الصوم تربية للنفس وبناء للشخصية
مقدمة
لعلنا لا نبالغ في القول إن الإسلام هو دين تربية الملكات والفضائل والكمالات، فهو يعتبر المسلم تلميذًا ملازمًا في مدرسة الحياة. ومن هنا فإن امتحانات الإسلام متجلية في الشعائر المفروضة، وما فيها من تكاليف دقيقة، يراها البعض من الذين لا يفقهون حقيقتها مجرد أنواعًا من العبادات تتلقى بالتسليم، ويراها المستبصر المتدبر ضروبًا من التربية شرعت للتزكية والتعليم، وما يريد الله ليضيّق بها على المسلم، ولا ليجعل عليه في الدين من حرج، ولكن يريد ليطهره بها، وينمي ملكات الخير والرحمة في شخصيته، ويقوي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير والإقلاع عن الشر، ويروضه على الفضائل الشاقة كالصبر والثبات والنظام، ويحرره من تعبد الشهوات له وملكها.
ومن هنا فإن كل فريضة من فرائض الإسلام تمثل امتحانًا لإيمان المسلم ولعقله وإرادته. ولعل الصوم أعسرها امتحانًا، لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمانية. ولذا الإسلام جعل الصوم أحد العبادات التي تروض عليه النفوس، ومن هنا يعد صوم رمضان محك للإرادات وقمع للشهوات، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات، وتدريب منظم في تربية النفس وبناء الشخصية المسلمة على أسس روحية تدفع النفس البشرية للقيام بدورها في عمارة الأرض. وفي هذا السياق يمثل الصيام مدرسة إيمانية تعمل على تزكية النفس وعلى تزويدها بطاقة إيجابية وروحانية كبيرة. فالصيام يزرع في النفس البشرية الخشية والمراقبة، واستقامة السلوك، وإصلاح النفوس وتجديد العودة والإقبال على الله.
لذا يمثل الصيام شعيرة من الشعائر الإسلامية العظيمة، وعبادة من العبادات التي لها أكبر الأثر في حياة المسلم روحيًّا وخلقيًّا وجسمانيًّا. فالصوم مدرسة إسلامية عظيمة تربي الإنسان بكل مكوناته ومقوماته النفسية والروحية والخلقية والاجتماعية. كما يربي الصيام النفوس على الكفاح واحتمال المكارة والتمسك بالفضائل الاجتماعية.
أولًا: الأحاديث النبوية في فضل الصيام: لو تتبعنا الأحاديث النبوية التي أشارت إلى فضل الصيام، نجد أنها تحصر ثمرة الصيام في أنها تصل بالمسلم إلى أرقى المستويات الخلقية في التعامل مع الناس. عن أبي هريرة (رض) قال، قال رسول الله (ص): “الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله قال إني صائم إني صائم”[1]. وهنا نجد أن هذا الحديث يدلنا على أسلوب تربوي فعال ومؤثر في مواجهة المثيرات المحركة لمشاعر الغضب. ولذا يقول رسول الله (ص): “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” [2].
لذا، نجد أن الثمرة الخلقية إذا لم تتحقق يصبح الصيام على ضوء الهدي النبوي شكلًا بلا مضمون. لذا يجب أن يحاول المسلم في صيامه أن يحصّل الثمرة الخلقية المرجوة من الصيام، وليس مجرد الإمساك عن الأكل والشراب.
وبناء على ذلك تقدم لنا هذه الأحاديث تصورًا كاملًا عن مدى تأثير الصيام في سلوكيات المسلم، ذلك أن هذه الصفات السلوكية التي تضمنتها هذه الأحاديث تهدف إلى تطهير القلب وتزكية النفس وتنقية الضمير. وهذا من شأنه أن يحمي حياة الفرد من الانحراف والفساد، فالصيام يعتبر منهجًا سلوكيًّا كاملًا، فهو يشمل كل ما يتصل بأفعال المرء مع ربه، ومع نفسه.
ثانيًا: أثر الصيام في التربية الروحية: تهدف التربية الروحية إلى السمو الروحي بالإنسان المسلم ليكون نموذجًا للدين الذي يدين به ويدعو إليه، ومثالًا حيًّا للفكر الإسلامي الذي يملأ قلبه وعقله، حيث تكون التربية الروحية بداية السمو الروحي الذي تمثله النفس المؤمنة التي تحاول أن تتغلب على الأهواء والشهوات[3].
ولعلنا نشير هنا إلى أهم آثار الصيام في التربية الروحية والمتمثلة كما يلي:
- صيانة الفرد وتهذيبه: تعمل التربية الروحية على صيانة القيم الإنسانية وتهذيب الفرد وتقوي فطرته الطبيعية، فهي توفر للإنسان المسلم الاستقرار النفسي والسعادة الدنيوية إلى جانب السعادة الأخروية[4].
- التقوى: ولعلها من أهم الجوانب الروحية التي للصيام أثر فيها، حيث إن المسلم التقي يشعر في قرارة نفسه بالخوف من الوقوع في المحرمات والمعاصي والآثام لما ينجم عن هذا من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، ذلك أن من مزايا الصوم وآثاره التربوية على المسلم في حياته الروحية، تهيئته نفسيًّا إلى تقوى الله بترك الشهوات الطبيعية المباحة والميسورة امتثالًا لأمر الله، فتربي بذلك فيه ملكة ترك الشبهات المحرمة والصبر عليها، ويقوى على النهوض بالطاعات والصبر عليها ويعتاد الثبات على العبادة. ذلك أن التقوى هي أم الفضائل وأساس التربية الفردية والاجتماعية، وهي تعني أن يتقي المسلم عذاب الله تعالى وغضبه، وأن يقوم بما وجب عليه من فروض وطاعات، وأن ينتهي عما نهى الله عنه من المعاصي ومن السيئات في السر والعلانية، مع الخشية من الله وتعظيمه[5].
ونشير في هذا السياق إلى أن من أهم أثار التقوى التي يستفيدها المسلم من الصيام:
أ. قوة المراقبة: ذلك أن مراقبة الضمير الحي تمنع المؤمن من الوقوع في المعصية. وإذا رجعنا إلى الآية (183) من سورة البقرة التي ختمت النداء بقوله لعلكم تتقون لوجدنا أن الصوم يربي في المؤمن مراقبة الله وخشيته، فلا يمتنع عن شهواته ويقاومها إلا لأنه يراقب ربه ويخشاه، وهو يمكنه أن يأكل ويشرب حيث لا يراه أحد، ولكنه يعلم أن الله يراه فيذعن لأمره، ويكف من أجله عن سيئاته. فالصوم يظهر فيه أثر شدة وقوة مراقبة لدى العبد المسلم الذي يعلم أن الله لا تخفى عليه خافيه[6].
ب. السيطرة على الجانب المادي وتغليب الجانب الروحي: من آثار تقوى الله تقوية جانب الروح في المسلم ليسيطر على الجانب المادي فيه، حيث إن الجانب المادي إذا تغلب فإن الإنسان يصير كالحيوانات، وما الإنسان إلا بالروح، فإذا قوي فإنه يصبح سامي الرغبات والصوم هو الذي يساعد على ذلك؛ لأنه يضعف الشهوات المادية. وفي هذا الصدد يقول الإمام الغزالي: المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله وهو الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فهم منزهون عن الشهوات والإنسان فوق البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته[7].
ج. اكتساب الفضائل ومحاربة الرذائل: حيث إن الصيام بمثابة مدرسة يقضي فيها الصائم وقتًا من الزمن غير قليل يطبق فيه منهجه عمليًّا. وبما أن المسلم عاش مع الصيام فكرًا وعملًا، وهذا يكسبه حب الفضائل والحرص على اكتسابها والعمل بها، فالصوم مدرسة يتدرب فيها كل مسلم فيقوم بعمل يصلح النفوس ويسمو بها، ويدفع إلى اكتساب المحامد والبعد عن المفاسد[8].
د. تطهير النفس من المعاصي والذنوب: ذلك أن تزكية النفوس وتطهيرها مسؤولية مباشرة على كل مسلم، ومن أفضل الوسائل التي تساعد المسلم على التقوى، أن الصوم حصانة للجسد بالتهذيب والإصلاح والتوجيه والتقويم، وحصانة للروح بإبراز خصائصها وانتصار فضائلها، إذ الحياة لا بدّ فيها من عزيمة صادقة تنتصر على غوائل الهوى، وتحفظ النفس من الوقوع في الإثم وترد هواجس الشر وتتغلب على الهوى[9].
ه. تنقية الروح من الشوائب: للصيام أثر واضح في تنقية الروح من الشوائب، وذلك أن امتلاء المعدة بالطعام وانبعاث النفس مع الشهوة يوقف الروح، ويغمس أنوارها ويحجب أشواقها ويجعلها معتمة، ولا تشرق فيها المعاني السامية ولا تموج بها الأشواق الرفيعة، ومن قديم كانت البطنة أداة ووسيلة قعود وركود عن إدراك المعاني السامية، بل حجابًا يحول بين الفكر المشرق الوضئ[10].
ومن هنا نجد أن الصوم تطهير للنفس ورحمة وبركة يتطهر الصائم بصيامه حسيًّا ومعنويًّا، لأن في جوع الجسم صفاء القلب وإذكاء القريحة وإنفاذ للبصيرة.
الآثار التربوية للصوم
- طهارة الجوارح: من الآثار التربوية للصوم هو تطهير الجوارح من أعمال السوء، وهذا الأثر امتداد لنقاء روحه من الشوائب والمكدرات الحسية والمعنوية التي تصيبه في حياته. ومن هنا فإن في صيام رمضان طهارة للمسلم من أمثال تلك السلبيات، لأن في الصيام تربية روحية لبناء شخصية المسلم على كيفية مواجهة مواقف صعبة فيها سب الآخرين له أو شتمه فيتعلم كيف يرد على ذلك بالهدوء والثبات الانفعالي[11].
- تقوية الإرادة وشحذ الهمة: الصوم عبادة روحية تهذب الروح والوجدان، هذه العبادة يتعرض فيها البدن لألم الجوع والحرمان من الملذات البدنية. ولا شك أن الصيام وهو بهذه الحالة سيترك آثارًا تربوية على المسلم، ومنها تقوية إرادته وشحذ همته إلى معالي الأمور، وتحفيزه إلى السبق في مواسم الخير، فالصوم يمنح المسلم القوة في حياته التي يستعين بها بعون من الله على التحكم في إرادته. فالصوم يقوي الإرادة ويشحذ العزيمة ويعلم الصبر ويساعد على صفاء الذهن وإنفاذ الفكر وإلهام الآراء الثاقبة، وعندما يمتلك الفرد قوة الإرادة يستطيع أن يتغلب على الصعاب والمشاق والمواقف الصعبة التي تواجهه في حياته[12].
- التحكم في النفس وهواها: إن المسلم إذا تمكن من تهذيب نفسه يسر له ذلك أن يتحكم في مطالبها فلا يعطيها إلا ما كان نافعًا غير ضار، لأن طبيعة النفس البشرية ميّالة إلى الشر والفتنة. فالمسلم يستفيد من هذا الأثر التربوي من صيامه لأن الصيام يحمل الإنسان على ترك مألوفه وشهواته عن طواعية واختيار[13].
- التغلب على السلبيات: لعل من أبرز الآثار التربوية للصوم هو التغلب على السلبيات السلوكية وغيرها، سواء مع نفسه أو لدى الآخرين، ذلك أن تقوية الإرادة في النفوس ليست بالأمر الهين، فالصوم يدرب الإنسان على القضاء على السلبيات السلوكية في حياته، بما يمده من طاقة إيجابية فعّالة في تحويل الأمور السلبية إلى أمور إيجابية، ومن هنا يصبح الفرد نافعًا لمجتمعه، حريصًا أن يكون مواطنًا صالحًا. والصوم يربي ذلك في الشخصية المسلمة[14].
- الارتقاء بالمسلم إلى مكارم الأخلاق: الصوم يدفع المسلم إلى مكارم الأخلاق، فهو ينظم حياته ويربيها ويقويها ويصل بها في التربية إلى أعلى مستوى، وهذا الأثر التربوي من أدق الآثار التربوية وأهمها في حياة المسلم الخاصة، ذلك أن الصائم هو الذي يختار لنفسه ما يقدر عليه، كما أن الصيام عبادة سرية فليس يعلم حقيقة الصائم إلا الله، فهو عبادة بين العبد وربه، تعتمد على المراقبة والخشية من الله. فالصائم يضحي بطعامه وشرابه وشهواته محتسبًا لا يرجو إلا ثواب الله[15].
- مجاهدة النفس وإجبارها على سلوك منهج الله: إن للصيام دور محوري في مجاهدة النفس وإجبارها على الالتزام بمنهج الله. إن المجاهد من جاهد هوى نفسه وشيطانه ودنياه. ومن هنا فاللصيام أثر بارز على النفس وتربيتها على سلوك منهج الله إذ فيه صفاء النفس والخلق الكريم، وبه الطاعة والقرب من الله. فبالصوم يملك الإنسان زمام غضبه، ويكبح جماح شهوته، إنه تدريب على الهيمنة على النفس. وضبط زمامها وكفها عن أهوائها ونزواتها، وبذل جهده على إجبارها وتعويدها سلوك منهج الله في كل شؤونها. وهذا يتطلب من الإنسان جهاد متواصل ليلًا ونهارًا، فالجهاد الأكبر هو جهاد الشرور المنبعثة من النفس. ولذا الصيام من أنجح الوسائل في هذا المجال إذ هو يساعد المسلم ويدفعه إلى مجاهدة النفس وإجبارها على سلوك منهج الله[16].
شعور النفس بالتفوق
القيام الحقيقي بالتكاليف والواجبات الإسلامية يقتضي دومًا وفي كل حين أن تستشعر النفس فضلها وقيمتها، فحب الله لا ينحصر في العبادات فقط بقدر ما يتمثل في الأبعاد العملية والتعبدية للإيمان، لأن هذا وثيق الصلة بالمجاهدة والصيام معًا، فالذي يصوم يجب ألا يلتفت إلى عناء وتعب جسمه وخلو معدته من الأكل والشراب، بل ينظر إلى أنه يمثل بعض مظاهر التقرب إلى الله[17].
دور الصيام في تكوين الشخصية المسلمة
يعد الصيام شعيرة من الشعائر الإسلامية العظيمة، وعبادة من العبادات التي لها أكبر الأثر في تشكيل شخصية الإنسان المسلم، سواء من الناحية الخلقية أو الروحية أو الاجتماعية، ذلك لأن شهر رمضان موسم عظيم من مواسم الخير، تصفو فيه النفوس، وتقترب القلوب من خالقها سبحانه وتعالى. ومن هنا فإن للصوم فوائد جمة ومتنوعة من الناحية الاجتماعية والفردية؛ فمن الناحية الفردية يتجلى ذلك من خلال العطف على المساكين؛ لأن الصائم عندما يعضه الجوع يتذكر من هذا حاله في عموم الأوقات فيحمله هذا على رحمة المساكين، لأن الرحمة في الإنسان تنشأ عن الألم، والصيام طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ومتى تحققت رحمة الغني للفقير الجائع أصبحت للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ.
الآثار النفسية للصوم وأثرها في شخصية المسلم
إن المتأمل في فلسفة الصيام وغايته يجد أن عملية الصيام لا تعدو كونها عملية تربوية تتم فيها تربية النفس وتهذيبها والارتقاء بها، وهذا يعين الإنسان على تجنب المعاصي وارتكاب الذنوب. ويعمل الصيام على تطهير النفس الإنسانية وتزكيتها فيكون الصيام بذلك دافعًا على مقاومة النفس ودفع أهوائها. ولعل من أهم التأثيرات النفسية للصيام، الثبات النفسي، حيث ينمّي الصوم الثبات النفسي للإنسان ويدربه على الصبر، لأن الصبر على الشدائد قوة معنوية من أقوى الأسلحة التي تتسامح بها الأمم[18].
الآثار الاجتماعية للصوم وأثرها في الشخصية المسلمة.
- الالتقاء بالجماعات: يساعد الصيام على التقاء الصائم بالجماعات التي تتقارب أفكارهم مع أفكاره، وذلك خلال صلاة التراويح التي يؤديها في ليالي رمضان واللقاءات مع الآخرين في الندوات والمحاضرات الدينية.
- التفاعل الاجتماعي: يساعد الصوم على زيادة التفاعل الاجتماعي إذ يكون هناك تبادل في الزيارات وأنواع الطعام بين الأصدقاء والأقارب والجيران، ويؤدي هذا إلى تقارب الروابط الاجتماعية.
- تنمية روابط الألفة بين أفراد المجتمع: يساعد الصوم على تنمية روابط الألفة والمسارعة إلى الإحسان والتسابق في الخيرات، فالصائم حين يكف نفسه من ضروريات الحياة، يدرك ما يعانيه الفقير المحروم من الجوع والحرمان وما يشعر به من البؤس والعوز، فترقى نفسه وتفيض بالعطف والحنان[19].
- مظهر عملي للمساواة الكاملة: إن الصيام يشترك فيه الغني والفقير على حد سواء في الإحساس بالجوع طيلة فترة الصيام بشكل متساو، وهو بذلك مظهر عملي للمساواة الكاملة، فمن أسرار الصيام الاجتماعية أنه تفكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، فلا غرو أن جعل الله من الصوم مظهرًا للاشتراكية الصحيحة والمساواة الكاملة، وجعل الجوع ضريبة إجبارية يدفعها الموسر والمعسر.
- إشاعة الأجواء المعنوية وتقلص الجرائم الاجتماعية: إن الصوم يعزّز التقوى والورع في نفس الإنسان المسلم مما يجعله يراقب الله في كل تصرفاته وأفعاله، ويتحكم من خلال الصوم في غريزتي الغضب والشهوة، ويتعلم من خلال الصوم التحكم فيهما، مما يسبب تقلص الجرائم الاجتماعية في المجتمع، فيعيش المجتمع في أمن وسلام واستقرار[20].
- إشاعة روح المحبة والإخاء وروح التعاون في المجتمع: إن ذلك الجو الإيماني الذي يعيشه الصائمون من شأنه أن يوثق العلاقات بين قلوبهم ويشيع فيهم المحبة والإخاء وروح التعاون، إذ إن المؤمن يصوم مع إخوانه في جو جماعي متآلف، فالجميع يصومون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ويستشعر كل فرد في المجتمع ما يستشعره الآخر من الناحية الوجدانية، لأن الصائم يرتاح نفسيًّا إلى من هو في مثل حاله، وينجذب إليه بالعطف والمودة لاتحاد غايتهما ووحدة هدفهما في ابتغاء مرضات الله وغفرانه. فترى الصائمين في هذا الشهر متعاطفين متحابين، يقصدون المساجد للصلاة وذكر الله وقراءة القرآن، وهم غالبًّا يتزاورون ويتسامرون بعد صلاة العشاء والتراويح جماعة، وهم بذلك يتفقدون من تخلف منهم عن حضور الجماعة[21].
الآثار الصحية للصوم وأثرها في الشخصية المسلمة
يعتبر الصوم فريضة يؤديها الإنسان تقرّبًا لله مثل الصلاة، وعلى الرغم من ذلك فإن لها منافع عديدة تعود على الفرد الصائم نفسه والمجتمع الإسلامي، منها الفوائد الصحية، حيث ورد عن رسول الله (ص) قوله: (صوموا تصحوا). ويرى علماء الطب والصحة أن للصوم فوائد متعددة ومتنوعة خاصة ما يتعلق بالحالة النفسية للصائم وانعكاساته على صحته، حيث إن الصوم يساهم مساهمة فعّالة في علاج الاضطرابات النفسية والعاطفية.كما يساهم الصوم في علاج الكثير من أمراض الجسم كأمراض الجهاز الهضمي، مثل التهاب المعدة الحاد، وتهيج القولون، وأمراض الكبد وسوء الهضم وارتفاع ضغط الدم. ومن هنا كتب الطبيب السويسري بارسيلوس أن فائدة الجوع في العلاج قد تفوق بمرات استخدام الأدوية. وبشكل عام فإن الصوم يساهم في هدم الأنسجة المتداعية وقت الجوع، ثم إعادة ترميمها من جديد عند تناول الطعام، وهذا هو السبب الذي دعا بعض العلماء أن يعتبروا أن للصوم تأثيرًا معيدًا للشباب[22].
الصيام وسيلة فعالة للمحافظة على صحة الجسم وحيويته
تتمثل أبرز الأسباب التي تجعل من الصيام وسيلة فاعلة للمحافظة على صحة الجسم وحيويته ما يلي: أن الصيام في الإسلام يعمل على إراحة أجهزة الجسم خاصة الجهاز العصبي والجهاز الهضمي بعد فترات طويلة مما يعمل على تقويتها وزيادة كفاءتها،كما إنه يعمل على إعادة عمليات الأيض إلى وضعها ومساراتها الطبيعية.كما يعمل الصيام على تقليل وزن الجسم دون إحداث أية آثار أو أضرار جانبية نتيجة للصوم.
أيضًا يعمل الصوم على تنمية الشخصية الإسلامية، لأنه يعد مدرسة عظيمة تربي الإنسان بكل مكوناته ومقوماته النفسية والجسمية والروحية والخلقية والاجتماعية. فالصوم من أهم العوامل والمؤثرات التي يرتبط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته فيندم على ما ارتكبه من المخلفات والآثام. لذا يعد الصوم من أهم الأسباب في تكوين تلك الشخصية المسلمة بما يزرعه من دوافع كبيرة تجعل الإنسان يشعر بإنسانيته. كما يشعر بتفوقه النفسي على سائر المخلوقات. من هنا يعد الصوم مدرسة روحية عظيمة تعمل على تنمية ملكات وقدرات الإنسان في اتجاه بناء شخصية الفرد والمجتمع الإنساني.
الخاتمة
مما سبق رأينا كيف يعد الصوم شعيرة عظيمة ومهمة في تكوين الشخصية المسلمة والارتقاء بها في سلم الكمالات،كما أن الصوم يمثل مدرسة تهذيبية تهذب النفس وترقي الروح. فالصوم إحساس ومشاعر تجمع جميع الصائمين في وحدة واحدة تجمع بينهم أواصر الألفة والنظام، يفطرون في وقت واحد ويمسكون في وقت واحد، وهذا يعلمهم النظام. كما أن الصوم يزرع ويغرس في النفس البشرية الصبر وتحمّل الألم والمشاق، ويعلّمنا كيف ننتصر على شهوات النفس والشهوات الجسمانية مما يدرّب الإنسان على تحمل الصعاب ومواجهة الشدائد في حياته، وكل هذا يغرسه الصوم في شخصية المسلم.
[1] صحيح مسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث 1151.
[2] صحيح البخاري، كتاب الصيام، الجزء4، الصفحة 99.
[3] محمد محمود عمير، العبادات وأثرها في التربية والتهذيب، (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1409)، الصفحة 14.
[4] عبد الحميد بوزوينة، الصيام قيمته التربوية ورسالته الحضارية، (بيروت: مؤسسة الريان)، الصفحة 25.
[5] الصيام قيمته التربوية ورسالته الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 34.
[6] عبد الفتاح القاضي، الصيام فضائله وأحكامه، (القاهرة: دار التراث، د.ت)، الصفحة 45.
[7] الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء1، الصفحة 232.
[8] عبد بن محمد الطيار، الصيام، (الرياض: مطابع جامعة الإمام سعود)، الصفحة 141.
[9] سعد المرصفي، نفحات رمضان وأثرها في تكوين الشخصية الإسلامية، (بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة 1،1405)، الصفحة 286.
[10] توفيق محمد سبع، هكذا نصوم، (الرياض: دار أمية للنشر والتوزيع، الطبعة 2، 1403ه)، الصفحة 67.
[11] صالح الشهري، دروس تربوية رمضانية، مقال في مجلة الثقافة الإسلامية، السنة 47، الصفحة 112.
[12] محمد أحمد الطيار، الصوم، مصدر سابق، الصفحة 56.
[13] محمد بن سليمان الدهامي، تذكرة الإيمان في ليالي رمضان، (الطائف: المطبعة الأهلية للأوفست)، الصفحة 37.
[14] دروس تربوية رمضانية، مصدر سابق، الصفحة 87.
[15]محمد نبيل غنايم، العبادات في الإسلام، (الزرقاء- الأردن: مكتبة المنار)، الصفحة 183.
[16]عبد اللطيف مشتهري، مدرسة الصوم، (القاهرة: دار الاعتصام)، الصفحة 3.
[17] الصيام وقيمته التربوية ورسالته الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 43.
[18] محمود فتوح سعدات، دور الصيام في تكوين شخصية الإنسان المسلم في ضوء الكتاب والسنة، الصفحة 65.
[19] دور الصيام في تكوين شخصية الإنسان المسلم في ضوء الكتاب والسنة، مصدر سابق، الصفحة 67.
[20] المصدر نفسه، الصفحة 70.
[21] الصيام وقيمته التربوية ورسالته الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 123.
[22] -عبد اللطيف مشتهري: مدرسة الصوم،ص5.
المقالات المرتبطة
إيقاعٌ بعدَ هُدوء
يجدر بنا توضيح الأسلوب الفني في قراءة هذا المقال بالنسبة للقارئ الكريم، أنَّ (الفعل بصيغة الجمع)، و(ناء الدالة على الفاعلين) يرجع “لكاتبة المقال”
دور المرأة في حفظ الأمن المجتمعي
من أبرز التحدّيات وأخطرها والتي تواجه أمننا الاجتماعي في هذا العصر هو التحدي الإعلامي، وعلى رأسه الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
الفكر العربي الحديث والمعاصر | النّصّ وجدلية التفسير والتأويل عند أبو زيد
ينفتح النّصّ دائمًا على العديد من التأويلات، وكلّها مشروعة بدءًا بتأويلات المعتزلة وانتهاءً بتأويلات “ابن عربي”، وعلى هذا الأساس انحاز