قراءة في كتاب تأسيس مشهد ديني: التعليم العالي الشيعي في الدولة الصفوية
ترجمة: غدير سليم
كيف استطاعت أمة ذات أغلبية سنية أن تصبح شيعية بمعظمها في غضون قرنين فحسب؟ كيف ساهم الباحثون في تأسيس مجتمع مختلف؟ كيف دعمت الدولة بعض المساعي التعليمية أو منعتها ؟ تظهر مؤذن من خلال تقديم صورة تفصيلية إلى حدٍّ ما عن التعليم والتعلم في الدولة الصفوية (1501 مـ -1722 مـ) التداخل ما بين التعليم، والواجب الديني والتوجه السياسي في تلك الحقبة. إذ خدم التعليم الغايات السياسية.
انطلاقًا من ارتباط المسجد بالمدرسة في عصور ما قبل الدولة الصفوية وفي بداياتها، ومن الدور الرئيس للأوقاف، تتطرق الكاتبة إلى المجتمع والمناهج التعليمية والثقافة التعليمية والمقاربات التربوية. حيث برز كثير من كبار المفكرين أمثال ملا صدرا. وعمومًا، لم يتوصل العلماء في الحقبة الحديثة المبكرة لإيران إلى أسلوب للتعايش مع بعضهم البعض على الرغم من أنهم خدموا حكام عصرهم. إذ انتقدوا بعضهم بشدة من حيث المقاربات الأصولية (“المجتهدون الأصوليون هم الذين اعتبروا الشريعة الإسلامية مجال نشاط دائم التطور ومتجاوب واِستِيعابِيّ” (الصفحة 113)، والحديثية والصوفية والفلسفية. وفي الحديث عن مثل هذه المناظرات، تضمنت كل مدرسة، كالمدرسة الفلسفية، اِختلافًا داخليًّا هائلًا ومنافسةً علميّة أيضًا.
سيجد القرّاء المهتّمون بالتربية والدين، وبالثقافة الفارسية، وبالدراسات الدينية والفلسفية كتاب تأسيس مشهد ديني كتابًا مثمرًا. كما سيرضي وصف الكاتبة للانتقال من مجتمع ذي أغلبية سنية إلى مجتمع شيعي، ودور التعليم في هيكلة الثقافة والدين، الفضول حول التاريخ الإسلامي العام. ويقدّم تحول العامة الأساس المتسق لتقييم الكاتبة للمفكرين والمدارس والمناهج الدراسية. يضع وصف مؤذن المذهل المفكرين الرائدين في أطرهم السياسية والدينية والتربوية، الأمر الذي يوضح النّقاشات الأكاديمية النشطة التي غالبًا ما تتضمن تبادل اتهامات الخيانة من أجل السلطة والثروة والمنصب.
يعالج الفصلان الأولان تحت عنوان: “مدارس المسجد في أصفهان في العهد الصفوي” و”المدرسة السلطانية”، الشؤون القانونية المؤسساتية مثل أنواع الأحكام (وما ترتب عليها من تفسيرات) التي رافقت الأوقاف. تعرف مؤذن الوقف على أنه: “مؤسسة متعددة المراكز، ضرورية لتعزيز الأنشطة الدينية الثقافية والتعليمية، وفي الوقت عينه، لتقديم الرعاية الاجتماعية”، التي كانت، وبصورة غير مستغربة، “جزءًا لا يتجزأ من السياسة الصفوية” (الصفحة 69). عزز الوقف تمسك الصفويين بالشعائر الدينية، عن طريق إقرار معيار “تقليدي” مثلًا تقاس التعاليم الدينية استنادًا إليه. لجأ الصفويون إلى الثقافة لدعم القوة العسكرية أو القانونية. قد تبدو أحيانًا مقاربة مؤذن الاجتماعية للتعليم تحليليّةً بنحو مفرط بالنسبة إلى القرّاء الذين يعتبرون أنّ التعليم الشيعي هو أكثر من مجرد ممارسة بسيطة في الإرادة السياسية. يزيد وصف الكاتبة لجوانب الوقف الإدارية من الأسلوب الموضوعي، كما هو الحال في ما يلي: “كانت المؤسسات التعليمية والدينية، كالتي أنشأتها ومولتها الأوقاف الدينية، مؤسسات مالية أيضًا. قد يؤدي فقدان الكفاءة المهنية في مجال الإدارة المالية إلى مشكلات كثيرة في الأوقاف الدينية” (الصفحة 81).
أصبح العلماء مالكي أراضٍ لهم امتيازاتهم في ذلك الوقت بفضل سخاء الدولة الصفوية. لقد أحس الحكام بأهمية الثقافة في توحيد المجتمع والمملكة، فدعم البلاط الملكي أولئك الذين حققوا أهدافه. سعت الدولة الصفوية إلى مستوى معين من الوحدة الثقافية، وزاد مثل هذا الأمر من التأثير الاجتماعي للوقف. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر قد حفّز بعض الرعايا لاعتناق الإسلام الشيعي لأسباب عملية. وتقدم ومضات الحياة الفكرية في ذلك الزمان، المثيرة للاهتمام، مادة تستحقّ المطالعة وترسم معالم ثقافة تعليمية غنية استقطبت تحولات فعلية صادقة أيضًا.
يحدد الفصل الثالث المعنوَن “إعادة تشكيل الذاكرة الشيعية الثقافية” بوضوح أكبر كيف سهل المعلّمون والمدارس بناء هوية شيعية مشتركة من قاعدة ضئيلة. “استثمرت النخب الصفوية على البصرية والأدائية التي كانت على هيئة الهندسة المعمارية والرسوم وفن الخط وتحديدًا شعائر المراسم”، إذ خلقت هذه الأخيرة “جغرافيا ذاكرة” مثيرة للاهتمام صمدت إلى ما بعد تلك الحقبة (الصفحة 97). ويجيب هذا التحليل على أسئلة عدة حول المعتقدات الشيعية الإيرانية، إذ تبين الكاتبة تشابك الثقافة والتعليم والدين من خلال شعائر المراسم على سبيل المثال. تشير مريم مؤذن إلى التحولات النفسية والمعنوية التي عززت بناء المعتقد الشيعي، فتقول: “على مر العصور، ارتقت شخصيات رئيسة في التاريخ الشيعي مثل الإمامَين الأول والثالث، علي والحسين، بالإضافة إلى أئمة آخرين، من كونهم كائنات من لحم ودم إلى أشخاص مقدسين ومعصومين. استُفيد من مثل هذه الشخصيات المقدّسة لتجسيد مفاهيم كالشهادة البطولية والمثُل الثورية؛ أما أعداءهم فصوروا على أنهم أشرار وجبناء وقمعيّون” (الصفحة 98). مثل هذه المعلومات الرئيسة مهمة جدًّا لأنها تساعد في تفهيم من ليسوا على دراية بالإسلام الشيعي من خلال توضيح التطبيق العملي لهذه المعتقدات.
دعمت المؤسسات التعليمية هذه الطقوس والمعتقدات والممارسات. لقد أنشأ التعليم الصفوي الأمة الشيعية الفارسية ومكّن الإنجازات الثقافية للسلالة الصفويّة من الاستمرار إلى ما بعد زوال السلالة. تشير مريم مؤذن إلى دوركايم للتشديد على هذا الصمود: “يحافظ المجتمع على وحدته وهويته من خلال دعمٍ وإعادة تأكيدٍ على مشاعر أفراده الجماعية وأفكارهم في فترات زمنية منتظمة. إذ يتذكر المرء دوره كفرد في مجموعة كبيرة عندما يشارك في الأنشطة والشعائر الدينية. كما تساعد التجارب الشعائرية هذه الناسَ في تشكيل رابط بين أحداث الماضي والحاضر وصولًا إلى فهم معاني المستقبل” (الصفحة 100). تُشكّل المساهمات الرئيسة عن الشعائر والمعتقدات عنصرًا رئيسًا في منقاشة الكتاب.
أما الفصل الرابع “المنهج الدراسي الصفوي”، فيتحدث عن معالم معينة للنظام التعليمي، بما فيها الإجازة (رخصة نقل العلم للطلاب). وفي الوقت الذي يتّسم نظام الإجازة بالانسجام والاتساق بنحوٍ كبير، إلّا أن العلاقة التي ولّدها بين المعلم والطالب أدّت إلى تغيّرات كبيرة، وهو ما تسلط الكاتبة الضوء عليه، حيث كانت العلاقة التعليمية الرئيسة هي علاقة المعلم والطالب. كما ربط نظام الوقف المعلمين بالدولة، الأمر الذي عزّز سيطرة الصفويّين على المنهج الدراسي.
كما إنّ تطرّق مريم مؤذن إلى زعم فوكو أنّ “القوّة والمعرفة تتضمن إحداهما الأخرى بالضرورة”[1]، قد كشفت مجدّدًا عن قراءة موضوعية إلى حد ما للتعليم الصفوي. يبرز هذا الفصل التنوع السائد في النظام التعليمي الذي كان قائمًا على الرغم من القيود التي فرضتها الصفوية: “حتى أنّ بعض المعلمّين في المدارس قد علّموا مواد أخرجت من المنهج الدّراسي للمدرسة التي عيّنوا للتعليم فيها” (الصفحة 131). إذ قد يعلّموا أحيانًا المواد الملغاة في منازلهم. ولا تشير الكاتبة إلى وجود عقلية “مطاردة الساحرات”[2] عند الصفويين.
تعالج مريم مؤذن عن كثب مواقف الفقهاء وآرائهم، إذ شكّلت تعاليمهم نواة المنهج الدّراسي. لم يجد كثير من أساتذة الشريعة “كالموسوعيين والعلماء غزيري الإنتاج” (الصفحة 140)، مفرًّا من توسيع عملية التعليم لتتجاوز الفقه. وأدى هذا ببعضهم إلى تلقي عقوبة رسمية. ودعم الصفويون بقوة الدراسات الفلسفية والثيوصوفية بوسائل متنوعة بما فيها إيكال المتخصصين بشكل مباشر بأعمال فلسفية، وتأمين رواتب للفلاسفة، وأوقافٍ للمدارس المتخصصة في تعليم العلوم العقلية والفكرية” (الصفحة 140)، بما فيها علوم أرسطو.
إلا أنّ السلالة الصفوية لم توافق على الجميع. إذ تصوّر الكاتبة الخلافات المثيرة للاهتمام بين الفلاسفة والمحدّثين، والفقهاء، والمتصوّفين في إيران في منتصف القرن السابع عشر، حيث خسر الفلاسفة الميالون نحو العرفان دعم الدولة؛ “إذ عورضت الأفكار العرفانية والبحث الفلسفي بشدة باعتبارهما بدعًا ضلالية” (الصفحة 144). مجدّدًا، يسلّط هذا الأمر الضّوء على جدول الأعمال الأساس لتحويل العامّة نحو الممارسات والمعتقدات الشيعية.
يدرس الفصلان الخامس والسادس، المعنونان: “التفاعل مع المعرفة الدينية” و”المناهج الصفوية التربوية”، المهن الدينية للعلماء والدراسات في السياق الشيعي الفارسي: “لم يكن العالم ناقلًا للعلوم فحسب، بل كان متوقع منه تجسيد المزايا الإسلامية من خلال التصرف وفقها في الخفاء وفي العلن” (الصفحة 164). يشكّل هذا الجانب أساسًا في جميع الفصول، لكن مريم مؤذن ربطت هنا بوضوح أكبر المعتقدات والممارسات الدينية بالتربية التعليمية.
يتضمن هذا الأمر تعريفًا مفصّلًا لملا صدرا الذي “ابتدع منهجًا فلسفيًّا حاول تجاوز الانقسام البسيط بين أسلوب استدلال ومعرفة استطرادي واستدلالي، وبين أسلوب معرفة بديهي وشاعري وافتراضي” (الصفحة 166). مما يقدّم واحدًا من أكثر أقسام الكتاب تفاعلًا. كان من الممكن أن تقدّم مثل هذه المباحث الطويلة والمفصلة التي تعالج المواضيع المحددة التي يعلمها العلماء على الصعيد الفردي، صورة أوضح وأجلى لهذه الحقبة. وتؤكد المؤلفة أنّ حفظ القرآن لا يعني أنّ النقاش والفهم الأغنى له لم يلقيا اهتمامًا كبيرًا. إذ يضع هذا “التعلم بالحفظ” الأسس لفهم أعمق للمهن الدينية. لكن ادعاءً كهذا يحتاج إلى استدلال وأمثلة واضحة لم تنجح الكاتبة في تقديمها.
كما قد ظهرت بعض الثّغرات الأخرى في البحث. كان بإمكان تحليل دقيق لمصطلحات “كالوقف” و”الأخبارية” بالإضافة إلى جذورهما التاريخية وسياقهما الإسلامي، أن يساعد غير المتخصصين. كما كان بإمكان مسرد في نهاية الكتاب أن يسهل عملية الفهم. وكذلك كان الإسهاب في الكلام عن العرفان وممارساته وتقاليده، ليغني النص. وقد ظهر نقص كهذا في ذكر الفلاسفة: فبينما ذكرت الكاتبة تعاليم أرسطو عبر ابن سينا، ونفور أكاديمي معيّن من أفلاطون؛ كان من الممكن الحديث أكثر عن المنطق، والعلم الأرسطي، وتأثير مفكرين إغريقيين آخرين، وفلاسفة إسلاميين، أن يوضح السياق الدقيق المتعلق بهذه النقاشات وبجذور الضغائن العلميّة من وقت لآخر.
مع ذلك، تقدّم الكاتبة عرضًا تاريخيًا مثيرًا للاهتمام. فتقطع المقدّمة الصّلبة أشواطًا نحو إزالة اللبس عن الثقافة الفارسية والشيعية عند غير المتخصّصين، وسيكون الوصف الدقيق للتعاليم والمناهج التعليمية والإجازة محط اهتمام حتّى عند أولئك الملمّين بهذه الثقافة. بينما يملك مؤرخو التعليم وفرة من المصادر حول التعليم الغربي، مثل ظهور الجامعات، يبدو أن معلوماتنا أقلّ بكثير حول الثقافتَين الفارسية والإسلامية. فإنّ كتبًا مثل تأسيس مشهد ديني لا تستطيع أن تعزّز إدراك القواسم المشتركة الكثيرة مع الثقافة الأوروبية فحسب، بل تعطي صورة أوضح حول التعلم والثقافة والفلسفة في العالم الفارسي أيضًا.
[1] موقع الحكمة (6 نيسان، 2021): https://hekmah.org/%D9%81%D9%88%D9%83%D9%88-%D9%85%D9%8A%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9/
[2] عملية بحث واضطهاد الأشخاص الذين يشتبه بكونهم مخالفين للتعاليم التي أقرّتها الدولة واتهامهم بالسحر والهرطقة
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب عالم المثال في الفلسفة الإسلامية: ابن سينا، والسهروردي، والشهرزوري وآخرين
هذا كتاب ممتاز من جميع الجوانب، يندرج ضمن سلسلة تبدو مثيرة للاهتمام للغاية. يتبع فان ليت في الأساس فكرة للسهروردي في حكمة الإشراق حيث يتحدث فيه عما يسميه بالمثل المعلقة، كما يطور نظرية جديدة تمامًا في الوجود والمعرفة.
قراءة في كتاب ثلاث دقائق في القيامة
أولًا: الكتاب في سطور: اسم الكتاب: ثلاث دقائق في القيامة. الكاتب: مجموعة الشهيد إبراهيم هادي الثقافية. ترجمة: ليلى الخميس. الطبعة
الإيمان والمعرفة
أعتقد أنّ هناك تمييزًا بين العلم والمعرفة، فعلى الرغم من أنّنا نسمّي رجال الدين علماء، غالبًا ما يُظنّ أنّ المعرفة دينيّة، بينما العلم يختصّ بالعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة.