الشيعةُ الاثنا عشرية
بقلمِ السيد حسين م. جفري
ترجمة: أريج بشارة
تسمّى ثاني أكبر طائفة من المسلمين بـ”الشيعةَ الاثني عشريةَ”. ويستمدّ هؤلاء قواعدَهم الدينيةَ وإلهامهم المعنوي، منْ بعدِ النّبي، منَ الأئمةِ الاثني عشرَ من ذريته. ويرى أبناءُ هذه الطائفةِ أنَّ الأئمةَ هم وحدَهُم أصحابُ تأويلِ القرآنِ والسنّة حقًّا. ويميزُ مصطلحَ “الشيعة” (أي الفرقة أو الأتباع؛ وعليه سمّي الشيعة بأتباع آل بيت النّبي) أتباع هذه الطائفة في المنظومة الإسلامِية وفي المجتمعِ الإسلامي عن الأكثريةِ السّنية. وتميزُهم صفةُ “الاثني عشرية” عن غيرِهم منَ الفرقِ الشيعيةِ الصُغرى كالزيدية والإسماعيلية، اللّتان على الرّغمِ مِن اعتقادهِما بأنَّ الهداية الدينية لا تتمُّ إلّا عبَر أهلِ بيتِ النّبي، إلّا أنّهما تختلفان مع الاثني عشرية في تحديد عدد الأئمةِ الشرعيين من ذرية النّبي وفي تحديد هويّتهم.
والأئمةُ الاثنا عشرَ المسلّمُ بهم لدى الشيعةِ الاثني عشريةِ هم:
- علي بن أبي طالب ( ت. 40 هـ/ 661 م )
- الحسن بن علي ( ت. 49 هـ/ 669 م)
- الحسين بن علي (ت. 61 هـ/ 680 م)
- علي بن الحسين زين العابدين (ت. 96 هـ/ 714 م )
- محمد الباقر (ت. 115 هـ/ 733 م )
- جعفر الصادق (ت. 148 هـ/ 765 م )
- موسى الكاظم (ت. 183هـ/ 799م )
- علي الرضا (ت. 203 هـ/ 818 م )
- محمد الجواد التقي (ت. 220 هـ/ 835 م )
- علي النقي (ت. 254 هـ/ 868 م )
- الحسن العسكري (ت. 260 هـ/ 874 م)
- محمد المهدي، القائم الحجة ( بدأت غيبته الكبرى في 329 هـ/ 940 م)
وبما أن أبناءِ النّبي توفوا وهم رضع، ينحدر هؤلاءِ الأئمةِ مِن ذرية ابنتِه فاطمة زوجة علي بن أبي طالب، الإمام الأوّل وابنِ عمِّ النبي ووصيه. وانتقلت الإمامة مِن بعدِ علي إلى الإمامَين الثاني والثالث، الحسنُ والحسين، ابنَي علي وفاطمةٌ، الّلذين ربّاهُما النّبي بعطفٍ وحبٍ شديدَين. ووفقًا للشيعةِ الاثني عشرية، انحصرَت الإمامةُ بعدَ الحسينِ في وِلدِه إلى أنْ وصلَت إلى الإمامِ الثّاني عشر “محمّدٍ المهديّ” الّذي، وبأمرٍ منَ اللهِ، دخلَ في مرحلة الغَيبةِ ليواصلَ هدايةَ المؤمنينَ حتَّى يومِ القيامة.
أهلُ بيتِ النّبي والهداية الإلهية
يستنبط الشيعة الاعتقادَ القائل بأنَّ الهداية الدينية يجبُ أنْ تتمّ عبرَ أحفادِ النّبي من المفهومِ القرآني الذي يتحدث عن بيوت الأنبياء المبجلين والصالحين. في كافةِ العصور، كان الأنبياء شديدي الحرص على ضمانِ بقاءِ فضلِ الله الخاصِ المُنعَمِ بهِ عليهِم، المتمثلِ بهدايتهم بني البشر، ضمن عائلاتهم وتوريثه لذراريهم.
ويتحدثُ القرآنُ بشكلٍ متكررٍ عن دعاءِ الأنبياءِ لأبنائِهم، وعن طلبِهم مِن اللهِ أنْ تستمر هدايته للناس عبرَ ذراريهم. وتحملُ الآياتُ القرآنيةُ شاهدًا على فضلِ اللهِ الخاصِ المنعم بهِ على أبناءِ الأنبياءِ المباشرين، استجابةً لتلك الأدعية، لا ليصبحوا مصاديق على صلاح آبائهم فحسب، بل ليرثوا أيضًا صفاتهم المعنويةِ وليتابعوا أداءَ مهامِهم من دونِ انقطاع. وبلغَ مجموعُ هذهِ الآياتِ القرآنيةِ التي ذَكرَت طلبَ أُسَر الأنبياء فضلَ اللهِ الخاصِ ومنحِه لكثيرٍ منهم ما يزيدُ عن المئة. نقتبسُ بعضًا مِن هذهِ الآياتِ وبخاصةٍ التي تتحدث عن إبراهيم أبو الأنبياء لتوضيحِ الفكرة. ذُكِر قلق إبراهيم حيال عائلتِه مثلًا عندما قال له الله: ﴿إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[1] فناشده إبراهيم قائلًا ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾[2]، فأجابه الله ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[3]. مما يعني أنهم سيكونون صالحين ليتابعوا فعل الهداية. ويتوجه إبراهيم إلى الله داعيًا في آيةٍ مشابهة ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾[4].
واستجابَ الله بفضله لدعاء إبراهيم حين قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾[5]. وهذا الفضل الخاص الذي أنعم الله به على أحفاد إبراهيم نجد له تعبيرًا أكثر تأكيدًا في آية أخرى حين يقول الله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبراهيم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾[6]. ومرة أخرى في آية ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[7].
يجزم مفسرو القرآن بالإجماع أن محمدًا من سلالة “آل إبراهيم” التي تشير إليها هذه الآيات. لم يَعرف العرب إبراهيم كجدٍهم الأعلى فحسب، بل عرفوه كذلك باني الكعبة التي توالى على سدانتها 4 أجيال من أسلاف محمد، وبالتالي كانوا قادة مكة المتمتعين بصلاحيات كهنوتية.
ومن كنف هذه العائلة وخلفيّتِها، بعث محمد خاتمًا لأنبياء الله، والمحيي لدين إبراهيم وإسماعيل الحنيف، وفيه بلغت قداسة آل إبراهيم المذكورةِ مرارًا في القرآن كمالها الأعلى.
وهذا الفهم القرآني لمكانة آل الأنبياء الجليلة دفع ببعض من المسلمين للإيمان بأن خلفاء النّبي لا بدّ أن ينحدروا من سلالته وأن يتمتعوا بصفاته الشخصية ذاتها. ويسهل تتبع ظهور تاريخ التشيع أو روح التّشيّع في الإسلام، مع الأخذ في الاعتبار المفهوم القرآني حول القيادة الدينية، إلى بداية الدعوة النبوية لمحمد في المدينة، عندما بدأ بعضٌ من أصحابه بالتطلع إلى ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب كقائد للأمة من بعده، باعتباره أقرب أقارب النبي وأقرب تابع له.
ولكن بعد وفاة النبي بفترة قصيرة، بات التعبير عن هذا الاعتبار الخاص لعلي علنيًّا بعدما منع علي من قيادة الأمة، لربّما بسبب بعض الحسابات السياسية. وأصبحت مسألة خلافة النّبي مرتبطة برؤية الأمة الإسلامية للقيادة، مع اختلاف المقاربات ودرجات التركيز على جوانبها الدينية والسياسية. فكانت بالنسبة إلى بعضهم سياسية أكثر من دينية، وإلى بعضهم الآخر كانت دينية أكثر من سياسية.
ولأنّ الإسلام يشمل مختلف جوانب حياة الإنسان ومصيره في الدنيا والآخرة، أنيط النّبي بمهامِ الحاكم الدنيوي ورجل السياسة عندما احتاج مجتمع المدينة حديث الولادة هدايته في الشؤون الدنيوية، إلى جانب دوره الأساس كخاتمِ رسل الله الذي أرسله الله ليوصل رسالته إلى البشرية. ومن هذا المنطلق، بدا الإسلام منذ اللحظة الأولى لظهوره في التاريخ نظامًا دينيًّا وحركةً سياسيةً اجتماعيةً في آنٍ واحد، إن صحّ التعبير.
وبالتالي ترك النّبي إرثًا دينيًا وسياسيًا. عند وفاته ظنّ معظم أصحابه أن مهمة خليفته كانت حماية الأمّة الإسلامية وحفظها من التفرقة وصون سمتها الدينية- السياسية ونشر رسالة الإسلام إلى ما بعد شبه الجزيرة العربية، من دون أن توكل إليه مهمة مواصلة فعل الهداية الإلهية والمعنوية التي انتهت مع وفاة النّبي.
وقد رأى آخرون، على الرغم من قلة عددهم، أنّه وإن انتهت النبوة مع محمد الذي لا يستطيع أحد أن يصل إلى مقامه، إلا أنّ الهداية الإلهية يجب أن تستكمل عبر خلفائه الذين يجب أن يجمعوا في أنفسهم، كما النّبي، كلًّا من وظائف الهداية الإلهية والقيادة في الشؤون الدنيوية. ويجب أن تجتمع فيهم تقوى ذرّية آل إبراهيم وقداسة انتسابهم لبني هاشم سيد قبيلة محمد وسادن الكعبة.
بالنسبة لهم، إن مسألة خلافة النّبي كانت أولًا وقبل كل شيء ذات أهمية دينية ومعنوية عظيمة؛ فهي مسألة استمرار الهداية الإلهية عبر أئمة مختارين وملهمين من الله ومنحدرين من آل النبي، وهم القادرون حقًّا على تأويل الوحي الإلهي والسنة النبوية.
المعتقداتُ الأساسيةُ
إنّ أصول الدين الأساسية عند الشيعة، وكذلك بقية الفرق الإسلامية هي:
- التّوحيد.
- النبوةُ، الّتي ختمت معَ “محمد” كخاتم الأنبياء، والقرآنُ كآخرِ رسالةٍ مِن الله ِإلى البشريّة.
- المعادُ، أي الحياةُ الآخرةُ.
إنَّ هذهِ المعتقداتُ الثلاثةُ مشتركةٌ بينَ الشّيعةِ والسّنةِ وهي تشكّلُ منظومة الوحدةِ الإسلاميّة. ولكن يضيفُ الشّيعةُ أصلينِ يعدّونَهما ضروريينِ لتحصيل رؤية شاملة للوعي الديني، وهما:
الأصلُ الرابعُ: العدل الإلهي.
الأصلُ الخامسُ: الإمامة.
فيما يخص العدل الإلهي، يعتقد الشيعة أنّه صفة ذاتية لله وليس صفة عرضيّة، لأنّ الرؤية الشيعية مبنية على العقل أكثر من المشيئة. ولكن في بدايات الإسلام، لم يكن هذا الاعتقادُ مختصًا بالشّيعةِ فحسب، فقد اعتقدت به فرقةُ المعتزلة، التّابعةَ إلى الطائفةِ السّنية أيضًا. وعلى الرغمِ مِن أنَّ مدرسةَ الفكر الاعتزالي تلاشت في وقتٍ لاحق، إلّا أنَّ هذا المعتقدُ بقيَ حيًّا لدى الشّيعة. إلّا أنّ ما يفرّقُ الشّيعةُ عن السّنةِ هو المعتقدُ الأساسُ عندَ الشّيعةِ القائلَ بإمامةِ ذرّيةِ النّبي. ووفقًا للعقيدة الشّيعية، إنَّ وجهي الإمامةِ- كونّها محصورةً بآلِ بيتِ النبي، بناءً على ما شرحَ سابقًا، وكونّها ذاتَ سمةٍ إلهية- ليسا متلازمَين فحسب، بل إنّهما متداخلان لا ينفكّان.
عقيدةُ الإمامةِ
تعني مفردة الإمام حرفيًا “القائدَ” أو “المرشدَ”، وتشيرُ مِن حيثُ معناها الخاص عند الشّيعةِ إلى ذلكَ الّذي يعيّنُه اللهُ ليواصلَ فعل الهدايةَ الإلهيّةَ بعدَ اختتام النّبوة. وتطلق على الإمامة أيضًا تسمية “الولاية” وهي تحملُ معنى الإمامة ذاته تقريبًا، إلّا أنّها تلحظ بطورٍ أخص تلك الصفة الخاصّةِ بالإمامِ الّتي منحه الله إياها لتأويل المعنى الداخلي أو الباطني للوحي.
وتعني الولايةُ حرفيًّا أن تكونَ صديقًا لأحدِهُم أو قريبًا إليه، وعليه، إنَّ الولي في الاصطلاحِ الشّيعي هو الأقربُ إلى اللهِ حبًّا والتزامًا، وبالتّالي هو المؤتمن من اللهُ على علوم الدين الباطنيّةِ، فالأئمةُ هم أولياءُ اللهِ الأكمل.
ترتكزُ الإمامةُ على أصلَين: النّصُّ والعلمُ. ويعني النّصُّ أنَّ الإمامةَ امتيازٌ مُنِحَ مِنَ اللهِ لمن اجتباه من آلِ النّبي، ليقومُ هذا المختارُ قبلَ وفاتِه، بإرشاد من الله، بنقلِ هذا الامتيازِ إلى خلفه عبر تعيينٍ واضح ٍيُعْرَفُ “بالنّصّ”. وبغية استمرار الهدايةِ الإلهيّةِ الضروريةِ للبشرية، أصدرَ النّبيُ النّصَّ الأوّل، وذلك قبلَ وفاتِه وبأمرٍ إلهيّ، ليعينَ بموجبِه “عليّ بن أبي طالب” خليفةً مِن بعدِه. وبموجبِ النّصِّ، انحصرَت الإمامةُ، في مختلف الظّروفِ السّياسية بفردٍ محددٍ مِن ذريةِ عليّ وفاطمة، سواءٌ أمسك زمام الحكم في الدنيا أو لم يفعل.
إنّ العلم هو الأصل الثاني في عقيدةِ الإمامةِ. وهذا يعني أن الإمام، بوحي من الله، يختزن علومًا دينية خاصة، لا يمتلكها غيره، ولا يستطيع نقلها إلّا إلى الإمام التالي حين اقتراب منيّته. وبهذا، يصبحُ إمامَ الزمانِ المصدرِ الشرعي والحصري للمعارف الخاصة بمسائل الدّين، بحيث لا يمكن للفرد الثبات على الصراط المستقيم من دون هدايته. ويتضمنُ هذا العلم الخاصُّ المعرفة بمعاني القرآنِ الظّاهرية والباطنية. وهذا العلم الباطني بالدينِ هو الولاية التي أودعها الله النبي، الّذي سلَّمَها بدورِه إلى علي، فأصبحَت بالتّالي ميراثًا للأئمةِ من بعده، إلى أن وصلَت إلى الإمامِ الثّاني عَشَر”محمدُ المَهدي”.
إذًا، تتمحور عقيدةُ الإمامةِ عند الشّيعةِ الاثنَي عشرية حولَ أصلَي النّصِّ والعلم، وهذان الأصلان ليسا مرتبطيّن ببعضهما فحسب، ولا مضافَين إلى بعضهما فحسب، بَل هما مُنصهران في رؤيةَ توحيدية للقيادةِ الدّينية، بحيث يستحيل فصلُ أحدهما عَن الآخر. وعليه، يعني النّصُّ انتقالَ هذا العلم الديني الخاصّ، المختص حصرًا وشرعًا بالأئمةِ المختارين إلهيًا من آلِ النّبي، عبرَ علي، وتعذّر نقله إلّا مِن إمامٍ إلى خليفتِه كإرثٍ للعائلةِ المقدّسة.
وظيفةُ الإمامةِ
للإمام وظائفٌ ثلاث هي: أوّلًا شرحُ ما نزل به القرآن وعلّمه النبي، وتفسيرُ الشّريعة الإلهية، وثانيًا أن يكون مرشدًا معنويًّا يقود الإنسان إلى إدراك المعاني الباطنيةَ للأمور، ويترتب على ذلك الوظيفة الثالثة وهي حكمُ الأمةِ الإسلاميّة، إذا سمحَت لَهُ ظروفُ الزمانِ بذلك.
يرى الشّيعةُ أنَّ الإمامةَ ميثاقٌ بينَ اللهِ والبشر، وأنَّ معرفةَ الإمامِ واجبٌ حتمي على جميعِ المؤمنين. وأنَّ الأئمةَ هم حجةُ اللهِ على الأرض، فكلماتُهم كلماتُ اللهِ وأوامرُهم أوامرُ الله، إذ إنَّهم ملهمونَ مِنَ اللهِ في كافةِ قراراتِهم، كما أن لهم ولايةً مطلقة. فبالتّالي، طاعتُهم طاعةُ اللهِ، ومعصيتُهم معصيةُ الله. وهم يمتلكونَ قوةَ المعاجز والدلائلَ الدّامغة، “فمثلهم في هذا المجتمع كسفينة نوح. فمن ركبها نجا وأدرك باب التوبة… فاللهُ أوكلَ إلى الأئمةِ الولاية المعنويَة على العالمِ بأسره، فالعالم محتاجٌ دومًا لمثل هذا القائد والمرشد”[8].
يعتقدُ الشّيعةُ بأنَّ إمامَ الزّمانِ شاهدٌ على النّاسِ وبابُ اللهِ والسّبيلُ والدّليلُ إليه، وأنّه هو مستودعُ علمِ اللهِ وترجمان وحيهِ وركن توحيده. فبالتّالي، تستوجبُ هذهِ الوظائفُ أن يكونَ الإمامُ معصومًا عن المعاصي والأخطاء ومحصّنًا منها. وتضمن عصمةُ الإمامِ صوابية قراراتِه في المسائل الشّرعيةِ والدّينية، وتحفظُ نقاءَ صاحب هذه المهمة وحرمَته.
يصبحُ فهمُ وظيفةِ الإمامِ أوضحَ عبرَ مقارنتِها بوظيفةِ الخليفةِ لدى السّنةِ. فالخليفةُ خادمٌ للشّريعة، أمّا الإمامُ فهو صاحبُ تأويلِها وسيدُها. وينتخبُ الخليفةُ مِن قبلِ النّاس، أمّا الإمامُ فيعينُه الإمامُ السّابق، مما يجعل تعيينَ الخليفةِ مرتكزًا على أماني النّاس، بينما تعيينُ الإمامِ هو فعلٌ وأمرٌ إلهيٌ يؤتى به عبرَ الإمامِ السّابق. وقد يعزلُ الخليفةُ لاقترافه الذنوب، بينما الإمامُ معصومٌ ولا يذنبُ. وفي الختام، يمكن أن لا يكون ثمة خليفةٌ في العالم، بينما وجودُ الإمام عند الشيعة في العالمِ واجبٌ، سواءٌ كانَ حاضرًا أمّ غائبًا؛ كحالِ المَهدي في هذا الزمان. إذ يرى الشّيعةُ أنّ الإمامَ الغائبَ ضامن استمرارية صفات النّبي وبركته، وبه يصان القرآن. ولأنّ الإمام موكل بهذه المهام لا يصحّ انتخابه من قبل النّاس، فالمرشدُ المعنوي لا يستمدُ شرعيته إلّا من اللهِ.
إنَّ مهمة الإمامِ الثّالثةِ وهي حاكمِيته على الأمّةِ هي نتيجة منطقيةٌ للمهمتَين السابقتَين. فالإمامُ هو القائد الأمثل للنّاسَ سواء في أمورهم الدّنيويةِ أو في شؤونهم المعنوية. وتعتقدُ الشّيعةُ الاثنا عشرية أنّه إن لم تسمح الظروفُ الزمانية للإمامِ بممارسةِ سلطتَه الدنيوية، فهذا لا يلزمه بأن يثور ويسعى ليصبحَ حاكمًا، فمكانتُهُ أعلى مِن مكانةِ الحاكم. ويجبُ أن يطيعَ أصحابَ السّلطةِ الدنيوية قراراتَ الإمامِ بوصفِه السّلطةِ الدّينيةِ الأعلى.
الواجباتُ الدّينيةُ
ثمةَ سبعُ واجبات دينيةٍ تعدُّ عباداتٍ إلزاميةً لله، وهي:
- الصلاة 5 مرات يوميًّا.
- صيام شهر رمضان بأكمله.
- الحَجُ إلى الكعبةِ لمرةٍ واحدةٍ في العمرِ، إذا كانَ لدى الفردِ القدرةَ الماديةَ والجسديةَ على الإتيانِ به.
- إيتاء الزّكاة بمقدار قيمةِ العشرِ من بضائعٍ محددةٍ لبيتِ المالِ في نهايةِ السّنة خدمةً للمجتمع وللفقراء.
- دفع خُمْسُ أرباح العام، وتؤدى كحقٍ خاصٍ لإمامِ الزّمانِ.
- الجهادُ؛ الذي تُرجم على نحوٍ غير دقيق أنَّه حربٌ مقدسة.
- الأمرُ بالمعروفِ والنّهي عنِ المنكر، أي حثُ النّاسِ على القيامِ بالأمورِ الحسنةِ ونهيهم عن القيامِ بالأمور ِالسّيئة.
تشاركُ الشّيعةُ والسّنةُ خمسًا مِن هذهِ الفرائضِ الدّينية، هي: الصّلاةُ والصّومُ والحّجُّ والزّكاةُ والجهاد، مع بعضِ التعديلات ِالبسيطة في كيفية أداءِ الأربعِ الأُوَل، ولكنّ ثمةَ اختلافٌ أكبر في تفسير المراد من فريضةِ الجهاد. إذ يعتقدُ الشّيعةُ بأنّه لا يمكن شنّ حرب مقدسة ما لم يكن الإمامُ حاضرًا، هو أو نائبٌ خاصٌ عنه. ولكنّ إذا هجمَ العدوُّ محدقًا الخطرَ ببلدٍ إسلامي أو بالأمّةِ الإسلاميّة، يصبحُ واجِبًا على كلّ فردٍ أن يقاتلَ دفاعًا عَن بلدِه وأُمّتِه.
وتعدّ فريضتا َالخُمْسِ والأمرِ بالمعروفِ والنّهي عَنِ المنّكرِ فريضتيَنِ دينيتَن خاصتَين بالشّيعة. وبالإضافةِ إلى الزّكاة، يدفعُ الشّيعةُ الخُمس- خُمسُ الدّخلِ السّنوي أو أيّ ربحٍ آخرٍ مُكتسبٍ- كحصةٍ لإمامِ الزّمان[9].
كانَ الخُمسُ في حياةِ النّبي يُدْفَعُ إليه، وبعد وفاتِه رأى الشّيعة أنّ من واجبهم دفعَهُ إلى الإمامِ وإلى ذراري النّبي. والآنَ تذهبُ حصةُ الإمامِ المتمثلة بنصفِ هذهِ الضّريبةِ الدّينيةِ إلى المرجعية الدّينيةِ الشّرعيّة، الّتي تتصرفُ بالحصةِ نيابةً عَن الإمامِ بالطريقةِ الّتي تراها مناسبةً بوصفِها نائبةً عَن الإمامِ في غيبته. ويُدْفَعُ النَصفُ الثَاني إلى السّادةِ مِن ذريةِ النّبي، خاصةً الفقراء منهم، حمايةً لشرفِهم مِن مذلةِ العوز الماليّ وتعبيرًا عن المحبةِ والتّقديرِ لهم.
أما فريضة الأمرِ بالمعروفِ والنّهي عَنِ المنكرِ، فقد اعتمدها الشّيعةُ لتبقى الحميّة الدينية فاعلة ومؤثرة. ولم تكن هذهِ الممارسةُ بدايةً خاصةً بالشّيعة، فقد كانَت معتمدة عند المعتزلة أيضًا. ولكنّ الآنَ، وحدَهم الشّيعةُ من يعدونَها فريضةً واجبةً كغيرها من الفرائض كالصّلاةِ والصّوم.
شعائر دينيةٌ أخرى
بالإضافةِ إلى ما ذكرناهُ سابقًا مِن فرائضٍ واجبةٍ، تلتزمُ الشّيعةُ الاثنا عشرية بنحوٍ عظيم من التقديس والاهتمام بإقامةِ شعيرتيّنِ دينيتيَنِ إضافيتَين. وهاتان الشعيرتان هما: إحياءُ ذكرى شهادةِ “الحسين بن علي”، وزيارةُ قبورِ الأئمة. في الواقع، إنّ كلًّا مِن هذهِ الشّعائرِ هي نتيجةٌ طبيعيةٌ وتعبيرٌ عملي عن إيمانِهم بالأئمةِ وحبِهم لآلِ بيتِ النّبي. وعلى الرغمِ مِن أنَ هذهِ الشعائرَ ليسَت فرائضٌ شرعية، إلّا أنَّ الشّيعةَ يلتزمون بها بأعلى درجات الإخلاص والحماسة، وتساعدُ هذه الشعائر على فهمِ المثل الدينية والمعنويةِ عند الشيعة، وكذلك على إدراك المفاهيم الإسلاميّةِ عن الحبِ والعدلِ والقيمِ البشريّةِ والتعاطفِ مع المستضعفينَ وبغضِ الاستبدادِ والظلم عندهم.
إحياء ذكرى شهادةُ الحسين
في العاشرِ مِن شهرِ محرمِ مِن العامِ 61 للهجرةِ/ 680 ميلادي في صحراءِ كربلاء في العراقِ، قتل الحسين بن علي حفيدُ النّبي الأحب إلى قلبه، ابنُ عليّ وفاطمة، وثالثُ أئمةِ الشّيعةِ الاثني عشرية، ومعَهُ اثنان وسبعون مِن أقاربِه وأصحابه على يدِ قواتِ الخليفةِ الأموي الثّاني للمسّلمينَ “يزيد”. ورثَ يزيد منصبَ الخلافةِ مِن والدهِ معاوية، الّذي غصبها بالقوةِ والحيلة، ومارسَ الظلمَ والاستبدادَ والبطشَ والقهر باسمِ الإسلام.
أرادَ يزيد، وهو مصداق كافة أشكال الرذائل والبغي، من الحسين أنْ يبايعيه خليفةً شّرعيًّا للمسلمينَ وأنْ يخضعَ لسلطته. رفضَ سبط النبي طلب يزيد وقدّمَ أعظمَ تضحيةٍ في تاريخِ البشرية بغية حفظ الإسلامَ وحفظ قيم حرية الإنسان وكرامته فيه. فقُتِلَ أمامَ ناظرِه ثمانية عَشَر رجلًا مِن أهلِ بيته، مِن بينِهم ولدُه البالغَ مِن العمرِ ستةَ أشهر، وأربعٌ وأربعونَ مِن أصحابه، ثم قدم هو نفسه قربانًا على مذبح الحّقِّ وفي سبيل الإنسانية.
سُحِقَ جسدُ الحسينِ المثخن بالجراح بحوافرِ الخيولِ، وسُلِبَت خيامُه وحُرِقَت، وسبيت قوافل النّساءُ والأطفالُ المغلوب على أمرهم بخزيٍ في طرقاتِ العراقِ والشّامِ، وتعرضوا للإذلالِ عندما أُحضِروا كالسبايا أمامَ حشودِ مجلس ابن زياد في الكوفةِ ومجلس يزيد في دمشق. وهذا ما حلّ على أهل بيت النّبي وما كان قد مر آنذاك على رحيله أكثر من خمسين سنة.
كانَت شهادةُ الحسين ذاتَ أهميةٍ دينيةٍ ومعنوية ٍعظيمةٍ عند أتباعِ آل بيتِ النّبي، وسرعانَ ما ثَبُتَ أنّها أكثرُ عاملٍ مؤثرٍ في الامتدادِ والانتشارِ السّريعِ لروح التّشيّع. كما أنّها أدّت بنحوٍ جوهري دورًا ذا أهميةٍ عظيمةٍ في ترسيخِ الهويةِ الشّيعيةِّ في الإسلام. ومنذُ ذلكِ الحينِ، أضفى هذا المصيرُ المفّجِعُ لحفيدِ النّبي عُنصُرًا عاطفيًّا عند مذهب التّشيّع، وهو عنصر يجعل النفسَ البشريةَ أكثرَ تفاعلًا دينيًا مقارنةً بتأثيرِ البراهين العقديّة عليها. وهكذا صار موتُ الحسين هوية التّشيّعِ الرّسمي، وصار اسمُه وذكراه جزءًا لا يتجزأ مِن الحماسةِ المعنوية والدّينيةِ للشيعة.
منذُ وقوعِها، صار إحياء ذكرى الفاجعةِ أكثرُ الشّعائرِ الدّينيةِ قداسةً وحرارةً لدى الشّيعةِ في كافةِ أنحاءِ العالم. إذ تقامُ مجالسُ العزاءِ في العَشرِ الأوائلِ مِن شهر محرم، حيث تُوَصّفُ أحداثُ كربلاء الفاجعةَ والمصائبُ الّتي حلَّت على الحسين وآل البيتِ الكرام بأسلوبٍ فصيحٍ ومؤثرٍ. وفي اليومِ العاشرِ مِن محرم، المعروفِ بيومِ “عاشوراء”، يومُ الفاجعةِ، تقام مجالس العزاءُ بمظاهر تَنُمُّ عَن الجزعِ والألم، فيلْطِمُ الحاضرونَ صدورَهم ويرفعونَ رايةَ الحسين الذي سقط من دون ناصر في كربلاء.
ولأنّه لم يُعيَن شكلٌّ محددٌ لشعائرِ محرم، على خلافِ الفرائضِ الدّينيةِ الأخرى، يُلْحَظُ إحياؤها بأشكالٍ وطرقٍ شَتّى في مختلفِ أنحاءِ العالمِ، وذلك وفقًا لعاداتِ النّاس الثّقافيّةِ الاجتماعيةِ وقدراتهم. وبهذا يُعبَّر عن الموضوع ذاته وعن الروحُ ذاتُها بأنماط ثقافية اجتماعية مختلفة، ممثلًا بذلك وحدةً حقيقةً في الهدفِ رغم اختلاف المظاهر. بالإضافة، وعلى الرغمِ مِن أنَّ هذهِ الشّعائرَ ترُكزُ على شهداءِ كربلاء، إلّا أنّها في ذات الوقت تعبّر عَن عاطفة الشيعة اتجاه معاناة الإنسان وعن تعاطفهم مع المظلوم. فكلٌّ مِنَ العربِ والفرسِ والأتراكِ وسكانِ آسيا الوسطى وشيعةِ شبهِ القارةِ الهنّدية والشيعة في مختلفِ أنحاءِ العالمِ يقيمون الشعائر بطريقتِهم المحليّةِ الخاصّةِ وبمشاعرِهم العرّقيّةِ الثّقافيّة الخاصة.
أنتجَت كربلاء على مرورِ الوقت، في جانبٍ آخرٍ لها، أدبًا عظيمًا في غناه وهائلًا في ضخامته في أغلبِ اللّغاتِ الإسّلاميّة. إذ تعدُّ التراجيديا أكثرَ الأراضي خصوبةً لأرقى أدبٍ يمكن للإنسان إنتاجه، كما أنّه في فاجعةُ كربلاء كلُّ ما يستجذب اهتمامِ الشّعراءِ والأدباءِ للتعبيرِ عن القيمِ الأبدية وأنبلَ المشاعرِ الإنسانية. وكانَت العربيةُ اللغةَ الأولى التي كتبت بها مرثياتٌ قصيرةٌ عَن كربلاء، ولكنّ سُرعانَ ما تطرق شعراءُ اللَغاتِ الأخرى إلى هذه القضية، وأنتجوا أرفع الأعمال في كافةِ مراتب ِالشّعر، بدءًا من أرقى القصائد وصولًا إلى الأناشيد الشّعبيّةِ مِنها.
تعجُّ العربيةُ والفارسيةُ والتركيةُ والسنديُة والبشتويةُ والأردويةُ بأشعارٍ ومرثياتٍ عن كربلاء، ولكنّ قد تكونُ الأردو أكثرَ لغةٍ قد أغنَت نفسَها بمحور كربلاء مِن بينِ اللّغاتِ الإسّلاميّة. فَسَما بَعضُ عباقرى الشّعراءِ العظماء في اللّغةِ الأردويةِـ كأنيس ودبير، بالرثاء إلى علياه، وجعلوه أغنَى الكنوزِ ليسَ في الأردو فحسب، بل في الأدبِ العالمي أيضًا. وتحوز مرثياتُ كربلاء عندَ طلابِ الأدبِ الأردوي على الأهميةِ ذاتَها الّتي حازت عليها مسرحيات شكسبير عندَ طلابِ الأدبِ الإنجليزي.
زيارةُ قبورِ الأئمة
إنَّ زيارةَ قبورِ الأئمة، إلى جانبِ شعائرِ مُحرَم، تعدُّ ثاني أشهرَ ممارسةٍ عندَ الشّيعةِ في التعبير عَن وعيهِم الدّيني. والحجُ إلى الكعبةِ فريضةٌ واجبةٌ عندَ الشّيعة، أمّا زيارةُ قبورِ الأئمة هي فعلٌ مستحب ذو قداسةٍ عظيمةٍ وأهميةٍ معنويةٍ عُظمى. إذ يؤمنُ الشّيعةُ بأنَّ الأئمةَ هم المرشدونَ الدّينيونَ والمعنويونَ الملهمونَ من الله، وأنّهم مستودعِ أوامرِ ِالله ومشيئته، وأنّهم هم أحبُ النّاسِ إليه ، وبسببِ إخلاصهم وحبِهم وعبادتِهم أصبحَت قبورَهم أقدسُ المزارات.
فهي إذًا رغبةٌ شديدةٌ تراود ُكلِّ شيعي ليزورَ هذهِ المراقدَ المقدّسةَ على الأقلِ لمرةٍ واحدة، احترامًا لهم ولنيلِ رحمةِ اللهِ ونعمه المنزلة على هذِه القبور. إنَّ هذهِ المراقدَ المقدّسة المرصعة بالذهب والمزخرفة بالتصاميم الرائعة، في النجف وكربلاء ومشهد وسامراء، ومرقدَ أختِ الإمامِ الحسين “زينب” في سوريا، ومرقدَ أختِ الإمامِ عليّ الرضا “فاطمة” في قمِ إيران، هي مقصدٌ لعددٍ لا يحصى مِن الزوارِ الشّيعة.
وليست زيارةَ الأرواحِ المعظمةِ معنويًّا وإلقاءَ السّلامِ عليها ممارسةٌ خاصةٌ بالشّيعةِ فحسب. إذ يَزورُ معظمُ المسلمينَ مِن أهل ِالسّنةِ قبورَ ومراقدَ القديسينَ والمتصوفينَ، والفرقُ الوحيدُ هو أنَّ الشّيعةَ يركزونَ غالبًا على آلِ بيتِ النّبي، بينما يمنح السّنةِ هذا الشرفَ لأي شخص وصلَ إلى مقام معنوي وصوفي رفيع.
مصادرُ الشّريعةِ الدّينية
إنَّ مصادرَ الشّريعةِ عِندَ الشّيعةِ هي إلى حدٍّ ما ذاتها عند السنّة، وبالتحديدِ، القرآنَ والحديثَ والإجماعَ مع بعضِ الاختلافِ في فهم هذه المصادر، ويستبدل الشيعة المصدرَ الرابعِ عِندَ أهلِ السنّةِ (القياس)، بالعقل. وعلى صعيدِ القرآن، مصدر الشّريعةِ الإلهيّة، لا يقبلُ الشّيعةُ إلا التفاسير الّتي قدمَها أحدُ أئمتِهم. وبالنسبةِ للحديثِ، الذي يحصرُه السّنّة بأقوالِ الّنبي، وسّع الشّيعة النطاقَ ليشملَ أحاديث الأئمةِ أيضًا. مما يعطي للشيعةِ امتيازًا فريدًا كونِهم يتبعونَ إرثًا دينيًّا متصلًا غير مُنقطع، حُفظ في عائلةٍ واحدةٍ، وتَوارَثَه الآباءِ إلى الأبناءِ على مدى 261 سنة، بدءًا مع الإمامِ علي، الإمامِ الأوّلِ، وصولًا إلى غيبةِ محمد المهدي، الإمامَ الثّاني عشر، ضمن سلسلة مباشرة غير منقطعة. ويشيرُ مصطلحُ “الغيبةِ” إلى الحالةِ الخفيةِ للإمامِ الثّاني عشر بعدَ غيبتِه عن عالمِ الشهادة؛ دون أن يموت أي يغيب بشكلٍّ كلّيٍ عنّه.
يعني الإجماعُ عنَد الشّيعةِ اتفاقُ آراءِ علماءِ الدّينِ فيما يتعلقُ برؤيةِ الإمامِ لمسألةٍ شرعيّةٍ محدّدة. ووسّع الشيعة نطاق المصدر الأخير المعتمد عند السنة (أي القياس) عبرَ استبدالِه بالعقل. وإنّ أصلُ اعتمادِ الشّيعةِ على العقلِ بدلًا مِنَ القياسِ هو اعتقادهم بأنَّ ما يَحكِمُ به العقلُ يوافقُ عليه الدّين، ومِن هُنا فإنَّ العقلَ أعطيَ مقامًا رفيعًا بجانبِ الوحي.
ومن الخصائص المُمَيّزة للشيعةِ مسألةِ الاجتهادِ، الاجتهادِ الشّخصي لعالمٍ دينيٍ (يُعرَفُ بالمجتهدِ) لحلِّ مسألةٍ شرعيّةٍ مطروحةً في زمانِه، بالاستنادِ إلى المصادرِ الأساسيّة. وأُغلِقَ بابُ الاجتهادِ عندَ أهلِ السّنةِ بعدَ وفاةِ المجتهدينَ الأربعة الكبار؛ “أبو حنيفة”، و”مالك بن أنس”، و”محمد بن إدريس الشافعي”، و”أحمد بن حنبل”، الّذين عاشوا في القرنَين الثاني هجري (الثامن ميلادي)، والثالث هجري (التاسع ميلادي) من تاريخ الإسلام. وباتَت كافةُ أحكامهم الّتي حكموا بها في زمانِهم ملزمةً للأمّةِ، ولم يعد مِنَ المسموحِ لأيّ أحدٍ الاستنباط من المصادرَ الأساسيّة.
في المقابل، ظلّ بابُ الاجتهادِ عندَ الشّيعةِ مشرّعًا دائمًا، فنجد في كلِّ جيلٍ مجتهدينَ قادرينَ على العودةِ مِن جديدٍ إلى المصادرِ الأصيلةِ ليُحُصّلوا جوابًا لمسألةٍ مطروحةٍ بالتوافقِ مَع حالِ زمانهم. يؤدي مجتهدو كلُّ جيلٍ دورَ ممثلي الإمامَ الغائبَ “المهدي”، ويجبُ على كلِّ شيعيٍ تقليدهم في الأمورِ الشّرعية. ونجدُ مراكزَ العلمِ والتعليمِ الّتي تُخرِّجُ مِثلَ هؤلاءِ المجتهدينَ في مدينةِ النجف المقدّسةِ في العراق بالقربِ مِن حرمِ عليّ وفي مدينةِ قم في إيران، حيث حرمُ “فاطمة” أختِ الإمامِ الرّضا.
ولكنّ على الرّغمِ مِن هذهِ الاختلافاتِ في تفسيرِ المصادرِ الأصلية وفي المناهج المتبعة فيها، إلّا أنَّ الفرقَ الحقيقي بينَ الشّيعةِ وأهلِ السّنةِ والجماعةِ في مسائل ممارساتِ الشّريعةِ ليس أكبر من الفرق بين هذه الممارسات في المذاهب السنية الأربعة. على أي حال، يقبلُ الشّيعةُ بإخفاءِ الفردِ لإيمانِه، إذا كانَ الكشفَ عنه يعرضُ حياتَه للخطرِ. ويُعرفُ هذا بالتقيّة، التي سمح بها بسببِ الظروفِ الصعبة الّتي مرت بها الأمة خلالَ الحكمِ السّياسي للأمويين والعباسيين الّذينَ اعتقدوا أنَّ موالاةَ النّاسِ للأئمةِ يشكّلُ خطرًا بالغًا على سلطتِهم. ولم يلغِ الشّيعةُ نصَّ الزواجِ المؤقتِ (المتعة) الّذي سمحَ به النّبي أثناءَ حياتِه وخاصةً في الحروب.
الأدبيات الشّيعية
دوّن الشّيعةُ الاثنَي عشريونَ مجاميع حديثية وكتبًا فقهية خاصة بهم. وبدأَت حركة التدوين عندَ الشّيعةِ منذُ زمانِ الإمامِ الأوّلِ “عليّ بن أبي طالب”، ولكنّها طُوِّرَت بشكلٍّ مكثّفٍ خلالَ ولايةِ الإمامِ السّادسِ “جعفر الصّادق”، عندما دَوَّنَ ما يقاربُ الأربعمئة مِن طلابِه دروسَهُ وأحاديثه المتعلقةَ بالأمورِ العقائديةِ والشّرعية. عرفت هذه المدوّنات “بالأصول الأربعمئة”، واستمرَ أيضًا عددٌ كبيرٌ مِن تلامذةِ الأئمةِ السِّتِ الأواخرِ التالين لجعفرِ الصادق بتدوين كلّ ما سمعوه من أئمتِهم. وعُرف بعض هؤلاء التلامذة باعتبارهم مرجعية كبرى في رواية الحديثِ وفي الفقه وعلمِ الكلام. ويمكن اعتبار هذه الحقبة الفترة الأولى والتّأسيسيّةِ للأدبيات الدّينية الشّيعية.
على كلّ ِحالٍ، بدأَت مرحلةُ تعزيزِ وتوسيعِ عملية التدوين عند الشّيعة قرابَة نهايةِ حقبةِ الأئمة. فألّف العالمُ الدّيني الشّيعي العظيمُ “محمد بن يعقوب الكيلاني” (ت: 329 ه/ 940 م، وهي السنةُ الّتي بدأَت فيها الغيبةُ الكبرى للإمامِ الثّاني عشر) كتابَهُ العظيمِ في الحديثِ “أصول الكافي”، الّذي أدرجَ فيه “الأصولُ الأربعُ مئة” المشهورةَ وأغلبيةُ الرسائل المبعثرةِ الّتي كُتِبَت في عصرِ الإمامة. وتلا كتابَه ثلاثةُ أعمالٍ مهمة؛ “مَن لا يحضره الفقيه” للشيخِ الصّدوقِ بن بابويه القمي (ت: 381 ه/ 991م) و”الاستبصار”، و”تهذيب الأحكام” للشيخِ محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460ه/1068 م). وثبّتت هذهِ الكتبُ الأربعة دعائم التّشيّع، وهي تعدُّ منذُ ذلكِ الحينِ المصدرَ الأساس للحديثِ والفقِه والشّريعةِ والكلامِ عندَ الشّيعة.
إنّها الحقبةُ ذاتِها الّتي جمعَ فيها السّيدُ الشريف الرضي (ت: 406ه/1015م) مواعظ وخِطاباتَ عليّ بن أبي طالب وقِصارَ حِكَمِه ورسائلَه، الّتي كانَت حتّى متناثرةً بين طيّات ما سبقَ مِنَ الكتابات في التّاريخِ والحديثِ والسّيرة. فعُرِفَ كتابُه “بنهج ِالبلاغةِ”، وهو عندَ الشّيعةِ أعظمُ الكتبِ مِن بعدِ القرآنِ وأحاديث النّبي. كما ويجلَّهُ غير الشيعة من المسلمين ويحترمونه، ولقد شكّل مصدر جَذبٍ لعددٍ مِن علماءِ السّنةِ الذين كتبوا شروحات عليه، وكانَ أشهرُهم ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 655ه/ 1257 م) الّذي كتبَ شَرحًا ضخمًا، أصبحَ واحدًا من أهم الأدبيّات المدوّنة في التراث الإسلامي.
اعتنقَ علي، أوّلُ إمامٍ عندَ الشّيعةِ ورابعُ الخلفاءِ الراشدينَ وآخرُهم عندَ أهلِ السّنة، الإسلامَ في الثّالثة عشر منِ عمرِه، ولأنَّ النّبي قد تبناهُ في طفولته، كَبُرَ عليّ تحتَ الرعايةِ والوصايةِ الشّخصيةِ لمتلقي الوحي الإلهي؛ ومؤسسِ الإسلام. فأعطَت هذهِ الظروفُ لعليّ صلاحيةً خاصةً للتّحدثِ باسمِ الإسلامِ ومعتقداتِه وأفكارِه ومفاهيمِه الأساسيّةِ ونظرياتِه وممارساتِه وأصولِه ومُثلِه، ولتفسيرِ القرآنَ والسّنةَ بكل ثقة. بالتّالي تمَ التّعاملُ مع شروحاتِه على أنّها أكثرُ مصادرَ الفكرِ الإسلامي والممارساتِ الإسلاميّةِ شرعيّة، وخاصةً مِن قبلِ الّذين يتبعونَه حصرًا بعدَ النّبي.
يمكنُ تقسيمُ نهجِ البلاغةِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: تاريخيّةٍ وعقدية وأخلاقيّةٍ. وفي ما يخصّ القسم التاريخي، كان عليّ مشاركًا فعّالًا ومتحمّسًا في كافةِ الأحداثِ الّتي وقعَت منذُ بعِث محمد نبيًا في العامِ 610 ميلادي حتّى وفاتِه في العام 40 من الهجرة/ 661 ميلادي. وبالتالي، شكّلت خطبه العرض الأكثر أصالة لأحداث المرحلةِ التّأسيسيةِ للإسلام. أما في الجانب العقدي، فمَن قد يكونُ لَهُ شرعيةٌ أكثر من عليّ للحديثِ عن التّعاليمِ العقائديةِ الّتي تلقاها مباشرة وبشكل خاص مِنَ النّبي؟ ناهيك عن أنَّ عليًّا كانَ الإمامَ والولي، فهو بالتاّلي مصدر إلهام إلهي للعقيدة.
تتحدّث السّطورٌ التّاليةُ المقتبسة مِن أوّلِ خطبةٍ في نهجِ البلاغةِ، عن مفهومِ اللهِ، لتعطينا فكرةً عَن كيفية تأسُّس العقل الحكيم والفلسفي لعليّ على أساس التعاليم الإسلاميّة ، وكيف أظهر ذلك ببلاغته الفريدة:
“الحمد لله الّذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصي نعماءه العادون. ولا يؤدي حقه المجتهدون، الّذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن. الّذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود. ولا وقت معدود ولا أجل ممدود. أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به. وكمال التصديق به توحيده. وكمال توحيده الإخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حده. ومن حده فقد عده، ومن قال فيم فقد ضمنه. ومن قال علام فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم. مع كلّ شئ لا بمقارنة. وغير كلّ شيء لا بمزايلة”.
وبالنسبةِ لأهميةِ نهجِ البلاغةِ، قد يكفي أن نشيرَ إلى أنّ كافةَ أعمالِ الشّيعةِ اللّاحقة تأثرَت بهِ بشكلٍّ كبيرٍ، سواءٌ في مجالِ التفاسير القرآنية أو الحديثِ أو الفقهِ أو الشّريعةِ أو الكلامِ أو الفلسفةِ أو العرفانِ أو الأخلاقِ. ويَظهرُ أثرُ فكرِ عليّ بشكلٍّ جليٍ في الأعمالٍ السّنيةِ أيضًا، وخاصةً في تلكَ المتعلقةَ بالأخلاقِ والفلسفةِ والتّصوفِ والثيوصوفيا. بالإضافةِ إلى أنَّ آثارَ نهجِ البلاغةِ على فقهِ اللّغةِ العربيّةِ وأدبها كانَت الأبرزَ.
إنَّ المراحلَ المتعاقبةَ في تاريخَ الأدبيات الشّيعية، الممتدةَ على طولِ 800 سنة، خلالَ حكمِ المنغولِ والصفويينَ والقاجاريينَ في إيران ومغولِ الهند، غنيةٌ جدًّا مِن حيثُ الكميّةِ والنّوعيّةِ في كلِّ فرعٍ من فروعِ التّعليمِ الإسلامي، بحيث أنّنا لا يسعُنا أن نشير إليها جميعها ولو بشكل مختصر في هذهِ المقالة. على أيّ حالٍ، قد يكونُ عهدَ الصفويينَ في إيران الأكثرُ شهرةً لما فيه من تماس بين صوفيةِ ابن عربي وفلسفةِ ابن سينا وثيوصوفيا الإشراقية للسهروردي وعلمِ الكلامِ عندَ الشّيعة، الّذي بلغَ ذروتَه بعدَ أن كانَ قد نشأَ في فترةٍ سابقة. وبلغَ الانسجامُ بينَ الفلسفةِ والصوفيةِ والثيوصوفيا وعلمِ الكلامِ أعلى درجاتِه على يدِ علماء الشّيعةِ العظامِ مير باقر داماد (ت: 1041 ه/ 1631 م) وصدر الدين الشيرازري المشهورِ بالملا صدرا (ت: 1050/1640).
الصلوات والأدعية التعبّديّة
إنّ الاعتقادَ بأنَّ اللهَ هو الرحمانُ والغفورُ والخالقُ الوحيدُ والرزاقُ الوحيدُ، يوجب على المسلمِ التعبيرَ عَن هذهِ المعتقداتِ عبرَ جعلِ اللهِ معبوده الأوحد. وتتجلّى هذهِ العبادةُ في ظاهرها على شكلِ الصلواتِ الواجبةِ والصّيامِ وغيرِها. وأمّا في بعدِها الدّاخلي فتتجلى عبرَ الأدّعيةِ والمناجيات الخاشعة. فبالتّالي، إنّ الدعاءَ والمناجاة هي أصدقُ أشكالِ اعترافِ المسلمينَ بالتّسليمِ لمشيئةِ الجبّار.
لقد تركَ لنا نبي الإسلام والأئمةُ الاثنا عشر مِن ذريته، بمعرفتِهم الباطنية للهِ وسموّ نفسهم الّتي بَلغَت أعلى الدّرجاتِ، وبأرواحِهم المطهّرة وبسلوكياتهم وممارساتهم الأخلاقية، وبحبِهم وذكرِهم غير المنقطعِ للهِ وتضحيتهم وتسلمِيهم التّامِ للمشيئةِ الإلهيّة. وتظهرُ هذهِ الأدّعيةُ حاجةَ الإنسانِ وفقرِه وضعته وذلّه وشوقه للتوبة ويقينه الذي لا يهتزّ. وليست هذه الأدعية للخطابةِ إنّما للتفكّر، وليست تعابيرًا مجازيةً، إنّما ندمَ روحٍ ونداءً صادرًا عن إيمانٍ راسخٍ يخاطب ذا الرّحمة. إنّ هذه الأدعية هي أرقى أدبٍ معنويٍ إسلامي.
إنّ بعضُ الأدّعيةِ الّتي كتَبها عليّ بن أبي طالب ليسَت مجرّد روائع في الأدبِ التّعبدي فحسب، بل إنَّها منبع المفاهيمُ الفلسفيةُ والصوفيةُ والماورائيةُ والأخلاقيةُ والكلّاميةُ في الإسلام. وبحرارةٍ عباديةٍ وبلاغة في التعبير، تتضمنُ هذهِ الأدعيةُ مواضيعًا أساسيةً كتلكَ المتعلقةَ بوحدانية الله ِوأبديتهِ وخلقِه، وبقوتِه وجلاِله، وبرحمتِه ومغفرتِه، وبذاتِه وبعلاقتِه مَع البشرية.
وتبيّن بعضُ السّطورِ الّتي كتبَها لأحدِ تلامذتِه، كميل بن زياد، هذهِ الصّفات:
“اَللّـهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الّتي وَسِعَتْ كلّ شَيْء، وَبِقُوَّتِكَ الّتي قَهَرْتَ بِها كلّ شَيْء، وَخَضَعَ لَها كلّ شَيء، وَذَلَّ لَها كلّ شَيء، وَبِجَبَرُوتِكَ الّتي غَلَبْتَ بِها كلّ شَيء، وَبِعِزَّتِكَ الّتي لا يَقُومُ لَها شَيءٌ، وَبِعَظَمَتِكَ الّتي مَلاَتْ كلّ شَيء، وَبِسُلْطانِكَ الّذي عَلا كلّ شَيء، وَبِوَجْهِكَ الْباقي بَعْدَ فَناءِ كلّ شَيء، وَبِأَسْمائِكَ الّتي مَلاَتْ اَرْكانَ كلّ شَيء، وَبِعِلْمِكَ الّذي اَحاطَ بِكلّ شَيء، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الّذي اَضاءَ لَهُ كلّ شيء………. اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي كلّ ذَنْب اَذْنَبْتُهُ، وَكلّ خَطيئَة اَخْطَأتُها.”[10]
ومن المهمّ أن نوليَ اهتمامًا خاصًا بمجموعة أدعية ذاتَ قدرٍ بالغٍ مِن الأهمية، وهي “الصحيفة السجادية” أو “الصحيفة الكاملة” للإمامِ الرابع “زين العابدين”، المعروفِ أيضًا بالسّيدِ السجّاد. تعرفُ هذهِ المجموعةُ أيضًا بـ”زبور آل محمد”. وشَهَدَ زين العابدين، وهو الناجي الوحيدُ من أبناء شهيد كربلاء، الفاجعة التي حلّت بوالدِه وثمانية عشر رجلًا مِن عائلته، مما تركَ أثرًا عميقًا في روحِه وأبكاهُ طيلةَ حياته. ولقد امتزجت تلك الدموع مع العاطفةِ المتأججةِ للمناجيات الّتي تطلب وصالِ اللهِ وتَعْهَدُ إليه بأسرارِ الحياةِ الباطنيةِ.
في هذهِ الأدعية، تجدُ إنسانًا وحيدًا وضعيفًا، واقفًا أمامَ خالقِه ومتصلًا به بشكلٍّ مباشرٍ ويدعوه من صميمِ قلبِه، في صخبِ وضجيجِ الحياةِ، وفي تصادمِ العواطفِ والاهتمامات، وفي ضغطِ وإجهادِ الرغباتِ المباشرة، وفي مصاعبِ الوجود وتوتراتِه، والأهمُ، في رحلة البحثِ عن الرضا المعنوي. لذا تشكّل أدعيةُ الصحيفةِ أفضلَ تعبيرٍ عن العلاقةِ بينَ الإنسانِ واللهِ، بين العابدِ والمعبودِ، بين العبدِ والسيدِ، وبين المحبِ والمحبوبِ، وبين المكروبِ و”المجيبِ”، وحتمًا بينَ الروحِ ِالفرديةِ والروحِ المطلقة. وقد يعطينا المقطعُ التّالي فكرةً عَن الجمالِ المقدّس لأدعيتِه:
“اللَّهُمَّ يَا مَنْ بِرَحْمَتِهِ يَسْتَغِيثُ الْمُذْنِبُونَ، وَيَا مَنْ إلَى ذِكْرِ إحْسَانِهِ يَفْزَعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَيَا مَنْ لِخِيفَتِهِ يَنْتَحِبُ الْخَاطِئُونَ، يَا اُنْسَ كلّ مُسْتَوْحِش غَرِيبِ، وَيَا فَرَجَ كلّ مَكْرُوب كَئِيب، وَيَا غَوْثَ كلّ مَخْذُوَل فَرِيد، وَيَا عَضُدَ كلّ مُحْتَاج طَرِيد.
أَنْتَ الّذي وَسِعْتَ كلّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْماً، وَأَنْتَ الّذي جَعَلْتَ لِكلّ مَخْلُوق فِي نِعَمِكَ سَهْماً، وَأَنْتَ الّذي عَفْوُهُ أَعْلَى مِنْ عِقَابِهِ، وَأَنْتَ الّذي تَسْعَى رَحْمَتُهُ أَمَامَ غَضَبِهِ، وَأَنْتَ الّذي عَطَآؤُهُ أكْثَرُ مِنْ مَنْعِهِ، وَأَنْتَ الّذي اتَّسَعَ الْخَلاَئِقُ كلّهُمْ فِي وُسْعِهِ… هَا أَنَا ذَا يَا رَبِّ مَطْرُوحٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَنَا الّذي أَوْقَرَتِ الْخَطَايَا ظَهْرَهُ، وَأَنا الّذي أَفْنَتِ الذُّنُوبُ عُمْرَهُ، وَأَنَا الّذي بِجَهْلِهِ عَصاكَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلاً مِنْهُ لِذَاكَ”[11].
[1] سورة البقرة، الآية 124.
[2] سورة البقرة، الآية 124.
[3] سورة البقرة، الآية 124.
[4] سورة إبراهيم، الآية 37.
[5] سورة مريم، الآية 58.
[6] سورة النساء، الآية 54.
[7] سورة آل عمران، الآية 33.
[8] مقتبس من كتاب السيد حسين م. الجفري “أصول المذهب الإسلاميّ الشيعيّ وأولى تطوّراته”، (لندن-لونجمان- 1979)، الصفحة 294.
[9] توضيح الخمس.
[10] دعاء أمير المؤمنين، عليّ ابن أبي طالب، ترجمة ويليام شتيك (لندن، محمدي ترست، لا يوجد تاريخ)، 20.
[11] الصحيفة الكاملة، ترجمة الأستاذ أحمد عليّ المهني (لكنهؤ: جمعية مؤيد العلوم، 1969-70)، الدعاء رقم 16، الصفحة 60.
المقالات المرتبطة
الطبيعة البشريّة: العدالة في مقابل القوّة- نقاش بين نوام تشومسكي وميشال فوكو
لئن شكّلت اللغة، أو الخطاب، نقطة الانطلاق في النقاش حول الطبيعة البشريّة بين تشومسكي وفوكو، فإنّ بؤرة النقاش كانت التداعيات السياسيّة للتصوّرات المختلفة حول هذه الطبيعة.
الخرافة بوصفها انحرافًا في العقل الإيماني الغيبي
قلّما وجدت مفهومًا ملتبسًا كمفهوم “الخرافة”. وكذلك لم أجد ما يناظره ضمن الحيثيات الشائكة، والمتداخلة، والمتنوعةِ المنطلقات والنوازع، الموجودة في
الموت كتجلٍّ للمقدّس: في العلاقة بين الموت والمقدَّس
فالإنسان في هذه الدّنيا، يجب أن يتصوّر نفسه دائمًا كالمهاجر إلى الله، يقف على محطات متعدّدة، وهي عبارة عن ميتات، يبعث من بعدها من جديد.