by الدكتور أحمد ماجد | ديسمبر 20, 2021 1:14 م
نقد منهجيّ للعقل المستقيل
أحمد ماجد
بعد أن استعرضنا حركية العقل عند محمد عابد الجابري، ننتقل لنقدم قراءة نقدية لمفهوم العقل المستقيل، ونختم من خلالها مشوارنا مع هذا المفكر المغربي، والقصد من هذه المقاربة إظهار الأسباب الكامنة واللامفكر فيها في ما ذهب إليه، والغرض من هذه القراءة ليس إظهار مثالب هذه الشخصية، إنّما اعتماد النقد الذي بنى عليه مشروعه وجعله غاية له، بالتالي العمل على بلورة تصور لهذا المشروع الذي بدأ على أرضية نبذ الأيديولوجيّ، لكنّه سرعان ما وقع فيه عن قصد أو من غير قصد.
أسس محمد عابد الجابري لأسطورة العقل العربيّ، وعلى الرغم من محاولة إظهار عمله باعتباره شكلًا منهجيًّا إلا أنّه لم يلبث أن تحوّل إلى قراءة انتقائية على التراث، تعمل على إعادة تشكيله انطلاقًا من رؤية، تريد أن تعيد بناءه لتحقيق أهداف قد لا تكون علمية. وهو دون شك يمتلك الحقّ في تقديم مقاربة جديدة، ولكن السؤال الذي قد يثار، هل يحقّ له أن يتلاعب به ويقوم ببتر جزء منه؟ هذه النقطة دون شك أثارت ضده حملة من المواقف الرافضة لتلك الخطوة، وفي هذا المجال رأى علي حرب أنّ ما ذهب إليه الجابري، يشكل خروجًا على النظرة التي استقرت منذ أعمال المستشرقين والرعيل الأول من مصطفى عبد الرزاق وإبراهيم مدكور إلخ… إنّ تاريخ الفكر الفلسفيّ العربيّ يسير بطريق متصل وصاعد، من الكندي إلى ابن سينا، ثم يتقهقر مع الغزالي ليعود إلى الصعود مع ابن رشد حيث بلغ العقل العربي قمته، هذا هو الاتجاه الكلاسيكي وأيضًا هو اتجاه الدارسين الماركسيين، وبحسب هذين الاتجاهين يعدّ ابن سينا أحد قمم “العقلانية” الإسلامية في المشرق؛ بينما يرى الجابري على عكس من ذلك ابن سينا مكرّس للفكر الظلاميّ الخرافي في الإسلام[1][1].
واعتبر رياض زهر الدين أنّ مشروع الجابري، يُخرج التراث عن الواقع الذي أنتجه، وتساءل في معرض نقده لمشروع الجابري: لو سلمنا بالموقف السلبي المطلوب أن يلتزم به الباحث تجاه النص، فهل تفسير النص وكشف معناه يبقى ضمن حدود النصّ وحده أم يتعداه إلى الشروط الاجتماعية والخارجية (بما في ذلك التراكم المعرفيّ) التي أحاطت بظروف النصّ؟ فإن أجبنا بنعم: فالنصّ لا يفهم معزولًا عن الخارج، أي أنّ الفكر والعقل لا يتطور ولا يفهم وفق منطقه وبنيته الداخلية فقط. وإن أجبنا بلا؛ أي البقاء مع النصّ وحده، فيقتضي هذا من الباحث تحليل معطيات النصّ وتركيبها، وهذا يعني أنّ هناك دورًا مهمًّا يقوم به الباحث في تحديد هوية الحقيقة التي تمّ استخراجها من النصّ[2][2].
وهذان الموقفان، الّلذان تمّ استعراضهما، ليس للتسليم بمحتواهما، إنّما للانطلاق منهما في المعالجة، فالرأي الأول لحرب، الذي لا يمكن التوافق مع محتواه، يأخذنا باتجاه التعامل مع التاريخ الفكري بتسلف يمنع الباحث من التجديد في مقاربة التراث، وهذا يؤيد النظرة التي يتمّ التوصل إليها، وهذا لا يتلاءم مع العمل البحثيّ، الذي يسعى دائمًا إلى التجديد، ولكن أيضًا، يثير موضوعًا يتمثل في كيفية مقاربة الموضوعات، فلا أستطيع أن أرفض لمجرد الرفض دون أن أمتلك المعلومات للحكم على موضوع ما. أما الثاني فهو يأخذنا باتجاه ضرورة تحديد معنى العلمية في العمل البحثي، فهل العلمية هو شعار، نتكئ عليه من أجل لَيّ عنق الموضوعات من أجل أهدافه الخاصة، فمحمد عابد الجابري ومن أجل بناء عقله العربيّ، عمل على إيجاد نقيض له، يستطيع أن يعتمد عليه لتثبيت رؤيته، فما كان أمامه إلا الذهاب باتجاه نموذج معرفيّ عرفه المجتمع الإسلاميّ، ولاقى نجاحًا، فقام بتسفيله. ونقصد به ابن سينا.
شنّ الجابري حملة عنيفة على المدرسة الفلسفية الشرقية، وربطها بالصراعات المذهبية والدينية: “وهؤلاء المشرقيين” كانوا من أبناء الشعوب المضطهدة قوميًا وطبقيًا، في دولة الخلافة، خاصة بعد الانقلاب السنيّ الذي حدث في عهد المتوكل. من هنا كان دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين، يعني بالنسبة إليهم تكسير الحصار السنيّ وتوفير التربة الطبيعية لقيام عقلانية أكثر ليبرالية حتى يصبح الدين، بالفعل، دين الجميع – لا دينًا تركبه جماعة ضد جماعة – وبالتالي تصبح الدولة دولة الجميع. إنّ العمل على دمج الدين في الفلسفة، والفلسفة في الدين يجب أن ننظر إليه، من هذه الزاوية، كجزء من نضال عام سياسيّ اجتماعيّ ثقافيّ ضد الحصار السنيّ للدولة، وبالتالي ضد أيديولوجية الدولة نفسها”[3][3]، ويتابع الجابري بإبداع صورته الجديدة، فيقول: “لما كانت هذه الفئة تريد إدخال العقلانية الأرسطية في الإسلام، وجدت في ميتافزيقاه عقبة أمام تحقيق هذه الغاية، فعملت على تأويله: “تأويلًا يسمح بتمرير مفاهيمها المؤسسة للمنطق والعلم، إلى الفكر الإسلامي حتى يتمكن هذا الفكر من أن يؤسس، من داخله، العلم والمنطق… أيّ حتى يغدو منبعًا للعقلانية لا مستوردًا لها. ذلك ما حاول “المشرقيون” تحقيقه من خلال الكندي والرازي الطبيب وإخوان الصفا وكلّ الفلسفة الإسماعيلية، وأيضًا، وهنا تصل المحاولة قمتها، مع أبي نصر الفارابي”[4][4]. وهذا الكلام يحتاج إلى تدقيق على المستوى التاريخ، فهو يبني على اكتمال المذهبية ووضوح الانقسام الفرقي، وهذا الأمر لا يتطابق مع الواقع الموضوعيّ. بالتالي فما نراه لا يتعدى كونه إعادة بناء تاريخية الغاية منها إيجاد مبررات، يستطيع من خلالها عن نشأة العقل المستقيل. وهذا ما ستظهر معالمه بعد ذلك. حيث سيبدأ بلورة دور ابن سينا كمناضل أيديولوجي، يعمل على إعادة تكوين حضارة جديدة.
يبدأ الجابري صياغته لصورة ابن سينا من خلال تصويره بأنّه عمل على: “التخلص من أرسطو”[5][5]، فهو لم يكن أرسطيًا بالمرة حتى مؤلفاته المشائية الطابع. لقد رفض ابن سينا شرح كتب أرسطو وفضل تأليف كتاب يجمع فيه ما “صحّ” عنده، أي ما يوافق ميوله واتجاهه، وعلى الرغم من أنّ قسم المنطق منه أرسطوطالي في جملته، فإنّه يشتمل على جوانب رواقية واضحة، أما الرياضيات فلم تكن أرسطية بالمرة، أما الطبيعيات التي كانت أرسطية في جملتها، فلقد صاغها بالشكل الذي يجعلها تخدم إلهياته. على أنّه يخالف أرسطو مخالفة صريحة في مواضع كثيرة منها، خصوصًا فيما يتعلق بالنفس وعلاقتها بالبدن ومصيرها ما بعد الموت: “وتأتي بعد ذلك إلهياته لتنحرف عن المشائية، لا في شكلها الخارجي، بل في المعنى الذي يعطيه ابن سينا للمفاهيم الميتافيزيقية التي بنى عليها أرسطو كل فلسفته”[6][6]، فكلّ ما قام به ابن سينا كان يهدف إلى هجران أرسطو والذهاب باتجاه تصور للعالم يتماثل مع روح الشرق، وعلى هذا الأساس، قام بتغليب الماهية وجعلها أسبق على الوجود، مكرّسًا بذلك ثنائية المادة والصورة لا بالمعنى الأرسطي، إنّما بتوجه جديد يغالب روحانية متطرفة: “أما الوظيفة التي أعطاها الشيخ الرئيس لمفهوم المادة – صورة فهي تناقض تمامًا مع مادية أرسطو”[7][7].
كما نلاحظ أنّ الجابري، يريد أن يأخذ ابن سينا إلى مكان آخر، ليصبح ممثلًا لعقل مستقيل، يشكل العقل التآمري الذي يريد أن يقضي على التراث الإسلاميّ، أو بأفضل الأحوال إخضاع الإسلام لحضارته المشرقية، فهو عمل كمنظّر أيديولوجي: “لم يكن ابن سينا روحانيًّا في أعماقه ولا متصوّفًا في سلوكه، ومع ذلك جنّد نفسه لتأسيس روحانية الآخرين على الفلسفة والعلم كما كانا في عهده مُضيفًا بذلك المشروعية العقلية على جوانب اللامعقول التي ورثها الإسلام كحضارة وثقافة عن الحضارات والثقافات القديمة”[8][8]. فابن سينا بحسب تعابير الجابري: “أكبر مكرّس للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام. لقد جعل من التنجيم والسحر والعزائم والطلسمات والرقى والتعلق بالموتى وغير ذلك من مظاهر اللامعقول “علومًا” تجد مكانتها “الطبيعية” في منظومته “العلمية الفلسفية” التي طلاها بطلاء أرسطوطاليسي كاذب. وأخطر من ذلك وأكثر تأثيرًا في توجيه الفكر العربيّ هذا التوجيه الظلاميّ الدامس، خلال العصور الوسطى، توظيفه لـ”علوم” اللامعقول في تأويل الآيات القرآنية التي تتحدث عن ما وراء الطبيعة تأويلًا جنح بها نحو روحانية دامسة أكثر تخلّفًا من الواقعية الساذجة التي كان عليها العرب قبل الإسلام”[9][9].
الجابري كما نرى أراد أن يقوم بفعل اختزالي لأفكار ابن سينا إلى عنصر واحد، ليتحكم من خلالها بمسيرته، وبالتالي يُسهل عليه بعد ذلك إعادة تكوينه ليخدم هدفه، الذي يسعى إلى تثبيته وهو أنّ هذه الشخصية لا تمثل ذاتها بقدر تمثيلها للعقل الفارسي الذي يريد أن ينتقم من الإسلام: “كانت الفلسفة المشرقية السينوية، إذن، إحدى تجليات الوعيّ القوميّ الفارسيّ المهزوم، ولكن الحيّ دومًا، المتطلّع إلى استعادة نفسه باستمرار، وبكبرياء. لقد عبّر ابن سينا عن جانب الهزيمة في هذا الوعي عندما أعلن عن اضطراره إلى مراعاة: جانب الشركاء في الصناعة في مؤلفاته الفلسفية التعليمية، لأنّ الشركاء هؤلاء كانوا بالفعل أصحاب الصناعة الحقيقيين. وعبّر عن جانب العودة والكبرياء في نفس الوعي عندما لم يتردد في تحقير “مشائي” عصره والتشهير بهم. لقد وصف المغربيين (= اليونانيين وتلامذتهم) بالتعصب والتقليد”[10][10].
من الواضح من الكلمات التي سقناها سابقًا، أنّ الجابري يصطنع أسطورة، وجد في تاريخ الفلسفة ابن سينا وأصوله المشرقية، فبنى عليها مقولاته مدفوعًا بأيديولوجية قومية، يريد لها السيادة والتمايز عن الآخرين، وهو دون شك كان يعيش قلق تبلور الإسلام كمنظومة فكرية تريد أن توجد رؤية حضارية جديدة خاصة في المرحلة التي انتصرت فيها الثورة في الجمهورية الإسلامية، فذهب باتجاه إيجاد سدّ فكري لمواجهة المستجد، وهذا الأمر يصبح أكثر وضوحًا أنّ المشروع قد صدر عام 1980 وما شهده ذلك العام من أحداث تاريخية، قد يقول بعض الباحثين إنّ أصول هذا المشروع يعود إلى فترة سابقة من خلال عمله على ابن خلدون، نقول هذا الأمر صحيح من الناحية النظرية، ولكن اهتمامات الجابري كانت منصبة على فلسفة العلم أكثر من الموضوعات الإسلامية.
وإذا تعدينا هذا البعد السياسي والأيديولوجي الذي يحتاج إلى نقاش موسع، يبدأ عند الجابري ولكنّه يمتد للراهن والمعيوش، والذي يتمثل في كيفية استغلال الديني والمذهبي والفكري من أجل التنظير لوقائع سياسية آنية، تقوم بشيطنة جماعات معينة، سنقف عند مشكلة العقل بذاته عند الجابري، فالعقل لا يتمايز فيما بينه فهو إنسانيّ عام كونيّ، يحتكم إلى المبادىء التي تشكله، على هذا الأساس لا يمكن أن نفهم ما قام به الفارابي ومن بعده ابن سينا على أسس قومية، فكلهما عندما توجه باتجاه العقل اليوناني، نظرا إلى إمكانية إعمال العقل في بيئة إسلامية، تختلف النظرة الكونية المؤسسة فيها للحضارة عن مثيلتها اليونانية، ولا بد أنّ الجابري كان يدرك أنّ النظام الميتافزيقي لا يمكن أن يعمل في سياق حضاري إسلاميّ لوجود مشكلات متعددة منها ما يتعلق بأن الله في فلسفة أرسطو هو محرك لا يتحرك، والعقل الفعال هو الذي يوجد في عالم ما تحت فلك القمر، من خلال هذا المنظور رفض الفارابي هذا الدور المنوط بالعقل، وجعله خاضعًا للأمر الإلهي عبر العمل والتوقف طبقًا للأمر الإلهي، كما أنّ الحديث عن العقول يتعلق بفتح المجال أمام تبرير الوحي.
وإذا كان الجابري يريد الحديث عن العقل بمعنى النظرة الكونية المسيرة له، فهذا الكلام يصبح مبررًا ومفهومًا من حيث الآلية المنهجية، ولكن الملاحظ أنّه عندما تعامل لم يذهب بهذا التوجه، وكأنّه يريد أن يتحدث عن سمات تتعلق بالعرق، تجعل المنتمي إليها ينحو باتجاه معين، وهذا ما يخالف واقع التراث الإسلاميّ، الذي عرف تنوعًا في الانتماءات المذهبية داخل القومية الواحدة، وبالتالي يستطيع الباحث أن يجد تنوعًا باللغة في المذهبية الإسلامية الواحدة، وهذا ما يطرح سؤالًا، هل على الأمة أن تحظر مذهبية معينة وتمنعها لأنّها لا تنتمي إلى المذهبية التي تنتمي إليها أكثرية الأمة؟ وهل علينا أن نقيم محاكم تفتيش في الثقافة لكي لا يدخل عليها ما هو خارج عنها؟ وإذا افترضنا أنّ الجابري أراد الحديث عن العقل المكوِّن وليس العقل المكوَّن حسب ما جاء عند لالاند: “فذلك غير متطابق مع اصطلاحه، ذلك لأنّ لالاند ذهب إلى القول بالعقلين، كون العقل المؤلّف – المكوِّن- هو تلك الملكة التي يستطيع بها الإنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات مبادىء كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس. وحتى العقل المكوَّن هو مجموع المبادىء والقواعد التي تتغير بفعل تغيّر الزمان والمكان، إلا أنّها تتجه رغم ذلك، كما قال لالاند، إلى الوحدة. ولالاند، رغم هذا التقسيم التصنيفي، لم يذهب إلى تقسيم العقل الإنسانيّ إلى أوروبي وغير أوروبي”[11][11]، بمعنى آخر، لا نستطيع أن نذهب إلى حيث يريد الجابري، لأنّ هذا الأمر سيفترض دائمًا البحث عن التنوع وتقسيم المقسّم أصلًا، لأنّ التمايزات قد تكون جهوية وداخل الجهة الواحدة قد تكون هناك جهات.
العقل المستقيل الذي أراد الجابري القطع معه، هو العقل الذي يشكل جزءًا من تاريخ الأمة، والذي أخذ مسارًا خاصًا دون أن ينفصل عن أصوله، وهو لا شك يوجد في كل منظور حضاري، وهو دليل على تنوع العقل في إطار وحدته الجامعة التي ينتمي إليها، وهو ما انتقده عليه حسن حنفي عندما وجه إليه الكلام التالي: “لقد انتهى كثير من قرائك إلى أنّك قد كرّست ضربًا من القطيعة بين المغرب والمشرق حيث تكلمت وكررت الكلام على القطيعة المعرفية من جناحي الوطن العرب، واقترحت أن ثمة مشروعين ثقافيين كبيرين أحدهما نسبة إلى المشرق مماثلًا ابن سينا والفارابي، وثانيهما نسبة إلى المغرب” [12][12]، وبالتالي لم يكن الجابري بحاجة لافتعال هذا الانقسام الحاد بين المشرق والمغرب، ويفتعل صراعًا بين ابن سينا وابن رشد، واعتبار الأول غنوصي والثاني عقلاني، لأنّهما وإن اختلافا في القراءة إلا أنّهما ينتميان إلى المجال الحضاري نفسه.
لقد عمل الجابري على اصطناع عقل عربي، وأناط به مسؤولية النهضة بعد القطع مع العقل المستقيل، الذي ينتمي إلى جهة محددة وهي الشرق، التي اتهمها بالباطنية المساوقة للغنوصية، وهو عندما قام بهذا الأمر قفز فوق معطيات التاريخ، واعتمد ذاتية مفرطة أوّلت كلّ ما وقعت عليه ليصبح قابلًا لرمي تصوره عليه، فهل أراد الجابري أن يرجعنا بمُرَكبّه الجغرافي إلى العصور التي ساد فيها الفكر الإقصائي، الذي أُعجب به في بدايات حياته، ووقف من خلاله موقفًا سلبيًّا من الصوفية التي انتمى إليها جدّه لأمه، وهل نحن أمام فكر لاواع، يُظهر عقلانية ظاهرة، وتستبطن سلفية مقنعة، وهذا ما أشار إليه جورج طرابيشي بقوله: “فإنّ العقل الفقهي السائد في الساحة العربية والإسلامية بشكل أعم، ما زال عاجزًا عن الوفاء بوعده ـ الذي كان أطلقه منذ مطلع عصر النهضة ـ بتحديث نفسه . ولسنا نماري في أن باب الاجتهاد في هذا الفقه قد أعيد فتحه في العقود الأخيرة على أيدي منظَّري حركات الإسلام المؤدلج والمسيَّس معًا. لكن هذا الباب ما أعيد فتحه للتقدم إلى الأمام، نحو الحداثة، بل للارتداد إلى الخلف، نحو القدامة. وهذا ليس حتى إلى عصر مالك وأبي حنيفة والشافعي، بل إلى عصر ابن تيمية الذي كان هناك، إلى زمن قريب، شبه إجماع على توصيفه بأنه عصر انحطاط”[13][13].
يبقى مشروع الجابري من الأطروحات الأساسية في الساحة الثقافية، وقد أثار العديد من النقاشات، ولكن هذا المشروع على الرغم من مظهريته العلمية إلا أنّه أخفى عناصرًا أيديولوجية، شكّلت اللاواعي والمطمور في فكره، هذا الذي يؤشر إلى أزمة الثقافة العربية، التي تعاني دائمًا من البعد الواحد في تناول الموضوعات العلمية، فتمتنع عن قبول التنوع والاختلاف فيها، كما أنّ ما نراه في هذا المشروع لا يتعدى كونه مذهبية إسلامية مقنعة تعبر عن أزمتها من خلال رميّ ثقل إخفاقاتها على المذهبيات الأخرى للتعويض عن عجزها. وأخيرًا هذا المشروع هو صورة المثقف العربي الذي يخلط دائمًا بين العام والخاص، فيدخل أزماته إلى رؤيته الفكرية.
مصادر البحث:
[1][14] علي حرب، محمد عابد الجابري: الطموح إلى نقد عربي للعقل العربي. دراسات عربية، العدد 10، السنة 16، آب 1980، الصفحة 43.
[2][15] رياض زهر الدين، التراث ومشكلة المنهج في فكر محمد عابد الجابري، مجلة الطريق، العدد 1، 1990، الصفحة 190.
[3][16] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، مصدر سابق، الصفحة 148.
[4][17] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[5][18] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، مصدر سابق، الصفحة 148.
[6][19] المصدر نفسه، الصفحة 150.
[7][20] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[8][21] المصدر نفسه، الصفحة 152.
[9][22] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، مصدر سابق، الصفحة 154.
[10][23] المصدر نفسه، الصفحة 159.
[11][24] عبد الله بوعرقة، نقد مفاهيم الجابري حول العقل المستقيل، بيروت، مجلة المستقبل العربي، الصفحة 29.
[12][25] محمود إسماعيل، في نقد حوار المشرق والمغرب بين حنفي والجابري، (مصر: رؤية للنشر والتوزيع، 2005)، الصفحتان 27-28.
[13][26] جورج طرابيشي، هرطقات، عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، (بيروت: دار الساقي، 2007)، الجزء 1، الصفحتان 62 ـ 63.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14168/jabiri5-2/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.