في تجارب المصلحين

في تجارب المصلحين

حينما نتحدث عن تجربة دينية أو فكرية أو سياسية، ونعمل على تظهير العناصر الإيجابية ونقاط القوة فيها، هذا لا يعني خلو التجربة من مطبات أو عيوب أو نواقص، لأن هذه من طبائع الأمور. وفي إطار استفادة الأجيال اللاحقة من هذه التجارب، تتأكد الحاجة إلى تظهير عناصر القوة ومؤشرات التميز في هذه التجربة أو تلك. لأن هذا التظهير هو سبيل أخذ العبر والدروس من هذه التجارب في كل مراحلها وأطوارها. وهذا الكلام ينطبق على كل التجارب سواء كانت دينية أو ثقافية أو اجتماعية. وتنوع هذه التجارب لا يلغي حاجة المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إلى الانفتاح والتواصل مع هذه التجارب بصرف النظر عن مآلاتها ونتائجها المباشرة. ففي كل الأحوال تتأكد حاجة الأمة الدائمة لفحص وقراءة تجارب علماء الأمة ولا سيما من خاض غمار التحدي وتصدى لشؤون الأمة المختلفة في ظروف وأوضاع حساسة ودقيقة على المستويات الثقافية والسياسية والأمنية.

وفي سياق ضرورة الاهتمام بمعرفة تجارب الإصلاح في الأمة جدير بنا أن نتوقف عند النقاط التالية:

  1. 1. الأمم الحية هي التي تحتضن عظماءها وفعالياتها وزعاماتها، وتعمل على الاستفادة منهم إلى أقصى حدود. أما الأمم الميتة والخاضعة لتأثير ثقافات الجمود والاجترار، فهي تعمل على عرقلة مسيرة الإصلاح ومحاربة المصلحين، وإطلاق حروب الأوراق الصفراء ضدها، كوسيلة فعالة لمنع اتساع تأثير هذا المصلح سواء على الصعيد الشخصي المباشر أو على صعيد خياراته العامة وأفكاره وأطروحاته الفكرية والحضارية.

وأحسب أن ما تتعرض إليه مشروعات الإصلاح وشخصياته من حروب متعددة وتشويه متعمّد تشترك فيه، لاعتبارات عديدة، جهات متنوعة، ساهم في منع بعض شرائح الأمة من الاستفادة من هذه التجارب والاستزادة من فكر وتوجيهات ودروس هذه التجارب.

وهذا يحمّل شرائح الأمة المختلفة مسؤولية صياغة رؤية حضارية في التعامل مع علمائها ومصلحيها، بحيث لا يتم الاشتراك في تعويق عجلة الإصلاح في الأمة تحت يافطات وعناوين ليست دقيقة، وتساهم في عملية التسقيط المادي والمعنوي لكل راية وتجربة تحمل مشعل النور والتنوير في الأمة.

وتعلمنا مختلف التجارب أن الأمة بكل فعالياتها تتحمل مسؤولية دينية واجتماعية وأخلاقية للوقوف في وجه كل الأطراف التي تشن حروبًا ظالمة على المصلحين في الأمة. فلا يجوز الصمت والتواري عن الأنظار في المرحلة التي تتجه فيها بعض الإرادات لاستهداف تجارب  الإصلاح في الأمة. وأدنى ما يمكن أن تقوم به شرائح وفئات الأمة المختلفة هو عدم الاشتراك في مشروع الاغتيال المعنوي لأي شخصية تحمل هم الإصلاح وتعمل من أجله.

  1. 2. تجارب الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في الأمة، ليست تجارب نهائية ومقفلة، وإنما هي تجارب مفتوحة على كل العطاءات التي تساهم في إدامة واستمرار هذه التجارب من جهة، ومن جهة أخرى مفتوحة على الإضافة ومشروع التراكم المعرفي والفكري. لذلك ثمة ضرورة معرفية وتاريخية لتزخيم التجارب الإصلاحية في الأمة بعطاءات نوعية، متميزة، ترفد الساحة بالمزيد من الرؤى والأفكار التي تستهدف تحرير الأمة من ربقة التخلف والاستقالة من المسؤولية. وكما يقول أحد المصلحين [فعندما نكون أمة العقل، لا أمة الانفعال، وأمة الإرادة لا أمة الاسترخاء، وأمة اقتحام المستقبل، لا أمة النوم في انتظار المستقبل، فإننا نستطيع أن نتقدم].
  2. 3. ثمة ضرورات عديدة ذاتية وموضوعية، تؤكد أهمية أن يلتقي أهل النور والتنوير والتجديد في الأمة مع بعضهم البعض، لتبادل الآراء والخبرات، وتطوير نسق التعاون والوصول بمشروع الإصلاح والتجديد إلى مديات واسعة.. فما يطمح إليه أهل التجديد والإصلاح في الأمة، لا يمكن لأي طرف بوحده أن يفي بحاجاته ومتطلباته، ولا خيار أمام الجميع إلا العمل على بناء كتلة واسعة من الإصلاحيين تنسق مع بعضها البعض وتدعم وتسند بعضها البعض، وتدافع عن بعضها البعض، وتعمل بشكل مشترك لبناء مشروعات مشتركة تعزز من خيار الإصلاح والتجديد في الأمة. وذلك [لأن الإنسان في المفهوم الإسلامي يمثل المخلوق الذي يتصل العمل بكل موقع من مواقع وجوده بحيث يمثل العمل، مسؤولية كل طاقة من طاقاته، بحيث إنك ستسأل عما عملت في عمرك، وعما عملت في شبابك، وعما عملت في عملك، وعما عملت في مالك، وعما عملت في كل ما يحيط بك ليكون العمل هو حركة المسؤولية في كل حياة، وهذا ما نؤكده فيما نستوحيه من التأكيد في القرآن الكريم على العمل كأساس لسلامة المصير إذا كان العمل إيجابيًّا، وعلى العمل كأساس لابتعاد المصير عن خط السلامة إذا كان سلبيًّا.

﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾.. (سورة الزلزلة، الآيتان 7 ـ 8).. ولا بدّ أن نتذكر جميعًا: أن أمة لا تدافع عن مصلحيها لا تبلغ الرفعة والتمكين، وأن أمة لا تقرأ تجارب مصلحيه، ستصاب بالضمور والتآكل الداخلي.

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
المصلحينالإصلاح

المقالات المرتبطة

أسباب تخلّف المسلمين

كثيرة هي المعالجات التي اشتغلت على موضوع تخلّف المسلمين وانحطاطهم الحضاريّ بعد أن كانوا هم قطب الرحى في عصورهم الماضية.

جدل المعرفة النسبية والمعرفة المطلقة “قصة موسى والخضر في القرآن الكريم”

نسعى في هذا البحث إلى قراءة القرآن الكريم قراءة تنطلق من النظرة الكلية الشمولية والطرح الفلسفي للقضايا وتتجاوز النظرة المحدودة والتجزيئية.

عاشوراء: منهج إصلاحيّ أنتروبولوجيّ

التديّن حاجة فطريّة لدى الإنسان، تتجلّى في لجوئه إلى الله تعالى عند الشدّة، وهذا ما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<