الدعاء قراءة في الخصائص الأسلوبية
اللهمّ صلّ على الزهرة العظمى والماسة النورانية الكبرى والجوهرة اللامعة التي إن لمست القلوب والأبصار ترى منبع الأنوار المقدسة. النور الذي أضاء الكونين فأهدى سيد الكونين والثقلين وما هوى، محمد أحمد محمود مصطفى الشفيع المجتبى، رسول رب العالمين كالصلاة التي صليتها يا الله برضاك وحبك وكنزتها في كنزك العظيم صلاةً ما رأتها عين أو علمها عقل أو أدركها عارف أو تلذذ بها لسان أو صورها قلب. صلاة فاحت رائحتها بمسك الفراديس كلِّها معطرة بحب رب العالمين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
الخصائص الأسلوبية.
الدعاء، لفظة نحتية من دوّ+ عين أو وعاء.
دوّ+ عين= دعو، دعاوء= دعاء.
دوّ+ وعاء= دعاء.
والدوّ: هو أرض مستوية بعيدة الأطراف، بين الداعي والمدعو، هذه الأرض هي “المفازة”، يُسمع فيها صوت دويّ الداعي المتردد حتى يستجاب له.
لذا كان أمره عز وجل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[1].
إن صوت الدويّ المتردد إنما هو نتيجة حركيتين متساوقتين عكسًا تجعل من الدعاء مترددًا – من حركية الداعي من إلى الله.
ومن حركة الداعي – من الله – إلى المؤمن.
إذا ما التقتا تحصل الإجابة، كيف؟ عند ترقي النفس بالمعرفة فتخرج من موقع أنا أنا – إلى موقع أنا هو – ثم موقع أنا أنت، ثم موقع أنت أنت – بمعنى آخر، إذا صار الخطاب أنت أنت تصير حركيتي الميمين واحدة يلتقيان في منتصف الأرض (الوعاء)، في الوسط حيث يشكلان نقطة المركز التي في حركيتها السريعة على كامل الأرض وتفيض النقطة ليصير الوعاء.
فيصير هذا الداعي كما قال الصادق (ع): “لو عرفتم الله حق معرفته لزالت الجبال بدعائكم”.
فتصير واحدة للمشيئة والقدرة والإرادة والأمر والهوى.
فالدعاء إذن، مطلب اعتراف ملح يصب في مجرى الهوية، بحركية النفس التي تتوسط الروح والجسد المتطهّرة بالاعتراف ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾[2] من ظلمة الغفلة وأوكارها، أي ظلمات النفس، وهذا يتطلب الجهاد النفسي المتساوق مع الجهاد العقلي، وبهما تكون المعرفة ونيل الوصول إلى أحقية الخطاب الأنسي بين أنت وأنت.
الأسلوبية المطلوبة لنيل هذا لجواب أسلوبية عقائدية.
- أحقية التوحيد.
- التمسك بالثقلين: القرآن وآل بيت الرسول والتوسل بهم.
لتأتي بعدها أسلوبية الدعاء، نلحظها في دعاء يونس، في القرآن في دعاء إبراهيم، في دعاء الداخلين الجنة، وفي أدعية آل البيت، أولها الصلاة على محمد وآل محمد.
- الاعتراف: هو المبدأ الأول في الدعاء، وهو بما يكمن من عوامل نفسية – عقلية، انفعالية هو نقطة التحاور بين أنا الداعي وهو أو أنت الله.
وهو دليل على أن الفكر يتطور على محور الأنت، وهو المطلوب في الدعاء.
والاعتراف إقرار: يقول الصادق (ع): “إنه والله ما خرج عبد من ذنبٍ إلا بالإقرار”، والاعتراف مشتق من المعرفة، ولا يعترف المذنب إلا إذا عرف الخير والشر.
عن الإمام الحسين (ع): وجدت العلم كلّه في أربع:
- أولها: أن تعرف ربك – التوحيد، ذات الله، سورة الإخلاص.
- ثانيها: أن تعرف ما صنع بك – النظر بعين الاعتبار العلمي والعقلي، بالحس والحدس.
- ثالثها: أن تعرف ما أراد منك – أحكام الشرع.
- رابعها: أن تعرف ما يُخرجك من دينك – أحكام الشرع.
يجب معرفة آل البيت وصولًا إلى توحيدهم في الصلاة على محمد.
الخصائص الأسلوبية
عن أبي عبد الله (ع) يقول: “إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئًا من حوائج الدنيا والآخرة حتى: يبدأ بالثناء على الله عز وجل والمدح له والصلاة على النبي وآله ثم يسأل الله حوائجه”[3].
- فالثناء هو التوحيد: لا إله إلا الله.
والمدح: هو الحمد: الحمد لله لا إله إلا الله سبحانه.
وإذا عرفنا أن الحمد هو الذي ظهر عند الخلق الأول المضمر بين الكاف والنون، وكان جوابه: الحمد لله، فقال الله عز وجل سمع الله لمن حمده لعرفنا أن الحمد يكون هو أول الدعاء.
- الإقرار بالذنب: عن أبي عبد الله (ع): “إنه والله ما خرج عبد من ذنبه إلا بالإقرار”.
وفي حديث آخر: “ثم الثناء، ثم الاعتراف بالذنب”.
إنها تقنية دعاء النبي يونس (ع): فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. تبدأ بالحمد ثم التوحيد، التسبيح، الاعتراف ثم الطلب. الحمد لك اللهم ربي لا إله إلا أنت سبحانك العلي أستغفرك وأتوب إليك.
يونس (ع) كان من المسبحين قبل أن يدخل بطن الحوت، وكما أنه كان كذلك في بطن الحوت وبعد خروجه.
لقد كان من المسبحين، والتسبيح دعاء:
ففي قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ لا إله إلا أنت= ثناء. سبحانك= أرض الله لانهائية. إني كنت من الظالمين= الإقرار بالذنب.
ففي هذه الجملة- الدعاء – اعترافين كبيرين:
الاعتراف الأول: الاعتراف بألوهية الله ووحدانيته، وفيه تضمينًا الخطاب الأنسي أنت أنت، بين المرسل والمتلقي والعكس صحيح.
الاعتراف الثاني: الاعتراف بالذنب وفيه قوة الإيمان وهي عبودية الرغبة وفيها الإسلام- الاستسلام وموت أنا المرسِل، والرغبة بالاستقامة، وبأن الدواء عند الله فقط، وأنه فعلًا في أرض المفازة. قد تكون الرغبة هنا في التقصير أو الخوف من التقصير في العبادة؛ لأنه لن يستطيع أن يرد جزءًا واحدًا من حق الله عليه.
فضيلة الخشوع.
روي عن علي بن الحسين (ع) أنه قال: “كان أبي إذا توضأ اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتارك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟”[4].
والخشوع غير الخوف، والخشوع يأتي لسببين= رهبة الملك. كثرة الحب للمعشوق، وخشية أن لا يرضى.
عن علي بن الحسين (ع): “لا يجتمع الرغبة والرهبة في قلب إلا وجبت له الجنة، فإذا صليت فأقبل على الله عز وجل فإنه ليس من عبد مؤمن يُقبل بقلبه على الله عز وجل في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين وأيده مع مودتهم إياه بالجنة”[5].
- وجوب وجود الخشوع بشقيه: خشوع القلب وتجمع الهمة لها والإعراض عما سواه.
- خشوع بالجوارح= وهو أن يغض بصره ويقبل عليها ولا يلتفت، ولا يفعل من المكروهات شيئًا[6].
- التفكر التأثر: بالدعاء، بالصلاة على محمد وآله، وسر هذه الصلاة، ولمَ هم الوسيلة، بالحمد، بالتأليه والتوحيد، وكيف يكون، بالمغفرة، والإقرار بالذنب والخوف من رفض الاستغفار، والإصرار عليه بالتكرار والاعتراف بالذنب، والخضوع لجلاله واستشعار عظمته.
لن أقول لكم الحديث: “لا إله إلا الله” من قالها غرست له شجرة في الجنة… إلى آخر الحديث، ولكن سأقول لكم من عرف حق التوحيد تخطى كل الجنات المادية وصار في حضرة الله سبحانه، والأحاديث كثيرة= رُفِع له خمسة وأربعين جنة، لم يصرف وجهه عنه حتى يدخل الجنة، كان له حرزًا في يومه من الشيطان والسلطان ولم تُحط به كبيرة من الذنوب. لذا أقول: إنه التوجه القلبي العاشق من يجعلك في أرض الله – البساط الأنسي الخطابي بـ أنت أنت.
[1] سورة غافر، الآية 60.
[2] سورة الشمس، الآية 9.
[3] الكافي، الجزء 2، الصفحة 471.
[4] علل الشرائع، الصفحة 88.
[5] الشيخ المفيد، الأمالي، المستدرك، الجزء 1، الصفحة 265.
[6] الصدوق، الخصال، الجزء2، الصفحة 165.
المقالات المرتبطة
عرفان الثورة والإمام (ع)
هناك حيث رحمة الله تتجلّى وفطرته البديعة، حين أدركت دورة الكمال أولّها وآخرها، هناك عند الربانيين الذين ارتقوا وأكملوا سفرهم بمُدرِكات القلوب…
عسكرة الثقافة واستعمارها
صراع الهوية بين الداخل والخارج، صراع يفقد الإنسان مقوماته الإنسانية، ويضعه أمام خيارات أحلاها مر، فالمواجهة هنا ليست من صنو
اجتهادات لوركا
الشعوب لا تنسى من قدموا تضحيات فى سبيل حريتها، فما بالنا إذا كانت التضحية بالروح. والتاريخ يستطيع فى معظم الأحيان تسجيل الحقائق مهما تكن قوة من يزيفونه.