والدة الشهيد الصدر إن حَكَتْ
تمر الذّكرى الواحدة والأربعون على استشهاد، السيد محمد باقر الصدر، المفكر والمعلم، الذي وصفه البعض بالنّعمة التي أنعمها الله عز وجل على الأمة الإسلامية، لما قدمه من إرث علمي، دانت له الجامعات الإسلامية والعالمية.
ولعله من المفيد، في أجواء ذكرى استشهاده، أن يُسلط الضوء، على دور الوالدة التي أنجبت هذا العالِم الجليل. فكثيرًا ما نقرأ، أنّ مستقبل الطفل رهينٌ بأمه، وأنّ ما يتعلمه على ركبيتها لا يُمحى أبدًا. وهذا بطبيعة الحال، لا يقلّل أبدًا من دور الأب، ولكن تبقى الأم المؤثر الأكبر في بناء الشخصية الذاتية للابن على الصعيد الفكري والروحي والتربوي.
السيد محمد باقر الصدر، هو ثمرة الاقتران بين السيد حيدر الصدر، وبين ابنة خالته (بتول) كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين رحمهم الله.
وُلد السيد الشهيد في مدينة الكاظمية. وكانت والدته (السيدة بتول) قد رأت في منامها أنّها ستُرزق ولدًا، وسيكون له شأن كبير. وبالفعل كانت هذه الولادة الميمونة، والتي أدخلت البهجة والسرور إلى بيت لم يكن فيه إلّا أخٌ يكبره بثلاثة عشر عامًا. فقد كانت الظروف الصحية القاسية في تلك الفترة (1935م)، والأمراض والآفات، قد تسببت بوفاة أولاد السيدة بتول، ما جعلها تشعر بالقلق اتجاه مولودها الجديد محمد باقر. فكانت تقول: (ما كان يعيش لي من الأولاد إلا القليل)[1]. فتجربتها قاسية لكثرة ما فقدت من أولاد، ولم يبقَ لها منهم إلّا السيد إسماعيل، والسيد محمد باقر، والسيدة آمنة، والتي عُرفت فيما بعد بـ(بنت الهدى). وتذكر السيدة بتول أنها وبعد ولادة محمد باقر قد نذرت كل ما تملكه من ذهب صدقة لله عزّ وجل إذا حفظ لها مولودها، وقد أوفت بنذرها، وسلمته كله تحت ميزاب الذهب، في مرقد الإمام علي (ع). حيث كان الناس يتقربون في هذا المكان لله عز وجل، بالدعاء والوفاء بالنذور.
ويُذكر أنها رحمها الله، كانت تلبس إلى آخر أيام حياتها سوارًا من حديد، دفعًا للشر والأذى عن أولادها. ولكن الإرادة الإلهية شاءت أن تكون هذه المرأة ممتحنة في أفلاذ الأكباد، فتفقدهم جميعًا في حياتها، بعد أن كبروا، وأصبحوا من أعلام الأمة. ولا شك أن في ذلك حكمة إلهية وبلاء من الله تعالى، قوبل منها بالصبر والإيمان. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[2].
ذكريات من طفولة السيد الشهيد.
يُروى عن السيدة بتول، أنّ السيد الشهيد مرض مرضًا شديدًا في طفولته. فخافت عليه وأخذت تصلي وتدعو الله تعالى بأن يشفي طفلها، وبعد انتهائها من صلاتها رأت وهي في حالة بين النوم واليقظة الإمام الحجة (ع) يقرأ بجانب ولدها، وفي اليوم التالي أصبح ابنها وهو معافى من كل مرض.
ومما رَوتهُ السيدة بتول رحمها الله عن وضع الأسرة، أنها عاشت وضعًا ماديّا صعبًا، مُمَثلا بالفقر واليتم، بالرغم من الموقع الاجتماعي والمكانة العلمية التي تمتعت بها الأسرة. فوالد السيد الشهيد توفاه الله وهو في مقتبل العمر(لمرض ألمّ به)، وكان عمر السيد الشهيد ثلاث سنوات. وبحسب ما ذُكر عنه (قدس سره)، أنه قال: (ليس في ذاكرتي شيء عنه إلا صورة غير واضحة، وأنا بحكم من لم يرَ أباه)[3]. وقد تحدثت السيدة بتول رحمها الله، عن ليلة وفاة زوجها السيد حيدر الصدر، وأن هذا المُصاب أحدث شرخًا في قلبها وزلزالًا في وجودها، لم تجد بعده قرار. حتى قالت: إنه ومنذ ذلك الحين والمصائب تكاثرت عليها من كل حدب وصوب. فهي سيدة في السابعة والثلاثين من عمرها، ولديها طفلة رضيعة (بنت الهدى)، مع طفل في الثالثة من عمره، وأخ لهما في بدايات شبابه (السيد إسماعيل). وكانت العائلة عند وفاة الوالد لا تملك ما تتناوله للعشاء في هذه الليلة. وذكرت رحمها الله أنهم أيضًا في الليلة التي أعقبت وفاة زوجها، بات أطفالها جوعى. مع أن السيد حيدر الصدر كان مرجعًا للتقليد، غير أن العفة والنزاهة التي كان يتمتع بها، جعلته يتصرف بالحقوق الشرعية في نفس اليوم الذي تصله به، ولا يأخذ لنفسه إلا اليسير، ويبقى اليوم الآخر رهنٌ بما يصله من حقوق. وقد بقي هذا الحال على هذا العسر شهرًا بعد وفاته.
علاقة السيد الصدر بأمه بعد فقد أبيه.
نتيجة فقد السيد الشهيد لوالده، تحملت والدته المسؤولية، فأغدقت عليه الحنان والعطف، وأولته اهتمامًا خاصًّا، فكانت تخصّص له وقتًا تحدثه فيه عن أبيه العالِم، وتحثه على الاقتداء به، وتقرأ له كتب التاريخ، فقد كانت رحمها الله تُعد من المثقفات في زمانها. وقد ظلت تولي ابنها هذا الاهتمام، حتى بعد ما كَبُر، تنتظر رجوعه إلى الدار، فإذا تأخر انتظرته عند الباب، وفتحت له فور وصوله.
السيد الصدر ودراسة العلوم الإسلامية.
كانت السيدة بتول رحمها الله تحكي عن طفولة السيد الشهيد ما يُظهر نبوغه، فالعبارات التي كانت تصدر عنه، والمشاعر العجيبة في مغزاها وخلفياتها، كانت تؤكد لمن حوله، أنهم أمام صبي قد أصبح رجلًا ناضجًا قبل أوانه.
وعندما بلغ السيد الصدر الحادية عشرة من العمر، وجد نفسه أمام طريقين، إما إكمال الدراسة ونيل الشهادة الأكاديمية، والحصول على وظيفة في الدولة، أو التحاقه بالحوزة العلمية. فالظروف كانت ممهدة أمامه للحصول على الخيار الأول والسفر إلى الخارج بمساعدة من أقربائه، وتولي منصب في الدولة، إلا أن رغبة السيد الشهيد كانت مخالفة، وكان طموحه أن يكمل الدراسة الحوزوية، وبطبيعة الحال تعرض لضغوطات من العائلة بسبب اختياره، فالأخ الأكبر وأولاد خاله من آل ياسين كانوا يرغبون بمستقبل يضمن للسيد الصدر السعادة والعيش في رفاه بعيدًا عن حياة الحوزة، وما يكتنفها من فقر وفاقة. فالأسرة مرت بظروف اقتصادية صعبة. وبالفعل بعد تعرض السيد الشهيد للضغط من العائلة، لم يجد أمامه إلا الاحتجاج بالإضراب عن الطعام، قائلًا لأخيه: (إن بإمكاني أن أشبع من الغذاء والأكل، ولكن ليس بإمكاني أن أشبع من العلم، فدعني وشأني)[4].
وهنا لا بد من الوقوف أمام قرار الوالدة التي كانت الوحيدة الداعمة لقرار السيد الشهيد، فهي منذ البداية أصرت على أن يصبح ملّائيًا. فدعمت موقفه حتى النهاية، كان السيد الشهيد يقول: (كان الفضل لوالدتي، أنها كانت وباستمرار تشجعني على المضي في هذا الاتجاه الحوزوي رغم المصاعب)[5]. ومما يُروى عن والدة السيد الصدر أنها (لما رأت هذا النبوغ، وهذه العبقرية المبكرة لفتاها، تفتّق الأمل في نفسها عن طموح مشرق لمستقبله، فهو ما دام قد حباه الله بهذا التفوق، فلَسَوف يكون نعم من يحيى سيرة أجداده، ورأت فيه خير امتداد لسلسلة من الأسماء اللامعة المباركة، التي حلقت في سماء الفقاهة والمجد تاريخًا ممتدًا، وصارت تشجعه على الاستعداد للتوجه إلى النجف الأشرف، للالتحاق بركب العلماء من أجداده وأسلافه)[6].
لقد حقق السيد الشهيد أمل والدته، فكان قُدّس سره في طليعة العلماء الكبار، الذين تبوأوا الصدارة، في إعلاء كلمة الإسلام.
وُصفت رحمها الله، بأنها امرأة جليلة، عظيمة القدر، ذات مهابة.كانت نعم العون والسند لولدها، فوقفت إلى جانبه في البداية، ورافقته في رحلته العلمية بقلبها المحب ولسانها الداعي له بالخير. عندما استشهد السيد الصدر، كان عمرها قد تعدّى الثمانين عامًا. فُجِعت رحمها الله بفقد أولادها، صابرة محتسبة. لتعطي كل أم تحمل هم الرسالة، القوة والثبات في سبيل إعلاء الحق ومحاربة الباطل.
[1] أحمد عبد الله أبو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق.
[2] سورة البقرة، الآية 155.
[3] محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، مصدر سابق.
[4] محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، مصدر سابق.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
المقالات المرتبطة
مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 9
ولعل اختيار الشهيد الصدر لبحث السنن التاريخية ومعالجته معالجة قرآنية، مصداقٌ لكلا المستويين؛ فكأنه رأى مشكلة طرحها التيار الماركسي الذي تحدّث عن قواعد التاريخ وقوانينه.
تجلّيات الشهيد أبو مهدي المهندس في مفهوم لذة الموت وكراهة الحياة في نصوص أمير المؤمنين (ع)
سيرة الحاج جمال أبو مهدي المهندس تشهد على زهده بالدنيا منذ بداية حياته.. كان ممن يبحث عن الشهادة في ساحات الجهاد ولم يكن ممن يفر من الموت.
ميتافيزيقا المحايدة الحياد حضور عارض والتحيُّز هو الأصل
تشير صورة المحايدة إلى قوعها في منتصف الطريق بين حيِّزين. ولو عايَّنا هذه الصورة لظهرت لنا قلقة وحائرة بين بداية الطريق ونهايتها.