التصوّف في الأديان السماويّة الثلاثة: القواسم المشتركة، والخصوصيّات

التصوّف في الأديان السماويّة الثلاثة: القواسم المشتركة، والخصوصيّات

المقدّمة

يتطرّق هذا الموضوع إلى بيان القواسم المشتركة، وخصوصيّات التصوّف في الأديان السماويّة الثلاثة: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة. ونظرًا لتشعّب الموضوع وتعقيداته، فإنّنا سنتجاوز الإطار المفاهيميّ لمفهوم التصوّف خاصّة وأنّ هناك صعوبة في إيجاد تعريف جامع مانع  لمفهوم التصوّف متضمّنًا لكلّ عناصره، وكذلك سنتجاوز السياق الاجتماعيّ والتاريخيّ الذي نشأ فيه، ومن ثمّ سيكون محور اهتمامنا هو استجلاء العناصر المشتركة والمتمايزة كلّما أمكن ذلك.

​إنّ التصوّف ظاهرة عالميّة عابرة للأديان والزمان والمكان والإثنوجرافيا، وهو تجربة ذاتيّة فرديّة، وهو كمذهب روحيّ متمثّل في كلّ الأديان، يسعى لاكتشاف الحقيقة الجوهريّة للوجود من خلال تصفية القلب، والتأمّل، والتخلّي عن رغبات الجسد وشهواته، وعن كلّ العيوب الأخلاقيّة، والتحلّي بالفضائل والتواضع، والتقشّف، والزهد.

ومن خلال دراستنا للموضوع بأسلوب استطلاعيّ تحليليّ مقارن أمكننا استجلاء بعض عناصر التشابه، والاختلاف في التصوّف عند الأديان الثلاثة وهي على ثلاثة مستويات:

أوّلًا: مستوى الطقوس.

ثمّة اتّفاق نجده عند متصوّفي الأديان الثلاثة خلال ممارسة بعض الطقوس من ناحية الشكل، إذ إنّه في  طقوس الذكر والإنشاد يركّز الصوفيّ على كلمات معينّة، ويردّدها تكرارًا محرّكًا رأسه للخلف وللأمام، ومستخدمًا حركات الجسم والأيادي المرفوعة إلى الأعلى، ورفع العيون، والتنهّدات العميقة، حتّى يصل إلى حالة من النشوة.

وفى طقوس التأمّل عند متصوّفي الديانات الثلاثة يصطحب التأمّل بعض التخيّلات، ويتمّ التركيز على كلمة معيّنة يتمّ ترديدها وتكرارها وفق تنغيم ولحن معيّنين، فالمتصوّفة من اليهود قد يركّزون على اسم (يهوه)، والمتصوّفة من المسيحيّين قد يركّزون على اسم (مريم العذراء)، أو على اسم (أبانا الذى في السماء)، أمّا المتصوّفة من المسلمين فيركّزون على اسم (الله) أو (الصلاة على محمّد وآل محمّد) مع استخدام التنفّس العميق المنتظم في شهيقه وزفيره، وقد يكون التركيز التأمّليّ على الصداقة الروحيّة عند المتصوّفين اليهود في الكابالات الحسيدية، أو تلك التي يتمّ التركيز فيها على المشاعر التي يثيرها وجود الله، أو المسيح، أو حضرة الرسول الأكرم (محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وفى طقوس التلاوة، وقراءة الأذكار ثمّة اتّفاق بين متصوّفي الديانات الثلاثة في قراءة الأذكار، أو التلاوة من الكتب المقدّسة على أن تكون القراءة صامتة أو بصوت جهريّ، وعلى تكرار كلمة أو عبارة واحدة أثناء القراءة أو التلاوة، وهناك اتّفاق في أنّ القراءة الصامتة هي الطريق إلى القلب، وتنمية الحسّ الباطنيّ الذي من خلاله نحصل على النور الباطنيّ، والقرب من الله تعالى.

ومن خلال استعراضنا لبعض جوانب الطقوس نجد اتّفاقًا، وتجانسًا بين متصوّفي الأديان الثلاثة على مستوى فعل الطقوس، ولكنّه يختلف على مستوى الكيفيّات.

ثانيًّا: مستوى المفاهيم.

ويتفرّع منه عدّة مفاهيم وهي:

  • مفهوم الخلوة: إنّ مفهوم الخلوة لها أصل دينيّ عند متصوّفي الأديان الثلاثة، فقد اعتكف أنبياء الأديانالثلاثة بعيدًا عن أعين الناس للتفكّر والصلاة والتأمّل، ومناجاة الله، سواء في طور سيناء، أو على جبل الزيتون، أو في غار حراء، وانطلاقًا من ذلك ينسجم مفهوم الخلوة لديهم، وغالبًا ما يؤدّي إلى الدلالة الرمزيّة ذاتها، فهي انعزال عن الناس، والتأمّل في ذات الله ومخلوقاته، وباعتبارهم أنّ لها منافع عديدة، فهي تُنعش الروح، وعلى قدر اتّساع الصحارى، والجبال، تتّسع آفاق النفس، والقلب، والفكر، وهي الدلالة التي نجدها ماثلة عند متصوّفي الأديان الثلاثة.
  • مفهوم وحدة الوجود: وتعني المماثلة بينالله والعالم، فالله والوجود هما واحد، فالله هو كلّ شيء وكلّ شيء هو الله، والله هو الكون والكون هو الله، فوجود الله يسري في كلّ شيء. وهذا المفهوم متّفق عليه من قبل المتصوّفين في الديانات الثلاثة خاصة عند “اسبينوزا”، و “الحلّاج”، و”ابن عربي”، و”ليكهارت” الذي يؤكّد على أنّ الله هو المتعالي فوق الوجود، ويحاول المتصوّفون استحضار ذلك الموجود المتعالي والذي هو الله، ولكن تختلف النظرة إلى وحدة الوجود باعتبار أنّ الله ماثل في الطبيعة على سبيل الدوام، أو مفارق للطبيعة لكنّه يتجلى للموجودات، وهي نظرة المتصوّفين المسلمين.
  • مفهومالحبّ أو العشق الإلهيّ: الله هو الموضوع الأوّل لفضيلة المحبّة عند متصوّفي الأديان الثلاثة، باعتباره واجب الوجود، ذو الصفات الكماليّة الثبوتيّة والسلبيّة غير المتناهية، التي تكشف لنا عن الجمال والرحمة والعدالة الإلهيّة، ولذلك فهو المحبوب، نور الأنوار، وأصل الموجودات، ولذلك فالكلّ يتّجه إليه، فالعشق الإلهيّ له طابع فرديّ داخليّ في التجربة الصوفيّة الإسلاميّة، فهو حبّ متبادل بين الله والإنسان، وهو الفناء في ذات الله، والاتّحاد فيه، والاتّصال بنوره، والوصول لمقام الشهود، فالعشق الإلهيّ في التجربة الصوفيّة المسيحيّة هو المحبّة، والإيمان والرجاء، والوصول إلى نور الله، والعشق الإلهيّ عند اليهود المتصوّفين يرتكز على أنّهم مخلوقون من روح الله ومن الله، وإن كانت هذه لا تختلف كثيرًا عن النظرة المسيحيّة والإسلاميّة لمفهوم العشق الإلهيّ، فالكلّ يتّجه إلى الله نور الأنوار، إلّا أنّها قد تبدو نظرة متعالية لأنّهم وطبقًا لتعاليم “التلمود” أنّهم من الله، وبقية الأرواح هي من الشياطين.
  • مفهوم الاتّحاد مع الله: الاتّحاد مع اللههو هدف المتصوّفين اليهود، والمسيحيّين، والمسلمين، ولكنّه عند المتصوّفين المسيحيّين يمرّ عبر ثلاثة فضائل أساسيّة ذكرناها مسبقًا وهي الإيمان، والمحبّة، والرجاء، يقول “المونسينيور غي”: “بالإيمان يصبح نور الله نورنا، وحكمته حكمتنا، وعمله عملنا، وروحه روحنا”، ويكون الاتّحاد بالله في التصوّف المسيحيّ من خلال الاتّحاد بالأقانيم الثلاثة: الآب، والابن، والروح القدس، أو قد يكون الاتّحاد مع الله بعيدًا عن الأقانيم الثلاثة، وإنّما هو اتّحاد واحد بسيط يتعالى على قسمة الأقانيم  طبقًا لأقوال “ليكهارت”. أمّا  الاتصال بالله في التصوّف الإسلاميّ فهو اتصال شهوديّ عرفانيّ عبر الأنوار، والإشراقات، والفيوضات التي هي تجليّات للصفات الإلهيّة، وعبر الحب الإلهيّ. من هنا نجد أنّ مفهوم الحب الإلهيّ قد يتّفق من جانب، ويختلف من جانب آخر بالنسبة للمتصوّفين المسيحيّين والمسلمين.

ثالثًا: مستوى التجربة الصوفيّة

التجربة الصوفيّة في بحثها عن الإلهيّ والمقدّس، وتجليّاته في الكون والإنسان، لا تختلف كثيرًا بين المتصوّفين من الأديان السماويّة الثلاثة، إذ إنّنا نجدها متشابهة في التجارب الروحيّة تبعًا لثقافات دينيّة، وإشراقيّة، وهنديّة، وفارسية، فهي ذات طابع فرديّ داخليّ، وجدانيّ، حيث إنّ العاطفة الجيّاشة تمثّل أساس التجربة الصوفيّة، فيتجلّى نار العشق الإلهيّ في أبهى صوره عند المتصوّفين، وهي غير قابلة للصياغة في تصوّرات أثناء التجربة الصوفيّة، أي يصعب وصفها وصفًا دقيقًا باللغة المتداولة، إذ يقول أحد العارفين: (إذا اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة). ولذلك يستخدم المتصوّفون الرمز، أو المجاز في لغتهم عندما يتحدّثون عن  تجربتهم الصوفيّة، ومن قبيل الكلمات: الصمت، الظلام، الخواء، العقيم الخواء، إلخ…. فالتجربة الصوفيّة تتجاوز حدود المكان والزمان، وشعور الصوفيّ بالخلود أثناء تجربته الصوفيّة، يكون في لحظة غير زمانيّة، لأنّ النفس التي بلغت حالة الاستغراق، والتصوّف تكون قد جاوزت الزمان الآنيّ الأزليّ، وفي هذا الصدد يقول “ليكهارت”: فالنفس كلّما ارتقت إلى الأعلى، واتّحدت بالله، لا تعي الأمس، أو اليوم، أو الغد، فالأزل لا يوجد فيه إلّا (آن) فقط.

كما أنّ السمة المشتركة عند المتصوّفين تتمثّل في عدم تقديمهم الأدلّة والبراهين على وجود حقيقة خارجيّة تتجاوز ذاتيتهم.

رابعًا: مستوى اللغة الرمزية

لجأ المتصوّفون للّغات الرمزيّة، كالإشارة، والاستعارة، والكناية، والتشبيه، بسبب طبيعة التجربة الصوفيّة الفرديّة، والداخليّة التي جعلت الكشف الصوفيّ عاصيًا عن الوصف والتعريف، ولقصور اللغة الوضعيّة ذاتها لأنّها لغة تعبير عن  المحسوس، ولكن المعاني  الصوفيّة في نطاق تجربتها لا تدخل ضمن  المحسوس، ومن هنا لجأ المتصوّفون إلى الرمزيّة للتعبير عن أذواقهم، ومشاعرهم، وحالات النشوة التي يعيشونها، حيث إنّه للرمز معنى باطنيّ كامن تحت الكلام الظاهريّ، فليس هو الكلام الذي يبوح به الصوفيّ، وإنّما هو روح ما يقوله، أو ما يعنيه، واللغة الرمزيّة التي يستعملها المتصوّفون ليست ذات قاعدة واحدة يطبّقها جميع الصوفيين، وإنّما هي تختلف باختلاف الموضوعات التي تناولها، وقد تميّزت هذه الرمزية بالغرابة، والغموض، واستخدام دلالة الرمز ونقيضه معًا، ومن بين الأسباب الأخرى التي دعتهم إلى استخدام اللغه الرمزيّة هو التكتّم على أسرارهم الروحيّة، وعدم نشر أفكارهم للعامّة، وتجنّبًا لاتّهام الخصوم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الأديان السماويةالتصوّفالأديان

المقالات المرتبطة

الأشاعرة

ظهر الأشاعرة، وهم فرقة من متكلّمي السنّة، في بداية القرن الثالث الهجري، ويعتبر علي بن إسماعيل الأشعري المؤسّس لهذا المذهب

في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر: قراءة في مشروعه المقاوم وتجربته السياسية الرائدة

افتخر أني من جيل عاش في مرحلة نهضة الإمام موسى الصدر وعاصر تجربته الرائدة، ولامس عن قرب الثوابت التي كانت تشكل مرتكزات جهاده السياسي في تلك المرحلة

ميتافيزيقا الموت

أفردت الفلسفة الإسلامية، حيزًا واسعًا ما بين مباحثها وموضوعاتها، للموت والحياة ما بعد الموت، والمعاد والنشأة الأخرى.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<