العدل، مطلبُ الإنسانيّة (ضمن ندوة بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة)

نبارك للفكر والمفكّر، للفلاسفة والمتفلسفة، في هذا الميلاد الذي يتجدّد في كلّ عصر، فلا تموتُ الفلسفة طالما هي محطّ اهتمامٍ، ومحطّةٌ تتجدّد فيها التساؤلات والإشكالات، فلا تُهمَلُ ولا نبتعدُ عن أصالتها البدئيّة أمام حجرَي عثرة يهدّدانِ هويّتَها؛ طبقات التفكير المتصلّبة، وركام الصور الزائفة، وكلاهما يفتكُ بأصالة الفلسفة؛ التشدّد والاصطناع.
إنّ الفلسفة، التي كانت تبحث في الوجود والإنسان وأصالتهما، شغلَها الانهمام باليومي والراهن، عن مراميها الكليّة التي لو تأمّلنا، لوجدنا بأنها ترفدُ اليومي وتُكسِبُنا الأدوات التي تمكّننا من فهمه وتفكيك معضلاته وصولًا إلى إعادة بناء المفاهيم.
ومنذ اللحظة الأولى التي انبثق فيها الفكر الإنساني، وتأمّلاتُه الأكثر عمقًا في وجوده وفي خالقه، كانت العدالةُ المطلب الإنسانيّ الأسمى، والمنشود دائمًا بعيدًا عن اعتبارات الزمان والمكان، وذلك لكون العدل قيمةً لصيقةً بالكمال الإلهي، ممّا جعله يشغلُ حيّزًا كبيرًا من اهتمامات الفلاسفة على طول التاريخ.
وما بين ميتافيزيقا إرادة الاقتدار، وميتافيزيقا الأخلاق التي تؤسس لإعمال العقل في تحليل العدل والظلم، كما وجدَ أمارتيا سن، تعددت تعاريف العدالة ومحفّزات انبثاق أهدافها.
في جمهوريته، رأى أفلاطون بأنّ العدالة هي معاملةُ كلٍّ حسب ما يستحقّ. مما يؤكد بأنّ المساواة مبدأ غير عادلٍ في أصله. ولعلّ هذا ما فسّر تقسيم أفلاطون للناس في عالمه عالم المثل إلى معادن مختلفة، من ذهبٍ وفضةٍ ونحاسٍ وحديدٍ وغيرها. قد يجد المتأمّل بأنه تقسيمٌ غير منصفٍ يهملُ قدرات الأفراد الفريدة، فقد يتميّز فردٌ حديديٌّ بالمنظور الأفلاطوني، بقدراتِ الذهبيين والعكس، فأين العدالة في ذلك؟
يحتدم الجدل هنا، غير أنّ الرؤية الأفلاطونية للعدالة تنبثق من طبيعة البشر، ذلك أنه يرفض المعاني الزائفة للعدالة، ويرفض مبدأ المساواة لأنّ التوازن الطبقيّ هو المعيار. فالديمقراطيّة التي ترتكز على المساواة، يعدّها أفلاطون نظامًا فاشلًا نهايته الظلم والاستبداد. وهي كانت مقولة نيتشه الشهيرة، “إنّ العدالة تصرخ في داخلي بأنه لا مساواة بين الناس”.
ومن حيث كانت الأخلاق عنده ثابتةً غير اعتبارية أو نسبيّة، عرّف أفلاطون الأخلاق بأنها أخلاق العدالة، ويتحدّث الفيلسوف العلّامة جوادي آملي عن مراتب العدالة، فالعدالة الصغرى طرحت في الفقه، فيما طرحت العدالة الوسطى في الفلسفة، والعدالة الكبرى في العرفان، الذي يعدّ العدالة مقامًا عرفانيًّا يبدأ من السالك وينتقل منه إلى المجتمع الذي يعيش فيه. فإذا وصل الإنسان إلى العدالة الكبرى، وازن جميع القوى الإدراكية والتحريكية وأصبح النواة المركزية للعدل ومظهرًا تامًّا من مظاهر الأسماء الحسنى.
المقالات المرتبطة
رأس العبادة | نماذج من الأدعية
“هذا مقام المستوحش الغرق”. فإنها تُظهر الإحساس بالغربة أمام الذات، غربة الذات هذه هي التي تستجلب الرحمة بالعودة إلى موطنها
المثقف الديني وإشكالية الفكر الحداثوي العراقي، جدالات نزعة الحتمية
إن مفهوم المثقف من المفاهيم المختلف حولها وفيها، فواحدة من أهم إشكاليات مفهوم المثقف الملتبسة يكمن في تصنيفه، فلا يمكن اعتبارها وظيفة أو مهنة، ولا يمكن اعتبارهم طبقة اجتماعية تدخل في صراعات اجتماعية مع طبقات أخرى ولكنهم فئة من الكائنات الهجينة.
الحضور اليهودي في الثقافة المسيحية
إن العنوان المطروح يفرض علينا الإحاطة بالمصطلحين اليهودية والثقافة المسيحية، ما هو أكثر من اللاهوت، وأظن أننا في الأدبيات المحاضرة عالمية كانت أم لبسنا فيه أن نلم بالثقافة المسيحية (الحالة المسيحية أو الموجودة المسيحية من مجرد الفكر الذهني)