الحضور المعرفي في النظرية الإسلامية المعاصرة (1)
قد أعلم بفرح الآخرين وأفرح لهم، ولكني لا أجد حالة فرحهم في نفسي بالنحو الذي أجد فيه فرحي وهو يسري في باطني ويملأ كياني فيضًا وسرورًا، وفي الواقع لم يسبق لي أن اختبرت فرح الآخر في ذاتي، كي يتسنّى لي أن أختبر ما إذا كان هذا الفرح يماثل تمامًا حالة فرحي، وحتى في الوضع الذي يتشارك فيه المرء أفراحه مع الغير، فإنه لا يتردد أبدًا في واقعية هذا التشارك الحي، ومع ذلك، لا يملك في أفضل الأحوال إلا أن يتوسم فرح الآخر ولو من خلال تنشيط اختبارات الذات. ومع أنه قد ينتابني وثوق عميق وساطع أتلمس من خلاله سطوة الفرح لدى الآخر، فإن ذاتي تتأبى عن استمثال ذلك الفرح إلا في صورة مفهوم ذهني، ولا يسعني حينئذٍ إلا أن أستقبل الفرح كفكرة تتوسط بين ذهني وبين فرح الآخر الذي تحكيه.
هذا، ويمكن أن ألاحظ فرحي كما لو أنه في حد ذاته أحد الموضوعات الواقعية، وليس نحوًا من أنحاء العلم. فأنا أعلم بفرحي، وأضيف كلمة (أعلم) للتعبير عن الحالة العلمية بواقع هذا الفرح. وهذه الحالة العلمية حاكية عن فرحي وليست هي عين فرحي. فعلمي بفرحي ليس حالة ذاتية، وإنما هو علم بموضوع هو من طبيعة ذاتية. والعلم دائمًا حاك عن موضوع ما، وإلا لم يكن علمًا. غاية الأمر هنا، أن علمي يحكي عن واقع داخلي لا خارجي.
فما هي الجدوى التي سعى إليها فلاسفة الإسلام من تقسيم العلم إلى حضوري وحصولي؟ وإلى أي مدى توسّع المعاصرون منهم في تكشيف نظرية عن المعرفة على ضوء المناهج والآراء العلمية المعاصرة؟ وهل قدم العلم الحضوري إضافة متميزة إلى نظرية المعرفة أم أنه زاد من تعقيد الأمر وضموره؟
***
لا شك أن نظرية المعرفة تشهد حضورًا فاعلًا في الأوساط العلمية، كونها تشكّل الأساس المعرفي لجميع العلوم، ويقع تحت تأثيرها الكثير من المعارف الدينية والأخلاقية، وبالتالي تتطلب سلامة المنظومة الفكرية – الدينية والأخلاقية – تقديم رؤية معرفية واضحة ومعقولة على صعيد التأسيس المعرفي لها.
وتتضح أهمية مباحث علم المعرفة وضرورتها باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتاحة لمعرفة كيفية محاكمة الآراء المتنازع حولها، والكشف عن منهج الصواب فيها، بل إن احتمال الخطأ وارد أيضًا في وجهات النظر المتوافق عليها، ما يستدعي ضرورة إحراز المطابقة ما بين معارفنا وبين الواقع.
ولو كانت جميع المعارف الحسية والتجريبية والعقلية قابلة للخطأ أو كان تحصيل الحقيقة أمرًا متعذّرًا، لم يمكن الوثوق بهذه المعارف على تنوعها، بل تتعطل قدرة الإنسان على الاستنتاج في الفهم والفعل. وتتحول جميع الجهود العلمية إلى هباء، سيما المعارف الدينية والأخلاقية المرتبطة بسعادتنا الأبدية. فلا بدّ للتحقق من الأفكار الإسلامية الأساسية من إحراز اعتبار المعارف التي نسعى لتحصيلها. وإلا ففي حال إنكار إمكانية معرفة، أو إنكار قيمتها واعتبارها، فإن النظام العلمي سوف ينهار من جذوره. بل إن حياة الإنسان الدنيوية لا يمكن استقرارها في ظل اضطراب معارفه.
ولا يخفى أنه لم تظهر نظرية المعرفة بنحو مستقل في القرون الأخيرة حتى انتشر كتاب “بحث حول فهم الإنسان” للمفكر جان لوك، فظهر بوصفه علمًا مستقلًّا بالتدريج في الأوساط الفكرية. أما على مستوى العالم الإسلامي فإن غير واحد من مسائل ومباحث نظرية المعرفة وإن كانت مبثوثة في آثار علمائنا المنطقية والفلسفية والكلامية، غير أنهم إلى عصرنا الراهن لم يفردوا له بحثًا مستقلًّا، ويمكن أن يقال: إن العلامة الطباطبائي كان أول من طرح مباحث نظرية المعرفة بصورة منهجية ومنتظمة على الصعيد الإسلامي، وذلك من خلال طرحه لآرائه في كتابه أصول الفلسفة والمذهب الواقعي .
***
تتعدد المعارف بتعدد مصادر المعرفة الأولية، والتي تساهم في توالد المعرفة وتراكمها. كما تتنوع بتنوع أدوات المعرفة إلى حسية وعقلية ووجدانية، أو بتنوع وجوه الاستفادة منها؛ إذ تستجيب العلوم التجريبية والرياضية ونحوهما لحاجات الإنسان المادية، فيما تستجيب العلوم الفلسفية والأخلاقية لإشباع حاجات الإنسان المعنوية. في هذا الإطار من التشعب، تأتي نظرية المعرفة لتطرح السؤال: هل يمكن الوثوق بالأدوات المعرفية التي تشكل وسيطًا بين الإنسان والواقع؟ وكيف يمكن التمييز بين ما هو معرفة حقيقية وما هو معرفة غير حقيقية؟
هذا وتختص كلمة “المعرفة” – على صعيد الدلالة اللغوية – بمعنى إدراك الشيء الشخصي أو الأمر الخاص وذلك عن طريق الحس، أو عن طريق التفكّر في آثاره. فيما تتسع دلالة مفردة “العلم” لتشكل مطلق الإدراك. ومع ذلك، غالبًا ما يتم استعمال مفردة “العلم” في مجالات خاصة؛ كما في مجال العلم الحصولي مقابل العلم الحضوري. أو مجال التصديقات والاعتقادات مقابل التصورات. والعلم أيضًا هو مجموع القضايا التي لها محور خاص، كما في مجال العلوم. وهو أيضًا العلم التجريبي مقابل الفلسفة والدين.
إلا أن “نظرية المعرفة” تتناول مفردة “المعرفة” بمعناها الشامل المرادف لمطلق الإدراك، وذلك قبل أن تتخصص المعرفة بنوع محدّد من المجالات المعرفية، ويبرر لذلك أن “نظرية المعرفة” تسعى لإجراء مسح شامل حول الإدراك. من هنا تتساوى “المعرفة” في دلالتها مع مفردة “العلم” بما لها من معنى وسيع في اللغة؛ وهو معنى الإدراك مع غض النظر عن أي خصوصية قد ترتبط به.
فالمراد من المعرفة أو العلم في مباحث علم نظرية المعرفة هو مطلق الإدراك. وموضوع بحث “نظرية المعرفة” لا بد أن يستوعب المعارف الجزئية من قبيل علم التاريخ وعلم الرجال، إلى جانب المعارف الكلية من قبيل علم الفيزياء والطب. كما لا بدّ أن يتناول العلوم على اختلاف مناهجها من تجريبية، وعقلية، ونقلية.
ولا شك أن كل علم يتمحور حول فرع معرفي ما، إلا أن نظرية المعرفة كعلم، تهتم بالمعرفة نفسها، وتبحث في قيمتها ومقدار كشفها عن الواقع، وما قد يرتبط بذلك من مسائل تمهيدية.
ولتوضيح موقع نظرية المعرفة، قسموا علوم الإنسان – باعتبار موضوع المعرفة ومتعلقها – إلى نوعين من المعرفة:
النوع الأول: معرفة من الدرجة الأولى، ويبحث فيها عن فهم العالم والواقعيات، من سماء وأرض وحيوانات ونباتات ونحوها من حقائق مستقلة عن وعي الإنسان، وأيضًا تتعلق علوم الدرجة الأولى بالأمور الاعتبارية والعقدية من قبيل قوانين السير.
النوع الثاني: معرفة من الدرجة الثانية، ويبحث فيها عن المعرفة ذاتها، عن فهم الفهم. وذلك من قبيل علم المنطق الذي يقوم بتصحيح المعلومات الذهنية للإنسان، ويبين كيفية الاستخدام الصحيح لها. وتندرج نظرية المعرفة تحت علوم الدرجة الثانية .
ولا بدّ هنا من التمييز بين نظرية المعرفة العامة والتي يكون موضوع البحث فيها غير محدود بمجال معرفي معين. وبين نظرية المعرفة الخاصة والتي تبحث عن مسائل معرفية مرتبطة بمجالات معرفية معينة، من قبيل نظرية المعرفة التجريبية، ونظرية المعرفة الأخلاقية، ونظرية المعرفة الدينية.
ومن هنا يتضح أن علم المعرفة الدينية يمثل أنموذجًا من نظرية المعرفة المضافة، إذ يبحث في هذا القسم من المعارف الدينية عن مسائل من قبيل: وجود التعارض في القضايا الدينية وعدمه، وقابلية المعارف الدينية للتغير وعدمه، وقابلية المفاهيم والقضايا المبحوث عنها في النصوص الدينية للفهم وعدمها، وواقعية الفرضيات الدينية وحقيقتها، وأمثال ذلك .
من هنا، يقوم علم نظرية المعرفة على الإجابة عن مسائل معرفية عامة؛ من قبيل البحث عن حقيقة المعرفة؛ وهل هي ممكنة؟ وما هي طرق تحصيل المعرفة؛ هل أن مصدر أفكار الإنسان ومعيار صحة أحكامه هو العقل أو التجربة؟ والأهم من ذلك البحث عن قيمة المعرفة واعتبارها؛ هل يمكن أن تكشف المعرفة عن وجود واقع وراءها، أم أن المعرفة عبارة عن أوهام وتخيلات وحالات ذاتية؟ كما تبحث نظرية المعرفة حول حدود المعرفة الإنسانية؛ هل هي محدودة بحدود ظواهر الأشياء أم أنها تكشف عن ذاتيات الأشياء؟ وهل تقف المعرفة عند حدود العالم المادي، أم أن الإنسان يستطيع معرفة ما هو فوق العالم الطبيعي؟ وخلاصة الأمر، أن نظرية المعرفة علم يبحث عن مسائل معينة؛ كحقيقة المعرفة، وإمكانها، وأقسامها، وطرقها، وقيمتها، وحدودها. وأهم مسائل نظرية المعرفة هو بحث قيمة المعرفة واعتبارها، وأما سائر المسائل فيبدو أنها تقع في طريق تمهيد هذه المسألة.
هذا، وتستفيد نظرية المعرفة – بوصفها علم المعرفة – من بعض الفروع المعرفية التي تختص بدراسة جانب من جوانب المعرفة، من قبيل “علم النفس الإدراكي” الباحث عن كيفية تكوّن المعارف المتنوعة ومراحل تكوّنها. و”مباحث أنطولوجيا العلم” الباحث عن ماهية العلم؛ وجوهريته أو عرضيته، وعن نحو وجود العلم؛ هل هو مادي أو مجرد؟ وعن العلاقة الوجودية بين العلم والعالم هل هي الاتحاد أو العروض؟ كما وتستفيد أيضًا من “علم المنطق” وطرق التفكير في الاستفادة من بعض المعارف للحصول على معارف أخرى.
المقالات المرتبطة
إصدارات حديثة أطروحة التفسير الموضوعي عند السيد محمد باقر الصدر: قراءة فاحصة
لا يخفى على الباحثين في شؤون الفكر والثقافة في العالم الإسلامي خطورة الدور الذي لعبه الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر
قراءة في كتاب وداع الربيع
إنّ الربيع إذا غادر حقول الأزهار دون أن تستطيع أن ينشل منها روحًا بقيت تلك الزهور يابسة دون رائحة. وإنّ ربيع الشهور، شهر رمضان، إذا غادر القلوب دون أن تنتقي تلك القلوب زادًا لبقية أيام السنة ذبُلت تلك النفوس وبقيت أيامها الآتية دون حبٍّ ورغبة.
الإسلام وفلسفة الدين
لطالما كانت تتملك أدبيات المفكرين المسلمين مشاعر الاستثنائية المزهوة بما يحمل الإسلام من أبعاد، ومجالات حيوية استثنائية.