by معهد المعارف الحكميّة | نوفمبر 12, 2021 1:49 م
سيتم تناول هذا العنوان في ثلاث عجالات: الأولى تدور حول بنية النص المؤسس، والثانية تدور حول بعض دلالات هذه البنية، والثالثة تدور حول الحاجة إلى التصنيف.
بنية النص المؤسّس
نذكّر، بداية، بما ورد سابقًا من تحديدٍ للنص المؤسّس بأنه القرآن الكريم وما اتصل به من السنّة الشريفة الشارحة لبعض آياته، والمبيّنة لبعض أحكامه، والمحدّدة لكيفية أداء بعض واجباته. لنشير إلى أن كلامنا على بنية النص يدور على بنية القرآن الكريم دون ما اتصل به من السنّة الشريفة، لأن بنيتها لا تحمل دلالات ولا تطرح مشكلات مشابهة لما تحمله وتطرحه بنية القرآن الكريم.
جرت العادة على تناول بنية النص، أي نص، من حيث المضمون ومن حيث الشكل على الرغم من صعوبات الفصل بينهما. وإذا كنا لا نريد الخروج على هذا المألوف، فإننا سنركّز على ما له علاقة مباشرة بهدف البحث، أي المضمون في سياقه التأليفي، ولا نتناول أساليب البيان والإبلاغ، إلا ما كان منها على صلة ببعض الدلالات التي ستكون مدار بحث.
ولكن، قبل البدء بالكلام على بنية النص القرآني، نستعيد الإشارة إلى أن ما يرمي إليه هو الهدف أو الهداية الموجّهة للإنسان من لدن الباري عز وجل. وهذا المعنى يتكرّر كثيرًا في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(1)[1]. ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾(2)[2]. ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(3)[3]. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(4)[4]. ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى﴾(5)[5].
إلى ذلك، فالمسلم الملتزم بالعبادة المفروضة يكرّر مع كل صلاة واجبة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(6)[6] مرتين، يسأله التوفيق لتحقيق الهدى القرآني في نفسه وبالصورة التي وفق بها الذين أنعم عليهم، فلا يقع في ما يقع فيه المغضوب عليهم لجحودهم وعنادهم، ولا الضالين عن سبيل الحق لانحراف عقائدهم وقيمهم.
نكتفي بهذه الإشارة هنا، لأن لنا عودة إلى مفردات الهدى القرآني لاحقًا، ونعود إلى الكلام على بنية النص، فنلاحظ ما يلي:
I – المضمون في سياقه التأليفي
لم يتّخذ القرآن الكريم صورة كتاب ذي أبواب وفصول يتناول كلّ منها قضية أو مسألة، إذا انتهى منها، لا يعود إليها إلا إذا اقتضت الحاجة، وإذا اقتضت، لا تتّخذ العودة أكثر من إشارة موجزة لما تقدم، على العكس من ذلك:
يندر أن نجد سورة من سور القرآن الكريم لا تتناول عددًا من مفردات الهداية التي يدعو إليها.
يندر أن نجد مفردة من مفردات الهداية لا تتكرّر في الكثير من سوره، وفي بعض السور أكثر من مرة، كلما ظهر سلوك يعبر عن خطأ في فهمها، أو جهل بأسسها ومقتضياتها، وفي كلّ من هذه الحالات يتمّ التصويب وتعميق الفهم بالعودة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعرض مقتضيات هذا الإيمان في التفكير وفي السلوك، إذا كان المعني بالهداية جماعة من المؤمنين أو فرد من أفرادها. أو بالعودة إلى آيات الآفاق والأنفس وعبر التاريخ لتحريك الفطرة وإزاحة ما ران عليها من صدأ إدمان النظر فيها، ودفعها للتساؤل والتأمل علّها تصل إلى الاقتناع بمفردة الهداية المقصودة… إذا كان المعني بالهداية جماعة من المشركين أو المنافقين أو أهل الكتاب أو أي من أفراد هذه الجماعات، ويتنوّع شكل العودة ومضمونه تبعًا لمقتضيات مفردة الهداية ومقتضيات المناسبة، وظروف الجهة المدعوّة. ومن لا ينتبه إلى التنوّع في هذه المقتضيات يحسب أنّ في القرآن تكرارًا لا داعي له.
في الحالين (= حالَيْ المدعوين للهداية) يضيف القرآن إلى ما تقدم، تذكيرًا بما ينتظر المؤمنين العاملين من ثواب الطاعة (الترغيب). وما ينتظر الجاحدين والمشركين والمنافقين والعاصين من عقاب الكفر والعناد والنفاق والعصيان، في هذه الدنيا، تبعًا لسنن النفس والاجتماع والتاريخ، وفي الآخرة تبعًا لمقتضيات عدل الله القاضي بأن لا يكون الكافر والمؤمن، ولا المسيء والمحسن بمنزلة سواء. (الترهيب).
لا نجد واحدة من مفردات الهداية إلا ويتمّ تأسيسها، في نهاية التحليل، (أي بعد المصلحة الدنيوية الناتجة عن التصرّف بموجبها والمفسدة الناجمة عن مخالفتها) على مفردات الإيمان بالله والمعاد، والنبوّة والملائكة، وما ينبثق عنها لزومًا من نسق قيم يحكمه ويهيمن عليه، في نهاية التحليل، أيضًا، الكدح إلى الله، طلبًا لرضاه وتجنّبًا لسخطه.
لكلّ مفردة من مفردات الهداية التي يدعو إليها القرآن الكريم أكثر من بُعد يضاف إلى بُعدها الذاتي وهذا ما نلحظه في ما يلي:
إذا كان البعد الذاتي للعبادات مثلًا هو الاستجابة لأمر الله في أدائها طلبًا لرضاه واتّقاءً لسخطه وتقرّبًا منه… فإنّ لهذه العبادات بُعدها الأخلاقي لأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتسهم في تزكية النفس… وبُعدها الاجتماعي لأنّها تذكر الإنسان بالله الذي لا تخفى عليه خافية فيمتنع عن تجاوز حدوده، في السر كما في العلن، وهذا ما يسهم في إنماء دواعي التماسك الاجتماعي، ويضعف من دواعي الخلاف والنزاع. وبعدها السياسي الناجم عن بُعديها الأخلاقي والاجتماعي. لأنّ العبادة الحقّة بأبعادها الذاتيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة تسهم في تحقيق أحد أهم الأهداف الخاصة بالاجتماع السياسي: أي التوافق والاستقرار وتغليب عوامل التعاون بين أفراده وجماعاته على عوامل التنافس وربّما الصراع الناجم عن اختلاف المصالح وعدم التناصف في التعاطي معها.
بالمقابل إذا استجاب المؤمن لمقتضيات الحدود والمعاملات والسياسات مثلًا وإنّما بنية الطاعة لله وبقصد كسب رضاه أيضًا فإنّ استجابته بهذا القصد وبتلك النيّة، يحوّل استجابته إلى عبادة يثاب عليها في اليوم الآخر…
لمفردات الإيمان بالله والمعاد والنبوّة والملائكة بُعدها الذاتي في تصويب نظرة الإنسان للوجود والحياة والمصير التي تجيب على أسئلته حولها، والتي لا يتمكّن من عدم طرحها بتأثير من قواه الإدراكيّة. لكن لها أبعادًا أخرى منها، على سبيل المثال لا الحصر، ضمان استجابته لمفردات الهداية الأخرى (في العبادات والمعاملات والحدود والسياسات) على وجهها، فإذا أخطأ ندم واستغفر الله، ونوى التوبة، وإذا أصاب حمد الله على توفيقه له في ذلك. ومنها أنّ تأسيس تلك الاستجابات على المفردات الإيمانيّة يكسبها، لديه، كامل معناها ودلالاتها وقيمها… ومنها إدراكه لموقعه ودوره والغاية من وجوده في هذا الكون. وما يترتب على ذلك من قيم يحكّمها في سلوكاته اتجاه أي أمر يعرض له.
الآيات التي تدور على مفردات الإيمان عرضًا لها، وإقناعًا بها ودحضًا لما يخالفها، وتأسيسًا لمفردات الهداية الأخرى عليها… يستغرق القسم الأعظم من آيات السور المكيّة والسور المدنيّة.
II المضمون في سياقه البياني
في آيات الأحكام والعبادات والمعاملات والسياسات. وفي آيات الآفاق والأنفس وسنن التاريخ التي يعرضها القرآن الكريم إيقاظًا للفطرة، وتحريكًا للاعتبار بسير الماضين، وكل ما يمكن أن يكون موضوعًا للإدراك الحسّيّ في متناوله يأتي التعبير غالبًا مطابقًا لمعناه المقصود، أي إنّ اللفظ يستخدم في دلالته المتعارف عليها لدى أهل اللسان العربي، أمّا في الآيات التي تتناول الغيب (الله، صفاته، خلقه للسماوات والأرض، تقديره اختلاف الليل والنهار… خلقه الإنسان، حسابه له، وصف الجنة والنار، كيفيّة الوحي… إلخ) فغالبًا ما تستخدم الألفاظ العربيّة ذات الدلالات المتعارف عليها بمعنى مجازي، أو لتوليد صور ومشاهد حسّيّة لإيصال رسالة القرآن حول هذه الأمور إلى المتلقي. وهذا ما يعطي مرونة كبيرة لما يمكن أن يفهمه القارئ أو يتصوره، ولكن هذه المرونة لا تصل إلى حد الميوعة لأنّ لكلّ منها سقفًا يحكمه: فالآيات التي تدور حول الذات الإلهيّة من حيث الصفات، مثلًا يحكمها سقف الآية المحكمة: ﴿لَيْسَ كَمثْلِهِ شَيء﴾، ومن حيث الأفعال الآيات التي تشير إلى أنّه ﴿إذا أرادَ أمرًا فإنّما يقولُ لهُ كُنْ فَيَكُون﴾. أمّا الآيات التي تدور حول وصف الجنة والنار والنعيم والعذاب… فيحكمها ما ينسب إلى ابن عباس: “والله ما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء”. في هذا الاتجاه يمكن أن نقرأ كلام ابن رشد حول تقسيم الناس في تعاطيهم مع النص القرآني إلى خطابيين وكلاميين وبرهانيين، ويمكن أن نضيف أيضًا إلى متصوّفين وعرفانيّين(7)[7]. وكل منهم يهتدي به على الطريقة التي تمكنه منها معارفه وعلومه ومستوى قواه الإدراكيّة. وإذا اختلف الناس في القرآن، لذلك، فإنّ القرآن لا اختلاف فيه، أفلا يتدبّرون هذا القرآن ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾(8)[8].
(1)[9] سورة الإسراء، الآية 9.
(2)[10] سورة المائدة، الآية 16.
(3)[11] سورة التوبة، الآية 33.
(4)[12] سورة البقرة، الآية 2.
(5)[13] سورة البقرة، الآية 120.
(6)[14] سورة الفاتحة، الآية 6.
(7)[15] راجع: فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.
(8)[16] سورة النساء، الآية 82.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13987/islamicphilosophy-3/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.