التعددية الدينية، وجهة نظر مسيحية
نتحدث في هذه المقالة عن مفهوم التعددية الدينية من منطلق مسيحي، وأقول: “مسيحي”؛ لأنني لا أعتقد أن هناك فرقًا في هذا الجانب بين المنطلق المسيحي الكاثوليكي، والمنطلق المسيحي البروتستانتي أو الأرثوذكسي على حسب ما أعرف عن المذاهب الثلاثة.
وقبل أن أبدأ الحديث عن التعددية بشكل عام لا بدَّ من التوقّف أولًا وقليلًا للبحث عن جذر هذا المصطلح، فأصل هذا المفهوم وقوامه مفهوم الله الواحد المثلث الصفات، وكما نقول: إن الله الواحد هو أب وابن وروح القدس، نقول: إن هناك وحدة أقوى من أي وحدة في الوجود، وفي نفس الآن هناك غيرية أقوى من أي غيرية في الوجود، وإذا كان الله هو المرجع الأول والأخير، وإذا كان المجتمع المسيحي يرغب في تحقيق مجتمع أخوي على صورة الله، فأعتقد أن هذه الوحدة التي يرغب فيها كل إنسان في تكوين مجتمع لا بدَّ أن تشتمل على الغيرية. وثانيًا: الإنجيل يقول: إن الله يريد خلاص كل البشر(1)، فإذا كان هذا هدف الله خلاص كل إنسان، لا بدَّ من أن يسعى كل إنسان إلى الخلاص؛ وبالتالي، يمكننا أن نرى أن كل محاولة دينية أيًّا كانت_ إن نسبت إلى الله، أو إن نسبت إلى الإنسان_ هي محاولة للبلوغ بالإنسان إلى القمة، عبر الارتباط بالله، فحتمًا لا بدَّ أن نعترف بأنه في كل إنسان وفي كل دين، شيئًا من نور الله، مسحة أو شيئًا من عند الله.
إذًا المشروع الذي يجب أن نعُدَّ له، هو أن نعيش معًا كعيال الله، وهذا ما يظهره الفهم المسيحي(2)، الذي يعتبر كل إنسان من أولاد الله أو عيال الله؛ الله إذًا أبٌ للبشرية كلها، وهذه الصفة تشبه الصفة الواردة في القرآن الكريم لله تعالى والمتمثلة بالرحمن الرحيم، أو قد تكون كذلك حسب ما ألتمسه.
فإذا كان الله هو الأب فهو أب الجميع. هل يضاد هذا المفهوم مفهوم صحة الدين؟ بتعبير أوضح؛ إن المسيحي لا سيما الكاثوليكي المقتنع يعتقد أن الإيمان المسيحي هو أكمل ما في الكون، وأعتقد أن المسلم يعتقد أيضًا أن الإيمان الإسلامي هو القمة، السؤال إذًا، هو: كيف أتمسك بهذه القناعة بأن المسيحية هي قمة المسيرة البشرية، وأن كمال الإيمان في المسيح، وفي نفس الوقت أعترف بحق وجود ديانات أخرى أيًّا كانت، بل حق وجود الإلحاد؟ هل يوجد تناقض بين ما اختبرته وأنا طالب جامعي في أوروبا، حين كان الجو السائد يميل إلى الإلحاد عند الكثير، وكانت صدمة بالنسبة لي، أنني اكتشفت أن هناك أناسًا لا يؤمنون وفي نفس الوقت يحبون كل إنسان ويخدمون الآخر. هذا الأمر حرَّك فيّ تساؤلًا، هل يمكن أن يكون الإنسان ملحدًا ويفعل الخير؟ أليس هناك تناقض في هذا الأمر؟ الواقع جعلني أكتشف أنه لا يوجد أي تناقض، هؤلاء بإلحادهم يخدمون الجميع، مما اضطرني إلى إعادة النظر في مفاهيمي. فتذكرت اختباراتي، أنا عشت وتربيت في القاهرة، وطبعًا في مصر تسعون بالمئة من السكان مسلمون وعشرة بالمئة مسيحيون؛ معنى ذلك أنني طوال حياتي تربيت مع إخوة وأصدقاء مسلمين، وفي نفس الوقت كنت أشعر أن عندهم مستوى من الأخلاق أتمنى من كل مسيحي أن يتحلى بها، فإذًا كيف أوفِّق بين اقتناعي أن كمال الدين والإيمان في المسيح، واقتناعي أيضًا أن كل إنسان أيًّا كان يستطيع أن يصل إلى الكمال البشري؟ وهذا الموضوع طرحته الكنيسة الكاثوليكية في الثلاثين سنة الأخيرة، وأبدت بعض الآراء الانفتاحية التي لم تتنازل من خلالها عن القول: بأن الحقيقة كلها في المسيح- ويعتبر هذا قولًا رافضًا للآخر- ولكنها في نفس الوقت أخذت تقول: إن لا تفوّق للمسيحي على غيره؟ هذا شبه تناقض وليس بتناقض، لأن الحقيقة في الواقع ليست أنا، ليست فيّ، لا أمتلكها، الحقيقة قائمة بذاتها، نحن نقول: إن الحقيقة في المسيح وهو أتى بكمال الحق، هو كلمة الحق، ولكن هذا لا يعني أن أي إنسان لا يستطيع أن يصل بطريقة لا ندريها إلى كمال الحقيقة.
إن الخلاص يتم في المسيح، وفي المسيح فقط؛ لأن لا خلاص إلا في الله تعالى، ولا يمكن لإنسان ولو كان نبيًّا أن يخلِّص إنسانًا آخر؛ لأن كل إنسان يحمل وزره؛ إنما الله وحده هو الذي يخلِّص الآخر، ومفهومنا أن المسيح بهذه الصفة هو المخلّص الوحيد، ولكن في نفس الوقت كل إنسان أيًّا كان إذا حاول أن يعيش بضمير حي يخلّص بلا شك. هذه عقيدة الكنيسة الكاثوليكية التي أصبحت عقيدة نهائية في المجمع الفاتيكاني الثاني.
فإذًا الحقيقة ليست فيّ بحيث أمتلكها ولا تمتلكها أنت، إنما هي ما نحاول كلانا أو كلنا أن نصل إلى إدراكها، وإن كان واضحًا أننا لن ندركها أبدًا؛ فهي دائمًا أمامنا ولكن تجذبنا إلى الأمام. إذا اقتنعت بذلك فأنا في نفس الوقت مقتنع بالوحدة الأساسية الموجودة بين كل إنسان وإنسان بصرف النظر عن عقيدته وإيمانه، ومقتنع في نفس الوقت أن الطريق الذي أتبعه هو الطريق المباشر إلى الله. أستطيع أن أقول: إن هذا ما أتوصل أنا إليه، وغيري قد يتوصل إلى طريقة أخرى، وإلى نظرة أخرى. الفكرة الموجودة في القرآن الكريم: ﴿لا إكراه في الدين﴾(3) هي مجرد منطلق، المفهوم الحقيقي للا إكراه في الدين هو الاعتراف أن لدى الله كما في الإنجيل منازل عديدة وبيوتًا مختلفة وأساليب عديدة للوصول إلى الله تعالى. أنا مقتنع أن الطريق الذي أرشدني الله إليه طريق المسيحية هو الطريق الصواب، ولكن لا يمكنني أن أنكر أن هناك طرقًا أخرى.
انطلقت في بداية مقالتي من الثالوث المقدس، وقلت: إن الله في مفهومنا واحد عديد؛ واحد الذات عديد الصفات، والأصح مثلث الصفات، وهذا في مفهومنا يعني: أن في الله تعالى حوارًا أن الكثرة نابعة من الوحدة، والغيرية نابعة من الهوية أو تقوي الهوية؛ فإذا كان هذا مفهومنا في الله تعالى، فعلينا أن نحاول أن نحقِّق ذلك في حياتنا الزوجية، حياتنا العائلية، حياتنا على مستوى المجتمع الصغير الذي نكونه، حياتنا على مستوى مجتمع الدولة. يعني أن هذه هي صيغة العيش. الثالوث في مفهومنا هو صيغة الوجود. لا يمكن أن أوجد لوحدي؛ إن وُجدت فأنا موجود مع غيري. طرق تحقيق ذلك مختلفة إنما المبدأ لا يمكن أن نتنازل عنه. في المسيحية لا يمكن أن نعيش إلا لنتيجة ائتلاف المختلف ضرورة الاختلاف، الاختلاف ضرورة بشرية، وائتلاف المختلف ضرورة إلهية، فكيف نحقق ذلك؟ هذا المفهوم حاولت أن أتحدث عنه بطريقة مبسطة من خلال هذه المقالة.
(1) تعلمون أن المسيحية لا تستعمل تعبير الديانات السماوية كديانات مميزة عن غيرها. كل الديانات في الواقع نشأت من بيئة معينة في بيئة معينة، وتحاول أن توصل الإنسان إلى قمة الإنسانية، وتحاول أن تربط بين الإنسان وبين الله، حتى إن في اللغات الأوروبية كلمة دين “religon” أو “religion” وإلخ، أصلها كلمة لاتينية تعني الرباط ما يربط بين الإنسان والله تعالى.
(2) وعندما أقول: مسيحي لا أعني أنه بخلاف المفهوم الإسلامي؛ فنحن نلتقي في نقاط عديدة.
(3) سورة البقرة، الآية 256.
المقالات المرتبطة
ضدّ الفتنة الطائفيّة
تعيش المنطقة العربيّة والإسلاميّة توترًا طائفيًاّ ومذهبيًّا، لم تشهده من قبل. ويبدو أنّ الصمت إزاء هذا التوتر ومتوالياته المختلفة، سيفضي إلى المزيد من المآزق الداخليّة
هل يمكن للعقل أن يعرف الله؟
يبدو أن الإجابة عن هذا الموضوع تحتاج للبحث في أصل المعرفة وإمكانها. فقد ورد في مباحث الحكمة أن معرفة أي شيء تكون بأحد وجهين: إما بذاته، وإما بغيره. وأن معرفة الشيء بذاته
الزمن وعودة الأبديّة
تأثّر مبحث الزمن بالكوجيتو الديكارتيّ الذي وضع الذات في قبال الخارج، وبالفصل الكانتيّ بين الزمن الطبيعيّ والزمن ببعده الإدراكيّ والإنسانيّ المعيش