في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر: قراءة في مشروعه المقاوم وتجربته السياسية الرائدة
افتخر أني من جيل عاش في مرحلة نهضة الإمام موسى الصدر وعاصر تجربته الرائدة، ولامس عن قرب الثوابت التي كانت تشكل مرتكزات جهاده السياسي في تلك المرحلة، وأستطيع أن ألخص ذلك في عدة نقاط :
- كان السيد موسى الصدر ابن المدرسة الجهادية الإيرانية التي كانت تعتمل داخل المجتمع الإيراني، ويتفاعل في داخلها اتجاهات سياسية وعقائدية مختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكانت تضم كافة نخب الشعب الإيراني من مراجعه العظام إلى مثقفيه المستنيرين من معممين وغير معممين، والتي كانت تعبر عن بداية مرحلة جديدة من مراحل الوعي الديني الذي تفتحت من خلاله مدرسة الإسلام المحمدي الأصيل كحاجة للشباب المسلم وللمجتمع الإسلامي الباحث عن خلاص في زمن النكوص والانحدار والتراجع والخضوع، وكان هو جزءًا من هذا التفاعل والحوار، وقد أدلى بدلوه وساهم بشكل مباشر في نقاش المسائل الفلسفية والاقتصادية والسياسية وقضايا الدين والمعاصرة والإسلام والحكم وغيرها مما كان يشغل كل المثقفين الطليعيين في الحوزات العلمية وفي الجامعات الحديثة.
- وقبل أن يأتي إلى لبنان كان حاسمًا في أن رجل الدين الحقيقي هو المجاهد الحركي الذي يضع نصب عينيه قضية نهوض الأمة وخلاصها من الأغلال التي تكبل حركتها وارتقاءها نحو التكامل الحضاري كصاحبة رسالة إنسانية، وأن شخصية ومنهج عمل رجل الدين التقليدي لم تعد قادرة على تلبية الحاجة الموضوعية لحركة الناس في سعيها نحو غد أفضل، وأن الثقافة الدينية التقليدية التي كانت تلبي الحاجة سابقًا ما عادت تكفي في زمن المدارس والجامعات والثقافة الحديثة ذات الطابع الغربي الذي يسعى الغرب إلى تعميمها كجزء من أدوات الهيمنة على عقول الناس وعلى مقدراتهم، وكان قد أعد العدة الثقافية الذاتية، وهيأ كافة الأدوات المعرفية المرجعية للقيام بهذه المهمة الخطيرة في مجتمع متداخل ومعقد ويخضع لضغوط متعاكسة الاتجاهات.
- كان الإمام الصدر يعلم أن سبب العلة في إيران هو سببها في لبنان، وأن الدولة التي أرسلت أدواتها واستخباراتها لضرب حكومة مصدق الوطنية هي نفسها التي أرسلت أسطولها السادس إلى السواحل اللبنانية لردع الثورة الوطنية التي اندلعت عام 1958 ضد سياسة كميل شمعون وسعيه للتجديد، وضد حلف بغداد، وضد التحالف مع الغرب المعادي للوحدة العربية، ولسياسة عبد الناصر التحررية التي حازت على تأييد كل الشعوب العربية والإسلامية، ومن الجدير ذكره أن طلائع ثوار الحركة الوطنية في إيران وعلى رأسهم الدكتور مصطفى شمران قد ذهبوا باكرًا إلى مصر، وتلقوا تدريبًا عسكريًّا فيها كما كانت علاقة عبد الناصر برموز الثورة الإيرانية ودعمه لها معروفة منذ ذلك الحين .
4.كان في صلب إدراكه حقيقة الدور الذي تلعبه إسرائيل في مشروع الهيمنة الغربية على بلادنا، وكان الدور الإسرائيلي في إيران معروفًا ومفضوحًا وليس بحاجة إلى شهود، لذلك اعتبر سماحته أن التحالف مع المقاومة الفلسطينية هي أساس أي عمل وطني يحصن لبنان ويبعده عن حبائل الشيطان الذي كان يتفاعل في نفوس البعض على الساحة اللبنانية، فطرح شعاره تحالف المحرومين من أرضهم والمحرومين في أرضهم: وقال لقيادة الثورة الفلسطينية: أنا أحمي الثورة بجبتي وعمامتي. وعندما تفاقمت الاعتداءت الإسرائيلية على الجنوب دعا الناس إلى حمل السلاح دفاعًا عن أرضهم مردّدًا أن السلاح زينة الرجال، وفي سبيل استنهاض الهمم، والتأكيد أن النصر ممكن رفع شعاره، ليسوا أقوى من أمريكا ولسنا أضعف من فيتنام مؤسسًا بهذه الشعارات وهذه السياسات لعصر المقاومة الذي أخرج لبنان فيما بعد من العصر الإسرائيلي، وعندما اختلف مع بعض الأطراف الفلسطينية كان ذلك بسبب انحراف هذه الأطراف عن خط الصراع مع العدو ومحاولتها أخذ الثورة ولبنان معها نحو صراع محاور عربية لا تأتي إلا بالضرر للشعبين اللبناني والفلسطيني .
- أدرك سماحته منذ مراحل التجربة الأولى أن لبنان يعيش حالة توازن طائفي فريدة، وأنه لا يستطيع التحليق إلا بجناحيه المسلم والمسيحي، واعتبر أن التعايش المشترك إذا حسنت إدارته يمكن أن يشكل ثروة وطنية، وإذا أسيء إدارته فسيعيش في دوامة احتراب أهلي متواصل، وهو لا يمكن أن يعيش في ظل الغلبة لأي طرف على الآخر، وعندما بدأت الحرب الأهلية بذل قصارى جهده لإيقافها بأي ثمن كان، فاعترض منذ البداية على شعار عزل الكتائب الذي طرحته الحركة الوطنية، واعتبره شعارًا استفزازيًّا للمسيحيين، ومما يجب ذكره هنا أن كل قيادات الحركة الوطنية أمثال المرحومين جورج حاوي ومحسن إبراهيم وكذلك فواز طرابلسي أقروا بخطئهم، ولكن بعد أن سبق السيف العذل. ثم استمر سماحته في دور الأطفائي، فخاض معركة الاعتصام في العاملية كتعبير عن استنكاره لما آلت إليه الأمور وعن تنبيهه إلى أن الوضع سيخرج عن السيطرة ويدخل في نفق مظلم يصعب الخروج منه، ثم بعد ذلك حاول جهده التحريض على نزول الناس إلى الشوارع على خطوط التماس ورفع المتاريس والعوائق أمام حركة المواطنين، لكن ذلك باء بالفشل نتيجة إصرار قوى معروفة على طرفي خط التماس كانت تمني النفس بدولة ولو بحدود جونية بكفيا الأشرفية، ودولة أخرى على ما تبقى من تراب وطني ممزق.
6.كان يعتبر أن العلاقة مع سوريا هي المدخل الحقيقي لعروبة لبنان، وأنها تشكّل الظهر الأمين والملاذ الأخير له، فنسج أفضل العلاقات مع الشعب السوري في كل محافظاته، وبين كافة أطيافه الثقافية، كما حافظ على علاقة استراتيجية مع القيادة السورية وعلى رأسها الرئيس حافظ الأسد باعتبارها الضامن لعروبة لبنان ووحدته ومنع تقسيمه.
- لقد أدرك سماحته باكرًا أن بناء دولة عادلة في لبنان لا يمكن أن يتم إلا بشكل متوافق عليه بين كل العائلات الطائفية، وأن أي خلل في ذلك سيكون حافزًا للأطراف المتضررة إلى الدفع باتجاه حرب أهلية مجرد أن يلقى دعمًا خارجيًّا مناسبًا، وأن التركيبة الطائفية اللبنانية التي أقرّها الدستور والميثاق الوطني مولدة للحروب الأهلية بشكل دائم، وأنه لا يمكن التغلب عليها إلا بتشكيل موقف عربي وإسلامي مسيحي خارجي وداخلي ضاغط يكبح جماح الطوائف ويردع غلواء زعمائها القادرين على إثارة النعرات كلما ضعفت حصتهم في القرار الحكومي، لذلك استمر على تواصل مع كافة الدول العربية ونسج أفضل العلاقات مع القيادات السياسية والروحية لمختلف الطوائف اللبنانية في سبيل إبقاء البلد على بر الأمان.
إن هذه الركائز الأساسية لسياسة الإمام الصدر ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على لبنان وطنًا واحدًا لجميع أبنائه عربيًّا متحالفًا مع سوريا قلب العروبة النابض وكافة حركات المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، كما أنتجت هذه السياسة الحكيمة مقاومته المظفرة التي دافعت عنه وحررت أرضه من دنس الاحتلال، كما أسهمت في الدفاع عن لبنان وسوريا في مواجهة السياسات التخريبية للجماعات التكفيرية التي تقدم خدماتها لنظام الهيمنة والارتهان للغرب. وسيبقى السيد موسى الصدر رفيق المجاهدين الشاخصين بأعينهم نحو بيت المقدس مبصرين بكل بصيرتهم أن شرف القدس يأبى أن يتحرر إلا على أيدي المؤمنين.
المقالات المرتبطة
خدمة الناس والرحمانية الإيمانية- بث مباشر
الحلقة الأولى من برنامج #موعظة_وآية مع سماحة الشيخ شفيق جرادي الذي سيرافقكم عند 2 ظهرًا طيلة أيّام شهر رمضان المبارك
الله والإنسان في فلسفة أبكتيتوس
شكّلت فلسفة أبكتيتوس Epictetus (55-130 م) أسلوب حياة، ورؤية للأشياء، وفنًا للعيش، من أجل تحقيق غاية عملية أخلاقية ترشد الناس
خصوصيات ومواصفات بشخصية الإمام الخميني (قدس سره)
الإمام عاش الإسلام بكليته، وجعله نهجًا له، مما جعل من شخصيته تحتل موقعًا خاصًّا: “فالحق يقال إن بعد أنبياء الله وأوليائه والمعصومين هذه الشخصية موقعها ولا يمكن مقارنتها مع أي من الشخصيات الأخرى فقد كان وديعة الله في أيدينا،