تاريخ علم الكلام | الدرس الثاني | كليّات (2) تعريف علم الكلام وتاريخ ظهوره

تاريخ علم الكلام | الدرس الثاني | كليّات (2) تعريف علم الكلام وتاريخ ظهوره

أهداف الدرس

في نهاية هذا الدرس سيكون الطالب قادرًا على أن:

1- يُعرّف علم الكلام؛

2- يُبيّن المائز بين تعريف القدماء لعلم الكلام وتعريف المتأخّرين؛

3- يوضّح تاريخ ظهور الكلام في المجتمع الإسلامي.

 

تذكرة[1]

بحثنا في الدرس السابق جُملةً من المسائل المتعلّقة بتاريخ الكلام وتعريف هذا العلم، وبات معلومًا أنّ تاريخ الكلام علم يسعى إلى دراسة ظهور المعتقدات الدينيّة ونشوئها، لجهة ماهيّتها وعللها وكيفيّتها، وأنّ البحث في هذا العلم يكون بمعزل عن تحديد أيّ هذه العقائد صحيح وأيّها باطل، ويقتصر على التعرّف على معتقدات الشخصيّات والمدارس المختلفة، بالإضافة إلى دراسة التحوّلات التي طرأت عليها. وبتعبير آخر، يُقدّم علم <تاريخ الكلام> إطلالةً على المسائل الاعتقاديّة في العالم الإسلامي، ولا شأن له بصحّة هذه المسائل وبطلانها. وفي هذا الدرس سنتحدّث عن تعريف علم الكلام.

 

تعريف علم الكلام

طُرحت لهذا العلم تعريفات عدة، فذهبت مجموعة من علماء الكلام إلى تعريفه من خلال الموضوع، وذهب آخرون إلى تعريفه من خلال الأسلوب والمنهج، فيما عرّفه بعض استنادًا إلى النتائج[2].

أمّا التعريف الأكمل والأكثر جامعيّةً فقد طُرح من قبل المتأخّرين، حيث عرّفوا علم الكلام بأنّه: علم يبحث حول المعتقدات الدينيّة معتمدًا على العقل والنقل، ويهتمّ ببيان هذه المعتقدات وإثباتها بعد استخراجها من مصادرها، كما أنّه يجيب عن شبهات المخالفين واعتراضاتهم[3].

استنادًا إلى هذا التعريف، يكون موضوع علم الكلام عبارةً عن المعتقدات الدينيّة، لكن ما هو الهدف من هذا العلم؟

في مقام الإجابة على هذا السؤال وتحديد الهدف، حدّد التعريف ثلاثة أركان لهذا الهدف: الركن الأوّل هو استنباط هذه المعتقدات واستخراجها من مصادرها الأساسيّة، حيث يعمد المتكلّم إلى استخراج العقائد الدينيّة واستنباطها من المصادر الأساسيّة.

الركن الثاني – أو يمكن عدّه هدفًا ثانيًا – هو تبيين هذه المعتقدات، أي إنّ المتكلّم يعمد إلى تبيين المعتقدات التي استنبطها وشرحها وتقديمها ضمن نظام كلاميّ جامع.

الركن أو الهدف الثالث هو الدفاع عن هذه المعتقدات، بمعنى أنّ المتكلّم ينهض للدفاع عنها في حال وقعت موردًا للشبهة أو الاعتراض من قبل المخالفين.

ومن المسائل الأخرى الدخيلة في تعريف علم الكلام تحديدُ الأسلوب والمنهج الذي يعتمده هذا العلم للوصول إلى أهدافه وبيانُه. وفي هذا السياق فقد ذُكر في التعريف أعلاه إنّ علم الكلام علم عقليّ-نقليّ، بمعنى أنّه يستفيد من الاستدلالات العقليّة من جهة، ومن الطرق النقليّة من جهة أخرى. وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ المقصود من النقل والمنهج النقلي ما لا يُعدّ منهجًا وطريقًا عقليًّا؛ فيكون علم الكلام بذلك، واستنادًا إلى هذا التعريف، قادرًا على الاستفادة من المنهج التاريخي، كما ويمكنه في بعض الموارد الاستفادة من المنهج التجريبي والعرفاني أيضًا.

هذا كان تعريف المتأخّرين كما ذكرنا، ولكننا إذا رجعنا إلى بدايات ظهور هذا العلم نجد أنّ تعريف علم الكلام في القرون الأولى للإسلام يختلف عن هذا التعريف المتأخّر.

ظهر في القرون الأولى في عالم الإسلام علمان أساسيّان هما علم الفقه وعلم الكلام. وكان علم الفقه العلمَ المسؤولَ عن فهم المسائل الدينيّة واستنباطها من المصادر الأساسيّة، وفي مقابله كان علم الكلام العلم المعنيّ بالدفاع عن هذه المسائل. وطبقًا لهذا، كان موضوع كلا العلمَين مشتركًا، أي إنّ كلًّا من علم الفقه وعلم الكلام يبحث القضايا والمسائل الدينيّة.

أمّا الاختلاف بين علمَي الفقه والكلام فقد كان آنذاك يكمن في الهدف، إذ كان الفقيه عبارةً عن الشخص الذي يستنبط المعارف الدينيّة من مصادرها الأساسيّة، فيما يقوم المتكلّم بدور الدفاع عنها. لذا، فإنّ التفاوت بين هذَين العلمَين في تعريف القدماء يتعلّق بالهدف منهما، أمّا بلحاظ الموضوع فعلما الفقه والكلام متشابهان ويجمعهما موضوع واحد. وبمرور الزمن، ومع نهاية القرنَين الرابع والخامس للهجرة، حيث أخذت العلوم منحًى تخصّصيًّا، طُرحت مسألة تمايز العلوم بالموضوعات، وتبعًا للتمايز الحاصل بات تعريف كلّ من الفقه والكلام يقوم على أساس الموضوع، أي إنّه في المراحل اللاحقة حُدِّدَ موضوع علم الكلام بأنّه المسائل والآراء الاعتقاديّة وبات موضوع علم الفقه المسائل والأحكام العمليّة.

أحد أقدم التعريفات المطروحة عند القدماء لعلم الكلام التعريفُ الذي عرضه الفارابي في كتاب إحصاء العلوم، حيث عرّف الكلام بأنّه: <وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدّدة التي صرّح بها واضع الملّة>. وبالالتفات إلى هذا التعريف يتّضح أنّ موضوع هذا العلم أو هذه الصناعة كما يراه الفارابي هو العقائد والأحكام الشرعيّة.

بناءً على ذلك، لا يكون للكلام اختصاص بالمعتقدات وحسب، بل يشمل الأحكام العمليّة أيضًا، وأمّا هدف علم الكلام كما عرضه هذا التعريف فهو نُصرة هذه الآراء والأفعال والدفاع عنها. ومن خلال الالتفات إلى التعريفات التي طُرحت في كلمات الفارابي وآخرين، يُعلم أنّ استنباط العقائد الدينيّة ومعرفتها لم يكن هدفًا لعلم الكلام في العصور الإسلاميّة الأولى، أمّا طبقًا للتعريف الجديد لعلم الكلام فإنّ كلّ جهد يتعلّق بالعقائد الدينيّة يُعدّ جزءًا من هذا العلم، سواء أكان هذا الجهد والعمل مرتبطًا بمجال استنباط الأفكار الاعتقاديّة وفهمها أم كان مرتبطًا بتبيينها أو الدفاع عنها.

فطبقًا للتعريف الجديد، يُعدّ كلّ ما يكون مرتبطًا بالاعتقادات الدينيّة جزءًا من علم الكلام، أمّا بحسب تعريف القدماء فإنّ الكلام يختصّ حصرًا بما يتعلّق بالدفاع عن المعارف الدينيّة بشكل عامّ – أعمّ من المسائل الاعتقاديّة – إذ يشمل الأحكام العمليّة والأخلاقيّات أيضًا.

 

مراحل علم الكلام وأدواره

بعد أن ذكرنا تعريف القدماء والمتأخّرين لعلم الكلام، نشرع بإطلالة على مباحث تاريخ الكلام.

أوّل مرحلة في مقام التعرّف على المسائل الكلاميّة هي تحديد الزمان الذي ظهرت فيه هذه المسائل في المجتمع الإسلامي، بمعنى أنّه في أيّ زمن بدأ ظهور الكلام والمباحث الكلاميّة في تاريخ العلوم الإسلاميّة؟

إنّ مراجعة بعض المتون في مجال تاريخ العلوم وتاريخ الكلام تضعنا أمام ادّعاء مفاده أنّ الكلام بدأ في القرن الثالث للهجرة، ومثاله دعوى الشهرستاني في كتاب الملل والنحل أنّ علم الكلام بدأ في القرن الثالث بعد ترجمة المتون الفلسفيّة إلى اللغة العربيّة[4].

ويبدو لوهلة أولى أنّ هذه الدعوى غريبةٌ جدًّا ومجانبة للصواب، كما وتفيد مراجعة تاريخ العلوم والأفكار الكلاميّة كونَها غير صادقة على نحو كليّ. ومن أجل التعرّف على زمان ظهور المسائل الكلاميّة في العالم الإسلامي والتشخيص الدقيق له، لا بدّ لنا من التفكيك والتمييز بين عدّة مراحل.

ففي المرحلة الأولى نرصد ظهور المسائل الكلاميّة، وفي المرحلة الثانية نبحث عن اصطلاحَي الكلام والمتكلّم، لنعود وندرس في المرحلة الأخيرة تشكّل علم الكلام على هيئة مدراس كلاميّة. وبعبارة أخرى، ينبغي لنا أن نفكّك ما بين <ظهور المسائل الكلاميّة> و<ظهور اصطلاح الكلام بوصفه فنًّا وصناعةً> و<ظهوره بوصفه علمًا>؛ إذ لكلّ واحدة من هذه المراحل تاريخ متمايز في العلوم الإسلاميّة. فإذا كانت المسائل الكلاميّة موضوعًا لدراستنا كما مرّ في التعريف الذي عرضناه للكلام، وعُدنا إلى تاريخ المسائل ودقّقنا في أيّ زمان بدأ تداول المسائل الاعتقاديّة والحديث عنها في المجتمع الإسلامي، فإنّنا سنلاحظ أنّ بحث هذه المواضيع والمسائل ومناقشتها كان موجودًا من القرن الأوّل. نعم، يوجد اختلاف في تحديد أولى المسائل الكلاميّة التي طُرحت في العالم الإسلامي وفي تعيين تاريخ بدايتها.

ذهب جماعة إلى أنّ مسألة الإمامة كانت أولى المسائل الكلاميّة التي وقعت محلًّا للبحث بين المسلمين بعد رحيل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)[5]، وبحسب هذا القول تُعدّ مسألة السقيفة ومبايعة الناس للخليفة الأوّل والقول بوصاية الإمام علي (عليه السلام) من قبل الشيعة أولى المسائل التي وقعت محلًّا للجدل والنقاش بين المسلمين، وبالالتفات إلى أنّ الشيعة يعدّون مسألة الإمامة مسألةً اعتقاديّةً لا مسألة فقهيّةً، يمكن عدّ بحث هذه المسألة ونقاشها أولى المسائل الاعتقاديّة التي طُرحت.

أمّا بعض الذين لا يعدّون الإمامة مسألةً كلاميّةً، فيرَونَ أنّ مسألة الكفر والإيمان هي أولى المسائل التي وقعت محلًّا للبحث[6]. وقد طُرحت مسألة الكفر والإيمان لأوّل مرّة من قبل الخوارج في معركة صفّين. ففي العام 38 للهجرة، أثناء معركة صفّين، وبعد قيام جيش معاوية بحيلة رفع المصاحف على الرماح، وقعت خلافات في صفوف عسكر الإمام علي (عليه السلام)، وذهبت الفرقة التي عُرفت فيما بعد بالخوارج إلى أنّ قبول التحكيم من قبل الإمام ومعاوية كان خطأً ومعصيةً كبيرةً، وأنّ مرتكب الكبيرة كافر ما لم يتب. ومنذ ذلك الوقت، طُرحت مسألة الكفر والإيمان كمسألة اعتقاديّة، وبات البحث عن مسألة الكفر والإيمان وتحديد دائرتهما بعد ذلك من أهمّ المسائل الكلاميّة في المجتمع الإسلامي. لذا، فمن وجهة نظر بعض العلماء تُعدّ هذه المسألة التي طُرحت في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري أوّل مسألة كلاميّة.

ويرى آخرون أنّ مسـألة الجبر والاختيار هي أوّل مسألة كلاميّة. ويُعدّ البحث عن كون الإنسان مُجبرًا في أفعاله أو حرًّا من المسائل القديمة في تاريخ العلم البشري، أمّا في العالم الإسلامي فقد شرع البحث والنقاش حول هذه المسألة منذ ثمانينات القرن الأوّل للهجرة، وتشكّلت استنادًا إلى هذا البحث فرقة كلاميّة تحت مسمّى <القدريّة الأولى>. وبناءً عليه، فإنّ مسألة الجبر والاختيار من المسائل الأخرى التي طُرحت في القرن الأوّل للهجرة.

مسألة أخرى من المسائل التي طُرحت بعنوان أولى المسائل الكلاميّة في القرن الأوّل هي البحث عن الصفات الإلهيّة وبالأخصّ صفة الكلام الإلهيّ، فقد وقع في أواخر القرن الأوّل نقاش من قبل بعض المتكلّمين حول الإجابة على سؤال: هل القرآن بما يمثّل من كلام إلهيّ قديم أم حادث؟

بالتالي، وبغضّ النظر عن تحديد أوّل ما طرح من بين هذه المسائل، يمكّن الادّعاء أنّ أربع مسائل كلاميّة أساسيّة كحدّ أدنى وقعت موردًا للبحث والنقاش، وهذه المسائل هي: مسألة الإمامة، مسألة الجبر والاختيار، مسألة الإيمان والكفر، ومسألة الصفات الإلهيّة.

وينبغي في الوقت نفسه الالتفات إلى أنّه لم يكن قد طُرح حتّى أواخر القرن الأوّل الهجري، وعلى الرغم من وقوع بعض الموضوعات الكلاميّة موردًا للبحث والنقاش، اصطلاح الكلام والمتكلّم في المجتمع الإسلامي، ولم يكن قد عُرف علم باسم علم الكلام بعدُ.

وأما مع دخول القرن الثاني، فبتنا في عقوده الأولى نواجه في المجتمع الإسلامي مصطلحَي المتكلم والكلام، إذ تشير الكثير من الشواهد إلى استخدام اصطلاحات من قبيل <أصحاب الكلام> و<أهل الكلام> و<المتكلّمين> في القرن الثاني من قبل العلماء ولا سيّما الإماميّة[7]، وكذا يشير استعمال هذا المصطلح في معناه الاصطلاحي لا اللغوي إلى أنّ ظهور هذا الاصطلاح يعود للعقود الأولى من القرن الثاني للهجرة.

إذًا، توجد العديد من الشواهد على حضور المسائل الكلاميّة في القرن الأوّل، ويمكننا أن نعتبر هذا القرن قرن ظهور الموضوعات والمسائل الكلاميّة. أمّا اصطلاح الكلام والمتكلّم فمرتبط بالقرن الثاني الهجري، إذ مع ظهور المعنى الاصطلاحي للكلام في المجتمع الإسلامي، بات بعض الأشخاص يُعرفون بـ <المتكلّم> بوصفهم متخصّصين في هذا المجال والفنّ. وراحت المدارس الكلاميّة تتشكّل تدريجيًّا، ولكن حتّى ذلك الوقت لم يكن الكلام قد طُرح بوصفه علمًا مستقلًّا بعدُ، بل كان يغلب عليه طابع <الفنّ> أو <الحرفة> في مجال الدفاع عن المعتقدات.

وإذا مضينا قُدُمًا في التاريخ سنواجه في القرن الثالث الهجري تشكيلةً ومزيجًا متكاملًا تحت عنوان علم الكلام. وعليه، فعلم الكلام وكما ادّعى الشهرستاني مرتبط بالقرن الثالث الهجري[8]، وبإمكان المراقب أن يجد هذا الاصطلاح – علم الكلام – في العديد من مصادر القرن الثالث.

بعد هذا البيان، إذا سأل سائلٌ: في أيّ زمان ظهر الكلام في المجتمع الإسلامي؟ فلا بدّ في مقام الإجابة من التفكيك بين ثلاثة أمور، فظهور المسائل الكلاميّة يعود إلى القرن الأوّل، وظهور مصطلح الكلام والمتكلّم يعود إلى القرن الثاني، فيما ظهر علم الكلام في القرن الثالث.

 

تسمية علم الكلام

السؤال الآخر الذي سنواجهه يتمحور حول علّة تسمية هذا العلم بـ <الكلام>، حيث ذُكرت العديد من الوجوه حول سبب هذ التسمية ومنشئها، ولقد طُرحت هذه المسألة ونوقشت في المصادر الكلاميّة المفصّلة وفي الكتب التي تتحدّث عن تاريخ الكلام، وذُكرت هناك وجوه عدة، وصلت في بعض الكتب إلى أكثر من خمسة عشر وجهًا في تعليل هذا التسمية[9].

كنموذج على ذلك، يُدّعى أنّ سبب التسمية يعود إلى أنّ المتكلّمين كانوا يبدؤون كلامهم بعبارة <الكلام في كذا>.

وترى مجموعة أخرى أنّه لمّا بحث المتكلّمون مسألة الكلام الإلهي فقد أُطلق على هذه المباحث علم الكلام.

ويدّعي آخرون أنّ الكلام قد وُضع مقابل المنطق، فبما أنّ الفلاسفة كانوا يستعينون منهجيًا بالمنطق، اختار المتكلّمون المسلمون لفظ الكلام – الذي يعادل المنطق باللحاظ اللغوي – ليطلقوه على مجموعة أبحاثهم في مقابل الفلسفة اليونانيّة.

وقد ذُكرت وجوه أخرى لتعليل هذه التسمية، ولكن يظهر لنا أنّه لا يمكن النهوض والدفاع عن أيّ منها، بل ما ندّعيه أنّ وضع هذا الاصطلاح لهذه الأبحاث أو هذا العلم ليس وضعًا تعيينيًّا، بمعنى أنّ أحدًا لم يقم بوضع هذا اللفظ وجعله لهذا المعنى، وبالتالي فلا وضع تعيينيّ للفظ علم الكلام.

فالمدّعى أنّ وضع هذا الاصطلاح لمجموعة الأبحاث هذه كان وضعًا تعيُّنيًّا، أي إنّ هذه التسمية نشأت من كثرة الاستعمال. ودعوانا قائمة على أن المتكلّمين بما أنّهم كانوا يتكلّمون في الموضوعات الدينيّة – أعمّ ممّا هو موجود في النصوص الدينيّة من قرآن وروايات – ويدخلون في المحاورات والنقاشات حول الموضوعات الكلاميّة، فقد أُطلق مع مرور الزمن لقب <المتكلّم> على الأشخاص الذين تخصّصوا في هذه المسائل وانشغلوا بالتكلّم – بمعناه اللغوي – في الأبحاث ومجالس العلم، بمعنى أنّهم كانوا يتكلّمون ويناقشون في الموضوعات الدينيّة المتعدّدة ويهتمّون ببحثها ومناقشتها.

إذًا، فإنّ مصطلحَي الكلام والمتكلّم قد استُعملا في القرون الأولى بمعناهما اللغوي بمعنى النقاش والتكلّم، ومع انشغال المتكلّمين من الأشخاص المتخصّصين في مجال الدفاع عن العقائد الدينيّة بالحديث عن الموضوعات الدينيّة ومناقشتها بشكل يفوق الآخرين، انجرّت كثرة استعمال هذه الكلمة في حقّ هؤلاء والمداومة عليها شيئًا فشيئًا نحو وضعٍ واصطلاحٍ جديد، وبتعبير آخر تحقّق وضعٌ تعيّنيٌّ للفظ الكلام في المعنى الجديد. وإذا كان وضع هذا الاصطلاح لهذه المجموعة من الأبحاث تعيّنيًّا فلا نحتاج إلى بيان وجه التسمية.

استنادًا إلى ذلك، فالشخص الذي يمتلك قدرة الدفاع عن المعتقدات الدينيّة ويُتقن فنّ التكلّم والدفاع عن العقائد يقال له متكلّم، كما أنّ مجموعة الأبحاث التي تُطرح حول الدفاع عن المعتقدات الدينيّة تُعرف بعنوان علم أو فنّ الكلام.

 

خلاصة الدرس

– علم الكلام علم يبحث حول المعتقدات الدينيّة متّبعًا المنهج العقلي والنقلي، ويشتغل ضمن استنباط هذه العقائد من مصادرها بتبيين المعتقدات الدينيّة والإجابة عن الشبهات واعتراضات المخالفين. هذا كان تعريف المتأخّرين، أمّا تعريف الكلام في القرون الأولى فمختلف عن هذا التعريف سواء لناحية الموضوع أو الهدف.

– مرّ علم الكلام منذ أسئلته الأولى حتّى تشكّله كعلم مستقلّ بمسار تاريخي خاصّ.

– إنّ تبدّل مصطلح الكلام من المعنى اللغوي الى المعنى الاصطلاحي الجديد حصل عبر وضع تعيّنيّ.

 

أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)

1- عرّف علم الكلام. هل يختلف التعريف الجديد لهذا العلم عن تعريف القدماء؟ ما هو هذا الاختلاف؟

2- اذكر مراحل نشوء علم الكلام.

3- كيف وُضع علم الكلام لهذه المجموعة من المباحث؟

 

[1] في مطلع هذا الدّرس وسائر الدروس الآتية توجد <تذكرة>، وهي عبارة عن خلاصة وتذكير بأهمّ أبحاث الدرس السابق، وبالتالي فالمقصود من التذكرة: تذكرة بالدرس السابق. [المترجم]

[2] اُنظر: عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام (بيروت: دار عالم الكتب)، الجزء 1، الصفحة 7؛ سعد الدين التفتازانيّ، شرح المقاصد (قم: انتشارات الشريف الرضي، 1409)، الجزء 1، الصفحة 162؛ عبد الرزاق اللاهيجي، شوارق الإلهام (أصفهان: دار مهدوي)، الصفحات 3 – 5.

[3] رضا برنجكار، روش شناسي علم كلام (تهران: انتشارات سمت، 1393 هـ.ش)، الصفحة 11؛ محمد رضا كاشفي، كلام شيعه ماهيت ومختصات (تهران: پژوهشگاه فرهنگ وانديشه، 1386هـ.ش)، الصفحة 30.

[4] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل (قم: دار الشريف الرضي، الطبعة الثالثة، 1374 هـ.ش)، الجزء 1، الصفحة 41.

[5] أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين (ألمانيا، ويسبادن: فرانس شتاينر، الطبعة الثالثة، 1400 هـ.ق)، الصفحة 2.

[6] أحمد محمود صبحي، في علم الكلام (بيروت: دار النهضة العربية، الطبعة الخامسة، 1405)، الجزء 1، الصفحات 5 – 32.

[7] اُنظر: محمد بن يعقوب الكليني، الكافي (طهران: دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الخامسة، 1363 هـ.ش)، الجزء 1، الصفحتان 76 و171؛ محمد بن علي بن بابويه، التوحيد (إيران-قم: جامعة المدرسين، الطبعة الأولى، 1398)، الصفحة 458.

[8] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل (قم: دار الشريف الرضي، الطبعة الثالثة، 1374 هـ.ش)، الجزء 1، الصفحة 41.

[9] سعد الدين التفتازانيّ، شرح المقاصد (قم: انتشارات الشريف الرضي، 1409)، الجزء 1، الصفحتان 164 و165.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
علم الكلامالكلّيّاتتاريخ علم الكلامكليات

المقالات المرتبطة

المسلمون في الهند بين التهديدات والتأثير (3)

نستكمل في هذا القسم من البحث الحديث عن علاقة المسلمين بالهندوسية، ونتطرق إلى أبرز التهديدات التي يتعرض لها المسلمون من التيارات العنصرية الهندوسية، ثم سننتقل إلى تأثير الإسلام بالهندوسية.

إدارة المؤسسة الكونية بعين اللانظم

هذا المقال أقدّمه كقراءة – أخرى – لبرهان النظم (أو ما يطلق عليه التصميم الذكي المطروح في البحوث الخاصة بفكرة التطور الدارويني، الذي يقابل الانتقاء الطبيعي

تاريخ علم الكلام | الدرس الحادي عشر | الكلام الإمامي في حقبة تشكُّل الجوامع الكلاميّة مدرسة قم الكلاميّة

سنتناول في هذا الدرس مدرسةً أخرى من المدارس الفكريّة الإماميّة التي ظهرت بعد مدرسة الكوفة، والتي تُعدّ في الحقيقة استمرارًا لنشاط وفعاليّة الكلام الإمامي في مدرسة الكوفة.

  1. مريم فاضل
    مريم فاضل 18 يونيو, 2021, 08:40

    ١. علم الكلام هو علم يبحث في المعتقدات الدينية معتمدا على العقل فيقوم باستنباطها و يعمل على التصدي لها او اثباتها، قديما كان يعرف علم الكلام كعلم يتصدى للمعتقدات اما في التعريف الجديد فهو كل ما يتعلق بالمعتقدات من تصدي و اثبات

    ٢.ظهر موضوع علم الكلام في القرن الأول حيث بدأ المسلمون يتناولون مسائل و موضوعات كلامية ، في القرن الثاني نشأ مصطلح الكلام و المتكلم حيث يطلق عل كل من يتصدى للمعتقدات بالمتكلم اما ظهوره كعلم فكان في القرن الثالث حيث اصبح هذا العلم معروف بتصديه و معالجته للماسائل الكلامية

    ٣. ذهب البعض الى الاعتقاد بأن مسألة الامامة كانت اول بحث وضع في علم الكلام بينما اعتبر البعض الاخر ان الإمامة ليست جزء من الدين و ان التكفير و الايمان كان اول مبحث في هذا العلم ، الا انه برز فريق اخر يعتبر ان مسألة الجبر و الاختيار هي المسألة الاولى

    الردّ على هذا التعليق
  2. أم عباس عبد الله
    أم عباس عبد الله 18 يونيو, 2021, 12:06

    الجواب 1:
    علم الكلام : علم يهتم بالبحث في المعتقدات الدينيّة ، ويعمل
    على استنباط هذه العقائد من مصادرها ثم يقوم بتبيين هذه المعتقدات ويتصدى للإجابة عن الشبهات واعتراضات المخالفين، متّبعًا المنهج العقلي والنقلي .(مجموعة الأبحاث التي تطرح حول الدفاع عن المعتقدات الدينية. )
    *ويختلف عن تعريف القدماء من حيث
    •الموضوع : على خلاف المتأخرين فهولا يبحث فقط في المسائل الاعتقادية بل أيضا في الأحكام الفقهية والعملية.
    •الهدف : دائرته كانت اضيق من المتأخرين الذين يهدف عندهم علم الكلام الى الاستنباط والتبيين والدفاع عن المعتقدات فقد انحصر هدفهم في الدفاع عن تلك المعارف الدينية.

    الجواب 2:
    لتحديد مراحل نشوء علم الكلام لابد من التفكيك والتمييز بين عدة مراحل ترتيبها الآتي :
    1-القرن الأول =مرحلة ظهور الموضوعات و المسائل الكلامية /الاعتقادية/بصرف النظر عن اول مسألة كلامية- مماوقع الخلاف فيه -(الإمامة، الجبر والتفويض، الايمان والكفر ،والكلام الإلهي).
    2-بدايات القرن الثاني = مرحلة ظهور المعنى الاصطلاحي للكلام والمتكلم هو المتخصص في هذا الفن وهنا بدء ظهور المدارس الكلامية.
    3- القرن الثالث = مرحلة تحول مصطلح الكلام من فن وحرفة الى علم قائم بذاته يعنى بالمباحث الدينية.

    الجواب 3:
    ذكرت وجوه متعددة لهذه التسمية ولكن ما يظهر ان هذا المصطلح ليس تعيينيا بل تعيُّنيا
    اي لم يقم احد بوضع هذه اللفظ لهذا المعنى بل إنه نشأ من كثرة الاستعمال بحيث أُطلق مع مرور الزمن لقب /المتكلّم/ على الأشخاص الذين تخصّصوا في هذه المسائل وانشغلوا بالتكلّم
    – بمعناه اللغوي – في الأبحاث ومجالس العلم. فصارت مجموعة المباحث حول المعتقدات الدينية هي علم الكلام.

    الردّ على هذا التعليق
  3. نجوى علي فقيه
    نجوى علي فقيه 19 يونيو, 2021, 10:34

    ١. علم الكلام هو علم عقلي نقلي يبحث في المعتقدات الدينية ويسعى الى اثباتها وعرضها واستخراجها من مصادرها، ورد الشبهات بحسب التعريف الجديد له. فهذا التعريف يختلف عن التعريف القديم لعلم الكلام والذي يرى ان علم الكلام يشترك مع علم الفقه موضوعًا. ويقوم على الدفاع عن المعارف الدينية.

    ٢. مراحل نشوءه: ١.في القرن الاول ظهرت مسائل كلامية.
    ٢. ثم صار يتم البحث حول مصطلح الكلام والمتكلم في القرن الثاني.
    ٣. وصولا الي القرن الثالث حيث بدأت دراسة علم الكلام وظهوره.

    ٣. وضع للابحاث التي تطرح حول الدفاع عن المعتقدات الدينية

    الردّ على هذا التعليق
  4. محمد ابراهيم
    محمد ابراهيم 24 يونيو, 2021, 23:23

    كسائر العلوم الانسانية لا يوجد تعريف جامع مانع لمصطلح (علم الكلام) وقد يرجع ذلك الى تناول العلماءالتعريف من نواحى شتى، حيث تم تناول التعريف من زاوية الموضوع أو المنهج أو الأثر(النتائج) ومن ثم هناك تعاربف متعددة لعلم الكلام فالأقدمون مثل الأيجى قد عرفة بأنه: علم يقتدر معه على اثبات العقائد الدينية بايراد الحجج ودفع الشبهات عنها، كما أن الجرجانى فى كتاب التعريفات يعتبرة: العلم الباحث عن ذات الله تعالى وفاتة وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الأسلام. والفارابى عرف الكلام: بأنه صناعة يقتدر بها الانسان على نصرة هذه الاراء والافعال المحددة التى صرح بها واضع الملة، وثمة تعريف حديث أشمل وأعم من التعريفات السابقة يرى أن علم الكلام : هو العلم الباحث حول المعتقدات الدينية معتمداً على العقل والنقل ويهتم ببيان هذه المعتقدات واثباتها بالحجج والبراهين بعد استخراجها واستنباطها من مصادرها الاساسية والدفاع عنها. واذا ما حاولنا رصد الفروقات بين التعريف القديم والحديث لعلم الكلام وجدنا أن هناك تشابه من وجه واختلاف من وجه أخر بينهما فاتعريفات القديمة فيما بينها وبين التعريف الحديث يتفقون فى أن المفهوم يبحث فى المعتقدات أو العقائد الاسلامية والدفاع عنه. أما جهه الاختلاف فتكمن فى : أولاً: ان اكتشاف العقائد الدينية واستنباطها من مصادرها الاساسية هو هدف لعلم الكلام بحسب التعريف الجديد، بينما يغيب هذا الهدف فى التعريف القديم…ثانيا: يعتبر كل ماهو مرتبط بالاعتقادات الدينية جزء من علم الكلام بحسب التعريف الجديد، فى حين كان التركيز على الدفاع عن المعارف الدينة وبشكل عام حسب التعريف القديم.
    وقد مر علم الكلام بمراحل متعددة:
    المرحلة الأولى: مرحلة ظهور المسائل الكلامية
    فى هذه المرحلة يمكن رصد أولى المسائل الكلامية فى سنه 11 هجرية بعد وفا النبى الاكرم وهى مسألة الامامة حيث الاختلاف الذى حدث بين المسلمين على من يتولى الخلافة فى سقيفة بنى ساعدة واحتجاج شيعة الامام على عليه السلام بأنه الاولى بالامامة وسردهم للاحاديث المعتبرة فى ذلك، كما يمكن رصد مسألة أخرى فى عام 38 هجرية وهى مسألة الكفر والايمان والتى طرحها الخوارج على اثر معركة صفين وقبول الامام على (ع) بالتحكيم فاعتبر الخوارج ان ذلك معصية وكبيرة ومرتكب الكبيرة كافر ان لم يتب. وفى الثلث الاخير من القرن الاول الهجرى يمكن رصد مسألتيين فى الكلام الاسلامى هما: مسأله الحبر والاختيار وهل الانسان حراً أم مجبر؟ ومسأله الصفات الالهية خاصة صفة الكلام الالهى هل هو حادث أم قديم.
    المرحلة الثانية: فى بداية القرن الثانى الهجرى ظهرت مصطلحات عديدة من قبيل:(الكلام) (المتكلم) و(المتكلمين) و(أصحاب الكلام) من قبل البعض حيث أصبح بعض الاشخاص يشار اليهم باعتبارهم متكلميين بوصفهم متخصصيين فى هذا الفن.
    المرحلة الثالثة: فى القرن الثالث الهجرى ظهر مصطلح (علم الكلام) وهكذا نرى ان علم الكلام نشأ منذ بدايات القرن الاول الهجرى من خلال مسائلة وموضوعة بينما نشأكعلم متخصص فى القرن الثالث الهجرى.
    ووضع اصطلاح علم الكلام لهذه المجموعه من الابحاث وضعاً تعينياً بمعنى ان هذه التسمية قد نشأت من كرة الاستعمال خيث كان المتكلميين يتكلمون فى موضوعات دينية شتى ويقومون بمحاورات ومجادلات ونقاشات حول هذه الموضوعات الكلامية اطلق مع مرور الزمن لفظ المتكلم على الاشخاص الذين تخصصوا فى هذا الفن أى الكلام

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

انقر هنا لإلغاء الرد.

<