لمعة في علم التفسير

لمعة في علم التفسير

يُعَدّ علم التفسير ميدانًا حديثًا نسبيًّا بين الميادين العلميّة الإنسانيّة، بعد أن وُضِعَت له قواعد، وجرت فيه أبحاث ومناظرات، وخاض فيه علماء أفذاذ. وأصبح أداة تحليل ناجعة، يلجأ إليها المختصّون كي يكشفوا النقاب عن معاني الكثير من النصوص المقدّسة، لما وجدوا فيها من قدرة على البلوغ إلى رسالة النصّ بصورةٍ موضوعيّة. في السطور التالية، سوف نحاول أن نرسم باختصار شديد معالم هذا العلم، الذي لا يزال يلقي الضوء على حقائق قديمة.

مقدّمة

يرجع علم التفسير إلى أرسطو وأفلاطون، اللذين وضعا أسسه الفلسفيّة، من غير أن يطوّراه للبلوغ به إلى حدّ المنهج. لقد اهتمّ الأول بالخطاب وبنيته وأثره، وشيّد الثاني صرح الحجاج السليم، من خلال التصويب في الفكر، وإحسان الاختيار بين الألفاظ. بيد أنّ حكماء الرواقيّين برعوا في إتقان التفوّه بمنطق قويّ، ووضعوا نظام البرهان، وبيّنوا ألاعيبه وسحره. فامتدّ أثرهم إلى سائر أنحاء البلاد، ونشأت مدارس أثينا على أساس الإمساك بالبلاغة، والبراعة في إقامة الحجّة. المهمّ في هذه اللمحة السريعة أنّ محاولات الإغريق هؤلاء، الفلسفيّة بامتياز، بنت كلّها عمارة نظريّاتها على اعتبار واحد، وهو العبور ذهابًا فإيابًا بين الكلمة والمعنى، بين الصورة والفكرة، بحثًا عن أدقّ السبل وصولاً إلى الربط بينهما. فالخطيب الجيّد هو الذي يعطي فكره عبارة متينة وواضحة؛ وبالمقابل، الحكيم الذي يهتمّ بالتقصّي عن فهم الأشياء هو ذاك الذي يبرع في ارتياد مفاهيمها الدفينة عبر تجليّاتها المختلفة.

لم يكن هدف الفلاسفة النصوص الدينيّة، وإنّما النصوص الشعريّة والقانونيّة، التي راجت في ظهرانيهم، وعند أدبائهم وفقهائهم. ثمّ انتقلت طرقهم وفنونهم الكلاميّة إلى الثقافات التي اجتاح الإسكندر المقدونيّ مقاطعاتها، في بلاد ما بين النهرين وسورية وفلسطين ومصر، أو بالعكس، التي احتكّت تلك بها عن طريق الجيوش والتجارة والرحلات. بين هؤلاء جميعًا، ما يهمّنا في هذا الخصوص أنّ علماء اليهود وملافينهم استخدموا مبادئ هذا العلم، وجعلوا له قوانين، وانتظموا هم أنفسهم في تيّارات ومدارس تعلّم طرق تفسير التوراة والأنبياء.

 

الركائز الأوليّة

يقوم علم التفسير، في أولى ركائزه، على عمليّة الفهم: فما بين صاحب البلاغ وسامعه معانٍ لا يستطيع الأوّل أن يعبّر عنها بمجرّد الألفاظ، بحيث إنّ الثاني يسعى حتى يفضي إليها. وهذا يعني أنّ الأخير يلجأ إلى جهد يقوم به، فيجمع معاني الخطاب المنقولة عبر كلام يلقى عليه، ويضمّها إلى استخلاص ما فيه أيضًا من عبر ورؤى تتوارى وراء النصّ، وفي ثناياه. إن ما يسمّى مبادئ علم التفسير يصبّ على الجهد الذي يقوم به السامع حتى يفهم الخطاب الملقى عليه بطريقةٍ موضوعيّة، أي وثيقة القرابة بمقصد الخطيب.

ولكنّ عمليّة الفهم لا تنحصر قطّ بحدود الخطاب، أو حدود إدراكه، وإنّما تجوز هذه الحدود نحو أفق أشمل ترتبط ببيئة الخطيب المتنوّعة الأشكال. إنّ هذه البيئة تترك أثرها واضحًا في صياغة الخطيب أفكاره، وتوفّر له بدقّة الاهتمامات التي تشغل فكره، فيحاول التطرّق إلى بسطها وحلّ بعض منها. وفي هذا تحديدًا تكمن الركيزة الثانية، ألا في أنّ علم التفسير يستعين علوم الاجتماع والنفس والآثار والإنسان في محاولة للإحاطة بمعاني النصّ، أو الخطاب.

إنّ الأبحاث التي جرت على الخطاب، في العصر الحديث، بدءًا من شلايرماخر، ومرورًا بهايدغر وريكور، ثمّ بلوغًا إلى كثيرين في الزمن المعاصر، أعربت في الحقيقة عن نقلة نوعيّة في فهم “أفكار الآخرين”. فهذه الأخيرة تبيّن معناها من حيث انتماؤها إلى تقليد متنوّع الأبعاد: فهناك تقليد “آبائيّ”، ينحدر فيه معنى الخطاب عبر سلسلة وراثيّة تتيح لقارئه استساغة مغزاه، على حسب الإرث الفكريّ المتشعّب الذي ينتمي إليه؛ وتقليد “تاريخيّ”، ينحدر فيه المعنى إلى مفسّره عبر مقارنة يجريها على بلاغ الخطاب مع بلاغ خطابات موازية؛ وتقليد ثالث “اجتماعيّ- إنسانيّ” يتحدّد فيه معنى الخطاب على خلفيّة التحديث الحضاريّ، بالنسبة إلى المجتمع المجمع عليه. هناك تقاليد أخرى أيضًا لا يمكن إغفالها، بل تفرض نفسها على المفسّر اليوم، عندما يقدم على استخراج المعنى من نصّ من النصوص.

خصائص النصّ الدينيّ

السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على علماء التفسير هو الآتي: هل يخضع النصّ الدينيّ لعلم التفسير على وفق المبادئ التي ذهب إليها روّاده على مختلف العصور؟ ونضيف عليه سؤالًا آخر: هل للنصّ الدينيّ “منظومة” يقدّمها حتى يمكن استخراج مبادئ منها؟ وفي الحقيقة أنّ للنصّ الدينيّ بعض خصائص يجدر بالمفسّر الإلمام بها:

أ. يغلّف النصّ الدينيّ جسم عقائديّ يؤلّف إيمان جماعة من البشر. فالتفسير الذي لا يبدو عليه موافقة هذا الإيمان، سرعان ما يرمى به جانبًا كأنّه “كفر”!

ب. لكلّ نصّ دينيّ تاريخ تفسيريّ خاصّ به؛ وقد عرف هذا التاريخ التفسيريّ الكثير من الحركات والفرق والبدع، فأقصى بعضها وبقي بعضها، وساد بعضها.

ج. يعتبر الفقهاء كلّ منهم في فرقته أنّه قيّم على أمانة دينيّة، وهي السهر على الحقيقة التي يأخذ بها مع أمّته، فيما الآخرون يتعثّرون في بحث أديانهم عنها.

د. ارتبط تفسير النصّ الدينيّ تاريخيًّا باندلاع حروب دامية بين أتباع الدين الواحد.

تطرح هذه الخصائص التي يتمتّع بها النصّ الدينيّ عامّة بثقلها على تطبيقات علم التفسير الحديثة، وتعرقل غالبًا تقدّمه، والأخذ به! لا هذا فقط، بل تحمل غيورين على مجابهته باسم الحفاظ على الموروث.

آفاق وآراء

لدى جميع أصحاب الأديان اعتقاد راسخ بأنّ ما بين أيديهم من نصّ دينيّ هو نصّ مقدّس، وإلهيّ، موحًى به من علُ، لم يكن بشر سويّ ليقدر على صنع مثله. أضف أنّ لدى جميع هؤلاء جميعًا كذلك اعتقادًا راسخًا بأنّ هذا النصّ المقدّس قد وصل إليهم سليمًا من كلّ تحريف، صامدًا في وجه الزمن من كلّ محاولة تشويه. وأيضًا وأيضًا، يعتقد أصحاب الأديان جميعًا اعتقادًا راسخًا بأنّ صلة مباشرة ووثيقة قائمة بين هذا النصّ الدينيّ والمصطفى، حبيب الله، الذي نقله عنه لجمهور المؤمنين وسواهم. هذه الجوانب الثلاثة ثوابت لدى أصحاب كلّ دين من أديان العالم، عليها يقوم علم التفسير.

بيد أنّ علم التفسير يتطلّع، من جهة مقابلة، إلى ثوابت أخرى لا يجدي نفعًا ضرب صفح عنها، وعدم اعتبارها. فالمجتمع الذي يعيش بعد قرون طويلة من هبوط الرسالة السماويّة يحتاج إلى تأوين هذه الرسالة عينها، بحيث إنّ بلاغها “يخاطبه” في معطياته الاجتماعيّة الراهنة. كذلك الحال بالنسبة إلى تقدّم العلوم، الوضعيّة منها والإنسانيّة، فإنّها أدّت إلى إحداث تغييرات في المنهج العقليّ، فجعلته أشدّ نقدًا، وأوفر اطلاعًا، وأكثر ثقافة، من المنهج العقليّ الذي كان يسود المجتمعات الغابرة. فلدى بسط النصّ الدينيّ أمام إنسان اليوم، ثمّة أحد أمرين أمام عقله العامل فيه: فإمّا الاستكانة بصمت لما يلقى عليه، وإمّا التفاعل بنقد بغية الولوج إلى عمقه.

على صعيد آخر، يتبع الفقهاء من كلّ دين منهجًا تفسيريًّا خاصًّا بهم، يتلاءم مع تطلّعهم إلى سياسة الأمور لدى الرعيّة، بطريقةٍ تحافظ على أحكام النصّ الدينيّ؛ وهذا الوجه لازم وواجب، ولكنّه وجه “ذاتيّ”، لا “موضوعيّ”. إنّ استخراج الأحكام والمعاني يحتاج أيضًا إلى رؤية موضوعيّة توفّرها عادة مبادئ علم تفسير تستند إلى أبحاث خاضعة للنقد مرارًا وتكرارًا، قبل تثبيتها.

خاتمة

تعلّمنا الخبرة أنّا نحتاج في كثير من الأحيان إلى أن نوضح كلامنا الذي نفوه به أمام الغير، لئلا يبقى غامضًا، أو يساء فهمه، أو يؤوّل على غير ما قُصِد به. بل نجد أنفسنا، علاوةً على هذا، أنّنا نحتاج إلى بذل جهد أكبر عندما يلفت انتباهنا ملاحظة يبديها مخاطبنا في شأن جزئيّة ترد في كلامنا. ولكنّنا لو سلّمنا كلامنا هذا نفسه إلى الطباعة، ثمّ علمنا نحن أصحابه أنّه فسِّر، أو استعير، أو انتُقد، على غير ما أريد به أولًا، لبادرنا سريعًا إلى التدخّل بطريقةٍ أم بأخرى، أو ربّما أوكلنا المهمّة إلى من ينوب عنّا. المسألة تبدو أعسر عندما يحلّ النصّ الدينيّ محلّ خطاب تفوّهت أنا به، أو أحد آخر: من يمكنه الادّعاء بالفعل النيابة عن صاحبه حتى يبيّن مقاصده الأولى؟

يفرض علينا الوقار الذي ندين به دينًا للنصّ الدينيّ ألا ندّعي بحقّ عليه فوق قدرنا على ذلك. فإن اعتبرناه حقّ الاعتبار كنصّ دينيّ وجب تقديسه على كلّ قارئ له مُلْنا عن زعم مدّعٍ يشاء حصره، أو يحاول الاستئثار بغناه الدهريّ. وفي هذا الخصوص يبرز علم التفسير كميدانٍ متجرّد عن كلّ انحياز مستفيد وكنهج آمنٍ لكلّ ذي بشر مستفيد، كيلا يراد له دون قدره من معانٍ.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
علم التفسير

المقالات المرتبطة

الحب في الله

إن عنوان “الحب في الله – عز وجل – والبغض في الله – عز وجل –” عنوان واسع في تراث أهل البيت عليهم السلام، وكذلك القرآن الكريم، يطرح موضوع الحب في الله عز وجل

إضاءات فكريّة حول القضيّة المهدويّة

إنّ قضيّة المصلح العالمي أو المخلِّص الأممي هي قضيّة إنسانيّة قبل أن تكون دينيّة، هي عنوان ٌعامٌّ لطموحٍ مشروعٍ يتّسم بالرقيّ والسموّ تتّجه إليه اليشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها وانتماءاتها.

المبعث النبوي بداية للحياة الطيبة

إنّه نداء السماء إلى من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أودنى، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[1]. إنها رحمة الشمولية العامة لكل الوجود، وعليه أن يصدع بما يؤمر، والحرص على نشر هذه الرسالة العالمية التي تهدف إلى صناعة الإنسان، بل إلى صناعة الوجود وإيصاله إلى كماله المنشود.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<