النبي محمد (ص) قِيَم الأمة وقيمتها الكبرى
تقوم الثقافة الحضارية في عالم اليوم، على إعادة إحياء مبحث القيم، كرافعة إنسانية لكل معالم الوفرة العلمية، والسياسية، والتقنية، والفكرية، التي تصطرع حياة الأمم والشعوب. ويدور النقاش بين صنفين من القيم.
القيم الأحادية بما تعنيه من اختزالية تتقوّم على أساسها الهوية… وقيم تعددية تتشتت فيها الهويات وتتذرر، في الوقت الذي تعمل فيه لتجسيد سبل التواصل، بفسيفساء ثقافية، تتشاكل بحسب روح القيم المصلحية التي تتحكم فيها سطوة الدولة المركزية.
كأصل تلتحق فيه مجموع شعوب، ودول العالم على ترامي أطرافه، بنسيج من عباءة ثوب العولمة المتوحشة. وهو ما يعيد الكرة ثانية من دائرة التعددية إلى دائرة قيم المركزية الاختزالية.
وهذا ما أفسح المجال واسعًا لدول العالم الغربي لنصب الإسلام كعدو مستهدف في مسار حركة العولمة المتوحشة، سعيًا لإخراج قيم الرسالية الإسلامية كخيار متاح في اصطفافات القيم العالمية المفتوحة على بعضها. إذ إن الهوية الغربية الأمريكية لا تستطيع أن تتقوم إلا بنقيضٍ ما، وسلبٍ ما، وقد كان هذه المرة رمز تقوُّمها السلبي شخص النبي محمد (ص) بما يمثل من مثال أعلى لروح الديانة والأمة الإسلامية.
وما الموقف الهجومي على دول العالم الإسلامي وشعوبه، وتقويض قدرات الممانعة في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وغيرهم. والحث الدفاعي عن كل موقف توهيني بالإسلام سواءً أكان صادرًا من كتاب مبتذل كالآيات الشيطانية، أو فيلمًا جارحًا يستعرض الآيات القرآنية على أجسادٍ فاضحة أو رسومًا كاريكاتورية على صفحات الجرائد والثياب أو غير ذلك، مما يندى له الجبين الإنساني إلا وجهًا من وجوه هذا القوام الحضاري المتهتك للولايات المتحدة الأمريكية ودول الالتحاق بها.
مما يعني لنا بالضرورة أن المواجهة والحضور الحضاري إذا كان مشروطًا بسؤالين: عن الـ “لماذا”؟ والـ “كيف”؟ فإن السؤال الأول قد أصبح واضحًا وضوحًا بيّنًا لا لبس فيه. وهو ينطلق من أساسين منهجيين أولهما داخلي: يتعلق بالإسلام باعتباره الأطروحة الإلهية العالمية التي صدع بها رسول الرحمة محمد (ص). وثانيهما خارجي تقتضيه وقائع أحداث الصراع الحضاري المفتوح، والذي أوصل الأمر إلى مفترق طرق وجودي فيه نكون كما نحن، بل كما ينبغي أن نكون، أو أن لا نكون أصلًا بعد تفريغنا من كل مضمون، قطفًا لثمار نشوب أنياب الاستكبار في روح هذه الأمة وجسدها وغرسه فيها ما أسماه مالك بن نبي بقابلية الاستعمار. لإلقائنا في أتونه كمًّا فارغًا مستتبعًا.
وهنا لا بُدَّ لنا من وقفةٍ تاريخية حضارية كبرى تتأسس على إجابات لكيفية المواجهة الكبرى.
وعلى رأس تلك الإجابات نمتثل روح رسول الله (ص) وحضوره الخالد كتأكيد لمنطق يفيد أن نجاة الأمة ونهوضها إنما يكون ببسم الله وباسم رسول الله محمد (ص)، وأن قيم الأمة وقيمتها الكبرى هو عبد الله ورسوله محمد (ص)… وأن الدم الدافق، والعزة التي لا تعرف الذل، والعلو الذي لا يركن إلى الوهن هو رسول الله محمد (ص)، وبهذا كان نداء الله فينا ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[1]، وهل في إيماننا سرًّا أعظم من رباط الروح والنفس والكيان برسول الله محمد (ص).
فمن حاضنة النبي (ص) نؤسس جملة كيفيات النهوض، ومنها:
أولًا: أن نتراحم ونتواصى بصحبة رسول الله (ص) ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[2]، فبقدر الشدة في أتون المعركة ضد العدو ينبغي أن يكون التراحم بين الذين تجمعهم قيادة رسول الله (ص). وهذا ما يفرض اليوم أخذ موقف من التشتت المذهبي الذي يثير المختلف دومًا. كما وموقف من النزعة التكفيرية، ومن أي رهان سياسي أو مصلحي عليها. دون الغفلة عن أخذ موقف من نزعة ما اصطلح عليه بالإسلامويات، أو بمعنى آخر إسلام اللاإسلام.
ثانيًا: العمل على تقويض وإزالة الصورة النمطية السوداء التي رسمها أعداء رسول الله للنبي (ص). والتي أظهرته بوجوه نستنكف عن ذكرها. وذلك عبر إجراء عملية نقد ذاتي لطريقة عرض السيرة النبوية الشريفة في مطاوي كتبنا التاريخية التي أدخل فيها ما أُدخل من شوائب.
كما والقيام بنقد منهجي لآليات القراءة التاريخية سواءً أصدرت عن حركة الاستشراق، أو منهجيات النقد التاريخي والأنتروبولوجي. بل دعونا نشدّد على ضرورة نقد الروحية الكلامية والمؤسطرة للتاريخ بطريقة خرجت عن الموضوعية، وخرجت عن المعنوية التي ترسم الحياة الإسلامية بالتأسّي برسول الله (ص) مقتصرة على الحرفية والإسقاطية، وهذا الجهد النقدي يقتضي منا التفكير الجدّي، وعلى مستوى العالم الإسلامي بمفكريه وعلمائه بإنشاء مركز دراسات متخصص بكتابة التاريخ النبوي، وتقويم الذات على ضوء الخصائص النبوية.
ليتركّز الجهد بعد ذلك على بث الرسائل التاريخية والإعلامية والتثقيفية بغية تقديم النمط النبوي لرسالة الكمال، والقيومية الوحيانية التي يمثّلها الإسلام وخاتمية الرسول (ص). مستهدين بكل ذلك قيم الصدقية في مقاربة الحقائق. والانتماء الكياني لرسول الرحمة في كل عناوين الهداية وأخلاقية الاقتدار والعزة والحرية المسؤولة.
ثالثًا: إنشاء حوار حضاري بيننا وبين أهل الأديان وأصحاب الطروحات الإنسانوية، على أرضية واضحة من الانتماء لرسالة النبي (ص). متخلين عن تلك التلفيقية التي ترتهننا اليوم لفكي التبعية الإسمية للإسلام، أو الانفتاح على الآخر بعقلية قيم ومفاهيم ذاك الآخر.
مما أسّس لانفصامات في الشخصية الإسلامية المحاورة بفعل الغربة عن المحيط والواقع.
ولعل أحد السبل الضرورية لتجاوز الاضطراب الانفصامي يحصل بتوفير أرضية توافق مدروسة واجتهادية بين الجماعات الإسلامية نفسها، والذي يمكن أن نعبِّر عنه بصياغة موثقة لوثيقة فهم يحدّد الثوابت والمتغيرات، ويرسم سمات وخصائص الإسلام في مفاهيمه وقيمه الرسالية المتجاوزة لكل اختزالية تكفيرية، أو التحاقية تتلطّى تحت عناوين الحداثوية وغيرها.
رابعًا: إنفاذ الدراسات الدينية العاملة على فهم شخصية النبي (ص). وما ترمز إليه أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وسلوكياته من أبعاد ومعانٍ مفتوحة على دلالات عقائدية وأخلاقية وعملية داخل مؤسساتنا العلمية ومعاهدنا الدينية، وبرامج الأحزاب والحركات الإسلامية، وجعل حفظ ذكر وقيم رسول الله (ص) على رأس أهم المبادئ الحاكمة في صياغة الأهداف والسياسات والبرامج المعمول بها. ساعين من ضمن ما نتوخاه من هذه الأمور ردم الهوة المفتعلة بين ما بات يصطلح عليه بخط العلماء والآخر خط الدعاة. والذي بات ينبئ بإرهاصات تشبه إزدواجية الأكليروس من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى. الأمر الذي بات يهدّد بانقسامات حادة في مواجهة المستجدات العدوانية على قدسية الإسلام والنبي (ص).
خامسًا: الجرأة والوضوح في إبراز الموقف العقائدي والفقهي تجاه كل مس بقدسية النبي (ص). دون الالتفات إلى حسابات تتعلق بادعاءات الموضوعية والتسامح والليونة؛ لأن هذه الوجوه وإن كانت من أصول الشخصية الإسلامية، إلا أن مقتضى الصدقية يقول: إن أي مس بالمقدّس سيلقى وجهًا عنفيًّا لا تردد فيه.
ولنرسم في أثناء ذلك معالم مفاهيمية توضح الفرق بين حرية التفكير، وحقوق التعبير المسؤول.
وبين ما فيه نقاش فكري، وما فيه روحية التشتيم والتوهين. وصولًا لتحديد قاعدة ومبدأ ضمان المصلحة الإسلامية العليا المتمثلة بحفظ كرامة القرآن والنبي (ص)،كرمز نهائي لكرامة الأمة.
وهذا ما ينبغي أن ندفع كل المنظمات الإسلامية الدولية والحكومية والمدنية إلى تبنيه في رؤيتها وسياساتها التثقيفية والتبليغية. بحيث يتحول الهدوء إلى عاصفة جارفة عند مقاربة الخطوط الحمر التي وحدها أمة محمد (ص) من يحق لها رسمها وتحديدها.
سادسًا: العمل على تكتيل قوى تمثيلية دينية إسلامية وغير إسلامية لتشكيل جبهة إيمانية تدافع عن المقدسات، وتعمل على صياغة قرار دولي يفيد منع المس بأي مقدّس ديني.
سابعًا: إنشاء شبكات تواصل وعمل إعلامي (فضائية تلفزيونية، وموقع على الإنترنت)، تُعنى بإبراز حياة النبي (ص) وخصائصه النبوية والرسالية.
كما ومن المفيد في هذا الصدد توقيع اتفاقيات ومواثيق بين المحطات الفضائية في العالم الإسلامي على إنتاج وبث برامج مشتركة أو منفردة خاصة برسول الله (ص).
ثامنًا: وأخيرًا… الإعلان عن يوم عالمي دفاعًا عن حرمة رسول الله (ص) ونصرًا لمظلوميته المقدّسة.
[1] سورة آل عمران، الآية 139.
[2] سورة الفتح، الآية 29.
المقالات المرتبطة
كِتَاْبُ الْإِمَاْمُ الْحُسَيْنِ (عَ) إِلَىْ أَعْيَاْنِ الْبَصْرَةِ قِرَاْءةٌ فِيْ ضَوْءِ الْبُنْيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ
إنَّ خطاب الإمام (ع) حقَّقَ أهدافهُ، ووصل إلى مسامع المرسَل إليهم، وأثَّر في نفوسهم، فاستجابَ عددٌ كبيرٌ منهم، وهَمَّ آخرون بنصرتهِ؛ لمَا وجدوا فيهِ منْ صدقٍ ومنفعةٍ كبيرةٍ هزّتْ أركان نظام الحكم الأمويّ،
هنري كوربان والخيمياء الروحانية
يعرض الدكتور بيار لوري في بحثه لموضوع الخيمياء الروحانية في الفكر الإسلامي. هذا القطاع المعرفي الذي لا يزال من الموارد الخصبة
لماذا يغيب الإعلام الوطني عن عاشوراء؟
لعلنا لا نبالغ حين القول: إن موسم عاشوراء بالمنظور الثقافي – الاجتماعي، من أهم المواسم والمهرجانات الثقافية التي تشهدها محافظتي القطيف والأحساء