تطابق الفلسفات، وطرق التفكير – خاص بالتربية والتعليم
المقدّمة
تدهور الوعي والتربية والتعليم، وتعليق الفشل على شمّاعة الدين والمتديّنين هو قول سائد يطلقه كثير من الناس حتّى من يحبّ التوجّه الدينيّ من باب الحرص وليس الإساءة بحسب تصوّره، وكذلك هناك دعوى متداولة بكثرة أنّنا لو تركنا الدين لتطوّرنا كما في الغرب، أو لو أنّ الدين لا يتدخّل بالسياسة لاستقامت أمورنا.
من ابتغى الحقيقة وصل إليها، ومن تعدّاها، وعمل ضمن العبارات السابقة، فهو لا يخرج عن اثنتين، إمّا
مجرّد مردّد لكلمات الآخرين، أو مغرض هدفه التشويه فقط.
وهنا أنطلق في بيان أصل الموضوع وجذوره لحلّ الإشكاليّات، وتوضيح الصورة، وكلّ هذا يتوقّف على تصوير المشكلة الّتي تتلخّص في الآتي:
ما هو السبب في فشل دول المسلمين حكومات وشعوبًا، والمفروض أنّها تنادي بقيم السماء والتي من أهمّ شعاراتها الحثّ على التعليم، والعلم؟
أمر مهمّ يستحقّ العناية، والالتفات وهو أنّه لا بدّ من الفصل، أو التمييز بين التربية والتعليم في الفلسفة المدرسيّة ككلّ له أجزاء في مجتمعنا المتديّن، وجعل فلسفة خاصّة لكلّ منهما لتخصيص فلسفة للتربية، وفلسفة للتعليم، ومن مجموع الفلسفتين تتشكّل عندنا فلسفة معاصرة نطلق عليها فلسفة التربية والتعليم، أو الفلسفة المدرسيّة.
ولا بدّ من جعل هذا التمييز هدفًا من الضروريّ السعي إليه من قبل المؤسسات التي تعنى بتحقيق الفلسفة المدرسيّة المعنيّة الخاصّة بنا، وذلك ضمن حدود الواجب الملقى على عاتقنا.
ولئلا أسبق الأحداث أضع هنا نقطة يتّضح محتواها تباعًا بعد الاطّلاع على جميع مفاصل هذا المقال، والنقطة هي أنّ إطلاقي لفظ الفلسفة هنا أريد به مرادًا غير الذي يُتَدَاوَلُ بين الأوساط التي تُعنى بالنتاجات الثقافيّة المهتمّة بطرح الأفكار.
دأب الكُتَّاب والمؤلّفون على تداول لفظ “فلسفة” في مجالات مختلفة، إلّا أنّ استخدام هذا اللفظ دون التعيين يفقده قيمته وطعمه، إذ أنّ جمالية الألفاظ لها أثر في الاندفاع نحو القراءة، كذلك السعي لتحقيق الدقّة أمر مطلوب، أمّا العشوائيّة والتماشي مع المشهور فهو أمر سيأخذ بنا إلى حال من اللامبالاة، ومع التراكم ستتحوّل الحال إلى ظاهرة، والواقع دليل معي على ما سأذهب إليه.
التربية معناها النشوء، وكلمة نشأ نشأة أي تربّى تربية، أو ترعرع، فمن المتناول بشكل تامّ لمعنى التربية والتعليم، إذ أنّنا نقول نشأ نشأة سليمة؛ أي تربّى تربية صحيحة سواء كانت علميّة، أو عمليّة.
وبتعبيري التربية عمليّة تكوين الإطار الذي يضمّ الشخص، أو المجتمع فتتشكّل صورته السلوكيّة، فإن كانت علميّة سنقول هذا مجتمع علميّ، أو عمليّة فكذلك سنقول هذا مجتمع علمي، أو قد يجتمع الوصفان.
…. هناك لفظان يستخدمان دائمًا في غير محلّهما، آليت، وأصررت على استخدامهما في غير ما هو متداول عند المشهور، بل أعود بهما إلى أصلهما فيما يخص مقالي هذا. واللفظان هما:
إذا كان البحث منصبًّا على فلسفة الوجود، أو الموجود بما هو موجود، وبعبارة أخرى الموجود دون صفاته المشخّصة له، والتي تأخذه نحو الجزئيّات، فهو بحث ذو موضوع حقيقيّ، وهو الوجود، وقواعده عقليّة متخصّصة لا تختلف ولا تتخلّف، وهذا هو القسم الأوّل من علم الفلسفة، ويُضاف طابع وصفيّ آخر كقراءة الظواهر، وعلاقة المكوّنات، وقراءة وتفسير تلك العلاقات هو علم الفيزياء، ثمّ مثيله علم الفلك، وهناك علم الطبّ والدّواء …، وهذه العلوم هي علوم حقيقيّة، وإن كانت خاضعة للتجربة، فإنّ هذا الخضوع لا يشكّل مانعًا من الحصول على نتائج ولو آنيّة، فالتجربة كفيلة بإعطاء نتائج نافعة، فلا مانع من تسمية هذه العلوم بكلّ صنف من أصنافها بــ “العلم” وهذا هو القسم الثاني.
هناك أمور وضعيّة محدّدة بقوالب تمثّل قواعد تطبيقيّة تختلف وتتخلّف، تلك التي يطلق عليها “فلسفات” أو “علوم” في عصرنا هذا، وبما أنَها قواعد تطبيقيّة، ونتاج فكريّ فرديّ، أو نتاج جماعيّ خاصّ وهذا النتاج يختلف ويتخلّف، بذلك يتشكّل القسم الثالث، ولكنّنا لا نستطيع أن نطلق على أفراده، ومكوّناته لفظ “علم، فلسفة” ولكن يمكن التعبير عنها بالأفكار، أو طرق التفكير، أو النتاج الفكريّ.
وفي الحقيقة يكون إطلاق فلسفة بمعنى العلم على القسم الثالث إطلاقًا جزافيًّا، لأنّه دون واقع فعليّ، بل حقيقة إنّه أمر افتعالي.
أنوِّه إلى المعنيّ هنا في هذا المقال مسألة تطابق الرؤى، وطرق التفكير، والإدارة بين المجتمع، وسياسة الدّولة، وطرق التدريس:
- طريقة إدارة فكر وأخلاقيّات المجتمع.
- طريقة إدارة فكر الدولة (سياسة).
- طرق التعامل مع الوقائع، والأحداث (الإعلام).
- تعامل سياسة الدولة مع شريحة التعليم (التربية والتعليم).
إنّ بعض ما يطلق عليه فلسفة كما يعني اللفظ أساسًا ليست كذلك، بل هي كلمة مترشّحة منذ عهد الروم، واستمرّت هكذا حتّى عصرنا هذا، ويعبّر عنها بالفلسفة (ديكارت، هيجل، نيتشه…)، وأطلقوا على طرق وآراء الباحثين عبارات (الفلسفة المادية، ظاهراتيّة، ماركسيّة، ما بعد الحداثة، مثاليّة،…).
كانت كلّ العلوم الطبيعيّة والحقيقيّة والقواعد التطبيقيّة التي أشرت إليها تُبحث من قِبَل العلماء الذين كانوا يُسمّون فلاسفة، وأمّا التخصّص فقد بدأ يظهر في وقت متأخّر من القرن التاسع عشر، وقد انتهى في القرن العشرين تقريبًا، ولو راجعنا المخطوطات والطبعات الحجرية ومن ثم النسخ المحققة من مؤلّفات الفلاسفة القدماء لوجدنا ما أشرتُ إليه.
نحن كمسلمين لنا منظومتنا الفلسفيّة الخاصّة بنا كمجتمع له خواصّه، هذه المنظومة محكومة بالاعتقاد بوجود خالق الكون، وقد وضع قانونًا محكمًا نسمّيه الدين نستفيد منه في إدارة شؤوننا في:
- (فلسفة) سياسة الدولة مجموعة أفكار وقواعد وطرق إدارة الدولة.
- (فلسفة) مجتمع الدولة مجموعة أفكار وقواعد وطرق إدارة المجتمع.
- (فلسفة التربية والتعليم) طرق التدريس المحكومة بــ(1 و2) أعلاه.
مرتبة العقل كما ورد في مصادرنا هي غير ما يباح استخدامه فيه كما هو معروف الآن، وهذا الاستخدام هو ما يوازي الذهن، والأخير يتقبّل الإخفاق (الغلط، الخطأ)، بينما يستحيل هذا على العقل لأنّه العقل!! هو العقل!!!!
دولنا نحن العالم الإسلاميّ محكومة ومتأثّرة بما ينتج الذهنان النظريّ والعمليّ لتلكما الفلسفتين كما يطلق عليهما، أمّا طريقة إدارة الدولة سياسيًّا فيأتي وفق أيّ توجّه فكريّ وتطبيقيّ، وكذلك فإنّ طريقة حياة المجتمع المنتمي لتلك الدولة المحكومة، يحكمه التوجّه الفكريّ والتطبيقيّ، كذلك تتأثّر المؤسّسات العلميّة والتعليميّة بأجواء البيئة الحاضنة.
تمّ استخدام لفظ الذهن لكون مرتبة العقل أعلى وأسمى وجودًا، وكيف لا وهو أوّل ما خلق الله تعالى، وأوّل مخاطَبٍ بأمر، وأوّل ممتثل، غير أنّ تصرّفات النفس من فعل وفكر تشوبها درنات عالم المادّة، فانتبه.
هناك دول تتطابق فيها طريقة إدارة الحياة العلميّة، وطريقة إدارة الحياة المجتمعيّة، بالإضافة إلى طريقة إدارة الحياة السياسيّة الدينيّة، أو الإلحاديّة، أو اللاأباليّة، وعند التطابق بين الطرق يتحرّك المجموع -لا الجميع -للتطبيق فينجح كلٌّ من الدولة والمجتمع في بناء وجودهم من الحيثية الماديّة، أو المعنويّة، أو من الحيثيّتين معًا لكنّ الأخير قد يكون صعبًا في الوقت المعاصر.
وأمّا صورة غياب التطابق خاصّة إذا كانت طريقة إدارة المجتمع إسلاميّة، وفلسفة السياسة معاكسة أضِف إلى ذلك تدخّل الشيطنة الأمريكيّة لفرض طريقة إدارة التربية وقلبها، وكلّ ذلك بهدف تدمير المجتمع، عندئذٍ سيحصل الهدم علميًّا، وعمليًّا، وأوّل ما يجهزون عليه هو المنظومة الأخلاقيّة، وتتبعها العلميّة، فينسب الفشل للمتديّنين باعتبارهم مشاغبون، ويضعون العصيَّ في عجلات التطوّر، والواقع المعاصر المعاش خير دليل.
- السلب في جانب المجتمع
فلسفة الدولة (الحاكم) لا تطابق فلسفة المجتمع كما كان حكم الأنبياء والمرسلون لمناطق نفوذهم، وانتهى آداؤهم بنجاح تامّ، ولا تقل لي هناك إخفاقات لأنّ القابل لم يؤهّل ذاته لاستقبال تلك الفيوضات، ومن بعدهم أوصياؤهم. والمهمّ أنّ الصالحين المصلحين المعصومين في وادٍ، والمجتمع في وادٍ آخر، فانتهى الأمر إلى أن رفع الله تعالى حجّته وادّخره ليوم هو يعلمه.
- الإيجاب في جانب المجتمع
الدولة يقودها مجموعة خونة، ومخرّبين، ولصوص، والمجتمع صالح يريد التطوّر، ويسعى لتبنّي طريقة إدارة تربية هادفة لكنّه يخفق بسبب سياسة الحكم والسلطة المجرمة.
- السلب في الجانبين
الدول جائرة خائنة، ومجتمعها متخلّف جائر على نفسه.
- التوافق بين الاثنين الدولة والمجتمع:
أ. في الاتجاه الماديّ فقط كما عليه الدول الغربيّة.
ب. في الاتّجاهين الماديّ، والمعنويّ، تلك هي دولة الإنسان المتكامل الذي بناه الإنسان الكامل (المعصوم عليه الصلاة والسلام)، دولة المعصوم التي تحكم المجتمع المستعصم.
ولا يتحقّق النّوع (ب) والذي هو دولة المعصوم (ع) إلّا بعد أن يصل ذوو الشأن إلى نتيجة محسومة وهي؛ “إلّا بحلول المعصوم”.
أمّا تصنيف الدول والمجتمعات فسوف أتركه لأنّ الحاكم الغالب هو الأهواء، وبالتأكيد لسنا مؤهّلين للتصنيف، فلسنا معصومين، ولا في دولة مستعصمين.
والدولة المنشودة تتحقّق بطلب وتوجّه من مجتمعها، ولقد كان الله تعالى قادرًا على أن يسلّم حكم الأرض لأوّل نبيّ، وينتهي الأمر. لهذا فإنّ الأمر الذي دعاني لتحرير هذا الموضوع مسألة: توجيه الذهنين النظريّ، والعمليّ في إدارة منظومات الدولة والمجتمع والتربية والتعليم.
ملاحظات تنوير
- بدأتُ الآن الترويج في قاموسي إلى أنّ مصطلح فلسفة إنّما هو مصطلح خاصّ بالوجود، والباقي يتمثّل في مصطلح علم، أو مصطلح طرق تفكير، أو قواعد تفكير، أو تحليل كما في فلسفة التاريخ، وما شابه ذلك من مصطلحات.
- تدمير بنية بلداننا بتسخير عدم التوافق، والتطابق الذي سبّبه المنحرفون، والخونة، وذوو الملذّات.
- يقولون إنّ البلدان التي أقصت الدين، أو وضعته جانبًا قد تطوّرت، أمّا التي لم تتحرّر من الدين فكان نصيبها الفشل وكأنّ الدين هو سبب فشل هذه البلدان، إلّا أنّ الحقيقة أنّ تجييشكم الشيطنة هي سبب الإخفاق، وخير دليل دولة الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة وتطوّرها.
- مما يحزّ في النفس مصطلح مجموعة (خمسة زائد واحد)، فواقعه مصطلح خبيث، ومن جهتي أقول مجموعة (واحد زائد خمسة)، ولتكن مجموعة الست لأنّ الدولة (الواحد) لا يريدون وضعها في مصافّهم بالرغم من وجودها رغمًا عن آنافهم، وهو واقع مفروغ منه، إلّا أنّ الظرف اقتضى ذلك.
- مصطلح (دول العالم الثالث)، هو مصطلح ظالم لا قيمة له؛ لأنّه قائم على التفرقة العنصريّة، والإرهابيّة، والحقّ أنّني أدعو إلى فرض خروج الجمهوريّة الإسلاميّة من هذا المصطلح، وأن تتبنّى من خلال العلاقات الدوليّة فرض وجودها أنّها ليست من بين دول العالم الثالث.
- من الضروريَ أن نفرض إدارة تفكير، أو كما يسمونها فلسفة “إعرف عدوّك”، وأن يأخذ هذا الأمر دوره الجادّ في هذا الاتّجاه.
المقالات المرتبطة
القضية في سياقها الجيوسياسي الجديد
في قراءة حول الحداثة والتحديث وسيرورتها في العالم الغربي، ونفوذها إلى عالمنا العربي، وارتباطاتها الفكرية والثقافية والجيوسياسية
جدل الداخل والخارج في تحديات الثورة الإسلامية
حرب هجينة ومثقفون مهجنون لم يعد سرًّا أو مستغربًا، أو اعتباره من أحاديث نظرية المؤامرة (المظلومة)، القول بأن الحصار الاقتصادي
هجرة حسينيّة من أجل تعاليم النبيّ (ص)
إن هجرة الإمام الحسين عليه السلام، إنما كانت بقصد حفظ دين الله سبحانه ورسالة رسوله نبي الرحمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.