نظرية روح المعنى عند الإمام الخميني (قدّس سرّه)
تُعَدّ نظرية روح المعنى من الأبحاث المهمّة في مجالات عديدة، كاللغة والتفسير وأصول الفقه و… وثمة تقريرات عديدة لها، من الغزالي إلى صدر المتألهين والفيض الكاشاني والعلامة الطباطبائي والإمام الخميني، وغيرهم من العلماء الماضين والمعاصرين.
ونريد في هذه العُجالة، تسليط الضوء على تقرير الإمام الخميني (قدّس سرّه) لهذه النظرية. لذا رتّبنا الكلام على ثلاث نقاط:
- أهمية النظرية عند الإمام الخميني.
- بيان تقرير الإمام الخميني.
- تطبيقات لنظرية روح المعاني.
النقطة الأولى: أهمية النظرية عند الإمام الخميني
لقد اهتمّ الإمام الخميني بهذه النظرية، وتبنّاها، وعدّها من الأمور التي يجب التفكير فيها، فهي مشمولة لقوله (عليه السلام): تفكّر ساعة خيرٌ من عبادة ستين سنة. وتكمن أهميتها في كونها من مفاتيح المعرفة وأساس فهم الأسرار القرآنية. فقد قال في المصباح 50 من مصباح الهداية ما نصّه:
هل بلغك من تضاعيف إشارات الأولياء، عليهم السلام، وكلمات العرفاء، رضي اللّه عنهم، أنّ الألفاظ وضعت لأرواح المعاني وحقائقها؟ وهل تدبّرت في ذلك؟ ولعمري، إنّ التدبّر فيه من مصاديق قوله (ع): تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة. فإنّه مفتاح مفاتيح المعرفة وأصل أصول فهم الأسرار القرآنيّة. ومن ثمرات ذلك التدبّر كشف حقيقة الإنباء والتعليم في النشآت والعوالم. فإنّ التعاليم والإنباءات في عالم الروحانيّات وعالم الأسماء والصفات غير ما هو شاهد عندنا، أصحاب السجون والقيود وجهنام الطبيعة وأهل الحجاب عن أسرار الوجود.
كما بيّن أهميتها أيضًا في مواضع أخرى من كتبه، نكتفي بالإشارة إلى موضع آخر حيث عدّها من أجلّ ما يناله السالك، ومن أعظم النّعم التي تُفاض عليه. فقال في شرح دعاء السحر، في مطلع تفسير قوله (عليه السلام) “اللهم إني أسألك من نورك بأنوره، وكل نورك نير، اللهم إني أسألك بنورك كله”:
واعلم أن من أجلّ ما يرد على السالك بقدم المعرفة إلى اللَّه من عالم الملكوت، وأعظم ما يفاض على المهاجر من القرية الظالم أهلها من حضرة الجبروت، وأكرم خلعة ألبست عليه بعد خلع نعل الناسوت من ناحية الوادي المقدس والبقعة المباركة، وأحلى ما يذوقه من الشجرة المباركة في جنّة الفردوس بعد قلع الشجرة الملعونة من عالم الطبيعة: انشراح صدره لأرواح المعاني وبطونها وسر الحقائق ومكنونها، وانفتاح قلبه لتجريدها عن قشور التعينات وبعثها من قبور الهيئات المظلمات، ورفضها لغبار عالم الطبيعة وإرجاعها من الدنيا إلى الآخرة، وخلاصها من ظلمة التعين إلى نورانية الإِرسال، ومن دركات النقص إلى درجات الكمال.
النقطة الثانية: بيان تقرير الإمام الخميني لهذه النظرية
لكي تتّضح هذه النظرية، نرتّب كلمات الإمام الخميني ضمن الخطوات التالية[1]:
- بيان علماء الظاهر: ذكروا في اللغة أن “الرحمن والرحيم” مشتقان من الرحمة التي أُخِذ فيها الرقة والعطوفة، وهذان يستلزمان الانفعال. فكان وصفُ الذات المقدسة بهما يحتاج إلى تأويل، كأن يُقال: معنى الرحمن والرحيم في الحق تعالى أنه يعامل عباده بالرحمة، فإطلاقهما عليه بلحاظ الآثار والأفعال لا بلحاظ المبادئ والأوصاف. وهذا إطلاق مجازي.
- بيان أهل التحقيق: الألفاظ موضوعة للمعاني العامة والحقائق المطلقة وغير المقيّدة بالقيود المادية. فلا يكون التقيّد بالعطوفة والرقة داخلًا في ما وُضع له الرحمة. ففي الحقيقة، لاحظ الواضع المعنى العامّ ووضع اللفظ بإزائه.
- إشكال الإمام: هذا بعيد، لأن الواضع شخصٌ عرفي، ولم يلاحظ حال الوضعِ المعنى المجرد والحقيقة المطلقة عن القيود المادية. نعم، لو كان الواضع هو الله تعالى، أو النبي بالوحي أو الإلهام الإلهي، لكان لهذا وجه، لكنه غير ثابت.
- تقرير الإمام: لا يُعلَم أن يكون مراد أهل التحقيق هو ما تقدم. وكيف كان، يمكن تقرير المطلب بنحو آخر، قال عنه الإمام في تقريرات فلسفه، الجزء 2، الصفحة 346 أنه مطلب ثابت عند المحققين لا شبهة فيه، مفاده: أن الواضع لم يُلاحظ حال الوضع المعنى المجرد والحقيقة المطلقة عن القيود المادية، لكن مع ذلك وُضع اللفظ لهذا المعنى المجرد.
- وتوضيح ذلك بمثال النور[2]:
- في لفظ النور، لاحظ الواضع الأنوار الحسية، وافرض بأنه لم يكن يدرك وجود أنوار غير حسية. فإذًا، لاحظ المعنى المادي أثناء الوضع.
- لكن الوضع وقع على المعنى المجرد عن القيد المادي. فالوضع هنا وقع على الجهة النورية في هذا النور الحسي، لا على الخليط من النور والظلمة. إذ لو قيل للواضع: إن هذه الأنوار الحسية ليست نورًا صرفًا، بل هي نور مختلط بالظلمة، فهل وضعتَ لفظ النور بإزاء تلك الجهة النورية أم بإزاء الجهة النورية والظلمانية؟ سيجيب بالضرورة إنه بإزاء جهة النورية، وأما جهة الظلمة فليس لها دخل في الموضوع له.
- فتكون كلمة النور موضوع لما فيه جهة “الظاهرية بالذات والمُظهرية للغير”، وهي تطلق حقيقة على النور المادي حيث لا يُلاحَظ في هذا الإطلاق تلك القيود المادية، وتُطلَق حقيقة على الأنوار الملكوتية التي تكون مُظهريتها أكثر كمًا وكيفًا، وعلى الأنوار الجبروتية، وعلى الذات المقدّسة فهي صرف النور وخالصة من جميع جهات الظلمة.
- بل تُطلَق على كل مصداق لها، ولو لم يكن خاطرًا في ذهن الواضع وعقله. فهنا لا نلجأ إلى العرف، فحتى لو لم يستطع العرف الكشف عن مصداق حقيقي لهذا المعنى أو نفى كونه مصداقًا، واستدلّينا على كونه مصداقًا حينئذ يكون إطلاق اللفظ عليه حقيقيًا[3].
- وكلّما كان المعنى مجردًا عن القيود المادية أو الشوائب الأجنبية عن المعنى الموضوع له، كان أقرب إلى الحقيقة.
- فالحاصل: إن الواضع – البشري لا الإلهي- لاحظ المعنى المادي، لكن الوضع وقع بإزاء المعنى المجرد عن هذه القيود. فالمعنى المادي كان سببًا للانتقال إلى المعنى الموضوع له، وفرق بين سبب الانتقال إلى المعنى، وبين المعنى الموضوع له. وبتعبير منّي: الجهة الملحوظة للواضع مطلقة من البداية، وتشمل جميع المصاديق بنحو إجمالي، وإن لم يكن يعلم بذلك تفصيلًا. وبالتالي، كأن بيان الإمام تحليل للارتكازات العرفية في مورد وضع بعض الألفاظ.
- وهكذا الكلام في لفظ الرحمة والرحمن والرحيم، ففيها جهة كمال وجهة انفعال ونقص، وهذه الألفاظ لاحظ فيها الواضع الجهات كلها لكنه وضع بإزاء جهة الكمال فقط.
- وعلى هذا الأساس، لا استبعاد في كون الوضع بهذا النحو.
- تأييد: وهذا المطلب موافق لوجدان أهل الظاهر:
وهذا المطلب بهذا البيان، مضافًا إلى أنه قريب من ذوق أهل المعرفة، مناسبٌ لوجدان أهل الظاهر أيضًا.
وفي كتاب تقريرات فلسفه، الجزء 2، الصفحة 346 قال في فقرة (وضع الألفاظ للمعاني العامّة) ما ترجمته:
لي كلام يبدو للوهلة الأولى بعيدًا جدًّا، لكن بالتأمل والتحقيق يتّضح أنه الصحيح.
- وذيّل كلامه بأن صفات الكمال كلها هي من هذا القبيل، فيكون إطلاقها على الحق تعالى حقيقيًا لا مجازيًا. وإلى هنا يكون البحث منحصرًا في هذا النحو من الصفات، ولا يعمّمها لمطلق الصفات والمعاني. ويذكر في الصفحة 261 من الآداب المعنوية ما يُشعر بأن محل البحث هو هذا:
إنا لا نتقيد بالصدق اللغوي أو لزوم تحقق الحقيقة اللغوية في هذه الحقائق الإلهية، بل الميزان في هذه المباحث هو صحة الإطلاق ووجود الحقيقة العقلية وإن كانت الحقيقة اللغوية أيضًا ثابتة بالبيان السابق –إشارة إلى البيان الذي فصّلناه آنفًا فيما يرتبط بلفظ الرحمة-.
- ثم يذكر في تقريرات فلسفه، الجزء 1، الصفحتان 118 و 120 أن المصاديق الطبيعية، أي ما نشاهده في الطبيعة، ينتزَع منه مفهومات هي أرواح المعاني وتوضَع الألفاظ بإزائها. نعم، يستثنى من ذلك الأعلام الشخصية. فلفظ الإنسان مثلًا موضوع للحي المريد، فيصدق على الفرد المتعارف، ويصدق على الفرد الطويل حتى لو كان رأسه فوق العرش وقدماه في مركز الأرض، وعلى الفرد القصير حتى لو كان بحجم نملة، وعلى الإنسان المثالي الذي يُرى في المنام، وعلى أي مصداق آخر عنده حياة وإرادة حتى لو استهجن العرف مثل هذا الإطلاق، إذ هنا لا مدخلية للعُرف في تشخيص المصداق.
وعلى هذا الأساس، يمكن تلخيص نظرية الإمام بما يلي:
- الواضع البشري لاحظ المصاديق المادية، وأوقع وضعه، بنحو ارتكازي، على المعنى المطلق عن هذه الخصوصيات المادية. وهذا أمر مشهود لأهل العرف. فالمصداق بخصوصياته المادية كان سببًا لانتقال ذهن الواضع – ولو ارتكازًا- إلى المعنى العام الموضوع له.
- فصار اللفظ يُطلَق حقيقة على كل مصداق لهذا المعنى العام، وهنا لا دخل للعرف في تحديد المصداق، بل كل ما ثبت أنه مصداق للفظ صحّ إطلاقه عليه حقيقةً.
- هذه النظرية لا تشمل كل المعاني، بل خاصة بالصفات الكمالية والمصاديق المشاهَدة في الطبيعة.
النقطة الثالثة: تطبيق لنظرية روح المعاني
ذكرنا في النقطة السابقة، أثناء تقرير هذه النظرية، بعض الأمثلة لتوضيحها. وقد طبّق الإمام هذه النظرية في العديد من كتبه، مثلًا: في الآداب المعنوية للصلاة، في شرح دعاء السحر، في تقريرات فلسفه، في الأربعون حديثًا، سواء صرّح في بعض الموارد بكون ما ذكره تطبيقًا لهذه النظرية أو لم يصرّح.
ولكي تترسّخ هذه النظرية ويتّضح مدى أهميتها، نشير إلى تطبيق آخر مرتبط بالإلهيات بالمعنى الأخص، وهو وصف الله تعالى بالبصير. فهل إطلاق لفظ البصير على الذات المقدسة إطلاق حقيقي أم مجازي؟
أرجع بعض العلماء صفة البصر إلى العلم، فقال: “الله بصير”، يعني “الله عالم بالمبصَرات”. بينما أرجع شيخ الإشراق العلم إلى البصر. أما الإمام الخميني، فلم يرضَ أيًّا من هذين الاتجاهين، وذكر في تقريرات الفلسفة، الجزء 2، الصفحات 341- 344 أن إطلاق لفظ البصر على الله تعالى إطلاق حقيقي، كما أن إطلاق هذا اللفظ على الإنسان حقيقي أيضًا. ويمكننا بيان ما ذكره ضمن المراحل التالية:
- الإنسان يبصر في اليقظة وعالم المادة من خلال آلة الإبصار وهي العين.
- عندما ينام الإنسان، ويغلق عينَيه ولا يستفيد من هذه الآلة، لو شاهد في المنام أنه يرى شيئًا، فإنه عندما يستيقظ يقول: أبصرتُ في المنام كذا، فيستعمل لفظ الإبصار في معناه الحقيقي دون تجوّز، على الرغم من أنه إبصار من دون هذه الآلة المادية. وما يحصل هل في المنام هو الإبصار حقيقة لا تخيّل الإبصار، ولذا تراه يخاف إن أبصر شيئًا مرعبًا ويفرح إن أبصر شيئًا مفرحًا وهكذا.
- عندما تنقطع علاقة النفس الإنسانية بعالم الطبيعة، ويرى النبيَّ (صلى الله عليه وآله)، فإنه يبصره ويراه حقيقة.
- والنبي (صلى الله عليه وآله)، بسبب قوة نفسه وقواها البصرية والسمعية وغيرهما، يبصر المجردات، فيرى جبرائيل ولا يشترط أن يكون بنحو متجسّم.
- وهكذا الله تعالى، يبصر الجزئي الحقيقي في متن الواقع، وتكون هذه الجزئيات مبصَرة له حقيقة. فإطلاق لفظ البصير عليه تعالى إطلاق حقيقي لا مجازي.
وكأنّ الإمام استفاد من الوجدان اللغوي، حتى ينبّه على أن هذا الإطلاق إطلاق حقيقي، ولو اختلفت مصاديق الإبصار: ففي مرتبة يكون الإبصار من خلال آلة مادية، وفي مرتبة يكون الإبصار مشوبًا مثلًا بشيء من آثار المادة، وفي مرتبة يكون الإبصار مجرّدًا عن كل هذه القيود بحيث تتصّف به الساحة الإلهية المقدّسة دون أن يعتريها أي نقص.
وقد طبّق الإمام هذه النظرية في مورد الكلام الإلهي في تقريرات فلسفه، الجزء 2، الصفحة 347، وغير ذلك، لكن أكتفي بهذا المقدار من البيان، تاركًا مناقشة هذه النظرية قبولًا أو رفضًا أو تعديلًا لمناسبة أخرى.
والحمد لله ربّ العالمين.
عصر التاسع من شهر شعبان المعظّم 1442 ق
[1] هذا البيان مستفاد من كلمات الإمام في الآداب المعنوية للصلاة، الصفحات 255- 258، وحيث يوجد نكتة أخرى احتجنا إليها ولم تكن مذكورة في هذا المصدر، أشرنا إلى مصدرها في المتن.
[2] وذكره أيضًا في تقريرات فلسفه، الجزء 2، الصفحة 346.
[3] ذكر هذه الفقرة في تقريرات فلسفه، الجزء 2، الصفحتان 347، 348.
المقالات المرتبطة
مصطلحات عرفانية | الجزء 22
حب – المحبة الحقيقية هي محبة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من حيث هي أفعاله.. وكل جمال وجلال وزينة وكمال
الزهراء سيّدة أهل المحشر
سنقدم في هذه السلسة مجموعة من الرسائل القصيرة جدًّا، للحديث عن أهمّ مفصل من مفاصل أدبيّاتنا الإسلاميّة، معتقداتنا، أخلاقياتنا، رؤيتنا،
سؤال الإيمان بين إلهيّات المعرفة وصبغة الله للإنسان
الإيمان تعبير حميم عند أصحاب الأحاسيس المرهفة، ومورد احترام في نفوس غيرهم.