حوار العشق مع شهر رمضان المبارك
“السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، ويَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الْأَيَّامِ والسَّاعَاتِ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الْآمَالُ، ونُشِرَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُودًا، وأَفْجَعَ فَقدُهُ مَفْقُودًا، ومرجوٍّ آلَمَ فِراقُهُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلًا فَسَرَّ، وأَوْحَشَ مُنْقَضِيًا فَمضَّ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ، وصَاحِبٍ سَهَّلَ سَبِيلَ الْإِحْسَانِ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا أَكْثَرَ عُتَقَاءَ اللَّهِ فِيكَ، ومَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بِكَ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وأَسْتَرَكَ لِأَنْوَاعِ الْعُيُوبِ”.
- السلام على شهر رمضان المبارك
القسم الثاني من دعاء الوداع عبارة عن خطاب موجّه لنفس شهر رمضان المبارك، وحوار عشق في مقام توديع هذا الشهر الفضيل. ففي الفصول السابقة، تحدّثنا عن خصائص الوداع وحِكَمه ومنافعه. لكن، لقراءة هذا الدعاء في غير وقته الخاصّ – أي نهاية شهر رمضان المبارك – فائدة أخرى بالنسبة إلينا لا يحصل عليها مودّعوه؛ إذ نجدهم يقولون في توديعه: “ما أعظمك من فرصة كانت حاضرة بيننا، ورحلت عنّا”، بينما بوسعنا نحن في غير مقام الوداع أن نزيد معرفتنا بقدر هذه النعمة، ونُعدّ أنفسنا للاستفادة من الفرصة التي ستسنح لنا في المستقبل، ولا نكتفي بالحسرة بعد انقضاء هذا الشهر.
فمن الطبيعيّ أن يتطرّق الإنسان حين الوداع إلى إيجابيّات الذي يُودّعه، حيث نرى وجود المسألة ذاتها في هذا الدعاء الشريف الذي أشار إلى حسنات شهر رمضان المبارك في قالب عشرين سلامًا تقريبًا.
“السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ”؛ في هذه الجملة، يُشبّه الإمام (عليه السلام) الشهر الفضيل بصاحب ورفيق، ويقول: من بين الأوقات التي مرّت عليّ، وكنت مصاحبًا لأقسامها المختلفة، كانت صحبتك الأكثر فائدة بالنسبة إليّ.
“ويَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الْأَيَّامِ والسَّاعَاتِ”؛ وهذه الجملة بيان تقريبيّ لعبارة “شهر الله الأكبر”.
“السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الْآمَالُ”؛ فعادةً، تكون الآمال أمرًا بعيد المنال، ويستدعي تحقيقُها مدّة من الزمن. لكن، في هذا الشهر، تكون مقدّمات الآمال مكثّفة، بحيث إنّ العمل الذي يتطلّب القيام به شهرًا من الزمن يُمكن أداؤه في يوم واحد. وأبرز مثال على هذه المسألة أنّ المؤمنين يتمنّون طيلة السنة إدراك ليلة القدر، لكنّ هذه الليلة تكون قريبة جدًّا منهم في شهر رمضان المبارك، لأنّها تقع في لياليه، كما أنّه يتيسّر للإنسان في هذا الشهر أداء العديد من العبادات التي قد لا تسنح له الفرصة للقيام بها في ظروف الأخرى. ففي شهر رمضان المبارك، تُعدّ أنفاس الصائمين، بل وحتّى نومهم عبادة. ولهذا، فإنّ الإمام (عليه السلام) يقول في خطابه لهذا الشهر: “ونُشِرَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ”، إذ تشيع في هذا الشهر وبشكل مُلفت – ولله الحمد – في الأجواء الإسلاميّة الأعمال الصالحة؛ نظير إطعام الصائمين، وقراءة القرآن، وصلة الرحم؛ لكن، لا قدّر الله تعالى أن تمرّ علينا هذه الأيّام، ونُحرم بسوء اختيارنا من تلك الأعمال، أو أن نصل إلى حال لا نجد فيها هذه الشعائر الإسلاميّة تظهر بصورة لائقة. فأحيانًا، قد تظهر في المجتمعات في بعض المدن مظاهر لا تُشير إلى حلول شهر رمضان المبارك، حيث تشيع بكثرة مظاهر الأكل والشرب وبقيّة الأعمال، ولا يفترق الشهر الفضيل – عمومًا – عن بقيّة الأشهر. فعلينا أن نستعيذ بالله تعالى من وضعيّة سيّئة كهذه، ومن أن يسلب منّا عزّ وجلّ هذه التوفيقات، وأن تصير الشعائر الإسلاميّة باهتةً في المجتمع. ولسنا هنا نسعى لتحديد المسؤول عن هذه الوضعيّة، إلّا أنّ على كلّ واحد منّا التدقيق في اعتقاداته وأعماله، ليرى هل له مساهمة مباشرة أو غير مباشرة في هذه الإخفاقات أم لا. ففي بعض الأحيان، قد يكون بمقدورنا القيام بفعل أو التحدّث بكلام يُساهم في إحياء الشعائر الإسلاميّة، لكنّنا نُقصّر في ذلك، فيكون لهذا التقصير دور في الوصول إلى هذه الحالة.
وعلى أيّ تقدير، فإنّ طبيعة شهر رمضان تقتضي – بالنظر إلى تلك العادات والتقاليد التي خُصّت بها – أن تُذاع الأعمال الصالحة فيه، بحيث لا تقتصر هذه الأعمال على نطاق خاصّ ومحدود؛ إذ انتشار الأعمال الحسنة يُؤدّي إلى تشجيع الناس على فعل الخير.
“السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُودًا، وأَفْجَعَ فَقدُهُ مَفْقُودًا، ومرجوٍّ آلَمَ فِراقُهُ”؛ فهذه الحالة لا تحصل إلّا للذي أدرك جيّدًا مفاد العبارة الأولى، وصار متحقّقًا بها. وأمّا إذا عاش الإنسان في هذا الشهر حياة عاديّة، شأنه في ذلك شأن بقيّة الأشهر، فإنّ هذه العبارات لن تنبع من قلبه، وستكون مجرّد كلمات يتلفّظ بها.
“السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلًا فَسَرَّ، وأَوْحَشَ مُنْقَضِيًا فَمضَّ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ، وصَاحِبٍ سَهَّلَ سَبِيلَ الْإِحْسَانِ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا أَكْثَرَ عُتَقَاءَ اللَّهِ فِيكَ، ومَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بِكَ؛ السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وأَسْتَرَكَ لِأَنْوَاعِ الْعُيُوبِ”.
في هذا الفقرة من الدعاء، وعلاوةً على الصفات التي ذُكرت في مدح شهر رمضان المبارك، فقد طُرحت أيضًا مجموعة من المسائل المفيدة.
- طرق الوصول إلى الكمال
من أبرز المسائل المطروحة في هذه الفقرة من الدعاء مسألة رقّة القلوب ونقصان الذنوب في شهر رمضان المبارك (رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ)، وهي حقيقة جرّبناها نحن فيه إلى حدّ ما، لا سيّما في ليالي القدر التي يترافق فيها التضرّع والمناجاة والتوبة والاستغفار مع رقّة القلب. لكن، هل يختصّ ذلك بشهر رمضان فقط، بحيث تصير القلوب حين طلوع الهلال من الشهر الفضيل رقيقةً بشكل طبيعيّ، أم أنّ لرقّة القلب هذه أسباب تتحقّق في شهر رمضان؟ والسؤال الآخر هو: ما هو الجيّد في رقّة القلب؟ فالبعض يرى أنّ رقّة القلب ضعف نفسيّ أو بدنيّ أو عصبيّ، وأنّ الأقوياء لا يرخون حواجبهم، ولا يُسمع لهم أنين، ولا يُرى منهم بكاء أو تأثّر، وتعتبر هذه الطائفة من الناس هذه الحالة نوعًا من الشجاعة والقوّة والبسالة؛ في حين أنّ هذه التصوّر – طبقًا لثلّة من الآيات والروايات – لا يصحّ على إطلاقه كحدّ أقلّ، بل إنّ الرقّة تكون مطلوبة في بعض الحالات، بحيث إذا لم تتحقّق فيها، فإنّ ذلك يكون علامةً على المرض.
وفي الحقيقة، فإنّ رقّة القلب بما هي كيفيّة نفسانيّة وعاطفيّة – تعرض للإنسان في ظروف خاصّة وتستتبعها حالات انفعاليّة كالبكاء والتأوّه والتأثّر – ليست في حدّ نفسها ممدوحة ولا مذمومة، بمعنى أنّها لا تملك بحدّ ذاتها أيّ قيمة أخلاقيّة إيجابيّة أو سلبيّة. فجميع القوى التي أودعها الله تعالى في بدن الإنسان وروحه آلاتٌ، ومن شأن استخدامها في الوقت المناسب أن يصل بالإنسان إلى الكمال، فإذا كانت رقّة القلب سببًا في تقرّب الإنسان إلى الله تعالى وغفران ذنوبه، فإنّها ستكون جيّدة. ولهذا، ينبغي استعمال هذه الآلة والوسيلة في طريق الزلفى إلى الله تعالى، وعلى الإنسان أن لا يسمح بتسلّل القسوة إلى قلبه، بحيث يرتفع عنه كلّ أثر لرقّة القلب حتّى في الظروف الملائمة. يقول أحد الأخلاّء المعنويّين:
“كنت أرتقي المنبر في أحد الأماكن، وبحسب المتعارف، كنت أتطرّق في نهاية المجلس إلى ذكر طرف من مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، لكنّ العجيب أنّ أحدهم كان يأتي حين قراءة العزاء، ويجلس أمامي، ويُحدّق في عينيّ، من دون أن يتأثّر أبدًا بسماع مصائب أهل البيت (عليهم السلام). وفي أحد الأيّام، التقيت بهذا الشخص، وقلت له: “أيّها الرفيق، ما هذه العادة التي لديك؟ لماذا تُحدّق في عينيّ حين قراءة العزاء، من دون حتّى أن تتباكى؟!”، فقال: “الحقّ أنّني أعاني من الشعور بالنعاس، لكن، حينما أجلس أمامك وأحدّق في عينيك فإنّ هذه الحالة ترتفع، ولهذا فإنّني أحبّ الجلوس مقابلك، وإلّا فلا يفرق لديّ سماع العزاء أو عدم سماعه””.
ومن هنا، فإن قلب الإنسان قد يُصاب بالقسوة، إلى درجة أنّ سماع مصائب أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) لا يُؤثّر فيه بتاتًا.
هذا، ويُؤدّي الغضب أيضًا إلى كمال الفرد والمجتمع إذا استُعمل في مكانه المناسب، وقد رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: “أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْ نَلْقَى أَهْلَ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ”، إذ على الإنسان أن يغضب في مقابل الظلم والمعصية وتعدّي الحرمات. فالغضب الذي خلقه الله تعالى له مكانة خاصّة في حياة الإنسان، وليس أمرًا لغويًّا، بل على الإنسان استعماله في مكانه المناسب، شأنه في ذلك شأن اللطف. هذا، مع أنّ كون الغضب ذا فائدة لا يعني لزوم أن يستخدمه الإنسان في كلّ مسألة صغيرة كانت أو كبيرة، من دون أن يتحكّم فيه. ويبقى أنّ عكس هذه الحالة غير صحيح أيضًا، بمعنى عدم استعمال الإنسان غضبه بتاتًا، وعدم مواجهته للظالم والمعتدي بالغضب حتّى حين هتكه للحرمة وتسبّبه في الظلم، والحديث معه بحرارة، بحيث يبدو كأنّه لم يرتكب أيّ ظلم، فإن من المسلّم به أنّ شخصًا كهذا يكون شريكًا للظالم في ظلمه وللمعتدي في عدوانه.
- آثار ذكر الله في قلب المؤمن وجسده
جرى في بعض الآيات القرآنيّة الكريمة استخدام ألفاظ ذات مداليل تحذيريّة جدًّا في وصف المؤمنين، وأنّ قلوبهم تهتزّ عند ذكر الله تعالى، ولا يخفى أنّ هذا التعبير القرآنيّ مختلف عن التعبيرات التي تحكي عن خشوع المؤمنين وخوفهم، نظير: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُون﴾[1]، وكذلك: ﴿إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾[2]. فقد ورد في سورة الأنفال أنّ إحدى صفات المؤمنين اهتزاز قلوبهم عند ذكر الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم﴾[3]، فقد يغفل المؤمن أحيانًا عن ذكر الله بسبب انهماكه في مشاغل الحياة، لكنّ ذكر اسم الله تعالى يُؤدّي، فجأةً، إلى تحقق التوجّه لديه، حيث يهتزّ قلبه، ويقول مع نفسه: “لماذا أغفل عن ذكر الله تعالى مع أنّني في محضره؟!”. ولا يخفى أنّ هذه الحالة مؤقّتة، وليس المراد من الآية ضرورة أن يكون قلب المؤمن وجلًا على الدوام، فهذه الحالة انفعاليّة تحدث في قلبه جرّاء انتقاله من الغفلة إلى التذكّر.
وفي آية أخرى، يقول البارئ عزّ وجلّ في وصفه للمؤمنين: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَديثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾[4]، فحينما تعرض هذه الحالة على قلب المؤمن، فإنّها تُحدث آثارًا في جسده أيضًا، نظير حالة الخوف التي تقترن بصفرة الوجه. نعم، يبقى أنّ الله تعالى يقول في تتمّة هذه الآية: ﴿ثُمَّ تَلينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّه﴾[5]. وعليه، فإنّ المؤمن لا يكون في وجل دائم، بل إنّ هذه الحالة الانفعاليّة تحدث في لحظات بعد حصول توجّه خاصّ، ثمّ تختفي بعد ذلك.
- رقّة القلب وقسوته في سبيل الله تعالى
في مقابل مدح الله تعالى في كتابه العزيز لرقّة قلب المؤمنين، فقد ذمّ أيضًا المبتلين بقسوة القلب. وإن من بين أبرز موارد الذمّ الواردة في القرآن الكريم بخصوص بني إسرائيل تشبيه قلوبهم بالحجارة، بل بما هو أشدّ منها، كما نقرأ في الآية الشريفة: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ومَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾[6]، حيث يقول البارئ عزّ وجلّ في بيان كيفيّة صيرورة قلوبهم أشدّ من الحجارة: أحيانًا، قد تنفطر الحجارة، ويجري منها الماء، بل إنّ بعض الحجارة قد تهوي من خشية الله تعالى[7]، لكنّ قلوب هؤلاء لا تُبدي أيّ تأثير، ولا تجري من عيونهم أيّ دمعة حين مواجهتهم لبعض المؤثّرات التي من شأنها عادةً ملء الآماق بالدموع؛ فهذه المسألة هي على درجة من الأهمّية، بحيث نجد الله تعالى يُذكّر بها عدّة مرّات في القرآن الكريم[8].
وعليه، فإنّ امتلاك قلب بهذه القسوة ليس علامة على الشجاعة، بل إنّه عبارة عن مرض روحيّ. فمن المفروض أن يتّصف الإنسان برقّة القلب في ظروف معيّنة، كأن يُصاب الطفل بمرض مثلًا، فتتأثّر أمّه لذلك، وتبكي بسبب عطفها وشفقتها عليه، حيث إنّ هكذا تأثّر مسألة طبيعيّة. لكن، ليس من الصواب أن يستسلم الإنسان أمام كلّ واقعة، ويتأثّر بسرعة، وتسيل دموعه جرّاء ذلك. وعلى سبيل المثال، يتعيّن على زعيم المجتمع الذي يضطلع بمسؤوليّة القيادة في مختلف الجوانب الاجتماعيّة أن يكون على درجة كبيرة من القوّة حتّى لا ينحني أمام أيّ مصيبة، نظير حالة إمامنا الراحل (رضوان الله تعالى عليه) حينما سمع خبر شهادة ابنه الحاجّ السيّد مصطفى (رحمة الله تعالى عليه)، إذ قال بعد هذه الحادثة: “لقد كان ارتحال مصطفى من الألطاف الإلهيّة الخفيّة”، مع أنّه كان يُعدّ في الحقيقة ثمرة عمره، وكان يُتوقّع – وفقًا للأسباب العاديّة – أن يُكمل مسيرة أبيه، حيث كان يتمتّع – بحقّ – بقابليات خارقة، أعلى الله تعالى مقامه وزاد في درجاته. وهكذا أيضًا، حينما أُخبر الإمام الخمينيّ (قدّس الله سرّه) بواقعة السابع من شهر تير، فإنّه قال من دون أن يبدو عليه أيّ انهيار: “اذهبوا وشكّلوا البرلمان”. وفي الحقيقة، فإنّ ذلك ليس من قسوة القلب في شيء، بل هو شجاعة. ففي الموضع الذي ينبغي فيه على الإنسان – بمقتضى العقل – أن لا ينهزم أمام العدوّ، فإنّ عليه أن يتّصف بالجرأة والصمود والأنفة والشجاعة.
لكنّنا نجد أن الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) كان، عندما يقرأ الحاجّ السيّد كوثري (رحمة الله عليه) العزاء، ويأتي على ذكر اسم سيّد الشهداء (عليه السلام)، يبكي وتجري الدموع من عيونه. وعليه، فإنّ رقّة القلب الإيجابيّة هي علامة على استعداد الإنسان لاستخدام قابليّاته والنعم الإلهيّة الممنوحة له في الطريق الذي يُرضي الله تعالى، ممّا يُوصله إلى الكمال الإنسانيّ. لقد عايشت عددًا من العظماء الذين يتمتّعون بالقوّة والصلابة، نظير العلّامة الطباطبائيّ (رضوان الله تعالى عليه)، وقد كانوا يتأثّرون كثيرًا عند ذكر اسم سيّد الشهداء (عليه السلام) ومصابه، إلى درجة أنّ دموعهم كانت تنهمل بمجرّد سماعهم للعزاء. وهذه المسألة ليست انفعالًا أو ضعفًا، والحقيقة أن هؤلاء ربّوا أنفسهم، بحيث تُمكنهم في اللحظة المناسبة الاستفادة من أحوالهم النفسيّة والقلبيّة.
- رقّة القلب في شهر رمضان المبارك
شهر رمضان المبارك من الأوقات التي ترقّ فيها القلوب، ويبدو أنّ الحديث عن هذه الرقّة ليس حديثًا عن ظاهرة غيبيّة، بل إنّ البارئ عزّ وجلّ قد جعل هذا الشهر بنحوٍ ترقّ فيه القلوب، أي إنّ الأوامر والأحكام والآداب التي وضعها فيه تُساعد على رقّة القلب، وترفع الموانع التي تصدّ عنها، ومن بينها الإفراط في الأكل، فحينما يأكل الإنسان كثيرًا، يشعر بثقل واضح يمنعه من البكاء حتّى عند الاستماع للعزاء، وبما أنّ أحكام شهر رمضان المبارك قد صيغت بنحو يتعيّن على الإنسان أن يشعر بالجوع لساعات طوال، فإنّ هذا المانع (أي الإفراط في الأكل) سيرتفع شيئًا فشيئًا، لكن، بشرط تجنّب الإسراف بعد الإفطار.
ومن الموجبات الأخرى لزيادة رقّة القلب: التعرّض المتكرّر لأسبابها؛ فعلى سبيل المثال، من الممكن أن لا يتأثّر الإنسان في الأيّام والجلسات الأولى لمراسم العزاء، لكن مع تكرار المشاركة فيها، يحصل له التركيز تدريجيًّا، ويُصبح مستعدًّا للتأثّر، وتقوى قابليّته على الاتّصاف برقّة القلب. ويُعدّ شهر رمضان المبارك فرصة مؤاتية للإنسان للاستغفار، واستحضار ذنوبه، وذكر الله تعالى، ويُساعد تكرار هذه الأمور طيلة الشهر الفضيل في رفع الموانع التي تصدّ عن رقّة القلب، فيُصبح الإنسان معتادًا على أسباب الرقّة، ومستأنسًا بها، ويضحي مستعدًّا أكثر للتأثّر.
لقد تحدّثت الروايات عن مجموعة من الأسباب التي تؤدّي إلى رقّة القلب وتنوّره، كأكل الحلال، لكنّنا غير مطّلعين على التفسير العلميّ والعقلانيّ لها[9]، ونُسلّم بها تعبّدًا[10]، فرغم أنّ من الممكن أن تثبت آثار هذه الأسباب عن طريق التجربة، غير أنّ غاية ما يُدركه العقل أنّ شهر رمضان المبارك يقتضي حقيقةً اتّصاف الإنسان تدريجيًّا برقّة القلب نتيجة لإحساسه بالجوع، وتركيزه على المسائل العاطفيّة والإحساسيّة، فيُصبح مستعدًّا أكثر للتوبة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى.
- فلسفة التضرّع
لقد حظي التضرّع باهتمام خاصّ في القرآن الكريم، وقد ذمّ البارئ عزّ وجلّ في بعض الآيات عدم تضرّع عباده، وقال: ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم﴾[11]، وفي الآية التي تقدّمتها، نجده تعالى يستخدم تعبيرًا مشابهًا، ويقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون﴾[12]، ثمّ يُبيّن بعد ذلك أنّ عدم تضرّع هذه الأمم كان ناتجًا عن قسوة قلوبهم. ومن هنا، فإنّ شهر رمضان المبارك يُساعد في رفع الموانع التي تصدّ عن رقّة قلب الإنسان، وحصوله على استعداد أكبر لكي يتضرّع لربّه عزّ وجلّ.
قد يُطرح على بعض الضعاف في المعارف الدينيّة هذا السؤال: أفهل أنّ الله تعالى يستمتع ببكاء الناس، حتّى يذمّ عدم تضرّعهم؟ والجواب أنّ التضرّع لا يجلب أيّة منفعة لله تعالى، شأنه في ذلك شأن بقيّة الأمور الأخرى، في حين أننا نحن البشر مخلوقون بحيث تطرأ علينا انفعالاتٌ خاصّة في بعض الظروف، وتبعًا لأحاسيس معيّنة، وذلك لكي تبرز إنسانيّتنا وتتكامل، فالإنسان عبارة عن موجود ينبغي عليه البكاء في حالة خاصّة، والضحك في حالة أخرى، وهكذا؛ وأمّا إذا كان هناك أحد لا يفرح بتاتًا، ويكون في حزن دائم، فمن المسلّم أنّه إنسان مريض؛ وعلى العكس أيضًا، إذا كان هناك أحد لا يشعر بأيّ حزن أو همّ، ولا يُبدي أيّ ردّة فعل تجاه الوقائع المختلفة، فإنّه سيُعدّ أيضًا إنسانًا مريضًا؛ بل إنّ هذا يدخل – أساسًا – في جملة الأمراض القلبيّة.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن ميزتَين للقلب: الأولى إدراك الحقائق، بحيث إذا مرض القلب، فإنّه لن يتمكّن من بلوغ الحقيقة، كما ورد في الآيات الكريمة حين وصف أهل النار: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها﴾[13]؛ والثانية قابليّة الاتّصاف بالرقّة، بمعنى أنّه على القلب أن يتّسم بالرقّة في بعض الحالات الخاصّة، فيشعر – إثر ذلك – بالحزن، ثمّ تحصل للإنسان حالة من الانفعال والبكاء. لقد خلق الله تعالى الإنسان بهذا النحو، بحيث إنّ انعدام هذه الخاصّية فيه يكون دليلًا على مرضه الروحيّ، وقد جاء في الكتاب العزيز: ﴿فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾[14]، إذ إنّ هكذا أفراد يُلقون بأنفسهم في أتون الانحراف، فيزيدهم الله تعالى انحرافًا على انحرافهم، بل إنّ كلّ من يختار طريقًا، فإنّ الله تعالى يُعينه على سلوك طريقه، حيث نقرأ أيضًا في الكتاب العزيز: ﴿وَالَّذينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً﴾[15].
ومن هنا، فإنّ الذين لا يرغبون في أن يعيشوا حالة التضرّع، ويُظهرون اللامبالاة وعدم الحزن، فإنّ هذه الحالة ستُصبح ملكةً عندهم، وهي بعينها السنّة الإلهيّة التي تزيد من انحرافهم ومرضهم، فعلى الإنسان أن يسلك سبيل الاعتدال، أي عليه أن يكون مسرورًا في الموضع المناسب، وحزينًا في موضع آخر، فيضحك في الوقت المناسب، ويبكي في الوقت المناسب، على أنّ المراد من الوقت المناسب الوقت الذي يُؤيّده كلّ من العقل والشرع.
[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 و2.
[2] سورة فاطر، الآية 28.
[3] سورة الأنفال، الآية 2.
[4] سورة الزمر، الآية 23.
[5] سورة الزمر، الآية 23.
[6] سورة البقرة، الآية 74.
[7] عبارة: {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} من متشابهات القرآن، وتحتاج إلى تفسير، وينبغي تحديد هل هي عبارة مجازيّة، أو حقيقيّة لكن لا نفهمها بشكل صحيح. وحتّى إذا كانت أدبيّة ومجازيّة، فإنّ لها حكمة، وجرى بيانها اعتمادًا على حقيقة معيّنة.
[8] سورة البقرة، الآية 74؛ سورة الأنعام، الآية 43؛ سورة الحديد، الآية 16.
[9] وعلى سبيل المثال، رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «ضِياءُ القلبِ مِن أكلِ الحلالِ» [الفضل بن الحسن الطبرسيّ، نثر اللآلي، ترجة حميد رضا شيخي، الصفحة 80]؛ كما رُوي أيضًا أنّ رجلًا شكا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قسوة القلب، فقال له: «إذا أردتَ أن يلينَ قلبُك، فأطعِمِ المِسكَينَ وامسَح رأسَ اليتيمَ» [علي بن الحسن الطبرسيّ، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، الصفحة 167]. وعلاوةً على ذلك، فقد جاء في ضمن رواية منقولة عن الإمام الباقر (عليه السلام): «وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي الْخَلَوَاتِ» [محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، الجزء 75، الصفحة 164].
[10] لا يخفى أنّه قد يوجد تفسير علميّ لحقائق كهذه يعتمد على مسألة أنّ لكلّ شيء – ومنها أعمال الإنسان كالأكل مثلًا – صورة في عالم المثال، يُطلق عليها اسم الصورة الملكوتيّة، وأنّ لهذه الصورة الملكوتيّة تأثيرًا على قلب الإنسان باعتباره هو أيضًا من عالم الملكوت. هذا، وبوسعنا أيضًا تقديم تفسير عقليّ فلسفيّ لهذه الحقائق عن طريق مسألة اتّحاد العقل والعاقل والمعقول، ونظريّة صدر المتألّهين البديعة في بيان حقيقة العلم والإدراك الحسّي، وإرجاعه إلى نوع ارتباط بعالم المثال، لكنّ المقام لا يسمح بذلك. [المترجم]
[11] سورة الأنعام، الآية 43.
[12] سورة الأنعام، الآية 42.
[13] سورة الأعراف، الآية 179.
[14] سورة الصفّ، الآية 5.
[15] سورة محمّد، الآية 17.
** من كتاب وداع الربيع الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المقالات المرتبطة
قدرة العقل على معرفة الله
هل يمكننا، بالاستعانة بالأدلّة العقليّة، وبالبراهين والمسائل الفلسفيّة والكلاميّة، أن نعرف الله تعالى بنحوٍ نستغني به عن تعاليم الدين، أم لا؟
علّة وداع شهر رمضان المبارك وأهمّيته
والوحشة تقع في مقابل الأنس، فحينما يأنس الإنسان بأحد، ثمّ يفترق عنه، فإنّه يشعر بالوحدة، ويُعبّر عن هذا الشعور بالوحدة والغربة الناتج عن فراق المحبوب بواسطة الفعل “أوحش”.
اذكروني لكي أذكركم
بوسعنا القول إنّ حقيقة الذكر هي التوجّه القلبيّ، بحيث يكون الذكر له ارتباط بالقلب. ويُطلق الذكر أيضًا على استحضار شخص من خلال الإتيان باسمه، ويعود ذلك إلى وجود مناسبة بين هذه المسألة، وبين المعنى الحقيقيّ للذكر