عاشوراء في خطاب المقاومة الإسلامية | قراءة في كتاب “خطاب عاشوراء”
“عاشوراء في خطاب المقاومة الإسلامية” عنوان قائم على ثلاثة مصطلحات، يبدو اثنان منهما بديهيين. فعاشوراء ذاكرة إسلامية عصية على الزمان، والمقاومة فعل إسلامي مرتبط بغير آصرة بتلك الذاكرة. والبداهة في التعامل مع مصطلح من المصطلحات لا تعني الإمساك بكل إمكاناته وكل الاحتمالات القائمة فيه. ولو كان الأمر كذلك لما احتجنا إلى خطاب يتناول ذينك المصطلحين بالتدقيق والتحليل والكشف عما ينطوي فيهما من أبعاد. وإذا تكفَّل الخطاب بإماطة اللثام عن تلك الأبعاد، فما الخطاب؟
رأى بنغنست أن الخطاب “كل تلفُّظ يفترض متكلمًا ومستمعًا، وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما”[1]. ويعني ذلك أن الخطاب عملية تواصل بين طرفين متراتبين، وأن يهدف الأول إلى التأثير على الثاني، يعني أن الأول يمتلك وعيًا ومعرفة لا يمتلكها الثاني، المتكلِّم. ولا ينفصل هدف التأثير عن الشعور بالمسؤولية الذي يتملك حيال المتلقي، والشعور بالمسؤولية لا يتأتّى إلا عن ثقافة لها موقعها داخل حركة التاريخ الحديث. وخطاب المسؤول، ككل خطاب له بعدان:
البعد الأول: هو الرؤية إلى العالم. وحين تكون هذه الرؤية رؤية المسؤول لا بدَّ من أن تأتي مميزة بكل مكوِّناتها: ثقافة وقناعات، وهمومًا، واهتمامات.
البعد الثاني: هو لغة ذلك الخطاب التي تكون بمعجمها، وتراكيبها، ومجازها، ورموزها، وشيفراتها الثقافية محدَّدة ومحكومة بتلك الرؤية.
وحين يتحدّد الخطاب ويتميَّز بالرؤية واللغة يصبح النظر إلى عاشوراء من خلال خطاب المقاومة الإسلامية مسألة نقدية بشكل أساسي… وتصبح المدوَّنة التي نبحث من خلالها عن موضوعنا أمرًا حساسًا يساعد الباحث أو يعوِّقه عن مراميه. “وخطاب عاشوراء” لسماحة الأمين العام، والذي هو عبارة عن تلك الكلمات التي أحيا بها سماحته ليالي عاشوراء عبر ثلاثة أعوام هي العام 1999،1998،1997، أعوامَ عشية الانتصار التاريخي المؤزَّر، هو خطاب غير عادي عامرٌ بحساسية أدبية، سياسية، ثقافية، لا يضاهيها فيه سوى الحساسية التاريخية. ويؤهله كل ذلك ليكون نصًّا بالغ الأهمية رؤية ولغة، وعاشوراء فيه ليست جزءًا من ثقافة المتحدِّث فحسب، ولكنها موضوع الخطاب أيضًا. ولذلك فإن البحث عن عاشوراء يصبح أكثر سهولة. والسهولة يفرضها المنهج الموضوعاني الذي يحول دون أن يبرز الباحث فيه قدراته النقدية. على العكس تمامًا كما لو كانت المدَّونة المدروسة قائمة على كلمات موضوعها المصطلح الثاني (المقاومة الإسلامية).
أضف إلى ذلك أن هذا الخطاب موجه إلى جمهور متنوع يفترض أن يتحدَّث سماحته بلغة هذا الجمهور[2]. ويؤثر هذا الأمر على أدبية الخطاب الذي يندرج داخل دائرة الكلام الشفوي الذي يحرص على أن يكون أحاديّ الدلالة. وفي ذلك اختلاف كبير عن الكلام الكتابي الذي يحتمل دلالة جديدة عند كل متلق جديد. ويؤدي ذلك إلى تفاوت بيَّنٍ في الأدبية التي هي قوام العملية النقدية.
ومهما يكن من أمر، فإن قراءة “خطاب عاشوراء” لسماحة الأمين العام كفيلة بتقديم رؤية سماحته إلى العالم (عاشوراء)، تلك الرؤية الثاقبة التي قادت إلى الانتصار، وكفيلة أيضًا بإبراز لغة متناسبة، في مستوى من المستويات، مع تلك المسؤولية العظيمة.
وما دام الخطاب خطاب عاشوراء، والموضوعُ موضوعَها صار السؤال البديهي: كيف وعى خطاب السيد عاشوراء بوصفه خطاب المقاومة الإسلامية النموذجي؟
- وعي عاشوراء في خطاب المقاومة.
لم تكن تسميةٌ حدثِ شهادة الحسين وأهل بيته(ع) بإسمين: أحدهما: زمني (عاشوراء)، والآخر مكاني (كربلاء) قائمةً على المصادفة.
فالتسميتان علمان على الحدث لا تحتاجان إلى إضافة أو وصف لكي تتحدَّدا. ولا يمكننا أن نفقه سر ذلك ما لم نحظ بأبعاد ذلك الحدث الذي بات معلمًا زمانيًّا مكانيًّا في آن معًا. ولقد قطع خطاب السيد شوطًا واسعًا في مجال تلك الإحاطة. والخطاب لم يصف تلك الحادثة بأنها حادثة إلهية[3]. أولًا وقبل أي وصف آخر إلا لأن هذه الصفة صفة متمكنة من ذلك الحدث، تعطيه هويته الأساسية. فالتوجه إلى كربلاء امتثال لأمر الله تعالى، وقمة في العبودية[4]، وما جرى هناك من ألفه إلى يائه، وبكل تفاصيله ناجم عن “تخطيط إلهي دقيق ومحكم”[5]؛ ولذلك كانت نتائجه غير عادية بالنسبة إلى حياة المسلمين وتاريخهم. فدم الحسين(ع) قد حفظ رسالات ربه[6]، وحال دون أن يحقق يزيد “مشروعه الجاهلي الطاغوتي المحارب لله ورسوله”[7]؛ ولذلك فإنه ليس بإمكاننا، كما يرى سماحته، أن ندرس هذا الحدث وفاق المناهج الاجتماعية، أو الفكرية، أو السياسية الحديثة، كما لا يجوز لنا أن نستخدم لغة اليسار في الحديث عنها فنقول: إن حركة الحسين(ع) “حركة ثورية متقدمة في حياة الأمة”[8]؛ لأن حسابات هذه اللغة وتلك المناهج التي تصطنع العلمية ميزانًا تقيس به مقادير الخسارة والربح لا يمكنها أن تلتقط أسرار الربح الوفير الكامنة في شهادة الحسين(ع). لا تُلتقط تلك الأسرار إلا بالقول: “إنها حركة دينيةٌ إسلاميةٌ… الدوافع والخلفيات”[9]، خصوصًا أن مفاعيل ذلك الدم ليست على عجلة من أمرها، ولا بدَّ من أن تضيق العلمية ذرعًا بانتظار حدوثها. وتبقى صفة الإلهية الصفة الأقوى في توضيح أبعاد تلك الحادثة.
ويأتي وصفها بالتاريخية[10] في المرتبة الثانية؛ لأن دور البشر في مجريات أمورها دور ثانوي قياسًا على الإرادة الإلهية والأهداف الإلهية التي حكمت أن يستشهد الحسين(ع) بما هو القائد المعصوم، وأن يستشهد أهل بيته(ع) وأن تُسبى نساؤه ليكون كل ذلك قمة في العبودية كما يرى السيد. والصفة التاريخية نتيجة قياسًا على الأصل الصفة الإلهية وإذا كانت هجرة الرسول (ص) قد تمت بأمر إلهي، هدفها خير البشر من خلال تعميم قيم الإسلام[11] بما يغيِّر الناس وسلوكهم وعلاقاتهم فيكون ذلك حركة تاريخية، فإن هجرة الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء بأمر إلهي أيضًا.. هدفها خير البشر من خلال “الحفاظ على قيم الإسلام وإنجازات الرسول(ص)”[12]، بما يعيد الحق إلى نصابه فيكون ذلك حركة تاريخية أيضًا، ولذلك فإن سماحته يرى أنَّ الهجرتين هجرةٌ واحدة من حيث المضمونُ والهدفُ والخلفية والمظاهر والشعارات[13]. فهما أمر إلهي انعكس حركة إيجابية في تاريخ البشر. وإذا كانت غاية كربلاء “أن تستنهض الأمة وتحرِّكها وتوقظها”[14]؛ أي أن تنتج تاريخًا جديدًا لها مختلفًا عن التاريخ الذي أراده لها زيد، فإن مفاعيل تلك الحركة لن تتوقف عند تخوم إنجازاتها المباشرة في منع يزيد من تحقيق مشروعه، ولكنها حركة مستمرة ما وُجد الإنسان على الأرض.
وحين يرى السيد أن إحياء ليلة من ليالي عاشوراء هو إحياء لأمر محمد(ص) وآل محمد(ع)[15]، يعني أن الحدث الكربلائي ذاكرٌ وفعلٌ حاضر متحقق في كل لحظة. والإحياء ليس تعزية وحزنًا وأجرًا فحسب، ولكنه استحضار للفعل الكربلائي بكل أبعاده وخلفياته ومفاعيله ووضعه في مجرى الزمن الحاضر أيضًا. ويأتي كلام السيد على المقاومة في هذا السياق: “هكذا تكون لنا كربلاؤنا التي ننتصر فيها على كل أعدائنا ونهزمهم إن شاء الله”[16]. ولا يشير هذا الكلام إلى الاستمرارية التي تتصف بها حركة كربلاء فحسب، ولكنه يشير إلى روحية كربلاء التي تحتضن بذرة الانتصار المتفتحة أبدًا أيضًا. إن إضافة كربلاء قوى جماعة المتكلمين تفتحها ليكون لكل مرحلة كربلاؤها، كربلاؤها المستقلة عن نتائجها الراهنة المباشرة. ويعني ذلك أن لكل كربلاء باطنًا وظاهرًا، باطنًا ثابتًا متمثلًا بالفعل الذي يشكِّل استجابة لأمر الله في عظائم الأمور وصغائرها، وهو فعل نجاح أكيد، وظاهرًا متغيِّرًا متمثلًا بالفشل المؤقت أو بالنجاح المرحلي. كربلاء هذه حاضرة أبدًا في سلوك أولئك المؤمنين المستجيبين لأمر الله ما بقي البشر حتى عصر الظهور المقدَّس الذي لن يكون سوى كربلاء تلك المرحلة[17].
وأن تكون كربلاء حادثة تاريخية بهذا الحجم المتناسب مع صفتها الأولى، كونها حادثة إلهية لا بدَّ من أن يصفها خطاب السيد بأنها حادثة استثنائية[18]. ومجيء الاستثنائية ثالثة لا يقلل من شأنها؛ لأن هذه الاستثنائية مرتكزة على الصفتين الآنفتين: الإلهية والتاريخية. فهي تجمعهما في تكوينها خصوصًا أنها قد واجهت ظالمًا استثنائيًّا ارتكب في كل سنة من سنوات حكمه الثلاث جريمة نكراء لا تُغتفر. قتل ابن بنت رسول الله(ص)، واستباح المدينتين المقدستين مكة والمدينة. وشخصية هذه أفعالها لا بدَّ من أن يكون مشروعها مشروعًا جاهليًّا محاربًا لله ولرسوله[19]. وحدث يتصدى لهذا المشروع فيحول دون تحقق مفاعيله السلبية المدمِّرة هو حدث استثنائي سيكون له حضور استثنائي في الوجدان الشعبي[20] على امتداد التاريخ. وإذا تساءلنا عن عمق الموقفين، قدَّمت لنا رؤية المقاومة من خلال خطابها جذرين لهذا الاختلاف: الجذر الأول هو التعلق بأهداب الدنيا، والجذر الثاني هو التعلق بالآخرة والامتثال لأمر الله[21].
ويبقى أن السؤال البديهي الذي يُستثار حول رؤية المقاومة إلى الحدث الكربلائي: ما هي مكوِّناته؟ وأول ما يتبادر إلى ذهن المتسائل هو المكوِّن التاريخي. والمكوِّن التاريخي مادة يمكن قراءتها من خلال وجهات نظر متباينة، ويمكن أن يكون لها غير تفسير. فهو مكوِّن أقرب إلى الحيادية منه إلى تحديد موقف. ولقد سمعنا، وفي مراحل متعددة من تاريخنا، أصواتًا نكرة ترى في الحدث الكربلائي خروجًا على إمام ذلك الزمان. ويعني ذلك أن المكوِّن الأساسي لرؤية المقاومة هو المكوِّن الثقافي الإسلامي. والمدرسة العلمية الثقافية الجهادية التي أسَّس لها أمير المؤمنين(ع)، وتوارثها معصوم عن معصوم، هي التي حكمت تلك الرؤية إلى حد بعيد.
وإذا لم تكن الثقافة المعصومة، في طور تكوُّنها، معنيةً بتجديد الرأي من موقف هذا الإمام أو ذاك، فأدّى ذلك إلى إثارة أسئلة تتعلق بموقفي الحسين(ع) المتباينين من الحكم الأموي، فإن خطاب سماحته قد وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة وفي غيرها. وذلك اعتمادًا على ثقافة المرحلة المؤسسة على الموروث الثقافي الإسلامي. ولقد أزال كلام السيد كل لبس يمكن أن يعلق بذهننا حول تباين مواقف أئمتنا: “وظيفتنا في الدنيا، أن نؤدي تكليفنا الشرعي. لا يجوز أن يكون أحدنا أسير الشعارات بالمطلق. (هيهات منا الذلة) ليس شعار الحسين فقط، كما أن المصالحة ليست شعار هذا الإمام أو ذاك، وليست صالحة لكل مرحلة، بل في كل مرحلة لنا تكليف محدَّد، والإمام يقول لنا تكليفكم كذا، نحن جماعة التكليف نتبع أمر إمامنا”[22]. وإذا كان هذا الكلام حاسمًا للجدل حول صلح الحسن(ع)، فإنه يطرح أمامنا قضية القيادة، ودور القائد في حياة الأمة، وإن كنا مضطرين إلى تأخير الإجابة عن هذا السؤال لنستكمل الحديث عن مكوِّنات رؤية المقاومة إلى الحدث الكربلائي.
وتأتي تجربة المقاومة الإسلامية الراهنة لتطرح نفسها مكوِّنًا ممكنًا من مكوِّنات رؤيتها إلى كربلاء. وهذا ما يستدعي أن نقف عند رؤية المقاومة إلى نفسها وعند تعالقها بالحدث الكربلائي.
- ثقافة المقاومة وثقافة كربلاء.
قدّم لنا خطاب المقاومة رؤية إلى كربلاء في ضوء التجربة الجهادية الراهنة، خصوصًا عندما انطلق سماحته من التحوُّل الكبير الذي أحدثته دماء شبَّان مجهولين في الأرض معروفين في السماء، في أمتنا وفي عالمنا، وهو يعني بهم استشهاديي المقاومة الإسلامية، ليقيس على هذا التحوُّل تحوُّلًا آخر يمكن أن يحدثه استشهاد قائد عظيم من مثل الحسين(ع)[23]. وإذا أراد سماحته أن يبيِّن حجم ذلك التحوُّل أشار إلى أن الدم الذي سفكه يزيد سيتعدى بمفاعيله زمن ذلك الطاغية “إلى تاريخ هذه الأمة، في الأجيال الآتية، في المستقبل، في حركة التغيير الكبرى في العالم. هذا الدم هو الذي سيصنع كلَّ هذا التاريخ”[24]. وحين يرى أن مآل الإنسان الموعود للعالم نتاج متصل بالشعلة الحسينية، فمن الطبيعي أن يرى أن كلَّ إنجاز يحققه المسلمون ليس سوى حلقة في سلسلة معروفة الطرفين. يدخل في سياقها بناء الدولة الإسلامية في إيران، والمعادلات التي أعادت إنتاجها المقاومة الإسلامية[25]. وما الإنجاز الذي سيجترحه الإمام الحجة(عج) في آخر الزمان سوى النهاية الطبيعية والأكيدة التي أسس لها الحسين(ع) بدمه في كربلاء.
والمقاومة الإسلامية التي رأت لنفسها وظيفة التمهيد[26]، الذي يندرج في سياق الحدث الكربلائي، لم تكتف بأن ترى هذا الأمر عملًا ثوريًّا تغييريًّا مفيدًا لجيل محدد من أجيال المسلمين، ولكنها وضعته في سياقه الإلهي.
“هدف الأنبياء والرسل هو إقامة العدل في الأرض. وقد سعوْا إليه وضحوا من أجله وهو الهدف الذي سيتحقق، إن شاء الله، وبوعدٍ منه عز وجلّ على يدي حفيد الحسين، الحجة المنتظر(عج)[27]، وخطاب المقاومة لا يشير إلى أنه يعي هذا الأمر فحسب، ولكنه يشير إلى أنه يعي أنه يعيه: “الحسين ليس قائدًا وإمامًا مقطوع الصلة بالماضي، ولم يكن مقطوع الصلة بالمستقبل. الحسين هو امتداد لحركة النبوة والرسالات التي خُتمت بمحمد(ص)، واستمرت في إطار المعصومين(ع)، واحتُفظت في أمانة وعهدة صاحب الزمان. حتى إذا جاء وقت الوعد الإلهي خرج ومعه المسيح ليقيما دولة العدل والعبودية لله في العالم”[28]. ونظرة المقاومة إلى قضية العدالة على الأرض وفاق هذا السياق لم يجعلها تحدِّد موقعها داخله بشكل دقيق فحسب، وهذا يكسبها ثقة عارمة بمسارها، ولكنه جعلها تقدم النظرية الإسلامية في الثورة والسياسة في مواجهة النظرية الماركسية. فلقد رأى سماحته أن كثيرين “قاموا بثورات وأسقطوا حكَّامًا ظالمين، ولكن بعد أن أخرجوا الظالم من الساحة جلسوا هم ليحكموا بنفس ذلك الظلم”[29]، ورؤيته وإن وافقت الماركسية في جانب من تصورها، فوضعت إصبعها على جرثومة السلطةِ غير الإسلامية ووجدت أنها محكومة بأن تكون سلطة ظالمة، إلا أنها لم تكتف بهذا الكشف وتلك الملاحظة، عندما رأت أن سلطة يقيمها الإسلام الحنيف، على يد قادته المعصومين، لن تكون إلا سلطة عادلة، وإن تأخر قيامها إلى آخر الزمان، وإن احتاجت إلى تمهيد أساسي كثورة الحسين(ع) وإلى ممهدات تاريخية كثورة الخميني(قده)، وكحركة المقاومة الإسلامية في لبنان.
ومما لا شك فيه أن هذه الرؤية التي واجهتنا في خطاب سماحته قد خطت خطوة واسعة في اتجاه إنتاج الثقافة في ضوء معطيات المرحلة التاريخية الحالية. ذلك أن هذا التعالق الذي رأيناه بين كربلاء، والثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في لبنان، وما سينجزه الإمام الحجة في فكر سماحته هو فهم دقيق للواقع، وللمعضلة التي تواجه البشرية من زمن أبي جهل وزمن يزيد إلى زمن إسرائيل وزمن الاستكبار العالمي[30]، وخطاب المقاومة لم يشكل تشخيصًا لمشكلة الظلم والاستبداد وحدها، تعدَّاها إلى تحديد الدواء. وهل الثقافة سوى تحديد للمشكلة، ووضع حلٍّ لها؟ إننا إذًا أمام ثقافة الانتصار في زمن عربي إسلامي خاوٍ يعيش على ما يستورده من ثقافة الآخرين.
ومساهمة سماحته في إنتاج ما أنتجه من ثقافة إسلامية ثورية لم يكن ترفًا فكريًّا قائمًا على فرضيات هذا الصحافي المراقب للأحداث أو ذاك، ولكنه نتاج الخائضين في غمار المشكلات الصعبة المستعصية على مختلف هذه الأمة. وما كان لسماحته أن ينجح فيما نجح به لولا إمساكه المشكلة من مقبضيها الحقيقيين عنيت الخوض في غمار التجربة والاعتصام بفكر أئمتنا المعصومين وثقافتهم الإسلامية. ولذلك فالمقاومة الإسلامية لم تنطلق من تجربتها لترى حجم الحدث الحسيني في ضوئها إلا لتفيد من ذلك الحدث الإفادة المرجوة في تسديد المسيرة وتنشيطها، والمقايسة التي أجراها سماحته بين إنجاز المقاومة وإنجاز الحسين(ع) كانت برهانًا منطقيًّا لتبيان حجم الإنجاز الحسيني، ولم تكن لتعني أن بداية العلاقة الجدلية بين المقاومة وكربلاء قد ابتدأ نسيجها من خيط في لبنان. فالعكس هو الصحيح وغاية آمال الاستشهاديين “يكمن في سر وهوية وروح وعقل وقلب ودماء وآهات أبي عبد الله الحسين(ع)”[31] كما يرى سماحة السيد. وهم لم يقتحموا هذا الموقع أو ذاك بالسلاح “اقتحموه بالحسين(ع)”[32].
والحسين هو المدرسة التي تخرَّج من صفوفها مقاتلو المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين[33]، ولم يكن خيار (هيهات منا الذلة) خيارهم الوحيد للصمود فحسب، كان خيارهم لاستعادة الأرض[34] أيضًا. كل ذلك بعد أن تعلموا من اليوم العاشر كلمة الحسين “إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما”[35].
ومهما يكن من أمر، فإن اتصال المقاومة بكربلاء ودورها التنويري التحريضي ضد الظالمين ليس اتصالًا بأي تجربة من تجارب الأمم، ولكنه اتصال أبناء المدرسة بمعلميهم العظام، اتصال المؤمن بأصول عقيدته. وهذا أمر ليس بسيطًا، فمتابعة طريق المقاومة هو صدق البيعة للحسين(ع)[36]، وامتثال لأمر الله[37] وفاق قاعدة امتثال الحسين(ع) نفسها في كربلاء. وانطلاقًا من هذه النظرة استبعد سماحته أن يكون السلاح والقدرات الجسدية من بين أسرار قوة المقاومة الإسلامية. سر قوة تلك المقاومة إيمان استشهادييها[38]، وحضور كربلاء الدائم في نفوسهم[39]، عشقهم الحسيني للشهادة[40]، واختيارهم الطوعي طريق ذات الشوكة، طريق أصحاب الحسين(ع)[41].
ولقد لخص السيد هذا السر حين وصف المقاومين أنهم “قوم إذا[42] قالوا فعلوا”. وتجعلهم هذه القاعدة مختلفين عن أولئك المنتمين إلى الأحزاب اليسارية الذين كانت مشكلتهم الأساسية أنهم قوالون أكثر مما هم فعَّالون.
ولقد تحوَّل سلوكهم هذا إلى مركَّب نقص حال دون الكثير من أمانيهم. وليس في الأمر غرابة. فهم لا ينتمون إلى المدرسة الحسينية، تلك المدرسة التي رأت فيها المقاومة الإسلامية صرحًا تربويًّا تخرَّج منه جميع أبطالها. كيف لا وكربلاء على حد تعبير السيد “ما تركت لصاحب حجة حجة، ولا لصاحب ذريعة ذريعة، ولا لصاحب ألم أن يشعر أن ألمه هو الأكبر”[43]. وحين يجد المقاوم الإسلامي أن أهله في أمان، وأطفاله في منأى عن يد الطغاة، ونساءه مصانين لا بدَّ من أن يقدم على الشهادة وهو متيقن أن ألمه سيظل صغيرًا أمام ألم أبي عبد الله الحسين(ع) في كربلاء. ولا يغفل خطاب المقاومة الإسلامية عن الإفادة التربوية من اللحظات الأخيرة في حياة إمامنا المقدَّسة؛ ناقلًا إلينا كلماته الأخيرة “أرضيت يا رب؟”، معلِّقًا بأن ما قاله(ع): “إحساس بالتقصير تجاه الله”[44]. وأن يشعر (ع)، ما مع قدَّمه بالتقصير يجعل أي تضحية مهما بلغت صغيرة أمام تضحياته. ولا تربي المقاومة نفسها على التواضع حيال إنجازاتها العظيمة فحسب، ولكنها تعبئ ذاتها من خلال الفضل الذي يناله المستشهد بين يدي الحسين(ع). “إن هذا الساتر، أو هذا الكمين، أو هذه العبوة هي الفاصل بين [المقاوم] وبين أن يحتضنه أبو عبد الله الحسين(ع)”[45]. وموت كهذا سعادةٌ تمد المقبل عليه بروحية وشجاعة وحماسة ورجولة كربلاء[46].
ويبقى أن الثقافة التي أنتجت خطابًا شفّافًا بهذا القدر، هي التي اجترحت انتصار ثلة من المستضعفين على أعتى كيان عنصري في هذا العصر، فصار هذا الانتصار حجة أرى العربَ والمسلمين كيف يمكن أن تُزال إسرائيل من الوجود.
إن ثقافة المقاومة الإسلامية ثقافة متفائلة، لأنها ثقافة شيعية إسلامية. وما كان لهذه الثقافة إلا أن تكون متفائلة مع امتداد عصور الاستبداد والخوف. قرون تعاقبت بعد استشهاد الحسين(ع) والشيعة مقموعون مقتولون حتى سُميت تلك العهود بزمن الخوف. ومع ذلك والشيعة فرحون بما لديهم، صابرون، محتسبون، ينتظرون إمام العصر والزمان الذي سيملأ الأرض عدلًا بعد أن تكون قد ملئت ظلمًا. وثقافة متفائلة بهذا القدر نتاج طبيعي لحدث كربلاء، العطاء الكبير بنظر التاريخ. الصغير بنظر مجترحه الحسين(ع).
ب. عاشوراء والقيادة في خطاب المقاومة.
تضعنا رؤية المقاومة إلى عاشوراء وجهًا لوجه أمام فكرة القيادة التي تقود حركات التمهيد المتتالية وصولًا إلى إنجاز الثورة الإسلامية النهائية على يد حفيد الحسين(ع). والذي نجده في خطاب المقاومة قناعةٌ راسخة أنَّ الإمامة “ضمانةُ النظام والوحدة والحق والآخرة وطريقُ الله”[47]. وفي ذلك إيماءة إلى أن تضييع الإمام، كما حدث في كربلاء، تضييع للنجاة من النار. ولذلك أتمَّ الله “الحجة على عباده في الحياة الدنيا”[48]، فحدَّد لهم إمامًا قائدًا. ويعني ذلك أن القيادة حاجة بشرية بالدرجة الأولى. والقصة “ليست قصة التبليغ والتعليم والهداية فقط، بل تتجاوز ذلك إلى مسألة الولاية والأمرة والأخذ بأيدي الناس وقيادتهم في كل تفاصيل حياتهم فضلًا عن القضايا الكبيرة؛ لأن الناس لا يريدون شخصًا يبيِّن لهم الأحكام فقط، بل يقودهم أيضًا. وهذه سنة طبيعية”[49].
وأشدّ ما تكون حاجة الناس إلى الإمام القائد هي في أيام الفتن؛ لأن الفتن تلبس الحق الباطل وتضلّ عن الطريق السديد حتى ليقف العقل عاجزًا عن التدقيق في المعلومات التي تسرَّبت إليه عن قصد، أو غيرِ قصدٍ فلا يستطيع أن يحدِّد موقفًا صائبًا مما يجري. “ولمثل هذه المحن والفتن نصَّب [الله] الإمام علامة للحق”[50]. وما علينا إلا أن نطيعه طاعة عمياء. “ولذلك كان الرسول(ص) يربي الناس على المقاييس والضوابط ومعرفة الحق، وإلى جانبها يقول: (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار)… إن أعظم مقياس للحق هو رجل، هو الإمام المنصوب من الله عزَّ وجلّ”[51]. والرسول (ص) إلى ذلك يعرف أن الفتنة ليست مضلّة للعوام وحدهم تتعداهم إلى الخاصة ولذلك أوصى أبا ذر، وهو من هو، أن يسير في وادي علي(ع) حين تتشعب الأودية. وحين يكون الشخص الذي اختاره الله مقياسًا وجبت علينا طاعته، أما ونحن في زمن الغيبة فقد توجَّب علينا أن نسأل عن كيفية الاهتداء إلى القائد البديل. لم تتركنا العناية الإلهية تائهين. فإذا “أردنا أن نفتِّش عن أساس ولاية الفقيه سنجده في القرآن الكريم، وسنجده في نهج البلاغة؛ لأن الله والرسول والأئمة وضعوا مواصفات لولي الأمر، حين تفقد الشخص المعيَّن بالنص، يجب أن تفتِّش عن الشخص الذي يستجمع المواصفات”[52].
ومواصفات البديل أن يكون عالمًا، عادلًا، ورعًا، زاهدًا، شجاعًا، بصيرًا، مؤمنًا، غير جلف، أو ظالم، أو خشن[53]. وتحديد الصفات وإن كان يقرِّبنا من اختيارٍ صائب للولي الفقيه، بسبب تعدّدها واتساعها، إلا أنه لا يصل إلى يقينية الاختيار السليم. فهل يُعطى جميعُ أفراد الأمة سلطة اختيار الولي الفقيه بعامتهم وخاصتهم، وتجربة مجتمعاتنا الديموقراطية الغربية واضحة في تأكيد وصول المتموِّلين وأصحاب النفوذ وحدهم إلى موقع القرار؟
رأى سماحته: أنه “في زمن حضور المعصوم هذه المواصفات تتحقق بالمعصوم، وفي زمن غيبته يكون لدينا مجموعة فقهاء، فيجب أن نستخلص من بينهم العدول، ومن بين هؤلاء يجب أن نبحث عمن يتحلى بالشجاعة والإخلاص”[54]. استطاعت هذه الرؤية أن تتخلص من مأزق الديمقراطية الغربية لتحصر في الفقهاء، مفكري الأمة الكبار، مسؤولية الترشيح ومسؤولية الاختيار. والعدول من بين هؤلاء المفكرين وحدهم يُختار من بينهم أشجعهم وأكثرهم إخلاصًا. يعني ذلك أن القاعدة قد حصرت قيادة الأمة بأفضل فقهاء الأمة على الإطلاق. ونستطيع القول أيضًا إنها حصرتها في أفضل أبناء الأمة، وحين تكون شروط القيادة دقيقة بهذا المقدار وَجُب على الأمة طاعة ذلك القائد. “وعندما نطيعه إنما نطيع أمر المهدي (عج) ونطيع أئمتنا وربنا لأنهم أمرونا أن نعود إليه”[55]. والدليل القاطع على وجوب هذه الطاعة تجربة المقاومة نفسها ذلك أن المقاومة الكبيرة التي هي الشيء الوحيد في هذا العالم العربي الذي نرفع رأسنا به ونعتز به وبوجوده، لولا رجلٌ اسمه روح الله الموسوي الخميني، كما يرى سماحته، وهو الخبير، “لما كان لها وجودٌ في لبنان، وبعده لولا رجلٌ اسمه علي الحسيني الخامنئي لما استمرت”[56]. فهو الذي نبهها إلى أن الالتفات إلى طاعنيها من الخلف، على خطورتهم، كفيل بألا تكون هناك مقاومة[57].
ويبقى أن الاختلاف مع الديمقراطية الغربية في اختيار القائد لم يكن اختلاف الثقافة الإسلامية وحدها معها، الفلسفة الماركسية لم تأخذ بهذه الديمقراطية، أخذت بالديمقراطية المركزية، ديمقراطية النخبة السياسية. وهذه النخبة وإن كانت نخبة ثقافية إلى حد معقول إلا أنها ليست نخبة مفكرين كما هي الحال في مدرسة آل البيت. نخبتنا نخبة فقهاء مفكرين قادرةٌ على تشخيص مشكلات الأمة، وقادرة على اختيار الأقدر على التصدي لتلك المشكلات بعكس الديمقراطية الغربية التي هي أقرب إلى الغوغائية منها إلى الاختيار السليم.
ومما يجدر ذكره أن مقولة حاجة الأمة الدائمة إلى القائد التي أثبتت البراهين والتجارب التاريخية مصداقيتها إنما تدحض المقولة الماركسية التي ترى أن القيادة المتمثلة بالسلطة هي قيادة ظالمة دائمًا، لأنها تمثِّل مصالح الطبقة المستغلة في مواجهة مصالح سائر طبقات المجتمع. ولن يزول الظلم من العالم، كما ترى الماركسية، إلا بزوال الدولة والقيادة. والسؤال الصعب الذي يواجه هذه المقولة: هل سيخلو المجتمع البشري، مهما بلغ من الرقي والتقدم، من ذوي النفوس المريضة؟ وهل سيترك هؤلاء مجتمعهم لفرضية التسيير الذاتي الآلي؟
ج. ثقافة عاشوراء ومرجعية العقل.
وما دمنا نتحدث عن القيادة والفكر والديمقراطية، لا بدَّ لنا من أن نراقب وظيفة العقل في خطاب المقاومة الإسلامية لنتبيَّن موقعه في عملية اختيار القائد من جهة، ودوره في صوغ قرارات ذلك القائد من جهة أخرى.
المعروف أن المذهب الشيعي مذهب كلامي. والكلاميون يتوسلون العقل مرجعًا أساسيًّا يستندون إليه في أثناء محاولتهم الوصول إلى بعض الحقائق. ولكن أي الحقائق التي تشكل موضوع ذلك العقل؟
نشأ علم الكلام للدفاع عن الشريعة الإسلامية في وجه الأسئلة الحرجة التي طرحتها عليه بعض الأديان وبعض الفلسفات التي وجدت لنفسها موطئ قدم تحت شمس الدولة الإسلامية. ويعني ذلك أن العقل، داخل المدارس الكلامية، لم يستخدم للوصول إلى حقائق جديدة غير معروفة، الحقيقة قرَّرتها الشريعة وما على العقل إلا أن يأتي بالبرهان المصدِّق. والقيام بهذا العمل لم يكن قصد إيجاد إيمان بالإسلام، ولكن قصد ترسيخ الإيمان بهذا الدين في نفوس المؤمنين به بعد أن قدَّر الكلاميون أن أسئلة المانويين والمزدكيين والمنطقيين اليونانيين تشكِّل خطرًا على ذلك الإيمان. ولذلك بدت الحاجة إلى العقل ثانوية.
ولم يخرج خطاب المقاومة الإسلامية عن هذه الرؤية إلى العقل.
فإذا ما انطلق سماحته من مبدئين:
الأول: يفيد أن خالق الكون أعلم بحقائق الكون[58].
والثاني: يرى أن دين الله أوسعُ من العقل ومن المستحيل أن يصيب الإنسان كل شيء عن دين الله بعقله[59].
فإن هذين المنطلقين قد تركا للعقل هامشًا وظيفيًّا ثانويًّا يضطلع به إلى جانب التصديق بالشريعة الإلهية. وإذا كان الإسلام غير قابل ليقع بكليته في قبضة العقل، فإن الله لم يمنَّ على الإنسان بالعقل وحده[60]؛ لأن العقل غيرُ كافٍ لتقديم الحقيقة، ولذلك منَّ الله على عباده بالهداية[61].
والدليل المؤيد لصحة هذا المنحى وجدته المقاومة الإسلامية في تجربة بعض كبار المسلمين الأوائل. ذلك أن “سليمان بن صُرَدَ الخزاعيَّ وهو من أصحاب الإمام علي(ع) كان يقول للإمام الحسن(ع) يا مذِلَّ المؤمنين… ومحمد بن الحنفية… كان يقول لأخيه الإمام الحسين(ع)… إلى أين أنت ذاهب؟ ألتقتل نفسك؟… كبار القوم كانوا في الأزمات والشدائد يشتبهون في تطبيق المقاييس الإلهية، مع أن الرسول (ص) كان قد علَّم الأمة المقياس الذي لن يخطئ على أساسه أحد[62]. البرهان دقيق. فالرجلان من قادة الصف الثاني في الأمة، عصفت بهما الأزمات فلم ينفعهم عقلٌ مع وجود الهداية. فكيف الحال بالنسبة إلى عوام الناس؟
الرؤية إلى العقل في خطاب المقاومة متناغمة مع حاجة الأمة إلى القائد. ذلك أن ولي الأمر في زمن الغيبة الكبرى “إضافة إلى فقهه واجتهاده ووعيه وخبرته [علمه وعقله] لديه بالتأكيد نوع من التأييد والتسديد والهداية فيما يتخذه من قرارات وفيما يشخِّصه من وظائف”[63]. تشير هذه الرؤية إلى أن المواصفات التي يُختار الولي الفقيه على أساسها غير كافية، وكذلك ما أعمله ذلك الولي من علمه وعقله: فقهًا واجتهادًا ووعيًا وخبرة فيما يشخِّص، أو فيما يتخذه من قرارات. يظل بحاجة إلى التسديد الإلهي، إلى ما هو أبعد من إمكانات العقل. والحسين (ع) نفسه فيما واجهه في كربلاء. كان قائمًا على التسليم لمشيئة الله، ولا علاقة له بما يمكن للعقل أن يستنبطه أو يأتي به.
وإذا كان الغرب في مرحلة ما بعد الحداثة قد رفض مرجعية العقل في تحديد الصواب والخطأ. وذلك بعد سلسلة من النقود التي وُجِّهت إلى ذلك العقل الذي كان إمامًا، في مرحلة الحداثة، بدءًا بكانت و“نقد العقل الخالص”، مرورًا بنِتشه ونظرته إلى الأنظمة العقلية بوصفها أنظمة بلاغية تضيِّع الحقيقة، وانتهاءً بدريدا الذي أوصل الثقافة الغربية إلى العدمية، فأدخل المجتمع الغربي مرحلة التوحش الذي يمتلك أظافر وأنيابًا نووية. ويوصلنا هذا الأمر إلى القول إن شيئًا لا يعصم الغرب والعالم من شر هذا المآل سوى الثقافة الإسلامية. فهي الوحيدة التي تمتلك رؤية متناسبة مع وظيفة العقل ومع مصلحة البشرية التي لا ينتشلها مما غرقت به إلا الموقف الإسلامي الذي بدا من خلال “خطاب عاشوراء” لسماحة السيد متماسكًا حيال قضايا الحياة البشرية من ألفها إلى يائها. فلا ثغرة ولا اضطراب حول أي موقف من المواقف. وإذا أردنا أن نطلق عنوانًا آخر على هذا الكتاب قلنا: هو “درس الثقافة الإسلامية”، لا بل “درس الثورة الإسلامية” التي بنت استيعابها للإسلام من جهة وللمعضلات التي تواجه البشرية على امتداد التاريخ من جهة أخرى على فهم علي(ع) وأبنائه المعصومين (ع) لهاتين المسألتين. ولا خلاص للبشرية إلا بتعلم هذا الدرس.
[1] مسائل الألسنية العامة، 1/241.
[2] خطاب عاشوراء، الصفحة 4.
[3] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 14.
[4] المصدر نفسه، الصفحة 129.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 148.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 149.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 200.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 69.
[9] المصدر نفسه الصفحة 69.
[10] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة، الصفحة 14.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 193.
[12] المصدر نفسه، الصفحة 193.
[13] المصدر نفسه، الصفحتان 190و 192.
[14] المصدر نفسه، الصفحة 142.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 6.
[16] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 65.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 250.
[18] المصدر نفسه، الصفحة 14.
[19] المصدر نفسه، الصفحة 200.
[20] المصدر نفسه، الصفحة 15.
[21] المصدر نفسه، الصفحات 17و 26و 87و 91و 92.
[22] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 59.
[23] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 153.
[24] المصدر نفسه، الصفحة 150.
[25] المصدر نفسه، الصفحة 26.
[26] المصدر نفسه، الصفحة 7.
[27] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 72.
[28] المصدر نفسه، الصفحة 139.
[29] المصدر نفسه، الصفحة 72.
[30] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحات 150 و152 و274.
[31] المصدر نفسه، الصفحة 11.
[32] المصدر نفسه، الصفحة 68.
[33] المصدر نفسه، الصفحة 153.
[34] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 274.
[35] المصدر نفسه، الصفحة 275.
[36] المصدر نفسه، الصفحتان، 30و 97.
[37] المصدر نفسه، الصفحة 132.
[38] المصدر نفسه، الصفحة 50.
[39] المصدر نفسه، الصفحة 45.
[40] المصدر نفسه، الصفحة 68.
[41] المصدر نفسه، الصفحة 145.
[42] المصدر نفسه، الصفحة 44.
[43] المصدر نفسه، الصفحة 41.
[44] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحتان 42 – 43.
[45] المصدر نفسه، الصفحة 49.
[46] المصدر نفسه، الصفحة 50.
[47] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 23.
[48] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[49] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[50] المصدر نفسه، الصفحة 20.
[51] المصدر نفسه، الصفحة 21.
[52] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحتان 24- 25.
[53] المصدر نفسه، الصفحات 25 و 59.
[54] المصدر نفسه، الصفحة 25.
[55] المصدر نفسه، الصفحة 26.
[56] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 61.
[57] المصدر نفسه، الصفحة 61.
[58] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحة 103.
[59] المصدر نفسه، الصفحة 9.
[60] خطاب عاشوراء، مصدر سابق، الصفحات 18و 102.
[61] المصدر نفسه، الصفحة 18.
[62] المصدر نفسه، الصفحة 58.
[63] المصدر نفسه، الصفحة 150.
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب: عقل الإخوان
عقل الإخوان… والأسس الفكرية للإرهاب كتاب جديد ينتقد ويهاجم الإسلام السياسي (الجماعات التكفيرية) عن دار نشر “كتابنا” بالقاهرة، صدر حديثًا
“مدى الإسهام الشيعي اللبناني في التقريب بين المسلمين”
لقد بَدَوْا مُتأنِّقِين ومُتألِّقِين في فهمِ الخلافِ بينَ المذاهبِ الإسلاميةِ، ولم يكنْ طرحُ هذه المسألةِ بمنأىً عن المعاييرِ العلميةِ التي أنتجَها الفكرُ الحديثُ والمعاصرُ.
مطالعة في كتاب “رحلة إلى الشرق”: محطات في البحث عن الجمالية الإسلامية
يصطدم النظر أيضًا بحجاب النساء فيرتد حاسرًا. وظهر هذا القطع بين الداخل والخارج، بين العام والخاص، بين المذكر والمؤنث، وكأنه يعيد إنتاج الثنائية التي استلت من النص القرآني وتكرست في ظاهر وباطن، فالظاهر ليس إلا حجابًا يخفي ويحفظ الداخل حيث تُقيم فيه الحقيقة أي “المعنى الأول”.