هل حب الحياة نقيض الحرية؟!!
هل الحياة مقصد من مقاصد القيم والأخلاق التي تطلب لذاتها؟ أم إنها رغبةٌ وميلٌ إنساني يطلبها الإنسان لما تحمل من لذة بعيدًا عن أيِّ غاية؟
بصدد الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تحدثت الأديان عن الحياة باعتبارها فعل موهبة إلهية جعلها الله لبعضٍ من مخلوقاته، وأودع فيها قيمة استثنائية لتلك المخلوقات العاقلة، بحيث ميز العاقل الحي بجملة قيم عليا تفرعت عن موهبة الحياة، منها العلم والإرادة، مما قرن قيمة الحياة بالترقي لنيل تلك القيم؛ العلم والإرادة؛ فإذا ما فُقدت، فُقدت معاني الحياة وقيمتها.
والمسؤولية الحرة هي المائز الذي يترتب على التحلي بالحياة الإنسانية الحرة وما ينجم عنها، كما وأنها هي الفارق بين كائن عاقل وآخر حيٍّ لا عقل له ولا فؤاد.
وبموازاة للأديان في تقديمها لمعنى الحياة، فلقد عنت الفلسفة ببحث الغايات التي بموجبها تكتسي الحياة قيمتها،.. فمن قائل إنها اللذة حتى لو استدعى الأمر الاستغراق في مهاوي الأهواء، ونوازع اللحظة بموجباتها الراهنة في عيش الحياة الدنيا.. إلى من ذهب أنها السعادة التي اختلف المختلفون في كيفية تحصيلها وتحقيقها، وهل يكون بالجسد أو بالعقل أو بالروح؟
وصولًا إلى من اعتبر أن المسألة تتعلق بطلب الكمال.. ومقصودهم بالكمال ما يصل إليه المرء بعيدًا عن أي شرطٍ إضافي، أو أي ميل ومتعة، بل أي مسوِّغ نفسي وغائي…
ولقد تمسك فيلسوف الحداثة النقدية ” كانت” بقاعدة تفيد أن “إرادة الخير” هي الأصل الذي تنبني عليه كل قيمة ذاتية.. فلا المنفعة، ولا السعادة، ولا حب الشيء أو الخوف منه، ولا الغايات تمثل قانون الأخلاق،.. الذي ينبني على استقلالية ذاتية غير محفوفة بما عداها…
وهذا ما فتح منافذ تبني القيم والحقوق بما فيها حق الحياة على أساس أصالة الإنسان الخالي من كل شوائب طلب اللذة الشخصية ورغبة العيش الساذج، ليكون الإنسان هو منبع نظام القيم وشرعة حقوق الإنسان.. خاصة إذا ما فهمنا أن مبرر الاستقلالية الذاتية لإرادة الخير، إنما هو الحرية كقيمة تؤسس للواجب.
وهنا نلحظ الاتفاق بين مآلات النتائج عند الأديان والفلسفة، وكيف تتصل كلها بالحرية المسؤولة المؤسِّسة للواجب، والتي تعطي لكل معنىً قيمته الخاصة بما فيها الحياة.. بحيث لا يصح أن يعيش الإنسان الحياة كيفما اتفق.. ولا يصح أن تتحول الحياة إلى نقيض للمستقبل بما فيه الموت،.. فالموت معنىً موصول مع الحياة بمداها الأكثر اتساعًا وإلا تحول الموت إلى مجرد عدم،.. وبالتالي تكون الحياة مجرد ومضات سرعان ما تنطفئ ليحل سكون عدمي أبدي..
فالحياة وإن عُبٍّر عنها كمقدس في ثقافتنا الشعبية، إلا أن قدسيتها قد استمدت مما تنطوي عليه هذه الثقافة من تأثيرات دينية وقيم إنسانية بحته أنتجتها الفلسفة والحكمة العملية.. وأن أيِّ تعدٍ على قيم الحياة وتقديمها وكأن الحياة مجرد ألوان من المتع التي نصنعها بجموحنا نحو إشباع رغبات الشهوة والسلطة والمال، هو كسر لحرية الذات في تحقيق كيانها القائم على الخير، وكسر لحرية البيئة الاجتماعة والناظم السياسي القائم على السيادة والاستقلال الوطني، لتكون الذات، والبيئة الاجتماعية، والناظم السياسي ساحةً يستغلها الطامع إما باستعمار مباشر، أو بوصاية غازية للثقافة المحلية وناهبة للخيرات..
ولعل العلاج العملي الوحيد لمثل هذه المخاطر إنما يتمثل بالوعي الإنساني لثقافة الحياة وقيمتها.. وتشكيل تيارات مقاومة تحررية تحفظ عبر فعل المقاومة وثقافتها؛ هوية المجتمع وحضارته وكيان الدولة الوطنية أو العقيدية..
وهنا تحضر أمامنا التجربة اللبنانية في حراكها المتنوع والذي انقسمت فيه الجماعات إلى نوعين:
النوع الأول: وهو الذي رفع شعار حب الحياة والعيش ليوظفهما في الإطار الشعبي، بانيًا من آلام الناس، واضطراب القلق النفسي؛ الاجتماعي والاقتصادي والطوائفي الذي يتملكهم؛ تفسيرات خاصة لمعنى الإنسان، والوطن، والحكم، والحرب والسلم، ما يوصل بين رغبة الحياة والعيش، وقبول الآخر كوصيٍّ على معنويات وخيرات الناس…
حتى بات لبنان في مخيال الكثير وكأنه مجرد امتداد جغرافي للسياحة و “الترانزيت”.
وصارت القيم الحقيقية عندهم هي في الأشياء من أتوسترادات وجسور وحجارة ومبان ووسط تجاري.. ولم يعد لكلمة (بلد) من معنى.. كما لم يعد لكلمة (مواطن) معنىً واضحًا..
النوع الثاني: هو الذي أراد الحياة موطنًا للحرية، والوطن بلدًا للاستقلال، والسياسة آليات لتحصيل حقوق الكرامة والسيادة.. وعبَّروا عن هذه القيم بشعارات ثلاث تكاد ترقى لمستوى الأهداف هي:
- التعايش الكريم والحر بين التنوعات الطائفية والوطنية.
- رفض الفساد الأخلاقي في الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية.
- المقاومة لكل صنوف الوصاية الأجنبية والاحتلال المتمثل بإسرائيل…
وهذه الشعارات الأهداف الحاضنة لقيم الحياة الحرة هي ما عبَّروا عنه بثقافة المقاومة الوطنية،…
والتي يخوض الشعب اللبناني دورة فعله الحضاري اليوم لتحقيقها عبر مسار المعارضة المتوحدة على أرض أرادها البعض مركزًا تجاريًّا لأهل الاقتدار المالي وسماسرة السياسة وإرادتها إرادة الخير عند اللبنانيين “أرض البلد” التي يأتيها القاصدون حتى ولو من ضواحي الفقر وإحياء الحرمان…
ليتعارفوا مدنيًّا على قواسمهم الحضارية المؤتلفة بعاداتهم وتقاليدهم المشتركة، وليتقاسموا العيش والخبز والملح والقضايا المحقة معًا… ولتكون إرادة المسؤولية الحرة هي قاعدة قوانينهم الأخلاقية والوطنية وهي المنطلق لميثاق اجتماعهم الذي يبنوه بجرأة توجههم الشعبي ليكون وجه بلدهم لبنان، وليكون هو المسار الذي على رجالات الحكم وقادة البلاد أن يلتزموه..
حتى إذا ما وُفِّق اللبنانييون لمثل هذه النتائج؛ قدموا للعالم وللمحيط الإقليمي والعربي رسالة لبنان الكبرى…
إنها رسالة الحياة الحرة والمسؤولة…
المقالات المرتبطة
جاك دريدا ومغامرة الاختلاف- المنطق الثالث
ي قراءته للنصوص، يطرح ديريدا منطقًا ثالثًا، يبتعد عن تعافي وإطلاقية المنطق الأنطولوجي الذي يسلم بجوهر موضوعي وهوية ثابتة
أسماء الله الحسنى عند الشيخ العارف محيي الدين ابن عربي وتابعيه
جدير بنا أن نفتتح الكلام بما ألفه ابن عربي حول أسماء الله الحسنى. والمعوّل في ذلك اختصاص العنوان بالأسماء، لا
اختيار المنهج بداية الطريق
لا يمكن النجاح في مواجهة هوى النفس ورغباتها بطريقة عشواء، ولا تسع حياتنا القصيرة إجراء التجارب البشريّة عليها لاختيار الأصلح،