السلام)، فالملفت أنّ الإمام الكاظم انتقل إلى أربعة سجون في ثلاث عشرة سنة. وممّا ذكر على لسان الشهيد المطهّري أنّه قال: “إنّ سرّ تعدّد سجون الإمام (عليه السلام) هو أنّه ما دخل سجنًا، وأمضى فيه أيامًا، إلّا حوّل سجّانه فيه إلى عاشق”.

كان الإمام (عليه السلام) يختلي بالله، والسجَّان يراقبه، وهو يرى للمرّة الأولى فنون العبادة، فالبكاء طوال الليل، والمناجاة بصوت حزين، ونورانيّة، وهدوء، وسكينة، وصوم…. والمفارقة أنّ السنديّ بن شاهك – في تصنيف علم الرجال –  كان من ثقاة الشيعة، وأصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو الذي قتل الإمام (عليه السلام)، وكان ابنه، وزوجته قد وضعا كوّة بين المنزل والسجن كي يعطيا الأكل للإمام، وكانا يراقبانه.

فالبعد الأخلاقيّ، والمعنويّ لا يمكن محاصرته، بل يمكن أن يجعل له منافسًا. ومن يدرس في الأدب العربيّ يعرف أنّ الترويج لبعض رموز الصوفيّة فيه مبالغة كبيرة جدًا، فالقطب، أو الدرويش الأعظم ليس بهذه القيمة المعنويّة التي يروّجون لها، فكلّ ما عندهم يُبنى على الأسطورة، وإلّا فكيف لرابعة العدويّة التي عاصرت الإمام أن تُعرف أكثر منه؟ وكيف أنّ الحسن البصري – الذي كان عندما يمرّ يؤدّبه الإمام ويقول له: “أنت تخطئ” – يُعرف أكثر من الإمام؟

إنّ الرتبة السياسيّة غُصِبت، والمهمّة السياسيّة اغتُصبت، والمهمّة العلميّة حوصرت، والمهمّة الأخلاقيّة ضُيّق عليها، والاتصال به صار صعبًا، فكان تغييب الإمام تحريرًا له لممارسة هذه الأمور، ولكن بالخفاء. إلّا أنّ الخفاء هو حرمان من التشرّف بالطلعة البهيّة، وهو حرمان من الاقتداء المباشر، لكنّه فرصة لممارسة الفعاليّة بعيدًا عن الضغوط، وبالتالي فإنّ العمل الأمنيّ بحاجة إلى الخفاء.

وعن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: “لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولا بدّ له في غيبته من عزلة، ونعم المنزل طيبة، وما بثلاثين من وحشة”[6]؛ والعزلة هي الابتعاد عن الشواغل. ولو كان الغياب هو إحجام عن آداء الفعل، فإنّ القوّة بحاجة لظلمة وستر، ولكن لا بدّ له من قوَة، فالإمام (عليه السلام) بالنسبة إيلنا هو الغائب، ولكن بالنسبة إلى ثلاثين رجلًا هو حاضر، وهم الذين يقومون بخدمته، ولدينا روايات أخرى تؤكّد ذلك، وكلّما توفي واحد، استُبدل بآخر، ويسمَّون بالأوتاد، وأنا أسمّيهم بالحكومة السرّيّة.

هؤلاء الأبدال لا يُشترط فيهم أن يكونوا من أعلام القيادات. والوكلاء لهم مقامهم العلمي والديني والمرجعية الدينية والفقهية، ويؤمَن لهم في صرف الأموال الشرعية وحلّ المشاكل بين الناس. أمّا السفراء فلا يشترط فيهم أن يكونوا متصدّين اجتماعيًّا، بل بعض السفراء كان يُشكّ أصلًا في أنّه شيعي أم غير شيعي، كالحسين بن روح النوبختي الذي أرسلوا إليه وفدًا كي يحقق معه، يقول الراوي: “دخلنا عشرة تسعة لا يشكون في تشيّعه، وأنا في شك من ذلك، وخرجنا عشرة تسعة لا يشكون في نصبه العداء لأهل البيت وأنا في شك من ذلك”. هكذا تكون الشخصية القيادية والشجاعة، وشرط السفارة أن تكون لديه القدرة على كتم السر. وشيخ النوبختيين عندما يُسأل لمَ لم تكن أنت؟ يجيبهم: إنّهم أهل بيت أعلم بمن يختارونه، والله أعلم أين يجعل رسالته، وإنّي لا أعلم من نفسي أأُطيق ما كُلِّف به أم لا؟ وأعلم أنّ الحسين لو كان الإمام تحت ذيله، وقُرِّض بالمقاريض كي يكشف الذيل عنه ما فعل أمّا أنا فلا آمن على نفسي منه.

هؤلاء الوزراء كان أمينهم العامّ الخضر (عليه السلام)، الذي – بحسب الرواية – لم يسقه الله تعالى من ماء الحياة لنبوّة يبشّر بها، ولا لكتاب يحمله، ولا لشريعة ينشرها، إلا ليكون شاهدًا، ودليلًا على طول عمر المهدي في آخر الزمان. وهو ممتدّ ممّا قبل النبي موسى (عليه السلام) إلى آخر الزمان.

وهنا قد نسأل ماذا يكون عمله (عليه السلام) على المستوى السياسيّ، والأمنيّ، والثقافيّ، والاقتصاديّ؟ وأفضل جواب هو أنّنا إذا عرفنا فعمله سيكون فاشلًا، فمن يظنّ أنّه قادر على اكتشاف واحد من هؤلاء الثلاثين، فهو يُعجِّل بموته، وهؤلاء إذا عُرف أحدهم أماته الله، لأنّ بقاءه حيًّا يشكّل خطرًا على الإمام (عليه السلام).

والفائدة الرابعة من الفوائد هي تخفيف العقوبة عن المقصّرين عن حمايته، فإنّ وجود الإمام مع تعريضه للخطر مع تقصير المؤمنين إثم، وهذا ينتج عنه فائدة خامسة وهي مداراة يتم الشيعة. فلا يطلَب منهم النصاب تامًّا، بمعنى يُخفّف عنهم، وهو مستفاد من مجموعة الروايات، ففي بعض الأزمنة، فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) عندما كان يقول: “واهًا شوقًا إلى إخواني” فيردّ أصحابه: “أوَلسنا إخوانك يا رسول الله؟” فيقول: “لا، إنكم أصحابي وإخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ولم يروني، لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم، من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى، ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة”[7]. وميزة هؤلاء أنّ الحجَة عليهم ليست تامّة بالتشخّص، وإن كانت تامّة بالبرهان العقليّ، ولكنّهم يؤمنون به كسواد على بياض بصفاء، ووضوح، وانكشاف تامّ.

بناءً عليه، يمكننا الانتظار تحت رعاية، فلم يعد الإمام متربّصًا غائبًا، إنّما الإمام هو أكثر المكلّفين على وجه الأرض فعاليّة، حتّى أكثر من إبليس أو في الحدّ الأدنى هو مكافئ له، لأنّ الله خلقنا ليرحمنا، فيجب أن يكون متفوّقًا عليه، وهذا الكلام هو على المستوى النظريّ. والفارق يكمن بين القلوب المستعدّة لمشاهدة الآيات الإلهيّة، والقلوب المقفلة، أنّ الآيات بالنسبة إليهما سواء، ولكنّ مستوى الموعظة عند القلوب المستعدّة أفعل. فيوم القيامة عندما يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون﴾[8].

البعض يرى أنّ الآيات مثل أن يأتي طوفان، أو رجز من السماء، وآيات الضفادع، والقمّل، ولكن من يعتبر أنّ هذه هي الآيات؟ ويعرض الله هذه الآيات الآلاء في سورة الرحمن بشكل أعمّ.

وفي القياس نقاط إعلام ثلاثة: الأولى هي نقطة القدرات، والثانية هي نقطة التكاليف، والثالثة هي نقطة الإنجازات. فمنذ متى كانت تكاليفنا مساوية لقدراتنا؟ أليست دائمًا أعلى من القدرات؟ فتكليف القتال مثلًا لم يتوقّف على وجود التوازن الاستراتيجيّ بين المقاومة وإسرائيل. ثمّ هل كانت الإنجازات مساوية، أو أنّها كانت أقلّ من التكليف؟ تأمّلوا في المسيرة دون أي تحيّز، وبشكل صافٍ، ودون حسن ظنّ بالنفس، يقول سماحة السيّد عن تحرير العامّ 2000: لو اجتمعنا، وجمعنا معنا آلاف الأدمغة لكي نخطّط للسيناريو الذي حصل في تحرير العامّ 2000 لما استطعنا”. ويقول إنّ ما حصل كان أجمل من أجمل سيناريو كنّا نتوقّعه. في أدبيّاتنا أنّه توفيق إلهيّ، ولطف إلهيّ، وعناية إلهيّة، وهذه المصطلحات هي كنى، وألقاب لفاعل إلهيّ لا نستطيع ذكر اسمه، وعندما يظهر سوف نخجل عندما يخبرنا ماذا فعل.

ورد في مجموعة من الروايات عن الإمام الحجّة (عليه السلام): “إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء أو لاصطلمكم الأعداء”[9]، واحدة من معجزات صدق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو بقاء شيعتهم. وما جرى عبر التاريخ من التنكيل، والقتل والحصار، والاضطهاد، والظلم لم يجرِ على مذهب على وجه الأرض، وإذا جرى أقلّ منه بكثير كان المذهب ليفنى، ولكن الضامن للبقاء هو الله تعالى، وجبرائيل (عليه السلام) وصاحب الزمان (عليه السلام)، إمام في كلّ زمان، وهو الحافظ للقرآن، ونحن بمقدار اتّصالنا به واكتشافنا لإرادته في مهمّة كبرى.

في الخلاصة، إنّ أعظم تكليف للمنتظرين في زمن الغيبة هو اكتشاف إرادة الإمام. وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) رواية ملفتة جدًا يتحدّث فيها عن الذين يقتدون بالإمام في غيبته. يقول (صلّى الله عليه وآله): “طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتدّ به قبل قيامه يأتم به، وبأئمّة الهدى من قبله، ويبرأ إلى الله من عدوّهم أولئك رفقائي، وأكرم أمتي عليّ”[10]. واضح أنّ الاقتداء ليس بالاعتقاد فقط، وليس بالإيمان به فقط، فهو لم يقل الذين يعتقدون به، أو يصبرون على البلاء في غيبته. والاقتداء يقتضي معرفة الإرادة، ولكن كيف يمكن أن نعرف إرادته؟

لقد انتقلت الوظيفة من معرفة إرادة الإمام إلى معرفة وليّه الذي يحكي عن إرادته. فلا بدّ لنا من وليّ في زمن الغيبة، وهذه اللابدّية تجعلنا نقرأ الروايات بعين صاحب الزمان (عليه السلام)، وليس بعين الخلافات الفقهيّة. وهناك بديهة تقول إنّك إمامي الأصليّ، وأنا أودّ معرفة إرادتك، ووظيفتي الكبرى في زمن الغيبة أن أدرك إرادتك، من المحال ألّا توفقني لإدراكها، فما هو ذنبي كمكلّف إن كان الذين في ذاك الزمان خذلوك وقصّروا؟ ولكن في الروايات يقول: “هم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله”، عندها لا أناقش بالسند، فهي صارت بديهة، وأنا أريد أن أكشف عن إرادة الإمام الذي يقول: “أنا أحترم هؤلاء، وأعتبرهم حجّة عليكم”. والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: “إني قد جعلته عليكم حاكمًا”[11]، “الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا”، فسألوا: “وما دخولهم في الدنيا يا رسول الله؟” قال (صلّى الله عليه وآله): “اتباع السلطان”[12].

عندما أنظر في هذه الروايات أكتشف بشكل بسيط أوّلًا: سلّمتَ معي أنّ هنالك فعاليّة لإمام الزمان اسمها الكشف عن إرادته من خلال حجّة له ظاهرة، وإذا سلّمتَ معي فلن تجد غير نظريّة ولاية الفقيه، الواحدة غير المتعدّدة لأنّ الإمام لم يكن له إرادتان، والاقتداء به يقتضي معرفته.

ثمّ إنّ الوظيفة الثانية هي معرفة التكليف بلحاظ المنتظَر. والعبادات الانتظاريّة مستفادة من رواية النبي (صلّى الله عليه وآله): “أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج”[13]. والانتظار لغة هو الترقّب، ولكنّ الانتظار لا يتمّ معناه، ولا تتمّ دلالته إلّا بتحقيق الشروط المحقّقة لرضا المنتظَر. ومعنى الحديث هو أن يكون حالك الآن كحالك الذي تتمنّاه عند لقاء الإمام (عجّل الله فرجه). وهذه الأمور لها دخل بالكمالات المعنويّة، وهنا يجب الالتفات للفارق بين العبادات الفرديّة التي تحسّن عبادتك للمولى عزّ وجل، وترقّيك على المستوى المعنويّ. والإمام لن يفضح عيبًا فيك، ولكن ما يهمّ الإمام هو إلى أيّ مقدار كنتَ خادمًا لمشروعه في تمهيد البيئة الاجتماعيّة لاستقباله؟ وما هي البصمة التي تركتها في بيئتك، والتي قرّبت الناس خطوة، إمّا في الاعتقاد، أو في الحبّ، أو في اليقين، أو في التمهيد؟

هناك ميزة لأهل زمن الغيبة، وكلّما ازدادت الغيبة ازدادت ميزة الأقرب إلى زمن الظهور، لأنّهم ورثوا مجموعة الشكوك التي سبقتهم، وظلّوا على يقينهم. يروي أبو حمزة الثمالي (رضي الله عنه) عن أبي خالد الكابلي (رضي الله عنه) عن مولانا زين العابدين (عليه السلام) يقول: ” ثمّ تمتدّ الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمّة بعده يا أبا خالد! إنّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كلّ زمان، لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، أولئك المخلصون حقًّا وشيعتنا صدقًا، والدعاة إلى دين الله سرًّا وجهرًا. وقال (عليه السلام): انتظار الفرج من أعظم الفرج”[14]. هذه الرواية وأمثالها الكثير توجّه الانتظار نحو خصوصيّة التمهيد، فللانتظار وجهة ذات طابع عباديّ، وهي العمل لأجل التمهيد للمولى عزّ وجلّ، وجهة أخرى اسمها تحقيق النصاب كي يكتب الإنسان أنّه مع الإمام (عليه السلام). وفي بعض الروايات يقول أبو بصير للإمام الصادق (عليه السلام): “جعلت فداك، متى الفرج؟”

قال: “يا أبا بصير أوَأنت ممّن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه بانتظاره، فإذا عرفته لم يضرّك هذا الأمر تقدّم أو تأخر، ومن عرف إمامه، ثمّ مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر، كان بمنزلة من كان قاعدًا في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه”. ثمّ يسأل أبو بصير: “أتراني أدرك القائم؟” فقال: “يا أبا بصير ألست تعرف إمامك؟” فقال: “إي والله أنت هو”، وتناول يده، وقال: “والله ما تبالي يا أبا بصير ألّا تكون محتبيًا بسيفك في ظلّ رواق القائم”[15].

هناك من يبتلى من الشيعة لكي يخرج من قلبه النفاق حينها يحسّ بقرب الأمن المنتشر في دولة القائم. فبعض الناس يرون المكاسب، ولا يرون التضحيات، لأنّ الله تعالى لا يريدهم أن يموتوا على النفاق فيبتليهم بالحرب، والمجاعة، وغيرها حتى تصفو نيّاتهم، أو يخرجوا من التشيّع. ومعرفة هذا الأمر تساوي الفرج الشخصيّ، والفوز، والنجاة. نحن نريد استعجال ظهور المولى (عجّل الله فرجه) لا لأنّنا سنأنس نحن بذلك إنّما لأنّ الله سيظهر إرادته، ودينه على الدين كلّه. إذا حقّقت الشرط تكون منتظرًا، وإذا استشهدت عندما يخرج الإمام (عليه السلام) إمّا تكتب بالثواب أنّك محتبٍ سيفك، أو أنّك سترجع في الرجعة لكي تسير في رواق الإمام لكي تسلّم عليه بالمعايدة. وهذه إحدى فلسفات الرجعة للذين محّضوا إيمانهم.

الأمر الأخير من مهامّ الانتظار هي وظيفة رسم النموذج الجاذب لغير المعتقدين، فالإمام سيخرج ثائرًا، ولن يخرج مجدّدًا للدعوة من أوّلها. وتماميّة الحجّة قبل خروجه هي شرط من شروط ثأره، وهذا معنى يملأ الأرض عدلًا كما ملئت ظلمًا، أي أنّ الظلم، وأنواع الفساد المنتشرة، سيملأها الإمام عدلًا، وإذا لم ينتشر الحقّ فلا معنى لإقامة العدل، وهذا هو النموذج الجاذب لغير المتديّنين. سيقود الإمام ثورة قد بدأت، ولن يُشعل ثورة خامدة، وهذا معنى وجود الرايات في زمن الغيبة.

نسأل الله أن يرزقنا لحظة فرج مولانا صاحب الزمان، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

[1]  سورة الأنعام، الآية 112.

[2]  الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، تعليق السيد محمّد باقر الخرسان (النجف الأشرف: منشورات دار النعمان للطباعة والنشر، 1966م)، الجزء 2، الصفحة 10.

[3]  سورة البقرة، الآية 255.

[4]  الميرزا النوري، خاتمة المستدرك، (قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة 1، 1416 هـ)، الجزء 3، الصفحة 225.

[5]  خطب الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده (قم: دار الذخائر، الطبعة1، 1412ه/ 1370ه.ش)، الجزء 2، الصفحة 12، الخطبة 129.

[6] الكليني، الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري (طهران: دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة 3، 1367ه. ش)، الجزء 1، الصفحة 340.

[7]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار (بيروت: مؤسّسة الوفاء، الطبعة 2 المصحّحة، 1403ه، 1983م)، الجزء 52، الصفحة 124.

[8]  سورة المؤمنون، الآية 105.

[9]  الطبرسي، الاحتجاج،  تعليق وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان (النجف الأشرف: منشورات دار النعمان للطباعة والنشر، 1966م)، الجزء 2، الصفحة 323.

[10]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 51، الصفحة 72.

[11]  الكافي، مصدر سابق، الجزء 7، الصفحة 412.

[12]  المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 46.

[13]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 50، الصفحة 318.

[14]  الاحتجاج، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 50.

[15]  الكافي، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 371.



المقالات المرتبطة

التفسير الثقافي للسياسة

في كانون الثاني عام 2014 قتل مؤسس تنظيم “داعش” الفعلي سمير الخليفاوي (الملقب بـ”حجي بكر”)، في بلدة تل رفعت شمال حلب على يد فصيل مسلح سوري معارض.

الخطّ العربيّ الإسلاميّ، فنٌ في طريق الزّوال

إنّ الخط العربي تميّز ” كفنٍّ بالأصالة، ذلك أنّه قد نبع من روح عربيّة صرفة، وتطور محتفظًا بخصائصه العربيّة بمنأى عن التأثيرات الأجنبية”

بحث حول الملائكة الكروبيين

عن البصائر عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<