الليبرالية والتعددية الدينية
إن مسألة التعددية لم تطرح في الأصل فيما يتعلق بالأمر الديني، إنما طرحت في النصف الثاني من القرن العشرين في إطار التعددية السياسية والثقافية في مواجهة الأنظمة الشيوعية. فقد قام الغربيون – حلف الأطلسي – وفي سياق ما سُمي بالحرب الباردة بمهاجمة الاتحاد السوفياتي باعتباره ذات اتجاه سياسي واحد.
وفي الثمانينات، وفي نطاق الموجة الأخيرة من الصراع مع الاتحاد السوفياتي، جرى التساؤل، ما هي الليبرالية؟ فمن جهة كانت دول المعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي تعتبر نفسها هي الليبرالية الأصلية على اعتبار عدائها للدوغمائيات، وتحريرها للإنسان من الغيبيات، ومن جهة أخرى قال الغربيون: إن الليبرالية على شاكلة نظامهم، وهي تعني التعددية في المجال السياسي والثقافي.
ولكن الغربيين، وعلى الرغم من موقفهم المتسامح، أبقوا التعددية بعيدة عن الدين، واستبدلوها بالتسامح، وهم بذلك كانوا متأثرين بالفيلسوف الفرنسي “جون لوك” الذي قال بأنه عندما نختلف في مجال السياسة فإننا ننشئ أحزابًا مختلفة، هذه الأحزاب تلتقي على مبادئ كثيرة مشتركة كالوطن الواحد والمجتمع الواحد وغيرها، وهذا الأمر لا ينطبق على الدين، لأن الاختلاف فيه اختلافًا عقائديًّا، لا يمكن الاجتماع فيه على مشتركات.
مع ذلك، الغرب وفي سياق صراعه مع الاتحاد السوفياتي طوّر مقولة التسامح التي ظهرت في عصر الأنوار ليقول: لماذا نعادي الدين؟ وطالما أن الدين له في حياتنا هذا التأثير الكبير، فلنقل إننا محايدون إزاء الأديان، وعليه تكون كل الأديان في المجتمعات الغربية سواء أمام القانون، فنحترمها لا لإيماننا بها، بل لأن هناك في هذه المجتمعات مواطنون يدينون بها، وبهذا نكون قد تجنبنا الدخول في نزاعات لا تتصل في حياتنا العامة والخاصة.
هذه النقاشات التي شهدها الغرب، لم تنتقل إلى عالمنا العربي كما طرحت هناك، وهي قد قوبلت في الخمسينات من القرن الماضي بالكثير من الحيرة والتردد، بسبب اليقين الذي كانت تحمله هذه المجتمعات، والذي حملها للقول برفض التعددية في الثقافة وفي السياسة، لأن وحدة الأمة تقتضي عدم الاختلاف، كما أن هذه المجتمعات لم تحس أنها بحاجة إلى هذا المفهوم. فالكتّاب الإسلاميون لا يرون تناقضًا دينيًّا بين الشعوب العربية، ويعتبرون ظاهرة العنف الديني غريب عنها، فالمسيحية الحقة واليهودية الحقة، عاشتا بسلام في هذه المنطقة طوال قرون طويلة من الزمن، أما هذا التوتر الناشئ سببه الاستعمار والتبشير، وإلا فإن الإسلام قد اعترف وتعايش مع المسيحية في الشرق عشرات القرون.
وازداد هذا الواقع النابذ للتعددية بروزًا مع وصول أنظمة الضباط الأحرار والضبّاط القوميين، الذين رفضوا التعدد السياسي واعتبروه تمزيقًا لكيان الأمة، وهم في هذا المضمار لعبوا على وتر حساس في الفكر الإسلامي القديم، يتمثل في رفض القرآن الكريم للأحزاب، فقد ورد لفظ حزب بشكل سلبي في سبعة عشر موضعًا، بينما لم يرد اللفظ بشكل إيجابي إلا في أربعة مواضع فقط.
وإذا كان هذا هو واقع التعددية السياسية، فالتعددية الثقافية كانت أسوأ حالًا، فهي كانت مستنكرة إلى حد الكفر، فمثلًا في لبنان كان المسلمون يردون على جماعة التعددية الثقافية من المسيحيين والذين كانوا ينشدون القومية اللبنانية بالقول إن الشرق حضارة واحدة، وبأن المسيحيين هم مسيحيو الدين ولكنهم مسلمو الحضارة رافضين الاعتراف لهم بالخصوصية، ورافضين للتعددية في المسائل الحضارية والثقافية.
وهذه المواقف تعبّر عنها الكثير من المواقف، يقول الكاتب العربي الإسلامي المعروف “محمد عمارة” في كتابه “فجر اليقظة القومية” 1969 مماهيًا بين العروبة والإسلام: إن الفكرة الأساسية من وراء اليقظة العربية إنما كانت الخروج من الانقسام إلى الوحدة، باعتبار أن الانقسام من عمل الشيطان _ وعند القوميين من عمل الاستعمار_ والفكرة العربية إنما هي عودة إلى الوحدة تحت شعار جديد يتلاءم مع العصر ولكن مضمونه تاريخي يتمثل في الإسلام.
وبعد الثمانينات حصل تبدل كبير في طرح الموضوعات في العالم العربي، وقد طالت هذه التغييرات حتى بعض الوجوه البارزة التي كانت ترفض التعددية، ففي سنة 1986 كتب “محمد عمارة” كتابًا حول التعددية الثقافية والسياسية والدينية مصرّحًا بأن الإسلام يقرّها ويعتبرها ظاهرة طبيعية.
من هنا نرى أن الفكر الإسلامي كان بين الخمسينات والثمانينات شديد الشراسة في مواجهة كل ما يعتبر دعوة انقسامية إثنيًّا ودينيًّا وقوميًّا وعرقيًّا ولغويًّا، ولذا كان يمتدح الحزب والدولة والأمة والقومية الواحدة، وفي الثمانينات وبعد نجاح الثورة الإيرانية، بدأ الإسلام السياسي يزداد ثقة بنفسه وتتسع ساحته في العالم العربي. في هذا الوقت وإلى جانب الحروب العملية التي كانت تشتد ضد الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية والبلقان، اندلعت حرب نظريات من قبل الغرب باسم الليبرالية والتعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد استشعر الإسلاميون قرب انتصار هذا التيار التعددي والليبرالي، وأدركوا أن هذا الانتصار لا بدّ من أنه سيستثمر من قبل الأنظمة الحاكمة التابعة والمتلائمة مع الغرب، لذلك نشطت باتجاه معالجة الموضوعات التي طرحتها التعددية والليبرالية، لإدراكها أن هذه القيم الكبرى ستكسب على الساحة السياسية، وبالتالي قد تكون هذه المعالجات أدوات تُسقط من خلالها حجج خصومها من الحكام العسكريين، لذلك عمل هؤلاء إلى انتقاد الأنظمة واتهموها بعدم إيمانها بالديمقراطية، وحاولوا أن يقرّبوا الإسلام من هذه المفاهيم، وذلك عن طريق قولهم بأن ما يقوله الغرب يتلاءم مع الإسلام.
لذلك نرى اليوم أن سائر فرق الإسلام السياسي وجماعاته تقول بالتعددية السياسية والثقافية – ما خلا فريقين صغيرين هما حزب التحرير الإسلامي الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني، والذي يعتبر التعددية السياسية والديمقراطية كفرًا إلى جانب فريق عمر عبد الرحمن صاحب رسالة الحرب على مجلس الشعب والذي يكفّر من يشاركون في الانتخابات. ولكن بعض فرق الإسلام السياسي ترددت أمام التعددية الدينية لأن الإسلام السياسي مهما تنازل تبقى مسألة الهوية مسألة أساسية لديه.
ومع هذه المواقف المتسامح على الصعيد السياسي والثقافي، هناك سؤال يطرح نفسه على الجماعات الإسلامية، هل يستطيع الإسلام أن يتقبل هذه المقولة الغربية المطورة للتسامح؟ الجواب حتمًا قد لا يكون سهلًا، فالإسلامي قد يستطيع أن يعتمد التعددية في السياسة وبنسبة معينة في الثقافة، ولكن لا يستطيع اعتمادها في المسائل الدينية، لأن الإسلامي ما زال يؤسس مقولته بالديمقراطية على الشريعة، ويريد أن يقيم الدولة الإسلامية التي تُطبق الشريعة الإسلامية – باعتبار أن الشريعة هي المرجعية العليا – ولو عن طريق صناديق الاقتراع.
إن ما يميز الإسلام السياسي الجديد عن ذاك القديم أن الإسلام (السني) القديم كان يعتبر أن الجماعة هي محور المرجعية، وأن لها العصمة، وبالتالي فإن أساس قيام الاجتماع البشري ومناطه هو الإجماع أو الأكثرية، أما الاجتماع السياسي الإسلامي السني المعاصر تراجع عن مقولة الجماعة إلى مقولة الشريعة، والتي صارت هي مناط العصمة. من هنا، إن ما يمنع الإسلام السياسي عن القول بالتعددية الدينية أمران:
الأمر الأول: ما دامت الشريعة هي المرجعية فلا يستطيع الإسلامي أن يقف محايدًا ليقول إن المسلم يقبل بالتساوي مع اليهودي والمسيحي والأديان الأخرى، فالإسلامي رجل دعوة وهو لا يعترف إلا بما اعترف به الإسلام وطبقًا لشروطه.
الأمر الثاني: ليس صحيحًا أن التعددية الدينية تسود في الغرب فهناك عنصرية سافرة تمارس هناك ضد الإسلام والمسلمين، فالمسلم هناك يعاني الكثير في حياته العامة والخاصة، لذا لا بدّ أن نعاملهم بالمثل لا نظلمهم ولكن لا نعتبرهم مثل أنفسنا، وإلا فما معنى أن تكون الشريعة هي المرجعية.
بيد أننا نرى أن شبه الإجماع الموجود لدى الإسلام السياسي المعاصر والمتمثل بقبول التعددية السياسية وإلى حد ما الثقافية والتردد أمام الدينية منها قد خُرق في التسعينات، وذلك عندما بدأ بعض المفكرين الإسلاميين القانونيين والدستوريين أمثال “أحمد كمال أبو المجد”، و”طارق البشري”، و”فهمي الهويدي” وغيرهم ممن تأثروا بالشيخ
“محمد مهدي شمس الدين” يقولون بولاية الأمة على نفسها، ومن أن المرجعية للأمة، والشيخ في قوله هذا والذي قبله البعض، قدم في كلامه لـِمَ فُهم على أنه دعوة للتعددية.
وهذا الأمر فتح الباب أمام المفكرين الإسلاميين للقول بتعددية دينية، وهذا الأمر قد أثمر قبل أربع أو خمس سنوات في قيام فريق سمي الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وقد تشكل من مسيحيين ومسلمين عرب من المشرق العربي، هذا الفريق أصدر وثيقة تقول بالتعددية – عمليًّا دون قول ذلك – وبإسقاط أولوية الإسلام في المنطقة كدين وثقافة وكحضارة لهذه المنطقة، الأمر الذي ما يزال يعارضه بشدة أشخاص مثل الشيخ يوسف القرضاوي، ويدعو إليه أشخاص مثل الشيخ محمد الغزالي الذي كان يدعو – قبل وفاته – إلى إسقاط أولوية الإسلام في المنطقة، وأن يصبح هذا الإسلام مجال تنافس حتى من الناحية الدينية.
إن دعوة التعددية عند المفكرين الإسلاميين والمرتكزة على فكرة مرجعية الجماعة، فهذه الجماعة يدخل فيها المسيحي إلى جانب المسلم، وإذا كنا نعتبر إجماعه فلا بدّ أن نعتبر اختلافه وخلافه. تزامنت هذه الدعاوى والنقاشات مع انفجار الأطروحتين المعروفتين “لفوكوياما”، و “هانتغنتون” بين 1993 و 1995 في وقت كان العرب والمسلمون يخرجون من حرب الخليج الثانية والتي أحدثت بلبلة خطيرة، وجعلت الفكر الإسلامي يتراجع تراجعًا شديدًا عن كثير من مقولاته في التعددية والليبرالية بسبب ما واجهه العرب والمسلمون في تلك الحملة الغربية الشرسة بعد غزو العراق للكويت، هذا التردد والتراجع عن القول بالتعددية والديمقراطية والليبرالية جاء بعدما فوجئ العرب بهذا التعصب، من قبل الغربيين والتيوردت على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي قال: “إن المسيحية هي حامية الحرية في العالم”، وذلك في خطابه الموجّه للجنود الأمريكيين، الذي قال فيه إنه نحن – الأمريكيين – ذاهبون إلى الشرق لحماية حرية الناس وحرية العالم بدافع من قيمنا المسيحية.
في هذه الحيرة والضياع جاء فوكوياما ليقول: “إن عاصفة الصحراء وسقوط الاتحاد السوفياتي أنهيا التاريخ”؛ بمعنى أنهما حقّقا الانتصار النهائي لليبرالية، فالتاريخ صراع وقد انتهى الصراع.
أما هانتغنتون فقد بدا وكأنما يرد على فوكوياما لكنه في الحقيقة كان يكمله، إذ اعتبر أن نهاية التاريخ قد حصلت بالفعل بمعناه العسكري والسياسي والأيديولوجي، ولكن في البعد الثقافي والحضاري لم ينتهِ، فهناك عدة حضارات ما تزال حية أهمها الحضارتان الكونفوشستية والإسلامية، ويكمل ليقول: إن الحضارة الكونفوشستية البوذية تستطيع التلاؤم مع الغرب، أما الحضارة الإسلامية فإن حدودها حدود دموية وعلى هذا الأساس ما يزال الصراع قائمًا ولكن من نوع آخر. وخلاصة ما يرمي إليه هانتغنتون أن هذا الصراع الحضاري والذي تدخل فيه الثقافة ويتدخل فيه الدين كعنصر أساسي لم ينته، ومهمتنا الجديدة هي استئلاف البوذية ثم ضرب الحضارة الإسلامية وتطويعها ليس بالقوة العسكرية وإنما بهذه الدعوات القيمية الكبرى التي يعاديها الإسلام.
استفاق المسلمون من الهيصة التي أحدثتها حرب الخليج الثانية ليردوا على هانتغنتون ويقولوا له: إننا لا نقول بالحرب الحضارية بين الغرب والشرق، ولا بين المسيحية والإسلام، فالإسلام ليس دين صراع بل هو دين حوار وتلاق وتقابس
وتناقل؛ وذهبوا أبعد من ذلك في الحديث عن الحوار، فهم اعتبروا أن هذه القيم الحضارية سواء سميناها عصرية أو غربية والمتعلقة بالتعددية والليبرالية هي شديدة التغلغل بالإسلام، وقد بذل الكثير من الإسلاميين مجهودًا كبيرًا لإبراز هذا الأمر، لدرجة أن الأصوليين يبدأون البحث في الكتاب والسنة عن التعددية لمحاولة تبريرها بعد أن كانوا وطوال أربعين سنة مضت يدعون لمقاتلتها بحجة مقاتلة الانقسام؛ وبالتالي انحصر دور الآية الكريمة ﴿واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا﴾، وحلّ محلها مختلفًا ألوانه.
إن أشخاصًا أمثال “محمد عمارة”، و “يوسف قرضاوي”، و”محمد سعيد رمضان البوطي”، وآخرين من رواد الفكر السني المعاصر هم يملكون جميعًا ثقافة وفكر الإخوان المسلمين ويلتفون حولهم وقد كانوا يتصرفون حيال مسائل التعددية والليبرالية ليس بدوافع فلسفية ولا دوافع تحليلية أو نقد ذاتي وإنما بدوافع عملية، فهم يعملون في الشأن العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويتصارحون مع السلطات ويصلون إلى تسويات معها، ومن ضمن هذه التسويات العملية تسويتهم مع التعددية التي يعتبرونها أهم مقولة عالمية ما عاد يمكن الخروج عنها أو عليها.
ولا بدّ من الإشارة إلى النقاط التالية:
النقطة الأولى: أن هذه القيم المعاصرة دخلت في المسلمين جميعًا عربًا وغير عرب دخولًا شديدًا وما يقوله الرئيس خاتمي لا يخرج عن هذا المنزع.
النقطة الثانية: أن الدخول بتلك القيم لم يكن بدوافع ثقافية وفكرية وتحليلية ودوافع نقد ذاتي للمقولة السابقة المعادية للتعددية، إنما كان بدوافع عملية لأجل الحصول على اعتراف غربي، والخوض في نطاق الصراع على السلطة والمواقع.
النقطة الثالثة: أن التعاطي مع موضوع التعددية لجهة القول بها كان يأتي بشكل فتاوى، أي تغيير الأحكام بتغير الزمان فتسود بذلك النزعة الفقهية مكان النزعة الثقافية أو الفكرية الكبرى. فنرى الشيخ القرضاوي يطالعنا بفتاوى عصرية يقول فيها بالديمقراطية دون أن يكون لديه أو لدى غيره تحليل للتغيرات التي طرأت على المجتمع العربي والإسلامي، أو على ما يسمى الإجماع أو الشورى.
إن غياب التحليل الذي يمكن أن يؤدي إلى طريقة جديدة للاجتهاد دفع بالإسلاميين إلى اللجوء إلى فتاوى جزئية بالمعنى القياسي والذي كان يُلجأ إليه قديمًا عند الشيعة كأن يقوم مرجع فقهي فيفتي بالديمقراطية، أو عند السنة كأن يأتي فقيه سني فيفتي بالديمقراطية تبعًا للنزعة العملية التي تحدثنا عنها سابقًا. إذًا فالفكر فكر فقهي جزئي وليس فكرًا متعلقًا بتأسيس فقه أو فهم جديد لتحليل الوضع الراهن.
الأمر الأخير هو أن التعددية بالمعنى الغربي فيها شوائب كثيرة، فعندما يتحدث الغربيون عن التعددية في المجال السياسي فهم يعنون تعدد الأحزاب ولا يعتبرونها مقارنة للديمقراطية بل فرعًا عليها. فالديمقراطية تعني الأكثرية أو رأي الأغلبية، وبهذا تصبح التعددية فرع على أصل اسمه الديمقراطية والتي تعني أن الحكم للأكثرية مع الحفاظ على الأقليات وإعطائها ضمانات، وأن يبقى لتلك الأقليات تمثيل. قد يقول كثيرون إنه ليس في لبنان أكثرية بل مجموعة من الأقليات فيحصرون المطامع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفرد بطائفته، فيعتبرون أنه لا يمكن أن يلتقي اللبناني الشيعي مع اللبناني المسيحي في مطلب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وعليه فهم مجموعة أقليات. بهذه المقولة والطريقة يضيع المبدأ الأساسي والذي هو أن هذا المجتمع واحد ويمكن أن تتحقق فيه أكثرية، وإذا خفنا على أقلية سياسية أو دينية فنعطيها ضمانات في الناحية أو الجهة التي توجد فيها، ونحفظ بذلك خصوصية تلك الأقلية دون أن يناقض هذا مبدأ الأكثرية. فإذا أصبح الحديث عن التعددية بدل الديمقراطية حسب المعنى السابق فتصبح التعددية ضد الديمقراطية، فعندما يتساوى الأفراد ولا تتساوى الجماعات التي تكون نتيجة فرز سياسي كالانتخابات مثلًا فلا يمكن أن تتوازى التعددية مع الديمقراطية.
هذه هي الملاحظة الاولى في النقاش العربي والإسلامي حول التعددية في الغرب عشية ضرب الاتحاد السوفياتي والشرذمة الكاملة للمعسكر الشرقي وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية لإعادة استتباع هذه المناطق لتحالفات جديدة، أما الآن وبعد حصول الغرب على انتصاره الفوكويامي تضاءلت الدعوة إلى التعددية، فماذا نفعل هل نقلدهم ونبدأ بالكلام عن مسألة ثانية؟ هنا تطرح إشكالية علاقتنا بالغرب، هذه العلاقة المهجوسة إلى حد أن هذا الهجاس إما أن يكون عداءً مطلقًا أو يكون استدخالًا مطلقًا، وعليه فإن الإسلامي المتشدد قد ينقلب إلى تعددي ويأمر بالتعددية كالقرضاوي الذي هاجم التعددية والديمقراطية عام 74 ومدحهما سنة 1989. هنا ينبري تساؤل مفاده أن التعددية هذه التي تتضاءل في الغرب، هل تتضاءل عندنا ولماذا بدأت لدينا بهذه الشراسة؟ لماذا كنا واحديين ضد التعددية طوال 30سنة ثم انقلبت الأمور؟ يجب أن لا ننزعج من النقد العلماني وإن كان نقدًا ظالمًا في كثير من نواحيه لأننا نحن لا نقوم بعملية ذاتية بما فيه الكفاية، فنحن الإسلاميون لسنا أقل هجاسًا من الليبرالي العربي بالغرب.
أود أن أختم لأقول: إنه وكما تضاءلت دعوات التعددية في الغرب في السنوات الأخيرة أتوقع أن تتضاءل في الفكر الإسلامي، ويرجع محمد عمارة ليأتي منها بآيات القرآن القديمة التي استشهد بها على الوحدة، فهذا نوع من التبسيطية والسذاجة لا يستطيع أن يصمد أمام توالي الأحداث ما دامت ليست مؤسسة لا على تحليل ولا على نقد ذاتي.
المقالات المرتبطة
أفكار حول “مناجاة الفيلسوف”
طالما أبديتُ أسفًا على الواقع الراهن للكتب، خصوصًا العربية منها، التي يغلب فيها الجمع على التأليف. الكثير من الكتب العربية
القربان
المشهد: أرض قاحلة كل ما فيها يوحي بالغربة والظلمة والموت، حرارة الشمس، صحراء، أجساد مقطّعة، وامرأة تمشي بوقار باحثة عن مقصد هو محجتها.
العنف الإسلامي.. انقطاع الصلة بالسياسة
هل الحاصل اليوم من أحداث دمويّة تجتاح العالم عمومًا، والعالم العربي والإسلامي بنحوٍ خاص