قدرة العقل على معرفة الله

قدرة العقل على معرفة الله

من الجيّد هنا وبالمناسبة أن نطرح البحث التالي: هل يمكننا، بالاستعانة بالأدلّة العقليّة، وبالبراهين والمسائل الفلسفيّة والكلاميّة، أن نعرف الله تعالى بنحوٍ نستغني به عن تعاليم الدين، أم لا؟ طبعًا فهذا البحث المهم لا يختص بدينٍ خاصٍ مثل الإسلام، ولا بمذهبٍ خاصّ مثل المذهب الشيعي أو السنّي؛ بل هذه المباحث تشكّل هاجسًا فكريًّا وذهنيًّا عند جميع العلماء والمفكّرين، ومن جملتهم العلماء والمتكلّمون المسيحيّون واليهود أيضًا. هؤلاء هم أيضًا يتتبّعون هذه المباحث ويسعون إلى الحصول على نتائج واضحة فيها[1].

في إحدى المناظرات العلمية التي أقيمت بيننا وبين شخصَين من المتكلّمين المسيحيين واليهود، كان موضوع البحث هذه المسألة بالضبط، حيث كان القسّ المسيحي يعتقد بأنّ معرفة الله غير ممكنة إلا عن طريق العقل وفقط من خلال البرهان والمناهج الفلسفية، في حين أنّ الحاخام اليهودي كان يرى أنّ المناهج الفلسفية والبراهين العقلية ليس لديها القدرة على إثبات الله ولا يمكنها أن تعرّفنا عليه، بل إنّ إثبات وجود الله والتعرّف عليه غير ممكن إلا من خلال الدين وعن طريق الوحي؛ أي التوراة واتّباع الأنبياء الإلهيّين.

أما نحن فقد أجبنا بصفتنا مسلمين، وبناءً على طلبهم، بالجواب التالي: إنّ إثبات وجود الله بصفته خالق العالم والإنسان، لا يمكن إلّا عن طريق العقل والبرهان العقليّ، وإذا أنكرنا قدرة البرهان العقليّ في هذه الموضوعات فلن يكون بالإمكان أساسًا أن نثبت حجّية الدين واعتباره، بمعنى نزول محتوى الدين من قِبَل الله تعالى إلى النبيّ؛ وذلك لأنّه إذا كنّا ننكر البرهان العقليّ فلن يثبت ثمّة وجود إله أصلًا، فكيف يمكن إذًا أن ندّعي الاعتقاد بالدين؟ وبالنتيجة فلن يكون بالإمكان إثبات أيّ أمرٍ ديني ولا الاستدلال على أيّ مطلبٍ ديني. ولكن بعد إثبات وجود الله وصفاته التي تستوجب هداية الإنسان وتشريع الدين، يمكن حينها أن نتعرّف عن طريق الدين على تفاصيل الصفات والأفعال الإلهية وعلى كيفية الارتباط به والتقرّب إليه.

وبناءً عليه، ففي رأينا أنّ كِلا الطريقَين؛ أي طريق العقل والبرهان العقلي وطريق الوحي والدين، لازمٌ ولا يمكن لأيٍّ منهما أن يأخذ مكان الآخر، خلافًا للآراء الأخرى التي تارةً تتجاهل أحد هذَين الطريقَين وتارةً أخرى تضحّي بأحدهما من أجل الآخر. طبعًا فالفلسفة والبرهان العقلي يثبتان أنّ الإنسان له خالق، كما إنّ العقل يشخّص أنّه لا بدّ له من أن يشكر وليّ نعمته؛ أي الخالق المتعال، على نعمة الوجود وعلى سائر النعم، ولكن بعد إثبات وجود الله وأصل الدين، لا يمكن للعقل أن يحدّد نوع ارتباط الإنسان مع الله، فكيفية الارتباط مع الله إنما تكون في أمورٍ من قبيل الصلاة، والركوع والسجود، وأنواع العبادات المختلفة، وهي ما لا يمتلك عقل الإنسان القدرة على إدراكها وتشخيصها، وجميع هذه الأمور والمسائل الدينية والشرعية إنما تتيسّر للبشر ببركة الدين والأنبياء الإلهييّن.

طبعًا فكلّ من يستفيد أكثر من معارف الدين والأولياء الإلهيّين فسينال من هذه المواهب فائدةً أكثر وأفضل. نحن المسلمون، وبخاصّة نحن الشيعة، مدينون لرسول الله (ص) وأهل البيت (عليه السلام) في تعلّم هذا النحو من المعارف التي تبيّن كيفية الارتباط مع الله تعالى. هذه المعارف تفوق قدرة العقل البشري. ولهذا السبب نشكر الله تعالى آلاف المرات على جميع نعمه، وبخاصّة نعمة التعرّف على رسوله (ص) وأهل البيت (عليه السلام) ومعارفهم[2].

كيفيّة الحمد والشكر والأعمال والمناسك المرتبطة به هي كذلك من الموارد التي منّ الله بها على الإنسان وهداه إليها من خلال أنبيائه وضمن قالب الدين والشريعة. ولهذا السبب يشرع الإمام السجّاد (عليه السلام) دعاء بداية شهر رمضان المبارك بهذه العبارة: “الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ”.

 

 

[1]  قبل 20 سنة تقريبًا من الآن، دُعينا إلى تقديم مقالةٍ في مؤتمرٍ علميٍّ في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اتّفق أن سافرنا إلى هناك برفقة السيّد الدكتور حدّاد عادل. بعد ذلك المؤتمر وبعد أن عرضنا مقالتَين فلسفيّتَين اقترحوا علينا أن نشارك في بحثٍ ومناظرة علمية بين حاخام يهودي وقسّ مسيحي يُعدّ كلاهما من أساتذة الجامعة. كان القسّ المسيحي كاثوليكيًا ومن فرقة اليسوعيّين، واليسوعيّون أساسًا فرقةٌ فلسفية ومن أهل الاستدلال والبرهان. وبسبب عدم تسلّط كلٍّ منا على لغة الآخر، فقد تمّت ترجمة المطالب لكلٍّ من الطرفين بالاستعانة بأحد الأساتذة هناك وبالسيد الدكتور حداد عادل.

[2]  كيف يمكن للإنسان بدون الاستعانة بالأنبياء وبالمعارف الدينية أن يدرك كذلك أنّ الدعاء الذي لا يبدأ بحمد الله ليس جديرًا بالإجابة؟ وكيف يحمد الله تعالى؟ بأيّ تعابير يذكره ويتوجّه إليه؟ كيف يكون أدب الدعاء بين يدَي الله؟ كيف يمكنه أن يتواصل معه ويكلّمه؟ من أين يعلم أنّ الله تعالى يسمع كلامه ويجيبه؟ ما الذي ينبغي أن يقال في التواصل معه وما هي الأمور التي ينبغي أن تُطلب منه… وأمورٌ من هذا القبيل، هي ليست ممّا يمكن للعقل البشري أن يستنبطه بالتأمّل وبمزيدٍ من التدقيق؛ بل جميع هذه المسائل من تعاليم الأنبياء وأهل البيت (ع)، ومن المسائل التي تُستَقى من داخل الدين.

**من كتاب زاد اللقاء الصادر عن دار المعارف الحكمية



المقالات المرتبطة

الطريقة الفضلى لرفع الاحتياجات من المجتمع

الدولة والحكومة الناجحة في نظر الإسلام هي الحكومة التي لها ميزتان هامّتان: الأولى أن تكون حاملةً لهمّ الدين، والثانية أن تكون من الناس وتحمل همّ الناس.

اذكروني لكي أذكركم

بوسعنا القول إنّ حقيقة الذكر هي التوجّه القلبيّ، بحيث يكون الذكر له ارتباط بالقلب. ويُطلق الذكر أيضًا على استحضار شخص من خلال الإتيان باسمه، ويعود ذلك إلى وجود مناسبة بين هذه المسألة، وبين المعنى الحقيقيّ للذكر

التوحيد والإلحاد في التوحيد

العمل الصالح لا يكون ذا قيمة ومؤثّرًا في إيصال الإنسان إلى السعادة إلّا إذا كان مستندًا إلى الإيمان؛ بل أكثر من ذلك، العمل الصالح أساسًا لا يجعل الإنسان سعيدًا إلا حينما يؤدّي إلى تقوية إيمان الإنسان ورفع درجاته: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<