مقاربة الوجود في الحكمة المتعالية وفق صياغة فلسفية (2)

مقاربة الوجود في الحكمة المتعالية وفق صياغة فلسفية  (2)

المبحث الثاني: حقيقة الوجود وخصائصها

من المسائل التي طرحت حول حقيقة الوجود أنّ الوجود العام يتخصّص بإضافته إلى موضوعه الذي هو الماهية، وأنّ الوجود المقيّد كان يراد به مفاد “كان الناقصة” و”هل المركبة”، أي ثبوت صفة غير الوجود للماهية[1]. فليس من قبيل الصدفة أنّ الشيرازي بعد إثبات أصالة الوجود يعرج على مسألة تخصّص الوجود ويطرح سؤالًا هو: “تخصص الوجود بماذا؟”[2]، وذلك قبل أن يعالج الشبهات التي أوردت على أصالة الوجود واستبعادها[3].

ولمّا كانت الإجابة الكاملة على هذا السؤال تعتمد على مسألة مراتب الوجود والشدة والضعف فيه، التي يعبّر عنها بمسألة “التشكيك في الوجود”، تلك المسألة التي أخرجها الشيرازي إلى الفصل الخامس من المرحلة الثالثة[4]، فإننا سوف نقدم دراستها هنا، ونجعل مسألة التخصّص متفرّعة عنها.

أولًا: التشكيك في حقيقة الوجود

التشكيك – لغةً – هو الحمل على التردّد والشك، وفلسفته اتفاق من وجه واختلاف من وجه[5]. فالمقول بالتشكيك على أشياء يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءًا منها، بل يكون دائمًا خارجًا عنها لازمًا لها، مثال ذلك: البياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج، لا على السواء. ومن ثم فإنّ ما يكمن به التفاوت أو الاختلاف بين شيئين هو بعينه ما به الاشتراك بينهما أيضًا[6].

وتجدر الإشارة إلى مجمل الأقوال التي قيلت حول حقيقة الوجود، وهي:

القول الأول: وحدة الوجود والموجود

إنّ الوجود واحد شخصي هو الله سبحانه وتعالى، ولا موجود سواه، وإنّما يتصف غيره بالموجود على سبيل المجاز – وهو ظاهر من بعض كلام الصوفية[7] – وهو ما يمكن أن يؤوّل إلى ما يرجع إلى قول الشيرازي من انحصار الموجود المستقل فيه سبحانه، لكون سائر الموجودات روابطًا لوجوده، وأضواءً وأشعةً لنوره الحقيقي[8].

والحق، فإنّ هذا القول مرفوض من قبل منطق العقل؛ لأنّه لا يتسنّى بأي حال من الأحوال إنكار الكثرة الموجودة في الخارج، لأنّ إنكارها يؤدي إلى السفسطة. ومن ثم لا يجوز الاعتقاد بأنّ كافة الأشياء الخارجية من قبيل الوهم والتصور، وأن ليس لها أيّ نصيب من الوجود، كما لا يمكن الادّعاء بأنّ الذات الإلهية تختص بالوجود دون غيرها[9].

القول الثاني: وحدة الوجود وكثرة الموجود

إن الوجود واحد شخصي كما قالت به الصوفية، إلّا أنّ الموجود لا ينحصر في الواجب تعالى، بل مخلوقاته أيضًا موجودة حقيقةً، لكن معنى الوجود فيها [هو] المنسوب إلى الوجود. وهو قول الدواني الذي نسب إلى شيخ الإشراق، وهو أيضًا ما رفضه الشيرازي في أسفاره، لأنّه يستند على القول بأصالة الماهية[10].

القول الثالث: كثرة الوجود والموجود

وهو ما نسب إلى المشّائين[11] من كون الموجودات حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة، وهذا يعني أنّ لكل شيء خارجي وجودًا خاصًا به يختلف عن وجودات سائر الأشياء الأخرى، على نحو يخلو من أيّ اشتراك فيها بين الوجودات المختلفة[12].

القول الرابع: وحدة الوجود في عين كثرته

وهو ما ينسب إلى الفهلويين – من حكماء إيران – واختاره الشيرازي[13] وأتباعه، من كون الوجود حقيقةً واحدةً متشكّكةً، أي ذات مراتب مختلفة، يرجع ما به الامتياز فيها إلى ما به الاشتراك. وقد مثّلوا له بحقيقة النور على ما يتلقّاه الفهم الساذج، أنّه حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة في الشدّة والضعف، فهناك نور قوي ومتوسّط وضعيف مثلًا، وليست المرتبة القوية نورًا وشيئًا زائدًا عن النورية، ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة النور شيئًا، أو تختلف بالظلمة التي هي عدم النور، بل لا تزيد كلّ واحدة من مراتبه المختلفة على حقيقة النور المشتركة شيئًا ولا تفقد منها شيئا[14].

فالوجود إذًا عين النور، لأنّ الخاصّة الذاتية للنور هي أنّه ظاهر بذاته مظهر لغيره، فهو ظاهر بذاته مظهر لغيره؛ فهو ظاهر بذاته لأنّ للنور – مهما كان ضعيفًا – دلالةً ذاتيةً على أنّه نور، غاية الأمر أنّ في النور شدّةً وضعفًا، ولكنّه أمر آخر. وهو مُظهِر لغيره لأنّه يكشف لنا جميع ما حوله. ولمّا كان للنور هذا الحد، ويمكن ملاحظة هذه الخاصّية في جميع مراحل النور ودرجاته الضعيف منها والشديد، فإنّ حقيقة النور وطبيعته مقولة بالتشكيك[15].

وعليه، فابتكار الشيرازي هنا هو إحلال النور محل الوجود، وإحلال الوجود محل النور، ولذلك يأخذ على شيخ الإشراق أنّ جميع الخصائص التي ذكرها للنور هي ثابتة للوجود أيضًا، إلّا أنّه لم يذكر اسم الوجود وجعله اعتباريًّا، فهل النور عين الوجود؟ ألم يعترف بأنّ النور مقول بالتشكيك؟ ثمّ ألم يعتبر الماهيات هي الأصيلة؟ فهل الماهيات مقولة بالتشكيك؟

يرى الشيرازي أنّ شيخ الإشراق يعلم بأنّ الماهيات ليست مقولةً بالتشكيك، ومع ذلك يعترف بأنّ النور مقول بالتشكيك. ولمّا كان يذكر الشيء – وهو الوجود – ويعرّفه ولكنّه لا يذكر اسمه، فالنور يعني الوجود والوجود يعني النور أيضًا، وليس شيئًا غيره، وكل حكم ينسب للنور فهو ثابت للوجود كذلك[16].

يقول الشيرازي أنه كما أنّ النور قد يطلق ويراد منه الظاهر بذاته المظهر لغيره من الذوات.. كذلك الوجود قد يطلق ويراد الظاهر بذاته بجميع أنحاء الظهور، والمظهر لغيره[17].

ويمكن إثبات التشكيك في حقيقة الوجود عند الشيرازي من خلال الإشارة إلى أنّ انتزاع مفهوم واحد عن أشياء كثيرة إنّما يدل على جهة اشتراك عينية فيها إذا كان ذلك المفهوم من قبيل المعقولات الأولى، أي من المفاهيم التي يكون عروضها كاتصافها في الخارج، كما أنّ كثرة مثل هذه المفاهيم هي التي تدل على كثرة الجهات العينية. فكثرة الوجود لا تتنافى – إطلاقًا – مع وحدته، وإنّما هي منسجمة معها ومؤكّدة لها[18].

وأمّا المعقولات الثانية[19]، فيكفي لحمل واحد منها على ما صدقاته وحدة الجهة التي يلاحظها العقل، كما أنّه يكفي لحمل أكثر من واحد منها على ما صدق واحد كثرة الجهات الملحوظة عند العقل وإن لم يكن بإزائها جهات متكثّرة عينية[20]. فلا يدل وحدة المعقول الثاني على وجود جهة عينية مشتركة بين ما صدقاته، ولا كثرته على كثرة الجهات الخارجية[21]. كما لا يدل وحدة مفهوم الماهية أو مفهوم العرض على جهة وحدة ماهوية بين الأجناس العليا، وإلّا لزم وجود جنس مشترك أو مادّة مشتركة بينهما[22]. وكما لا يدل تعدّد مفاهيم الوجود والوحدة والفعلية على تعدّد الجهات العينية في الوجود البسيط الذي لا جهة كثرة فيه[23]. والمعيار في أصل التشكيك إذًا هو أنّ هناك مجموعة من الحقائق البسيطة التي تتميّز بهذه الصفة، وهي “إنّ ما به اشتراكها هو عين ما به امتيازها”. وحتّى الأشياء الخارجية البسيطة هي من هذا القبيل. وهذا معيار آخر لكشف الاختلاف بين الكثرة التشكيكيّة والكثرة الماهويّة. ومن ثمّ فإذا لاحظنا أنّ ما به الاختلاف بين شيئين هو عين ما به الامتياز، فسوف نجده وجودًا واحدًا شخصيًا ذا مراتب تشكيكيّة[24].

يقول الشيرازي:

“وأمّا كونه [مفهوم الوجود] محمولًا على ما تحته بالتشكيك، أعني الأولويّة والأوّلية، والأقدميّة والأشدّية؛ فلأنّ الوجود في بعضها أتم وأقوى. فالوجود الذي لا سبب له أولى بالموجوديّة من غيره، وهو متقدّم على جميع الموجودات بالطبع”[25].

ويمكن أيضًا إثبات التشكيك في حقيقة الوجود من خلال الصلة بين العلّة والمعلول، حيث يترتّب عليها أنّ وجود المعلول أضعف من وجود علّته المفيضة له، بل هو شأن من شؤونه لا استقلال له دونها، وعلى هذا فالموجودات الواقعة في سلسلة العلل والمعلولات تشكّل حقيقةً واحدةً ذات مراتب يتقوّم بعضها ببعض، ويتقوّم الكل بالواجب سبحانه وتعالى دون أن يلتزم بالاختلاف التشكيكي بين المعلومات الواقعة في مرتبة واحدة، فلا يكون شيء منها متقوّمًا بما في مرتبته، وإن كانت جميعًا متقوّمةً بعلّتها المفيضة؛ وهكذا حتّى تنتهي المراتب إلى الواجب تعالى الذي هو القيّوم المطلق، وهذا المعنى الحق لوحدة الوجود الحقّة[26].

وفي هذا القول يقول الشيرازي:

“إنّ هذا المسمّى بالمعلول ليست لحقيقته هويّة مباينة لحقيقة [علّته] المفيضة إيّاه، حتّى يكون للعقل أن يشير إلى هوية ذات المعلول مع قطع النظر عن هوية موجدها، فيكون هويتان مستقلتان في التعقّل إحديهما [إحداهما] مفيضًا والآخر مُفاضًا […] فإذن المعلول بالذات لا حقيقة له بهذا الاعتبار سوى كونه مضافًا ولاحقًا، ولا معنى له غير كونه أثرًا وتابعًا […] فإذا ثبت تناهي سلسلة الوجودات من العلل والمعلولات إلى ذات بسيطة الحقيقة النورية الوجوديّة […] وثبت أنّه بذاته فياض وبحقيقته ساطع وبهويته منوّر للسماوات والأرض، وبوجوده منشأ لعالم الخلق والأمر، تبين وتحقق أنّ لجميع الموجودات أصلًا واحدًا وسنخًا فاردًا هو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه ونعوته، وهو الأصل وما سواه أطواره وشؤونه، وهو الموجود وما وراءه جهاته وحيثياته، ولا يتوهّمنّ أحد من هذه العبارات أنّ نسبة الممكنات على ذات القيوم تعالى يكون نسبة الحلول، هيهات، إنّ الحالّيّة والمحلّيّة ممّا يقتضيان الإثنينيّة في الوجود بين الحالّ والمحلّ، وها هنا […] ظهر أن لا ثاني للوجود الواحد الأحد الحقّ”[27].

وأخيرًا، فإنّ لحقيقة الوجود وحدة وجود تشكيكيّة، فوجود واحد هو الذي يشمل الله سبحانه وتعالى والعالم والإنسان، وجميع الموجودات تتمتع بمثل هذه الوحدة، فكلها مراتب وتعينات لوجود واحد. وكل الظواهر والمراحل والمراتب هي هذا الوجود الواحد. فإله هذا الوجود الواحد والعالم والإنسان يشكّلون ذلك الوجود الواحد، وفي الواقع هناك وجود واحد مشخص ليس أكثر، وهو ما نسميه بوحدة الوجود، ونقول بناءً على قاعدة التشكيك فإنّ هذا الوجود واحد شخصي حقيقي، وهو في الوقت نفسه عين كثراته ومراتبه وتجلياته. وهذا اللون من الكثرة السائرة في حقيقة الوجود لا تتنافى – إطلاقًا – مع وحدة حقيقة الوجود[28].

ثانيًا: بماذا تتخصّص حقيقة الوجود؟

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ السؤال عن سبب تخصّص الوجود كان عند المتكلمين متوجّهًا إلى مفهوم الوجود العام؛ وذلك لأنّهم لم يكونوا يرون حقيقةً عينيةً للوجود. ولا يصح طرح نفس السؤال بالنسبة لحقيقة الوجود العينية؛ لأنّ البحث عن تخصّص مفهوم الوجود ليس بذات أهمية بالنسبة لنظرية أصالة الوجود. ومن ثم، فإنّ طرح هذه المسألة حول حقيقة الوجود ينشأ بالنسبة لنظرية أصالة الماهية في الأذهان، فيتوهّم أنّ للوجود طبيعة كلية ويحصل تخصّصها بإضافتها على الماهيات أو بسبب آخر.

ولعل خير ما يوجه به طرح هذا السؤال من الشيرازي أنّه أراد أن يبيّن أنّه بناءً على القول بأصالة الوجود لا ينحصر الجواب عن السؤال المذكور بأنّ تخصّص مفهوم الوجود العام يحصل بإضافته إلى الماهية، بل يتخصّص بنفس الحقيقة العينية. فالتخصّص للوجود يكون بنفس حقيقته الواجبية، وبسبب مراتبها المختلفة ضعفًا وشدّةً، وبسبب إضافته إلى الماهيات[29].

ولكن إذا صح تفسير الشيرازي بأنّ المراد بتخصّص الوجود بمرتبته العليا وسائر مراتبه أن الوجود متشخّص بنفس ذاته، وأنّ حقيقة الوجود لا تحتاج إلى أن تتخصّص بأمر آخر. فكيف يتفق هذا التفسير مع قوله في الأسفار:

“وأمّا تخصّصه بموضوعه، أعني الماهيات المتصفة به في اعتبار العقل، فهو ليس باعتبار شؤونه في نفسه، بل باعتبار ما ينبعث عنه من الماهيات المتخالفة الذوات [أو ما معه في كل مرتبة من النعوت]”[30].

وأيضًا مع قوله في المشاعر:

“فالموجودات حقائق متأصّلة، والماهيات هي الأعيان الثابتة التي ما شمّت رائحة الوجود أصلًا. وليست الوجودات إلّا أشعةً وأضواءً للنور الحقيقي والوجود القيّومي، إلّا أنّ لكل منها نعوتًا ذاتيةً ومعان عقلية هي المسمّاة بالماهيات”[31].

ويتّجه السؤال عن جعل إضافة حقيقة الوجود إلى الماهيات الاعتبارية سببًا لتخصّصها مع التصريح بأنّ كل ما هو ثابت للماهية فإنّما يكون بعرض الوجود. وقد تصدّى السبزواري للإجابة عليه بثلاثة أوجه لا يجدي شيء منها، إلّا أن يراد تخصّص مفهوم الوجود بإضافته إلى الماهيات، لكنّه لا يوافق جعله قسيمًا للتخصّص الذاتي لمراتب الوجود[32]. ثم على القول بأصالة الوجود وتخصّصه بنفس ذاته ينقدح سؤال آخر، هو أنّ الوجودات المتخصّصة بذواتها هل يكون تخصّصها بتمام ذواتها، فيلزم تركبّها من ما به الاشتراك وما به الامتياز – ولأجل إبطال هذا الفرض أتبع في الأسفار مسألة التخصّص بمسألة بساطة حقيقة الوجود[33] – أو يكون تخصّصها على شكل آخر لا يوجب شيئًا منها، وهو أن يكون الوجود حقيقةً واحدةً ذات مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف، فيرجع ما به الامتياز إلى ما به الاشتراك، وعبّر عنه بالتشكيك – كما سبق أن ذكرنا – فكيف تتصف الماهية بالوجود؟

ثالثًا: كيفية اتصاف الماهية بالوجود

نحاول هنا بيان رأي الشيرازي في هذا الموضوع من خلال “قاعدة الفرعية”[34] التي مؤدّاها: “ثبوت شيء لشيء أو اتصافه به أو عروضه له متفرّع على وجود المثبت له”[35]. فإذا أردنا أن نثبت شيئًا لشيء آخر، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون ذلك الشيء الآخر – المثبَت له – ثابتًا. والمثبَت له عبارة عن ذلك الموضوع الذي يقبل التوصيف، وأمّا الثابت فهو الذي يكون وصفًا له. فإن كانت القضية ذهنيةً فلا بد من وجود المثبَت له في الذهن، وإن كانت القضية حقيقيةً أو خارجيةً فلا بد من وجود المثبَت له – وهو الموضوع – في الخارج ونفس الأمر[36]. وأي صفة أردنا أن نثبتها لشيء فلا بد من كون ذلك الموصوف ثابتًا في مرحلة من مراحل الوجود؛ أي في تلك المرحلة التي نصف بها ذلك الشيء لا بد من وجوده في الخارج أو في الذهن. وحتى في القضايا الحقيقية التي معيارها نفس الأمر – الذي هو أعم من الذهن أو الخارج – لا بد من وجود الموضوع أيضًا في نفس الأمر، وإلّا يتعذّر التوصيف أو أصبح خطأً ولا معنًى له[37].

وأمّا نفس الوصف الذي نثبته للشيء المثبت له فليس من الضروري وجوده في الخارج. والموضوع – فحسب – في القضية التوصيفية لا بد من وجوده أو فرض وجوده حتّى نستطيع وصفه، وإن لم يكن الموضوع موجودًا فالتوصيف لا معنى له أو غير مفهوم، وليس هو غير صادق فحسب، وإنما هو غير ممكن ولا معنى له[38].

تلك هي “قاعدة الفرعية” التي يشير إليها الشيرازي وهو بصدد هذه المسألة – أي مسألة كيفية اتصاف الماهية بالوجود – حيث يذهب إلى أنّه يمكن الربط بينهما لحل الإشكال القائم في هذه المسألة، إلّا أنّه – قبل أن يقدّم لنا الحل – تطرّق إلى بعض الحلول التي طرحها البعض إزاء هذا الإشكال، غير أنّه قد أكّد أن لا شيء منها صحيح، وأنّه لا يمكن الاعتماد على أي منها لحل هذا الإشكال[39].

والإشكال هو: إنّه طبقًا لمقولة أصالة الوجود واعتبارية الماهية عند الشيرازي، فإنّ الوجود – سواء أكان عينيًّا أم عقليًّا- نفس ثبوت الماهية ووجودها، لا ثبوت شيء أو وجوده لها، وبين المعنيين فرق واضح، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإنّ قاعدة الفرعية تنص على أنّ “ثبوت شيء فرع ثبوت المثبت له”[40]. ولذلك، فإنّ عروض الوجود للماهية إمّا أن يستلزم تقدّم الشيء على نفسه، وإمّا أن يؤدّي إلى التسلسل، وكلاهما محال؛ لأنّه بحسب مقتضى “قاعدة الفرعية” يجب أن تكون للماهية معروض الوجود تحقّقًا قبل عروض الوجود لها. وبحسب ما تقتضيه مقولة “أصالة الوجود” فإنّ ثبوت وتحقّق أي ماهية لا يكون بواسطة الوجود. ومن ثم، يلزم تحقّق الثبوت السابق للماهية بواسطة وجود ما، وهو محال[41].

وقد صرّح بذلك ميرداماد في كتابه القبسات حيث قال:

“إنّ وجود الشيء في أي ظرف ووعاء كان، هو وقوع نفس ذلك الشيء في الظرف لإلحاق أمر ما به وانضمامه إليه. وإلّا رجع الهل البسيط إلى الهل المركّب، وكان ثبوت الشيء في نفسه هو ثبوت شيء لشيء”[42].

ومن أجل ذلك، يرى الشيرازي أنّ عروض الوجود للماهية يعني أصل ثبوت الماهية، وليس ثبوت شيء للماهية حتّى يقتضي وجودًا للماهية قبل وجودها، فالقول بأنّ زيدًا موجود في الهليّة البسيطة هو وجود زيد لا وجو أمر له[43]؛ ولذلك فإنّ اتصاف الماهية بالوجود هو اتصاف بثبوتها لا بثبوت شيء لها: وثبوت الوجود لها عبارة عن ثبوت نفسها لا ثبوت شيء غيرها لها[44].

وأخيرًا، يكفي القول: إنّ حقيقة الوجود بما هي حقيقة وجود، بمعزل عن كل جهة وماهية منضمّة إليها، مساوية للكمال والغنى والإطلاق والشدّة والفعلية.

وعلى ضوء ما سبق نخلص إلى النتائج التالية:

1 – إنّ الموجود في الخارج من الممكنات هو الوجود المحدود الذي هو صدق لمفهوم الوجود، وأمّا الماهية فهي تابع للوجود المحدود في الموجودية. وبذلك يكون للوجود مصداقًا في الخارج هو الوجود الحقيقي، وهو حقيقة الوجود، ومنه ينتزع مفهوم الوجود.

2 – ليس الوجود منحصرًا في المعنى المصدري النسبي والمفهوم الاعتباري الانتزاعي الذي يقال له “الوجود الإثباتي”؛ والذي هو من المعقولات التي لا يكون في الأعيان ما يطابقه بالاستقلال، بل له غير هذا المفهوم مصداق حقيقي هو حقيقة الوجود.

3 – إنّ الوجود موجود، كما أنّ الماهية موجودة، ولكنّ الماهية موجودة بإضافة وجودها من العلّة، فهي موجودة بوجودها تبعًا. والوجود موجود بإفاضة نفسه من العلّة، فهو موجود بنفسه لا بذاته.

4 – إنّ لمفهوم الوجود أحكامًا مختصّةً به، كالبداهة، والاشتراك، والزيادة على الماهية ذهنًا. ولحقيقة الوجود أحكام مخصوصة بها، كالأصالة في التحقّق، والأصالة في الجعل، والخفاء عن الذهن وعدم إمكان تصوّرها. ويوجد من الأحكام ما هو مشترك بينهما، كالاستغناء عن التعريف؛ ولكن مفهومه غني عن التعريف لبداهته، وحقيقته غنية عن التعريف لاستحالة تصوّرها.

5 – وبناءً على ما تقدّم من كون مفهوم “أصالة الوجود” يشكّل عنصرًا أساسيًّا أو محوريًّا من عناصر بنية الحكمة المتعالية عند صدر الدين الشيرازي، وانطلاقًا من أهمية البحث في القضايا الفلسفية التي ارتبطت به، فإنّ الأبحاث أو المؤلفات التي تناولت فلسفة الشيرازي – وهي قليلة جدًا – لم تعالج مفهوم “أصالة الوجود” بمثل هذه الصورة التي طرحناها في هذا البحث. ولسنا نقصد توجيه النقد لأحد ولا هو ثناء على الذات، وإنّما هي إشارة حتّى يلتفت أصحاب البصيرة، ونكون قد أدينا ما ينبغي أن يفعله الباحثون.

مصادر البحث:

[1] تعليقات على نهاية الحكمة للطباطبائي، مصدر سابق، الصفحة 49.

[2] انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 44 إلى 49.

[3] انظر، المرجع نفسه، الصفحات 54 إلى 63؛ والمشاعر، مصدر سابق، الصفحات 18 إلى 27.

[4] انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 427 إلى 446.

[5] مراد وهبة، المعجم الفلسفي (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، الطبعة 2، 1979م)، الصفحة 108.

[6] انظر، هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحة 147؛ محمد رضا المظفر، المنطق (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 3، 1995م)، الصفحة 61.

[7] انظر، فلاسفة الشيعة، مصدر سابق، الصفحة 357.

[8] انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 49.

[9] انظر، دروس فلسفية، مصدر سابق، الصفحة 71.

[10] انظر، تعليقات على نهاية الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 54؛ فلاسفة الشيعة، مصدر سابق، الصفحتان 357 و358؛ الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحتان 73 و74.

[11] انظر، إلهيات الشفاء، مصدر سابق، المقالة 1، الفصل 5، الصفحة 34.

[12] انظر، الفلسفة العليا، مصدر سابق، الصفحة 99.

[13] وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيرازي نفسه في رسالته سريان الوجود كان يميل إلى القول الثاني، إذ يؤكد أن “الوجود واحد والموجود متعدد متكثر”، وهذا الموقف قد عدله في أسفاره – كما ذكرنا في مقدمة هذا البحث – مما يدعونا إلى عدم الأخذ برأيه في هذه الرسالة لأنه يتعارض مع موقفه العام في أصالة الوجود، ذلك الموقف الذي أكّده أكثر من مرّة في مختلف كتبه بصفة عامة وفي الأسفار بصفة خاصة. انظر، فلاسفة الشيعة، مصدر سابق، الصفحات 358 و359 إلى 366.

[14] نهاية الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 56.

[15] انظر، هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحتان 13 و158؛ الفلسفة العليا، مصدر سابق، الصفحة 98.

[16] انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 63 إلى 71؛ هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحة 161.

[17] انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 63، 68، و69.

[18] انظر، تعليقات على نهاية الحكمة للطباطبائي، مصدر سابق، الصفحة 54؛ محمد تقي المدرسي، العرفان الإسلامي بين نظريات البشر وبصائر الوحي (بيروت: دار البيان العربي، الطبعة 3، 1992م)، الصفحة 233.

[19] المعقولات الثانية الفلسفية، والثانية هي المعقولات الثانية المنطقية. والمعقولات الثانية الفلسفية يكون عروضها في الذهن، واتصافها في الخارج، كالإمكان، ولهذا فإنّها تحمل على الوجود في الخارج. فمفهوم الإمكان ليس مثل البياض والسواد، وإنما هو لون من المقولات التي لا يمكن مشاهدتها في الخارج ولا لمستها، ولكنّها مع ذلك تحمل على الأشياء، فيمكن القول: إنّ هذا الشيء ممكن أو العالم ممكن وليس واجب الوجود. فالإمكان عرض، ويكون عروضه للشيء الممكن في الذهن، إلا أن اتصافه في الخارج، فهذا الشيء يتصف بالإمكان في الخارج لا في الذهن. وهذا الممكن في الذهن، إلا أنّ اتصافه في الخارج، وكذا مفهوم الوجود فهو يعرض في الذهن، إلا أن الأشياء الخارجية الموجودة تتصف بمفهوم الوجود في الخارج. انظر، هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحة 171.

[20] انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 332 إلى 339.

[21] يقول الشيرازي: “لا يلزم من صدق الحكم على الشيء بمفهوم بحسب الأعيان، أن يكمن ذلك المفهوم واقعًا في الأعيان”. المرجع نفسه، الجزء 1، الصفحة 139.

[22] المرجع نفسه، الجزء 1، هامش الصفحة 333.

[23] المشاعر، مصدر سابق، الصفحات 7 إلى 35.

[24] هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحة 65.

[25] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 36.

[26] انظر، المرجع نفسه، الجزء 2، الصفحات 210 إلى 220، و286 إلى 304.

[27] المرجع نفسه، الجزء 2، الصفحتان 299 و300.

[28] هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحتان 147 و148.

 [29]انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 44 إلى 46؛ المشاعر، مصدر سابق، الصفحة 33؛ الشواهد الربوية، مصدر سابق، الصفحتان 10 و11.

[30] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 46.

[31] المشاعر، مصدر سابق، الصفحة 35.

[32] انظر، المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحات 50 إلى 54.

[33] انظر، المصدر نفسه.

[34] من القواعد الأساسية المطروحة في مجال المنطق، ويستند المنطقيون إليها لإثبات ضرورة الموضع القضية الحملية الموجبة. ولذلك تقسم القضية الموجبة باعتبار شكل وجود موضوعها إلى ذهنية وخارجية وحقيقية. وفي هذا يقول محمد رضا المظفر: “إنّ الكلية الموجبة هي ما أفادت ثبوت شيء لشيء، ولا شك أن ثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبت له، أي إنّ الموضوع في الحملية الموجبة يجب أن يفرض موجودًا قبل فرض ثبوت المحمول له، فلولا وجوده لما أمكن أن يثبت له شيء. وعلى العكس من ذلك السالبة، فإنها لا تستدعي وجود موضوعها، لأن المعدوم يقبل أن يسلب عنه كل شيء”. انظر، منطق المظفر، مصدر سابق، الصفحة 142.

[35] الشيرازي، رسالة اتصاف الماهية بالوجود بهامش رسالة في التصور والتصديق (مخطوطة جامعة القاهرة برقم “15070”، سنة 1311ه)، الصفحة 1؛ وانظر، المشاعر، مصدر سابق، الصفحة 27؛ وأيضًا، الشواهد الربوبية، مصدر سابق، الصفحة 11.

[36] المقصود بنفس الأمر هنا نفس الأمر المحكي بالقضية، فإن كانت حاكيةً عن الخارج فنفس الأمر هو الواقع الخارجي، وإن كانت حاكيةً عن الذهن فما صدقه هو مرتبة منه، وإن كانت حاكيةً عن أمر اعتباري فما صدقه وعاء الاعتبار ومرجعه إلى كون الواقع، بحيث ينتزع العقل منه مفهومًا اعتباريًا خاصًا.

[37] هرم الوجود، مصدر سابق، الصفحة 100.

[38] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[39] انظر، المشاعر، مصدر سابق، الصفحات 27 إلى 32؛ رسالة اتصاف الماهية بالوجود، مصدر سابق، الصفحات 1 إلى 11؛ الشواهد الربوبية، مصدر سابق، الصفحة 11.

[40] المشاعر، مصدر سابق، الصفحة 27.

[41] انظر، المصدر نفسه، الصفحات 28 إلى 32؛ الشواهد الربوبية، مصدر سابق، الصفحتان 12 و13.

[42] باقر الداماد الحسيني (ميرداماد)، القبسات، باهتمام مهدي محقق (مؤسسة انتشارات وجاب دانشكاه طهران، 1367ه)، الصفحة 37.

[43] الشواهد الربوبية، مصدر سابق، الصفحة 12.

[44] رسالة اتصاف الماهية بالوجود، مصدر سابق، الصفحة 12.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الحكمة المتعاليةالفلسفةالعرفانملّا صدرا

المقالات المرتبطة

تاريخ علم الكلام | الدرس الحادي عشر | الكلام الإمامي في حقبة تشكُّل الجوامع الكلاميّة مدرسة قم الكلاميّة

سنتناول في هذا الدرس مدرسةً أخرى من المدارس الفكريّة الإماميّة التي ظهرت بعد مدرسة الكوفة، والتي تُعدّ في الحقيقة استمرارًا لنشاط وفعاليّة الكلام الإمامي في مدرسة الكوفة.

الحقيقة العرفانية بين الظاهر والباطن

يقوم علم الدلالة على العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، ويبحث في طبيعة الارتباط بين ما هو مادي تنتظم به الدلالة بوصفه دالًّا لفظيًّا أو كتابيًّا

العولمة وتنميط المجتمع

وفقاً لتصنيف الأنمطة الأسرية والأنمطة الاستهلاكية نجد أن جميع الأفراد تكمن فيهم الاستعدادات لكافة القيم الشخصية إلاّ أن تراتبيتها ودرجتها تختلف من بين الأفراد، وتؤثر عوامل موضوعية خارجية؛ العولمة والمؤسسات المجتمعية،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<