العبادة مراتبها ومنتهاها

العبادة مراتبها ومنتهاها

العبادة قصد القرب الإلهي. والإخلاص في النية أن لا يُراد على القصد عوضًا في الدارين ﴿إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏﴾[1]. أما التقوى، فحفظ النفس عن الآثام. فالعبادة فعل، مِلاك حسنه خُلوص النية ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ﴾[2]، وجوهر عرضه التقوى ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[3].

العبادة ضرورة أخلاقية

قد ثبت في محله أن الكمال حسن بذاته والنقص قبيح بذاته. فالعلم والقدرة والحياة، أحسن من الجهل والعجز والممات. كما أن الإنسان بفطرته ينفر من النقص ويُريد الكمال. فهو يحب الكمال ويميل إليه حيثما شخّصه. وقد ثبت في محله أن واجب الوجود فاقد لكل نقص وواجد لكل كمال. ولأنّ مِلاك حب أي شيء هو الكمال الذي فيه، فكيف لا يكون الحب الإلهي أشدُّ حبًّا ممكنًا، والذات الإلهية كمال مطلق ووجود صرف. نضم إلى هذه المقدمة أن الإنسان مفطور على حب ذاته. نظرًا لما تقدم نحكم عقلًا بوجوب أن يكون هدف الإنسان وغايته، التقرب إلى ربه -أي حبيبه المطلق- يقول آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (قدس سره) في إحدى محاضراته القيّمة: “إن أعظم عامل يمكن أن يكون دافعًا للإنسان لكي يتقرب من الله هو المحبة”. من هنا نلاحظ دقة وعمق ألفاظ الإمام علي (ع) في دعاء كميل، في قوله: “يا غاية آمال العارفين”، فمن عرفه سبحانه جعله غايته ومنتهاه. نشير هنا إلى أن معنى كون اللهِ غاية لأحدٍ ما، هو أن يكون مقصوده القرب والدنو منه سبحانه. لذا فالفعل الاختياري يكون حسنًا إذا كان تابعًا ونابعًا من إرادة القرب الإلهي. إذًا فمِلاك انبغاء الفعل الاختياري وكونه أخلاقيًّا، هو كونه مقرِّبًا إلى الكامل والبهي المطلق سبحانه. فيتحصل مما ذُكر، أن العِبادة -ذلك الفعل الواجب أخلاقيًّا- هو قصد القرب الإلهي. تجدر الإشارة هنا، ونظرًا إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت خلق الإنسان مخيّرًا ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾[4]، وبالالتفات إلى أن القرب الإلهي حسن، وأن الله تعالى كتب على نفسه أن يفعل ما يُسانخ ذاته -أي ما هو حسن-، وكما عبّر عن هذا المضمون في كتابه العزيز ﴿كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾[5]، نستنتج أن الله عز وجل يريد ويرضى للإنسان نيل مقام القرب باختياره. وبتبع هذه الإرادة أراد لنا شريعة نلتزم واجباتها ونجتنب محرّماتها. فيكون طلب رضاه تعالى عين طلب القرب -لأن رضاه بالقرب منه جلّ وعلا-، فتكون العبادة فعل إفناء إرادة العبد، في إرادة مولاه-أي ما يرضاه-. طبعًا يجب علينا قبل أن ننسب صفة الرضا إليه سبحانه، أن نجردها عن كل النواقص، فلا تكون نتيجة انفعال أو تأثرٍ من الغير، فالله هو المؤثر الوحيد في الوجود، وليس لأي شيء من خلقه أن يؤثر عليه. إلى هذا المعنى أشار مولانا سيد الشهداء (ع) في دعائه المعروف في يوم عرفة، في قوله: “إلهي! تقدس رضاك أن تكون له علة منك، فكيف يكون له علة مني؟”.

معنى القرب الإلهي

في عالم الملك أو النشأة المادية، إما أن يكون القرب مكانيًّا أو زمانيًّا بين شيئين -وهذا المعنى الذي تأنسه عقولنا القاصرة المحدودة-. إن القرب المكاني تعبير عن قصر المسافة بين جسمين، أما القرب الزماني فهو تعبير عن قصر الفاصلة الزمانية بين حادثتين. فهل القرب الإلهي من سنخ الأول أي القرب المكاني، أم من سنخ الثاني أي القرب الزماني؟ كيف يكون من سنخ أحدهما والله مُحيط بكل مكان وزمان ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ﴾[6]؟  نضيف إلى أن القرب بين الجسميّات يكون من الطرفين، بحيث إنه إذا كان (أ) قريبًا من (ب)، فـ(ب) قريب من (أ)، أما القرب بيننا وبين الله فليس من هذا القبيل، فالله قريب إلينا، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾[7]، وفي قوله سبحانه: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[8]، وكذلك في قوله عز من قائل: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[9]، لكننا نحن البعيدون عنه.

في مقام الإجابة نقول؛ هنالك معنيان للقرب الإلهي، وكلاهما مقبول. المعنى الأول للقرب يتمثل بالالتفات والغفلة. فإذا زاد الإنسان التفاتًا إلى ربه -اعتُبر بلحاظ المعنى الأول- زاد قربًا، لأنه بهذا أدرك فقره وعلم أنه أحوج ما يكون إلى مولاه، وأنه لا يليق به سوى التواضع أمام المتكبر، فتنشأ عنده حالة من الاضطرار الاختياري، فكلما دعا ربه رُزق الإجابة، لقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ﴾[10]. إن الغفلة ناشئة من حُجب النور – الناتجة عن تعلقنا بغير وجهه الكريم- الواقعة بيننا وبينه سبحانه ﴿كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾[11]. من هنا نلتفت إلى أن مطلوب الإمام علي (ع) من كلماته -في المناجاة الشعبانية-،كان هو القرب الإلهي “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك”. هذا ما يتعلق بالمعنى الأول، أما المعنى الثاني فيتمثل بالكمال والنقص. مفاده أنه كلما كان الإنسان أكمل كان أقرب إلى الله عز وجل، فالله تعالى هو الكمال المطلق وهو معدن الجمال. “وعلى هذا الأساس فإن الإنسان الذي يكون متحليًا بالصفات الجمالية للذات الإلهية من العلم والحلم والعدل والعفو واللطف والرحمة والحكمة والكرم ونحوها، يكون أقرب إلى الله تعالى”[12]. يحسن الالتفات إلى أن المعنى الأول من القرب يفيد الأنس بالمحبوب، أمّا الثاني فيفيد مضاعفة الأنس به. فكل ملتفت إلى الله يأنس به بحسب حُسن الملكات الراسخة فيه. “إذًا مسألة القرب والبعد الإلهي ليست مسألة اعتبارية وإنما هي قائمة على أساس ملاكات واقعية تكوينية”[13].

ماهيّة العبادة

قد تبين مما سلف ذكره أن العبادة بالدرجة الأولى هي قصد القرب الإلهي، يتبعها بدرجة أدنى أفعال تُناسب المقصود. فبعد القصد يأتي العمل. فالعبادة بالدرجة الأولى من سنخ القصد، يتبعها بدرجة أدنى منها أفعال من سنخ الحركات الجسمية أو الفيزيائية، أي العمل. فللعبادة صورتان، ملكية وملكوتية. فماهية الصورة الملكوتية للعبادة هي النية أو القصد، أما ماهية الصورة الملكية للعبادة فهي العمل أو الحركة الجسمية. لذا فقيمة الفعل الأخلاقي مرجعها إلى النية -لا الفعل-، لأن الفعل نابع وتابع للنية “الأعمال ثمار النيات”. كما أن للنية مراتب عديدة، مرجع تمايزها إلى مُتعلّق النية -أي مطلوبها-.

مراتب الإخلاص في العبادة

لغويًّا؛ الشيء الخالص هو ما كان خاليًا من أي شوب، وللخلوص مراتب بحسب نسبة الشوب فيه. إن المعنى اللغوي للخلوص واسع وشامل. أما في الاصطلاح الشرعي فموصوف الخُلوص هو النية. فالنية الخالصة ما كانت خالية من أي شيء غير وجهه الكريم، وللخلوص مراتب بحسب نسبة قصد الأغيار فيها. أعلى وأسمى مرتبة من الإخلاص هي التي يكون إفناء العبد لإرادته في إرادة مولاه، ابتغاءً لمرضاته وقربه لا غير، أي أن قصد القرب نابع من حب الله تعالى فقط -وكما أشرنا سابقًا فللباري عز وجل إرادة تابعة ومتبوعة. أردنا هنا الإشارة إلى التابعة منها، لأننا لو أردنا المتبوعة لأغنانا هذا عن ذكر الغاية أو القصد من الإفناء-. يلي هذه المرتبة درجةٌ أدنى من الإخلاص، يكون فيها إفناء إرادة العبد في إرادة الحق تعالى والسعي لمرضاته والقرب منه، ابتغاء جنّةٍ أو فزعًا من نار – وأحدهما أشرف من الأخرى-. هذه هي الأنواع الثلاث للعبادة. فالنية تعتبر عبادة إذا قُصد فيها القرب والرضا الإلهي، وإن كان تابع لأمر آخر. فـ “العبودية في منظار التعاليم الإسلامية ليست ذات درجة واحدة بسيطة، أي ليس أن الله يقبل عبوديتنا حينما لا يكون لنا أي تصور في أعمالنا وتصرفاتنا سوى إلى الذات الإلهية المقدّسة، وإلّا فلا يكون لنا نصيب من العبودية”[14]. فلا تخرج المراتب الثلاث التي سلف ذكرها عن كونها عبادة، هذا لأن هدف العبادة وكما تقدم هو تحقيق القرب، ونظرًا لما قُدّم من معنيَيْن للقرب، الأول وهو الالتفات، والثاني وهو الكمال -المتمثل بالملكات الحسنة الراسخة في النفس-. ومن الواضح أن المعنيَيْن قد تحققا في الحالات الثلاث للعبادة. من هنا نفهم مِلاك اعتبار النية عبادة -وهي ترتّب القرب-، ومِلاك تمايز مراتب العبادة – وهي الإخلاص في النية-. وقد اختصر أمير المؤمنين (ع) هذا المضمون بتقسيمه العبادة ثلاث درجات، فقال: “إن قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار”. وكذلك قال عن نفسه (ع): “ما عبدتك خوفًا من عقابك، ولا طمعًا في ثوابك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك”.

الشوب ونتيجة الخلوص منه

إن الرياء هو طلب المحبة في قلوب الآخرين بإظهار الطاعة لله. لذا فكل فعل تشريعي يُؤتى به بقصد الرياء والسمعة، فليس من العبادة في شيء بل هو ﴿كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾[15]، لأن القرب والرضا الإلهيين لم يكونا مطلوبين للفاعل بأي شكلٍ من الأشكال، بل كان التفاته للناس -فغفل عن الله ربه-، واتّباعه للهوا -فَتَرسّخت فيه الملكات الرذيلة-. من هنا نفهم حِكمة الحديث المروي عن رسول الله (ص) القائل: “إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجًا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجل: اجعلوها في سجّين، إنّه ليس إياي أراد بها“. بعبارة أخرى فالرياء تأدية الطاعات قصدًا للدنيا. وكما هو الظاهر، فالرياء -وهو قصد الدنيا من الطاعة- يقابل عبادة التجار والعبيد -وهي قصد الآخرة من الطاعة-. فيكون الخلاص من الرياء سببًا لتولد إخلاص العوام -المتمثل بعبادة التجار والعبيد-.

من مصاديق العجب، رؤية أن للنفس استحقاق -على الله- للثواب إذا رسخّت في داخلها الملكات الحسنة، لا أن الله ونتيجة لكماله وحُسنه يفيض على كل مستعد ما هو مستعد له. ربما يُدرك العقل هذه المطالب – أي أن الرحمة والعدل واجبةٌ من الله، لا أنها واجبة على الله-، لكن القلب لم يتذوق هذه المعارف بعد. فمن لم يخلص عمله من هذه النظرة -القلبية لا العقلية، فإن كان الخلل في النظرة العقلية عن قصور، فمرجوٌ لأمر الله، أمّا إن كان عن تقصير أو جحود فذنبه على جنبه- القاصرة، سيكون أعلى مقام يمكن له أن يبلغه هو عبادة التجار. أما الخلوص من هذه النظرة -أن المثوبة واجبةٌ على الله- فيورث عبادة الأحرار، هذا لأن من يدرك هذه الحقيقة، يعلم أن الموجِبَ للمثوبة، أكمل وأبهى من نفس المثوبة. فيريد الله ذاتًا، لا أنه يريده عرضًا -أي تبعًا لإرادة الثواب. فيتمخض عن الإخلاص من العُجب، إخلاص الخواص -المتمثل بعبادة الأحرار-.

التقوى تجلٍّ للعبادة

بعد أن أصبح جليًّا، أن العبادة فعلٌ واجبٌ أو ينبغي -عقلًا- على كل إنسانٍ القيام به. يتبادر إلى الذهن السؤال التالي؛ ما هي أول خطوة عملية للسير في هذا الطريق؟ أو بعبارة أخرى ما هو أول تجلٍّ -يجب أن يظهر-، لقصد القرب الإلهي؟ قد ذكرنا آنفًا، أن الله يرضى لنا القرب منه، بتبعه يرضى لنا شريعة نلتزم واجباته، ونترك محرّماتها -لتوصلنا إلى القرب منه سبحانه-. ونظرًا إلى أن الله سبحانه لطيف بعباده، وأنه عليم وحكيم مطلق “يا من في لطفه حكيم”، إذًا فاتباع أوامره ونواهيه -أي إرادته التشريعية-، يمثل الطريق الأمثل لبلوغ المبتغى -أي قربه-. يصطلح على هذا -أي الامتثال لأوامره ونواهيه لبلوغ القرب- بـ”التقوى”. فالتقوى كما يقول الصادق (ع):  “أن لا يفقدك الله حيث أمرك ، ولا يراك حيث نهاك”، وعن رسول الله (ص) “اعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

إن الآية الكريمة جعلت العبادة مقدمة للتقوى، بجعل التقوى غاية العبادة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. هنا يُطرح سؤال مفاده؛ إذا كانت التقوى تابعة لقصد القرب-كما سبق وبيّنا- فكيف تكون التقوى غاية العبادة؟ بعبارة أخرى، كيف تُعلَّل العبادة بالتقوى، علمًا بأن التقوى تابعة لقصد القرب -أي العبادة-؟ في مقام الإجابة نقول: إن قصد القرب، التّابعِ لحب القرب، لا يوصل وحده إلى القرب. ونتيجة لقصور قصد القرب -فقط- لنيل القرب، يتمسّك قاصدُ القرب، بما يوصله إلى القرب. لذا يأمرنا الله بأن نقصد القرب ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، رجاءً  لأن نتمسّك بما يوصلنا إلى القرب ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. “والقصد، أن الإنسان ما لم يعبد فلن ينال التقوى، وأنه ما لم ينل التقوى فلن يكون لديه المتاعُ للسير إلى الله والوصول إلى لقاء الحق”[16]. فالقرآن الكريم يصرح بوضوح من أن التقوى سبيل القرب، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[17]؛ فالمتّقين هم الذين يلتزمون بالأوامر والنواهي الإلهية ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً﴾، ابتغاء القرب الإلهي ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾. تجدر الإشارة إلى أن للتقوى مراتب ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[18]، تتولد هذه المراتب تبعًا لدرجة الإخلاص.

 

 

 

ماهية الصوم

إن الصوم فقهيًّا، “هو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وهذا لا يفيد أزيد من سقوط القضاء والاستخلاص من العذاب”[19]. أما صوم الخواص، فهو الصوم الفقهي، مضافًا إليه كف كل الجوارح ، من يدٍ ورجلٍ وعينٍ وأذنٍ… عن المعصية، ويترتب على هذا الصوم ما ورد من ثواب موعود.

تعزيز الإخلاص بالصوم

إن الصائم، منذ إمساكه حتى إفطاره، يظل في حالة مراقبة لله تعالى. فهو وإن اختلى بنفسه، ولا أحد من البشر يراه، لا يهم بالإفطار، هذا لأنه ملتفت إلى الله سبحانه. هذا الفعل – الذي يدوم منذ الصباح حتى الغروب- يعتبر بمثابة رياضة، تدرّبه على جعل حركاته وسكناته تدور مدار مراقبة الله عز وجل ورضاه، لا مراقبة الناس ورضاهم. هذه المراقبة، وإن كانت مصاحبة لكل صائم، لكنها ذات مراتب. فالبعض لا يفطر ويراقب الله هربًا من دفع الدية -أي لمراقبته للدية-، والبعض خوفًا من نار، وآخرون طمعًا بجنّة، ونخبة منهم ابتغاء مرضات الله. ربما يغفل الإنسان عن مراقبته تعالى وهو صائم، لذا عليه تجديد التفاته إلى أنه يصوم قربة إلى الله تعالى، ليحصّل القدر الممكن من الفائدة المترتّبة على الصوم، وكي لا يذهب تعبه سدًى.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[20].

إن الصوم عبارة عن صرف تهذيب الغرائز. فالصيام رافع للإنسان من درجة البهائم بل أدنى – التي لا تتبع إلى ما تقتضيه غرائزها-، إلى أعلى من درجة الملائكة -التي لا تفعل إلى ما يقتضيه عقلها-. فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) “إن الله عز وجل ركب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما”، فالإنسان المتبع لغريزته شرٌ من البهيمة، لأنه غلب عقله، والآخر المتبع لعقله أحسن من الملائكة، لأنه غلب غريزته. كلّنا يعلم أنه ليس هناك رادع عن تقوى الله تعالى -أي اتباع العقل- غير اتباع الهوى -المتسلح بالغرائز-. فإذا هذّبتَ الغرائز وقيدتها، وجعلت زمام أمورها بيد العقل، تكون قد شلّيت الدعم اللّوجستي للهوى. فالله عز وجل نادى المؤمنين ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، بأنه كُتب عليهم الإمساك عن قضاء شهوة البطن والفرج من صلاة الصبح إلى المغرب، وأخبرهم بأن هذا كان مكتوبًا على الذين من قبلهم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، رجاءً لأن تتهذب غرائزكم، لتكونوا من المتّقين ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

الختام

إن الإنسان لم يُخلق لدُنيا فانية، بل هو مسافرٌ، يمر على جسرٍ اسمه الدنيا. فالخاسر من ينبهر بالجسر، فينسيه جمال الجسر ما هو بعده -أي ما يقع الجسر بمثابة وسيلة إليه-. يقول أمير المؤمنين (ع) في وصفه الدنيا: “من أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته”، فمن اعتبرها محطّة للابتلاء الذي يوصل النجاح فيه إلى ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[21]، أو ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾[22]، فسيكون كمن أبصر بها، فستبصره. أمّا الذي يبصر إليها، وينبهر بزينتها، فستوصله إلى الهاوية، لأنه سيتعلق بها، وسيغفل عن ربه، ويكون أسيرًا لهواه. فذنوبه ستكون وبالًا عليه يوم القيامة، وسيعذّب بها ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾[23].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]  سورة الليل، الآية 20.

[2]  سورة الزمر، الآية 2.

[3]  سورة البقرة، الآية 21.

[4]  سورة البلد، الآية 10.

[5]  سورة الأنعام، الآية 12.

[6]  سورة الحديد، الآية 3.

[7]  سورة الحديد، الآية 4.

[8]  سورة ق، الآية 16.

[9]  سورة الأنفال، الآية 24.

[10]  سورة النمل، الآية 62.

[11]  سورة المطففين، الآية 14.

[12]  السيد كمال الحيدري، فلسفة الدين، الصفحة 27.

[13]  المصدر نفسه، الصفحة 27.

[14]  الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، السير إلى الله، الصفحة 66.

[15]  سورة النور، الآية 39.

[16]  الشيخ عبد الله جوادي، تفسير تسنيم، الجزء2، الصفحة 446.

[17]  سورة الكهف، الآية 110.

[18]  سورة التغابن، الآية 16.

[19]  المولى محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، الصفحة 691.

[20]  سورة البقرة، الآية 183.

[21]  سورة القمر، الآية 55.

[22]  سورة الحديد، الآية 12.

[23]  سورة آل عمران، الآية 182.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
العبادةالصومشهر رمضان

المقالات المرتبطة

نظرية الفيض بين الفلسفة والدين

تمثّل نظرية الفيض واحدة من النظريات الأساسية في الفلسفة عمومًا، والفلسفة الإسلامية خصوصًا؛ ولذا فهي تستحق الوقوف عندها والتأمّل فيها

مصطلحات عرفانية | الجزء 22

حب – المحبة الحقيقية هي محبة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من حيث هي أفعاله.. وكل جمال وجلال وزينة وكمال

المبعث النبوي بداية للحياة الطيبة

إنّه نداء السماء إلى من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أودنى، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[1]. إنها رحمة الشمولية العامة لكل الوجود، وعليه أن يصدع بما يؤمر، والحرص على نشر هذه الرسالة العالمية التي تهدف إلى صناعة الإنسان، بل إلى صناعة الوجود وإيصاله إلى كماله المنشود.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<