تاريخ علم الكلام | الدرس الخامس | كلام غير الإماميّة في حقبة التنظير: نشأة المعتزلة وتاريخها

by السيد حسن طالقاني | يوليو 9, 2021 1:06 م

أهداف الدرس

1- تحديد وضعيّة علم الكلام ومكانته في القرن الثالث؛

2- تبيين تاريخ نشوء مدرسة المعتزلة الكلاميّة وإيضاح العوامل المؤثّرة في نشوئها؛

3- تعريف المراحل والتحوّلات المختلفة للاعتزال.

تذكرة

تعرّفنا في الدرس السابق على المسائل الكلاميّة التي طُرحت في القرن الأوّل الهجري، وقلنا إنّ مجموعةً من المسائل وقعت محلًّا للنقاش والبحث بين العلماء في هذا القرن من قبيل: مسألة الإمامة وقيادة المجتمع الإسلامي، مسألة الإيمان والكفر، مسألة القضاء والقدر وعلاقتها باختيار الإنسان، ومسـألة الصفات الإلهيّة.

وقد كانت كلّ واحدة من هذه المسائل محورًا لتَشكُّل تيّار فكريّ معيّن، فمسألة الإمامة كانت محور تشكُّل التيّار الشيعي، ومسألة الإيمان والكفر أدّت إلى ظهور تيّارَين كحدّ أدنى: الخوارج والمرجئة. أمّا مسألة القضاء والقدر فكانت سببًا في ظهور تيّار القدريّة، فيما أدّت مسألة الصفات الإلهيّة إلى ظهور تيّارَين: المشبّهة وفي مقابلهم الجهميّة.

يُعدّ العمل في نظر الخوارج ركنًا في الإيمان، فالشخص المؤمن يخرج عن إيمانه بارتكابه للمعصية الكبيرة، وفي مقابل هذا الرأي يقف المرجئة؛ حيث اعتبروا رتبة العمل متأخّرةً عن الإيمان وغير مؤثرة فيه أبدًا.

ومن جهة أخرى، ذهبت القدريّة إلى أنّ أفعال الإنسان خارجة عن ميدان القضاء والقدر، وكانوا يعتقدون أنّ الإنسان يمتلك حريّةً واختيارًا كاملَين، وأنّه لا حاكميّة للقدر الإلهيّ على أفعال الإنسان.

أمّا تيّار الجهميّة فقد وقف في مواجهة المشبّهة فأنكر الصفات الإلهيّة فرارًا من التشبيه، ونتيجةً لذلك راح يؤوّل الصفات الخبريّة التي وردت في القرآن والروايات، وهكذا كان التأسيس لمذهب التأويل العقلي للآيات القرآنيّة في الفكر الإسلامي.

سنبحث في هذا الدّرس وضعيّة علم الكلام والتيّارات الكلاميّة ومكانتها في حقبة التنظير.

وقد تبيّن في درسٍ سابقٍ أنّ تاريخ الكلام الإسلامي في مرحلة الأصالة والاستقلال انقسم إلى حقبات عدّة، كانت أوّلها حقبة تشكُّل المسائل الكلاميّة ونشوئها، التي استمرّت حتّى أواخر القرن الأوّل الهجري. وقد اقتصر الأمر في تلك الحقبة على طرح مسائل كلاميّة، ولم نشهد تطوّرًا وتكاملًا للتيّارات الكلاميّة. أمّا في القرن الثاني للهجرة فقد بدأت التيّارات الكلاميّة تدخل مجال التنظير تدريجيًّا، وهذا ما أدّى إلى ظهور مدارس كلاميّة ونشوئها.

مدرسة المعتزلة الكلاميّة

تُعدّ مدرسة المعتزلة واحدةً من أوائل المدارس الكلاميّة التي تشكّلت عند أهل السنّة، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المدرسة تشكّلت في القرن الثاني الهجري مع بداية التنظير الكلامي المستند إلى الأسلوب والمنهج العقلي، ممثّلةً أهمّ المدارس الكلاميّة عند أهل السنّة على امتداد فترة ما بين القرنَين الثاني والخامس الهجريَّين، ويمكن القول إنها كانت المدرسة الكلاميّة الوحيدة في الفكر السنّي حتّى القرن الرابع.

وبحسب الرأي المشهور، يُنسب تأسيس مدرسة الاعتزال إلى شخص يُدعى <واصل بن عطاء>، فلقد عمل هذا الشخص بمساعدة <عمرو بن عبيد> على إرساء قواعد مدرسة المعتزلة وتأسيسها. نعم، يذكر البعض للمعتزلة تاريخًا سابقًا على هذا، فالمعروف أنه كان من بين التيّارات السياسيّة التي ظهرت في القرن الأوّل الهجري مجموعةٌ نأت بنفسها عن الخلافات والصراعات التي ظهرت في هذا القرن وعُرفت باسم <المعتزلة>. هذه المجموعة كانت قد تجنّبت الدخول في النزاع والاشتباك الدائر في حرب الجمل ولم تنتصر لأيّ من الطرفَين، ولهذا السبب – أي اعتزالها الحرب وتجنّبها إياها – عُرفوا باسم المعتزلة[1][1]، إلّا أنّ وجود علاقة بين هذه المجموعة من الاعتزال السياسي والتيّار الفكري لواصل بن عطاء – أي مدرسة المعتزلة الكلاميّة – محلّ تردّد. يذكر بعض مؤرّخي تاريخ الكلام وجود نحوٍ من العلاقة الفكريّة بين واصل بن عطاء وتيّار الاعتزال السياسي، فيما ينفي آخرون وجود أيّ علاقة وارتباط بينهما، وبهذا تكون مدرسة المعتزلة نظامًا كلاميًّا لم يكن له سابقة بين العلماء في القرن الأوّل الهجري.

وهكذا، تكون مدرسة المعتزلة قد ظهرت في البصرة على يد واصل بن عطاء، وقد ذكروا حول ظهور هذا التيّار وهذه المدرسة الكلاميّة وتسميتها بالاعتزال والمعتزلة أنّ واصل بن عطاء كان يشارك في الحلقة الدراسيّة للحسن البصري في مدينة البصرة، وكانت مسألة وإشكاليّة حدود الإيمان والكفر في تلك الفترة من الأسئلة والإشكاليّات المطروحة في المجتمع الإسلامي، وكما أشرنا سابقًا فإنّ أهمّ المسائل التي وقعت موردًا للنزاع بين الخوارج والمعتزلة كانت مسألة حكم مرتكب الكبيرة، وهل أنّه مؤمن أو كافر. وفي هذا السياق، يُنقل أنّ أحدًا سأل في درس الحسن البصري ذات يوم عن مرتكب الكبيرة: هل هو مؤمن أو كافر؟ فتصدّى واصل بن عطاء قبل أستاذه للإجابة عن هذا السؤال – إذ كان حاضرًا آنذاك – مدّعيًا بأنّ مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا بل هو في منزلة ما بين الكفر والإيمان، وعُرفت هذه المنزلة بعنوان <المنزلة بين المنزلتَين>، وقد صارت هذه النظريّة فيما بعد أهمّ أفكار المعتزلة ونقطة تمايزهم عن الآخرين. ويُذكر أنّ واصل بن عطاء اعتزل عن درس الحسن البصري حينها، وانشغل بتوضيح آرائه ومعتقداته، فقال الحسن البصري حينها: <اعتزل عنّا واصل>، فكانت هذه العبارة سببًا لتسمية أتباع واصل وفرقته بالمعتزلة، ولقد اتّخذ المعتزلة موقعًا في مواجهة تيّارَي الخوارج والمرجئة من خلال تأكيدهم على فكرة المنزلة بين المنزلتَين.

يُعتبر من أهمّ خصائص وميزات طريقة المعتزلة ومنهجهم التأكيد على العقل كمصدر معرفي، إذ عدّ متكلّمو المعتزلة العقل أهمّ مصدر من مصادر المعرفة، واعتقدوا بأنّه يمكن كسب جميع المعارف الدينيّة الأساسيّة وتحصيلها من خلاله. ومن المعلوم أنّ المعتزلة اتّخذت لنفسها شعارًا أساسيًّا مفاده <المعارف كلّها معقولة بالعقل>[2][2]، وهذا يعني أنّهم يعتقدون بإمكان معرفة جميع المعارف الدينيّة الأساسيّة من خلال العقل. ومن ناحية أخرى، فمنهجيّة المعتزلة ومقاربتها في التعاطي مع الأحاديث ومصادرها جديرة بالاهتمام، ففي القرن الثاني للهجرة وبعد انتهاء <فترة الحظر ومنع تدوين الأحاديث>[3][3]، تصدّى الكثيرون لإعادة جمع هذه الأحاديث النبويّة. في هذا الإطار، يرى المعتزلة أنّ هذه الروايات كانت أخبار آحاد، ووصلت إلينا بهذا السند دون مستوى التواتر. وبناءً عليه، فهذه الروايات لا تفيد علمًا ولا يمكن الاعتماد عليها، ومن هنا لا يمكن عدّها وتقديمها كمصدرٍ من مصادر المعرفة الدينيّة. أمّا القرآن الكريم، وعلى الرغم من قطعيّة صدوره، إلّا أنّ الكثير من آياته مجملة أو متشابهة وبالتالي فهي تحتاج في مقام الدلالة إلى التفسير والتأويل، وفي هذا السياق، وحده الرجوع إلى العقل قادر على مساعدتنا. وكيف كان، فعندما يتعذّر النظر إلى القرآن والروايات كمصدرَين أساسيَّين في استنباط معارف الدين، يصبح العقلُ المصدرَ الوحيدَ الذي يتمتّع بالقيمة اللازمة في مقام التعرّف على مسائل الدين المهمّة والأساسيّة. وبالتالي، فإنّ المعتزلة تُعرف على أنّها مدرسة ذات نزعة عقليّة تُبدي أهميّةً قصوى للمصدر المعرفي المتمثّل بالعقل.

 

المراحل الفكريّة المختلفة لتيّار المعتزلة

تشكّل تيّار الاعتزال في أوائل القرن الثاني للهجرة، ومرّ بالعديد من التحوّلات قاطعًا مراحل مختلفة، إلى أن وصل به المطاف إلى الزوال في القرن الثامن للهجرة. ويمكن تقسيم تاريخ الفكر الاعتزالي إلى ثلاث مراحل أساسيّة: المرحلة الأولى ويمكن تسميتها <مرحلة التشكّل>، بدأت في أوائل القرن الثاني للهجرة مع طرح نظريّة المنزلة بين المنزلتَين من قبل واصل بن عطاء، الذي سعى من خلال هذا الطرح إلى جمع أتباعه حوله، وعمد تدريجيًّا إلى طرح الأفكار في سائر المسائل الاعتقاديّة، فتشكّل التيّار الفكري المعتزليّ. هذا، وقد عرفت نهايات القرن الثاني الهجري، مع قيام عمرو بن عبيد وتلامذته بترويج أفكار واصل بن عطاء ونشرها، توسّعًا وانتشارًا نسبيًّا لهذه المدرسة الكلاميّة التي باتت معروفةً في المجتمع الإسلامي.

المرحلة الثانية من مراحل تاريخ الفكر الاعتزالي نسمّيها <مرحلة التكامل>. في هذه المرحلة، التي بدأت مع بداية القرن الثالث الهجري، تعرّف علماء المعتزلة على الآثار والأفكار الفلسفيّة، وراحوا يستفيدون من المباني الفلسفية في توسعة وبيان معتقداتهم، واستحدثوا قسمًا باسم <لطيف الكلام> أو <دقيق الكلام> تُبحث فيه موضوعاتهم الكليّة ومبانيهم الفلسفيّة. وصحيح أنّ هذه المباحث لم تكن من سنخ المباحث الإلهيّة بَيد أنّه يمكن الاستفادة منها في الاستدلالات الإلهيّة. لقد أنشأ المعتزلة هذا القسم من الأبحاث تحت تأثير جدّيّ من الأفكار الفلسفيّة، وبالطبع فقد اشتملت هذه الأبحاث على الآراء الكلاميّة لعلماء المعتزلة. وفي هذه المرحلة أيضًا، عمل العبّاسيّون على دعم آراء المعتزلة وحمايتها، وعلى ضوء هذه الحماية السياسيّة راحت مدرسة المعتزلة تعمل على توسعة أفكارها الكلاميّة وترويجها.

وقد تميّز العديد من كبار متكلّمي المعتزلة المنظّرين في هذه المرحلة، وكان من جملتهم: أبو هُذيل العلّاف (المتوفّى سنة 235 للهجرة)، إبراهيم النظّام (المتوفّى سنة 256 للهجرة)، عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى سنة 259 للهجرة).

أمّا المرحلة الثالثة والأخيرة، فقد كانت <مرحلة الكمال> التي بدأت في القرن الرابع الهجري، وفيها عمل متكلّمون كبار أمثال أبي علي الجبّائي وابنه أبي هاشم الجبّائي والقاضي عبد الجبّار على إيصال هذه المدرسة الكلاميّة إلى أوجها. وقد تصادفت هذه المرحلة مع حقبة تشكّل الأنظمة الكلاميّة الجامعة؛ إذ ذكرنا أنّ القرن الرابع للهجرة شهد تشكّل هذه الأنظمة. عرض علماء المعتزلة في هذه المرحلة أفكارهم الكلاميّة ضمن قالب نظام شامل وجامع، وفيها أيضًا دُوّنت كتب تفصيليّة في علم الكلام، وقد بذل علماء المعتزلة جهودًا واسعة في هذا المجال. تشير الكتب التي ألّفها علماء المعتزلة، كالجبّائيَّين والقاضي عبد الجبّار بشكل خاصّ، إلى كمال الأفكار الكلاميّة عند المعتزلة في هذه المرحلة، ولا شك في أن الأعمال التي تركتها هذه الشخصيّات تستحقّ الاهتمام، لا سيّما كتاب القاضي عبد الجبّار المغني في أبواب التوحيد والعدل، لكونه موسوعةً كبيرةً في علم الكلام. هذا الكتاب – الذي وصلت إلينا منه أجزاء كثيرة، وقد طبع بطبعة منقّحة – يدل على توسّع أفكار المعتزلة ذات النزعة العقلية في هذه المرحلة وكمالها.

 

انشعابات المعتزلة وطوائفها

تذكر مصادر الفرق والمذاهب تشعّبات وطوائف عدة للمعتزلة، فبالعودة إلى كتبٍ كـمقالات الإسلاميّين والفَرْق بين الفِرَق والتبصير في الدين والملل والنحل وغيرها، نجد أنّها قد ذكرت فِرقًا وطوائف متعدّدةً ضمن مدرسة المعتزلة تصل أحيانًا في بعض المصادر إلى 20 فرقة، في حين أنّ الرجوع إلى فكر المعتزلة يشير إلى أنّ هذه الفرق والطوائف ليست في الحقيقة فرقًا أو تيّارات مستقلّة، بل كلّ واحدة من هذه الفرق والمجموعات المذكورة كان انعكاسًا لأفكار أحد متكلّمي المعتزلة؛ إذ من الطبيعي أن توجد اختلافات جزئيّة بين العلماء والمتكلّمين داخل أيّ فرقة أو مدرسة كلاميّة، ولا يمكن لنا أن نعدّ كلّ عالم أو متكلّم من هؤلاء مبدأً لظهور وتشكّل فرقة مستقلّة. بناءً عليه، نحن نعتبر تعدّد فرق المعتزلة نتيجةً للخصومات والاختلافات الفكريّة التي حصلت بين المعتزلة والأشاعرة.

نجد ضمن التصنيفات التي ذُكرت للمعتزلة ما يستحقّ الاهتمام والعناية، إذ تذكر المصادر المختلفة – سواء الكلاميّة أو غيرها – أنّ مدرسة المعتزلة انقسمت على مرّ تاريخ تحوّلاتها إلى فرعَين: بصريّ وبغداديّ. فقد كانت مدينة البصرة مقرًّا ومركزًا للمعتزلة ومكان نشوئها وتشكّلها، وقد عرض واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أفكارهم في البصرة التي كانت مكان تواجد تلامذتهم وأتباعهم أيضًا. وفي الواقع، بقيت هذه المدينة مقرًّا ومركزًا أسياسيًّا للمعتزلة لسنوات عدة.

وفي أواخر القرن الثاني الهجري، توجّه أحد أتباع مدرسة المعتزلة الذي كان قد تتلمذ في البصرة وحضر دروس الكلام عند أساتذة المعتزلة إلى بغداد وأسّس فيها فرعًا وتيّارًا آخر للمعتزلة. هذا التيّار الجديد في بغداد اختلف في أمور عدّة مع معتزلة البصرة. ونتيجةً لذلك، انقسمت مدرسة المعتزلة الكلاميّة إلى قسمَين وفرعَين: معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد. وعلى الرغم من أنّ هذَين التيّارَين أو هاتَين المدرستَين كانتا تشتركان في المعتقدات وأصول الفكر الاعتزالي، إلّا أن الاختلافات كانت موجودةً بينهما[4][4]. وقد أُنجزت العديد من الأبحاث والتحقيقات في مسألة الاختلافات الكلاميّة بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، وكُتب العديد من المقالات والكتب في هذا المجال، إلّا أنّ التمايز الدقيق بين هذَين الفكرَين ليس واضحًا بما فيه الكفاية.

من أهمّ الاختلافات بين مدرسة المعتزلة الكلاميّة في البصرة ومدرسة المعتزلة في بغداد كان الاختلاف في مسألة الإمامة ومكانة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) بين الأصحاب، فتيّار المعتزلة البصريّ الذي أسّسه واصل بن عطاء لم يكن ينظر إلى الإمام عليّ (عليه السّلام) نظرةً إيجابيّةً، إذ كان واصل بن عطاء يعتبر أنّ طرفَي النزاع في حرب الجمل مقصّرون، ويرى أنّ أحد الطرفَين على نحو الإجمال قد أخطأ، ومن هنا لم يكن يتولّى أو يحبّ أيًّا منهما. أمّا معتزلة بغداد فقد كانوا يعتقدون بأنّ الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو الأفضل بين الصحابة، بل كانوا يقولون أيضًا بأفضليّته على الخلفاء الأوائل؛ وهكذا شكّلت هذه المسألة إحدى أهمّ الاختلافات بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد.

إنّ الميول السياسيّة وعلاقة هذَين التيّارَين مع الخلافة العبّاسيّة ودخولهم في الميدان السياسي هي الأخرى من المسائل المهمّة في هذا المجال، فلقد دخل التيّار البغدادي ميدان السياسة، لا سيّما في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وحاز على دعم وتأييد الخلافة وجهاز الحكم العبّاسي، أمّا التيّار البصري فلم يكن يرغب كثيرًا في دخول الميدان السياسي.

وكذلك الحال في الاختلاف على الصعيد الفكري، حيث كانت معتزلة البصرة خلافًا لمعتزلة بغداد تُبدي ميلًا كبيرًا تجاه الأبحاث الفلسفيّة. وعلى كلّ حال، فإنّ بين هذَين الفرعَين اختلافات كثيرة يمكن تتبّعها.

أفول فرقة المعتزلة

المسألة الأخيرة في بحث تاريخ المعتزلة هي أفول هذا التيّار الفكري. عرفت مدرسة المعتزلة على مرّ تاريخها تقلّبات عديدة، وكما ذكرنا فبعد تشكّله في القرن الثاني الهجري واتّساعه حتىّ القرن الثالث، حظي هذا التيّار بحماية سياسية في فترة خلافة المأمون والمعتصم والواثق العبّاسيين، وتمكّن من نشر أفكاره وتوسعتها. إلا أن عصر خلافة المتوكّل كان مختلفًا، حيث قُمع هذا الفكر وواجه أفولًا نسبيًّا، غير أنّ وجود علماء كبار أمثال أبي علي الجبّائي وأبي هاشم الجبّائي وفيما بعد القاضي عبد الجبّار حال دون تحقّق الأفول التامّ لهذا الفكر في المجتمع الإسلامي.

وقد عمل آل بويه في القرن الرابع الهجري وحتّى منتصف القرن الخامس بوصفهم حكومةً شيعيّةً ذات نزعة عقليّة على تأمين الحماية للفكر المعتزلي ونزعته العقليّة، فعادت الحياة بذلك تدبّ في جسد المعتزلة، لكن مع سقوط دولة آل بويه في منتصف القرن الخامس الهجري ووصول زمام الأمور والحكم إلى السلاجقة والغزنويّين – الذين كانوا حكومات متعصّبة ذات نزعة ظاهريّة – أفل الفكر المعتزلي وعرف تيّارهم نهايةً مشؤومة. عمل السلاجقة والغزنويّون على دعم تيّار الأشاعرة الكلامي الذي كان منافسًا حقيقيًّا للمعتزلة في تلك المرحلة، ومع ممارسة الضغط على متكلّمي المعتزلة ونفيهم وطردهم من مراكز العالم الإسلامي، اتّجه الكلام المعتزلي نحو الضعف والأفول. وفي نهاية القرن الثامن الهجري اندثر بشكل كامل.

جدير بالاهتمام أنّنا لا نلحظ بعد القرن الثامن الهجري وجود أيّ معتزليّ بين المتكلّمين والعلماء في العالم الإسلامي، وصار الكلام المعتزلي بعد ذلك جزءًا من تاريخ الفكر.

 

الأصول الكلاميّة للمعتزلة

أكّد المعتزلة على خمسة أصول بوصفها أصولًا مميّزةً ومشيرةً إلى الفكر الاعتزالي، وهذه الأصول الخمسة كانت عبارةً عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتَين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كانت العقيدة الأساسيّة للمعتزلة في مسألة التوحيد هي تنزيه الله عن أيّ نحو من أنحاء التشبيه. كنّا قد بيّنّا سابقًا أنّ ثمة في القرن الأوّل الهجري تيّارات اتّجهت نحو القول بالتشبيه والتجسيم، وذكرنا أنّ الأفكار التشبيهيّة كانت رائجةً بين المسلمين. في هذا السياق، كانت مدرسة المعتزلة تؤكّد في مسألة التوحيد وتصرّ على تنزيه الله عن أيّ تشبيه، ومن أهمّ المواضيع التي طُرحت في هذا الأصل موضوعات من قبيل: الصفات الخبريّة، علاقة الذات الإلهيّة بالصفات، مسألة رؤية الله في الدنيا والآخرة، موضوع إرادة الله، كلام الله، ومسألة خلق القرآن.

ويُعدّ العدل أصلًا من أصول المعتزلة الخمسة. ومع أن جميع المسلمين يعتقدون بأنّ الله عادل، إلا أن مراد المعتزلة من هذا الأصل بيان العدل الإلهي وتنزيه الله عن كلّ ظلم استنادًا إلى الحسن والقبح العقليَّين، كما أنّهم قد بحثوا فعل الله وعلاقته بأفعال الإنسان من خلال محوريّة مسألة الحسن والقبح العقليَّين. إنّ الهدف الأساسي في هذا الأصل هو تنزيه الله عن الظلم الذي تمّ بيانه على أساس حكم العقل. ومن العناوين الأساسيّة التي طُرحت وبُحثت في أصل العدل: نفي صدور الفعل القبيح عن الله، وجوب فعل الحسن لله، مسألة اختياريّة فعل الإنسان، الإرادة الإلهيّة، إرسال الرسل، المعجزة، وموضوعات من هذا القبيل.

ثالث أصول المعتزلة الخمسة هو أصل الوعد والوعيد، فجميع المسلمين يعتقدون بأنّ الله لا يُخلف وعده، أي إنّه تعالى سيُنجز ما وعد به الإنسان في القرآن الكريم كالجنّة والثواب والرحمة الإلهيّة وغيرها، وخلف هذه الوعود لا يجوز من الله. لكن أكثر الفرق الإسلاميّة ترى أنّ خلاف الوعيد جائز، ويعني أن الله وإن كان قد توعّد المذنبين وأخافهم بالعذاب وجهنّم وقال أنّهم سيواجهون العذاب، إلّا أنّه قد يشمل المذنبين برحمته ويخلف وعيده في حقّهم. أمّا المعتزلة، وبخلاف سائر التيّارات الكلاميّة والفكريّة، فيعتقدون أنّ العمل بالوعيد واجب على الله تعالى، ويعدّون خلفه قبيحًا كما هو خلف الوعد. من هنا، فإنّ الإنسان من وجهة نظر المعتزلة مستحقّ للثواب بأدائه للطاعات والعمل الحسن ومستحقّ للعقاب باقترافه المعاصي، كما أنّ الوعد والوعيد الإلهيَّين سيتحقّقان تبعًا لما قام به الإنسان من عمل، وبالتالي فإنّ الله لا يعفو عن المذنبين ما لم يتوبوا. ومن المواضيع الأخرى التي بُحثت في هذا الأصل: الإحباط والتكفير، التوبة، الشفاعة، والخلود في جهنّم.

الأصل الرابع من الأصول الخمسة هو المنزلة بين المنزلتَين. وقد ذكرنا سابقًا أنّ هذه المسألة كانت أولى الأفكار والمسائل التي أدّت إلى ظهور المعتزلة، والمحور الأساسي في هذا الأصل تمثّل في تعريف حدود الإيمان والكفر وبيانها. وقد وقعت مجموعة من المواضيع الأخرى أيضًا موردًا للبحث ضمن أصل المنزلة بين المنزلتَين، كالبحث عن عذاب القبر وأحوال القيامة وغيرها من الأبحاث.

خامس هذه الأصول وآخرها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعلى الرغم من اتّفاق جميع المسلمين والفرق الإسلاميّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير أنّ الاختلافات بين هذه الفِرق وقعت في مصداق المعروف والمنكر وطرق معرفتهما وشرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ترى المعتزلة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كلّ واحد من المسلمين في أيّ ظرف كان، ولقد كانت مسألة الإمامة من وجهة نظر المعتزلة مرتبطةً بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا، ولذا من المهمّ في هذا الأصل البحث والانشغال في مسألة الإمامة في الفكر الإسلامي.

 

خلاصة الدرس

ـ كانت مدرسة المعتزلة واحدةً من أهمّ المدارس عند السنّة، وقد تأسّست في بداية القرن الثاني الهجري متّخذةً النزعة العقليّة، ووصلت في القرن الرابع للهجرة بعد طيّها سيرًا تكامليًّا إلى أوج كمالها حيث عرضت نظامًا كلاميًّا منسجمًا.

ـ عرفت المعتزلة في تاريخها اختلافات داخليّة وتشعّبات عدة، كان أهمّها ظهور طائفتَين أو فرعَين لهذه المدرسة هما معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، وقد اختلفا في بعض المواضيع والمسائل الكلاميّة.

ـ في منتصف القرن الخامس بدأت المعتزلة تواجه الضعف والأفول، وفي نهاية القرن الثامن خسرت داعميها بشكل كلّيّ فاندثرت وباتت جزءًا من التاريخ.

ـ كانت أصول الفكر المعتزلي موردَ اتّفاق بين فروع فرقة المعتزلة، وكان مِلاك الاعتزال متمثلًا بالاعتقاد بالأصول التالية: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتَين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)

1- من هم المعتزلة؟ كيف ظهروا؟ وما كانت منهجيّتهم؟

2- إلى كم مرحلة يمكن تقسيم الكلام المعتزلي؟ أوضح ذلك.

3- أوضح أصول الفكر المعتزلي باختصار.

[1][5] حسن بن موسى النوبختي، فرق الشيعة (بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1404 هـ.ش)، الصفحة 5؛ علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر (بيروت: دار الفكر، 1997 م)، الجزء 2، الصفحة 350.

[2][6] عبد الجبّار بن أحمد، المنية والأمل (الاسكندريّة: دار المطبوعات الجامعيّة، لا طبعة، 1972م)، الصفحة 149؛ محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل (قم: دار الشريف الرضي، الطبعة الثالثة، 1374 هـ.ش)، الجزء 1، الصفحة 56.

[3][7] محمد بن اسماعيل البخاري، الجامع الصحيح (بيروت: دار الفكر، 1411 هـ.ق)، الجزء 1، الصفحة 33.

[4][8] اُنظر: أحمد أمين، ضحى الإسلام (القاهرة: مكتبة النهضة المصريّة، الطبعة السابعة)، الجزء 3، الصفحتان 159 و160؛ حسين صابري، تاريخ فرق اسلامي (تهران: انتشارات سمت، 1389 هـ.ش)، الجزء 1، الصفحة 166.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [1]: #_ftnref1
  6. [2]: #_ftnref2
  7. [3]: #_ftnref3
  8. [4]: #_ftnref4

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13347/kalam5/