الفكر العربي الحديث والمعاصر | النّصّ وجدلية التفسير والتأويل عند أبو زيد
ينفتح النّصّ دائمًا على العديد من التأويلات، وكلّها مشروعة بدءًا بتأويلات المعتزلة وانتهاءً بتأويلات “ابن عربي”، وعلى هذا الأساس انحاز “أبو زبد” لصالح مفهوم التأويل على حساب التفسير، فالمؤولة كانوا أكثر حرية بالتعامل مع النّصّ من حيث الفهم، وفتحوا باب الاجتهاد في معرفة المعنى على مصراعيه، في حين تَمسّكَ المفسِّرة بالنقل؛ لأنّ التفسير يمثّل الموضوعية في حين يمثّل التأويل الذاتية، علمًا أنّ: “هذه الموضوعية[..] هي موضوعية تاريخيّة تفترض إمكانية أن يتجاوز المفسِّر إطار واقعه التاريخيّ وهموم عصره، وأن يتبنّى موقف المعاصرين للنّصّ، ويفهم النّصّ كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله”[1]، وهذا ما أوقعهم بتناقض كبير، ففي حين يقول السلف بأنّ الوحي صالح لكلّ زمان ومكان، نجدهم يتمسكون بتفسيرات الرعيل الأول: “[فهم] ذهبوا إلى أنّ المعرفة الدينيّة لا تتطور وأنّ جيل الصحابة والتابعين قد أوتوا المعرفة الكاملة التامة، فيما يتصل بالوحيّ ومعناه، وأنّ التمسك بمعرفتهم هو العاصم من الزلل والانحراف”[2]، وواقع الأمر أنّ هذا الإجراء قد يؤدي إلى خلاف ما يتصوره المفسرون، لأنّهم سرعان ما سيقعون داخل دائرة التأويل نفسها، فإذا دققنا في عمل المفسِّر، سنرى أنّه ينطلق: “من موقف اختياريّ يعتمد على الترجيح بين الآراء. هذا الاختيار القائم على الترجيح يعكس بدوره موقفًا تأويليًا نابعًا من موقف المفسِّر وهموم عصره وإطاره الفكريّ والثقافيّ، وكلّها أمور لا يمكن لأيٍّ مفسرّ أن يتجنبها مهما ادّعى الموضوعية والانعزال عن الواقع والحياة[..] هذا إلى جانب أنّ استبدال لفظة بلفظة للشرح والتوضيح، أو التعبير عن المعنى بعبارات أخرى، يتضمن بالضرورة فهمًا خاصًا يرتبط بتطور دلالة اللغة في تطورها التاريخيّ. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الألفاظ التي يُظن أنّها مترادفة تعكس فروقًا دقيقة في دلالتها، أدركنا أنّ أيّ شرح لا بدّ أن يتضمن نوعًا من أنواع التأويل”[3].
وهكذا، يرى “أبو زيد” أنّ “أهل السنة والجماعة أخطأوا بربط معنى النص ودلالته بالعصر الذهبيّ – عصر النبوة والرسالة ونزول الوحي- واعتبر أنّهم خاطروا بتحويل التفسير إلى عقيدة أو “حقيقة أزلية”، وهذا ما أفضى إلى القطيعة مع معطيات العصر، وأدى إلى: “أن يتحوّل “العلم” إلى “دين”، ويتحوّل الدّين من ثم إلى خرافات وخزعبلات وبقية من بقايا الماضي”[4]، وهم في اللحظة التي مالوا فيها إلى الموضوعية ليصلوا إلى الحقيقة غادروها، ويعود سبب ذلك إلى عدم تنبههم إلى: “أنّ ثمة فارقًا هامًّا بين [التفسير والتأويل، فكلّ عملية تفسير] تحتاج دائمًا إلى”التفسرة” وهي الوسيط الذي ينظر فيه المفسِّر فيصل إلى اكتشاف ما يريد، في حين أنّ “التأويل” عملية لا يحتاج دائمًا هذا الوسيط، بل تعتمد أحيانًا على حركة الذهن في اكتشاف “أصل” الظاهرة، أو في تتبع “عاقبتها”. وبكلمات أخرى يمكن أن يقوم “التأويل” على نوع من العلاقة المباشرة بين “الذات” و”الموضوع”، في حين أنّ هذه العلاقة في عملية “التفسير” لا تكون علاقة مباشرة، بل تكون من خلال وسيط قد يكون نصًا لغويًّا، وقد يكون شيئًا دالًا، وفي كلتا الحالتين لا بد من وسيط يمثل “علامة: من خلالها تتمّ عملية فهم الموضوع من جانب الذات”[5].
على هذا الأساس، عمل أبو زيد على تغليب التأويل على التفسير، لأنّه يشكل الأصل والغاية في عملية الفهم، وهو يقول ناقلًا عن الزركشي: “معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء، ترجع إلى ثلاثة: المعنى، والتفسير، والتأويل، وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة، فأمّا المعنى فهو القصد والمراد، يقال: عنيت بهذا الكلام كذا، أي قصدتّ وعمدت… وأما التفسير في اللغة فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف، وأصله في اللغة من التفسرة وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء.. فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه، وإطلاق للمحتبس عن الفهم به… وأما التأويل فأصله في اللغة من الأوّل، ومعنى قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلام تؤول العاقبة في المراد به، ويقال آل الأمر إلى كذا، أي صار إليه، وأصله من المآل، وهو العاقبة والمصير، وقد أوّلته أي صرفته فانصرف، فكان التأويل صرف الآية إلى ما تحمله من المعاني”[6].
وهذا الكلام يقود للقول: إنّ هناك رابطة علائقية بين هذه المصطلحات الثلاث لا سيما بين “التفسير” و”التأويل”، إذ أنّ الكلام عن الأول، يأخذ باتجاه: “الجوانب العامة الخارجية للنص، مثل العلم بأسباب النزول والقصص والمكيّ والمدنيّ والناسخ والمنسوخ وهي كلّها علوم نقلية تعتمد على الرواية عند القدماء، ولا مجال فيها للاجتهاد سوى الترجيح بين الروايات أو محاولة الجمع بينها[…] وعلى ذلك يكون “التفسير” جزءًا من عملية “التأويل”، وتكون العلاقة بينهما علاقة الخاص بالعام”[7]، فالتفسير القاعدة التي يبنى عليها التأويل، وفي هذا: “يكمن بُعدٌ أصيلٌ من أبعاد عملية التأويل، وهو دور القارىء في مواجهة النّص والكشف عن دلالته. وليس دور القارىء أو المؤول هنا دورًا مطلقًا يتحول بالتأويل إلى أن يكون إخضاعًا للنّص لأهواء الذات، بل لا بد أن يعتمد “التأويل” على معرفة ببعض العلوم الضرورية المتعلقة بالنّص والتي تندرج تحت مفهوم “التفسير”. إنّ المؤول لا بد أن يكون على علم بالتفسير يُمكَّنه من “التأويل” المقبول للنّص، وهو التأويل الذي لا يخضع النّص لأهواء الذات وميول المؤوِّل الشخصية والأيديولوجية وهو ما يعتبره القدماء تأويلًا محظورًا مخالفًا لمنطوق النّص ومفهومه”[8].
والكلام السابق، لا يوصلنا للربط بين “أبو زيد” والتأويلية الإسلامية، فهو يرتبط بشكل واضح بـ”هانز جورج جادمر Hans-Georg Gadamer “[9] الذي حاكم فكرة المنهج، وشكك بمكانتها: “فالمنهج عنده ليس هو الطريق إلى الحقيقة! بل من دأب الحقيقة، على العكس، أن تفوت رجل “المنهج” وتروغ منه، والفهم في تصوره ليس عمليةً ذاتية لإنسان بإزاء موضوع وقبالته، بل الفهم هو أسلوب وجود الإنسان نفسه، والهرمنيوطيقا ليست فرعًا مساعدًا للدراسات الإنسانية، بل هي نشاطٌ فلسفيّ يحاول تفسير الفهم على أنّه عمليةٌ أنطولوجية في الإنسان”[10]، فـ “أبو زيد” يقف على أرضية “هرمنيوطيقا جادمر” الجدلية القائمة على بنية الوجود كما فصلها “مارتن هيدجر” في كتاباته المتأخرة، وعلى البنية المسبقة للفهم كما قدمها في كتابه “الكينونة والزمان”، حيث حدّد هدف الجدل الفينومينولوجي بقوله: “أن يجعل الشيء الذي نحن بصدده يُفصح عن نفسه ويُسفِر عن وجهه، فإذا كان “المنهج” ينطوي على ضرب المساءلة تفتح جانبًا واحدًا من الشيء، فإنّ التأويل الجدليّ يفتح نفسه لأسئلة الشيء ويتقبل أن يكون هو المسؤول لا السائل… بذلك يمكن للشيء الذي يلاقيه أن يكشف عن نفسه وعن وجوده، يقول جادمر: إنّ ما يجعل ذلك أمرًا ممكنًا هو “لغوية” الفهم الإنسانيّ (الصبغة اللغوية للفهم) و”لغوية” الوجود نفسه في حقيقة الأمر”[11]، على هذا الأساس تقترب خصوبة المعرفة في العلوم الإنسانيّة من ملكة الحدس للفنان أكثر من الروح المنهجية للبحث العلمي، ونجد “نصر حامد أبو زيد” يؤكد هذا التفريق فيقول: “إنّ الفارق بين القانون العلميّ – أو الحقيقة العلمية في العلوم الطبيعية – وبين الحقيقة في العلوم الإنسانية ليس فارقًا بين العلم والأيديولوجيا بل هو في الأساس فارق بين حقائق تجريبية يمكن التثبت من صدقها أو كذبها، بصرف النظر عن المكان والزمان، وبين الحقيقة الثقافية التي تكون صادقة وصحيحة في سياق وضع اجتماعي إنسانيّ محدد بسياق تاريخي مميز”[12].
يُستنتج من الكلام السابق، أنّنا أمام تأويلية، تتمركز حول دور القارىء في صناعة المعنى عبر سلسلة من الترسبات المتعاقبة من حقبة زمنية إلى أخرى، بحيث يستوعب الفهم الأخير الأفهام السابقة ويزيد عليها في الحاضر، بالتالي لا وجود لفكرة موضوعية مطلقة، تتعالى على الزمان، لأنّ كلّ ادعاء من هذا النوع، يؤدي إلى عدم القدرة على: “انفتاح المعنى الدينيّ لاستيعاب متغيرات الزمان والمكان”[13]. وهذا الأمر لا يؤدي إلى إنكار الحقيقة، ولكن يتمّ ربطها بالمعيش وكيفية إحساس الإنسان بها، ومن أجل إثبات هذه النظرة، ينقل “أبو زيد” عن “ابن عربي” في أكثر من موضع: “الحقيقة في ذاتها واحدة لا تتعدد، ولكنّها تتشكل وتتلوّن مثل الماء الذي يأخذ شكل الإناء الذي هو فيه ويتلون بلونه، هذا رغم أنّ الماء في حقيقته لا شكل له ولا لون”[14]، وهذا ما انعكس أيضًا في تبني نظرية الموضوعية الذاتية، يقول: “ابن عربي” شاهدًا دالًا على مبدأ عرفانيّ، هو استحالة التمييز بين “الظاهر” و”الباطن” في بنية الحقيقة من جهة، أو بين”الذات” و”الموضوع” من جهة أخرى”[15]، وعلى هذا الأساس: “لا يحقّ لأحد أيًّا كان ادعاء امتلاك الحقيقة، لأنّ هذا الادعاء من صفات الخطابات الزائفة التي تصادر بقية الخطابات”[16].
[1] نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي، (بيروت، دار التنوير، الطبعة 1، 1983)، الصفحة 11.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 12.
[3] المصدر نفسه، الصفحة 12.
[4] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، مصدر سابق، الصفحة 222.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 232.
[6] المصدر نفسه، الصفحات 225- 226- 233..
[7] المصدر نفسه، الصفحة 233.
[8] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، مصدر سابق، الصفحة 234.
[9] هانز جورج جادمر فيلسوف وهرمنيوطيقي ألماني، وُلِد عام 1900 وتوفي عام عام 2002.
[10] عادل مصطفى، فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، (القاهرة، مؤسسة الهنداوي، 2018)، الصفحة 187.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 163.
[12] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، (بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة 1، 1995)، الصفحة 54.
[13] نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، مصدر سابق، الصفحة 193.
[14] نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002)، الصفحة 65.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 66.
[16] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، مصدر سابق، الصفحتان 8-9.
المقالات المرتبطة
الفكر العربي الحديث والمعاصر | بعض القضايا الفلسفيّة عند بدوي (2)
لم تعد الفلسفة مع عبد الرحمن بدوي عملًا نظريًّا مجرّدًا، إنّما انتقلت إلى العيانيّ والمعيوش والمعاناة، أي إلى الوجود الفعليّ والتجربة الشخصيّة.
الليبرالية أم الواقعية، أي النظريتين أقرب إلى السياسة الخارجية العراقية؟
يستلزم العمل المؤسسي أن يكون ضمن سياقات معينة مسبقة، ووفق خطط منهجية مدروسة بعناية من ذوي الاختصاص، معروفة المسارات المتبعة أو تلك التي ستتبع
ثم ماذا ما بعد الغرب؟!
توشك كلمة “ما بعد” أن تصير لازمةً مفهوميةً تُمسك بناصية التفكير الغربي، ولا تترك له فسحة من راحة العقل. لكأنما الغرب استحال ظاهرة زمانية، أكثر منه حقيقة واقعية راسخة في جغرافيا ومستقرة فيها. وإلَّا كيف نفسِّر شَغَفَهُ المَرَضِيَّ باليوم التالي، وهو لا ينفك يمكث في جوف الحاضر المستمر لحداثته المهزوزة؟