عسكرة الثقافة واستعمارها
صراع الهوية بين الداخل والخارج، صراع يفقد الإنسان مقوماته الإنسانية، ويضعه أمام خيارات أحلاها مر، فالمواجهة هنا ليست من صنو المواجهات مع عدو واضح، وبأدوات معلومة، بل المواجهة هنا متعدّدة الجبهات، ومختلفة الأدوات، تتطلب دراية لا فقط رواية، وحنكة وبصيرة يتسلّح بها الإنسان ليعرف من يواجه من وكيف يواجهه، ويشخّص التوقيت المناسب لمواجهة الداخل بما لا يُمَكّن الخارج من استغلال هذه المواجهة لصالحه، وفي ذات الوقت لا يتوقف عن مواجهة الداخل تحت فوبيا اختراق الخارج، فكلها خطر على العقل والوجود الإنساني، وكلها تشكل أدوات هدم وهيمنة وسلب مقوّماته الإنسانية التي وهبها الله له كالإرادة والحرية والاختيار.
فبين الاستعمار والعسكرة ضاعت لنا كثير من المعارف، وتعطّلت لنا كثير من الفتوحات المعرفية، وتأخرنا لذلك عن ركب التقدم المعرفي وضّيعنا في ذات الوقت منجزنا الحضاري معرفيًّا.
الاستعمار
الاستعمار قد يكون مباشرًا وقد يكون غير مباشر، والثاني يسعى عادة في استعماره الغير مباشر إلى استهداف الثقافة عن طريق ضرب منظومة القيم وقلب دلالات المفاهيم، مع إبقاء تلك المفاهيم ظاهريًّا كما هي، لكنه يعمد إلى تفريغها من دلالاتها التي تم تداولها عبر أجيال وفي بيئتنا الثقافية، وإلباسها دلالات جديدة من خلال ربطها بشكل مكثف بالصور الذهنية الدلالية الجديدة.
فهو هنا وبشكل تدريجي يغير في معالم الهوية الفردية والاجتماعية، ليتمكّن بعد ذلك من تسيير مجتمعاتنا وفق رغباته الرأسمالية المتوحشة.
منهج الاستعمار في تحقيق أهدافه غالبًا هو:
- الاستعلاء الحضاري وتكريس مبدأ السيد والعبد.
- مركزيته الكونية معرفيًّا وحضاريًّا، وإقصاء كل الحضارات الأخرى بحجة الاستعلاء الثقافي والمعرفي والعلمي.
- ازدواجية معاييره النابعة من نزعته للتمركز حول الذات، ونزوعه نحو الكولونيالية، حيث ظهرت فجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى (العرب والمسلمين)، وخوفه العميق من حداثة متونها، فنشأت ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري. لذلك نجد معاييرًا تحكم مشروعه في الداخل مغايرة لتلك التي تحكم مشروعه في الخارج.
- ادعاء امتلاك الحقيقة، ورفض التنوع الثقافي من خلال فكرة العولمة والمركزية الكونية.
- النزعة الفردانية وتكريسها في المستعمِر لتفكيك ثقافته القائمة على مفهوم الأمة والتعاضد المتضمن داخل المفهوم، لتكريس مفهوم الشتات والفرقة. لتغلب النزعة الفردية على المنوال الجماعي.
- رفع شعارات تنشدها الشعوب، يتحرك بها من موقع المتحضّر الذي يريد عولمة قيمه وحضارته على شعوب يعتبرها وفق سياقاته المعرفية متخلّفة، فيسعى لبسط قيمه على تلك المجتمعات بطريقة إقصائية فوقية غير آخذٍ في الحسبان هويتها الخاصة والفروقات المعرفية والبنائية في منظومتها المعرفية.
الاستعمار حالة خارجية تستهدف الأوطان لتهيمن عليها وعلى ثرواتها، وحينما كان الاستعمار عسكري كان عاجزًا عن اختراق المجتمعات والهوية الأممية كما أراد وخطّط، بل وجوده كان سببًا لنشوء مقاومات فردية وجماعية تستهدف وجوده العسكري، وتكرس هويتها، وتحصنّها من هذا المحتل الذي يجمع كل المجتمع على عداوته، بالتالي رفض كل قيمه.
ولكن انتقل هذا المستعمر إلى وسائل جديدة تمكّنه من تحقيق مهمته في الهيمنة. وهو الاستعمار غير المباشر أو ما أطلق عليها الحرب الناعمة. هذه الحرب التي استطاعت في ظل ضعف الداخل بسط نفوذها المعرفي لتشكيل وعاء الأفكار في العقل، ومن ثم الهيمنة على السلوك وتوجيهه باتجاهات استهلاكية مادية، استطاعت من خلالها خلق أسواق جديدة لرأسماليتها الجشعة، وتحقيق مزيد من الهيمنة والنفوذ في المنطقة. هذا الاستهداف للهوية خلق ارتدادات انفعالية في منطقتنا دفعت كثير من الجماعات والمجتمعات إلى مزيد من الانكفاء على الذات، والتمحور المتطرف عليها، والتشدّد المبالغ على معالم الهوية بغثها وسمينها.
وعلى ضوء الاستعمار نشأت تيارات عديدة في التعاطي مع الاستعمار غير المباشر:
- تيار انبهر بكل منجز الغرب الحضاري وحمل على عاتقه مهمة التبشير به في أوطاننا. ففرّط بهويته وخصوصيته دون أدنى اعتبار للفروقات الجوهرية، ولم يحقق إلى الآن غير النكبات الثقافية للأمة.
- تيار منكفئ على ذاته بالغ في منهجه المتشدّد في التعاطي مع منجز الغرب المعرفي، فرفضه برمته تحت ضغط فوبيا الاستعمار وتبعاتها على المجتمعات والهوية الإسلامية.
- تيار مواكب حاول فهم الغرب وتفنيده، تعاطى مع منجزه المعرفي من باب النِّدْ المعرفي والثقافي لا من باب التابع المنبهر المنهزم ولا الخائف المتشدد، بل الواثق القادر على النقد والتصويب، وطرح البدائل المعرفية الأصيلة.
الاستعمار المباشر وغير المباشر يستهدفنا جميعًا، ويسعى لتقويض عقولنا، وتحويلنا لأتباع ونسخ مكررة عنه في فضائه الاستهلاكي فقط، دون امتلاكنا القدرة الذاتية على التفكير والنهضة. ولكن هذا لا يعني رفضه كليًّا ولا قبوله كليًّا، بل يعني فهمه وإدراك معارفه الناتجة عنه وفق بيئته وتطوره المعرفي التاريخي، ومن ثم نقده وتقييمه وتصويبه والاستفادة مما يمكن الاستفادة منه، فهدفية الحقيقة تستدعي اتباع منهج الدليل والبرهان، لا منهج الرفض والإقصاء.
العسكرة
العسكرة الثقافية والمعرفية محلية داخلية وليست من الخارج، من أوساطنا ومحيطنا، ويتم ممارستها غالبًا من الأنظمة والأحزاب والتيارات وكل جهة تمتلك نفوذًا، وهي شكل من أشكال الاستبداد والإرهاب الفكري.
وتتجلى العسكرة في عدة مصاديق أهمها:
- ممارسة وصاية على المعرفة وعسكرتها بفرض وجه واحد لها، وفهم واحد لها هو فهم السلطة أو الحزب أو من يملك النفوذ.
- في أجواء الحرب يتم توجيه المجتمع توجيهًا ثقافيًّا للحرب، وفقط للحرب، ويتم هيمنة ثقافة أحادية على حساب باقي المعارف هي ثقافة الحرب ولا شيء غير الحرب، ويسري هذا الفهم العسكري على كل المجتمع، ويتصدر المشهد العسكر وتفسيراتهم الأحادية وتوجيههم الثقافي الأحادي، وبتوجيه الثقافة الفردية والاجتماعية باتجاه واحد هو الاتجاه الذي تريده الجهة النافذة.
- عسكرة الثقافة والمعرفة بممارسة كل أنواع الإقصاء للآراء المختلفة مع الجهة النافذة صاحبة السلطة، وإقصاء الأفراد المختلفين معها فكريًّا، وفرض قراءة أحادية للمشهد الثقافي، يتم تمريرها بشكل مكثف من خلال خطابات عاطفية وشعارات طقوسية.
- عسكرة المناهج التعليمية في كافة المؤسسات والمدارس، وإتاحة تعليم فقط المناهج التي تتفق مع توجهات الجهة النافذة والتي تعمق في ذهن الناس الثقافة والمعرفة التي تتناسب وما تريده تلك الجهة، بحيث تكرس سلطتها المعرفية، وتوجيه العقل والأفكار وبالتالي السلوك والتطبيق.
- تكريس النزعة الجمعية القائمة على أساس الجماعة ببعدها السلبي، والتعاضد الإقصائي لا النهضوي، من خلال إلغاء الفرد لحساب الجماعة، ونفي محاولات التفكير والنقد خارج جغرافيا الجماعة.
باختصار العسكرة هي ممارسات بمنهج عسكري على الفرد والمجتمع في السلم والحرب، تستهدف الهوية الثقافية والمعارف، بحيث توطنها باتجاه معرفي وثقافي واحد، وتنمط المجتمع عليها، ليسهل عليها قيادته.
فالاستعمار يستهدف الثقافة ويسعى لتغيير الهوية، والعسكرة تستهدف الهوية والثقافة والمعارف، وتسعى لتنميطها وتدجينها باتجاه أحادي إقصائي، وكلاهما خطر على بنية عقل الإنسان وبناء أفكاره الموجهة للسلوك الفردي والاجتماعي.
لا عسكرة ولا استعمار
تميز الإنسان بالإدراك، أي بامتلاك العقل المدرك القادر على تمييز الأشياء، وفهم حسنها من قبيحها، ومن ثم امتلاكه قدرة للاختيار بينها، وإرادة لتحقيق ما اختاره بعقله.
إذًا هي ثلاثية ذات أبعاد عالمية، إرادة وحرية واختيار، وعقل مدرك يميز الحسن من القبيح، وأي ولاية حق كي تنجز ولايتها وتتحقق لا بدّ أن تكون ولاية على عقلاء، بمعنى امتلاكهم القدرة على الإدراك السليم وتمييزهم للحق من الباطل، بالتالي قدرتهم على الاختيار الحر، فقد شاء الله أن يختار الإنسان طريقه، ويمتلك حرية هذا الاختيار، بعد أن وضّح له السبل، وبين له نتيجة اختياره لكل طريق، وأبان له كل شيء، وترك له في نهاية الأمر اختيار الطريق.
ونحن تلاميذ في مدرسة الله، ووظيفتنا هي تبيان الحقيقة وإيضاحها، وطرح الآراء وضدها ومناقشتها، ومحاورة الجميع، وتوضيح المناهج والطرق في الوصول إلى الحقيقة، لا فرضنا لحقيقة نحن نراها، فالحقيقة كأصل ثابتة، لكنها ذات مراتب مشكّكة، وللناس قابليات مختلفة، ومراتب مختلفة في الإدراك والمعرفة، فأن تعطي للناس الوسيلة والمنهج والأدوات في كشف معالم الحقيقة، وتترك لهم الحق في التجربة والخطأ والتعلم والاعتبار، واكتشاف الآراء وتفنيدها، وامتلاك القدرة على النقد والتقييم بما يطور لهم عقولهم ويجعلهم يمتلكون مكنة وقدرة ذاتية في رد الشبهات، وتفنيد الآراء الفاسدة، والتحقق من المعلومة والمعارف بطرق علمية تعتمد الدليل والبرهان، خير من تحويلهم إلى قطيع، أو تدجينهم وتلقينهم ما تريد، أو توجيههم بمناهج تفرضها عليهم كحقيقتك المطلقة.
فأن تربي علماء خير لك من أن تربي جنود، فبالعلم ملك الأنبياء قلوب الناس، ونفذوا إلى عقولهم، بينما القوة والعسكرة الثقافية كانت منهج فرعون عندما قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾[1]، وهي كلمة قالها في حضرة نبي الله موسى عليه السلام الذي رغم نبوته لكنه لم يتلفظ بما تلفظ به فرعون الذي يعتبر نفسه مالكًا للحق والحقيقة، وله حق إقصاء كل رأي مخالف، وفرض ما يراه كسبيل أحادي للرشاد. وكان مصيره الغرق كمصير قوم نوح الذين عطلوا عقولهم، واتبعوا كالقطيع منهج آباءهم وأجدادهم، فأغرقهم الله كفرعون لخطورة منهجهم في تعطيل العقل وإقصائه، وفرض منهجيتهم الأحادية بطرق عسكرية على المحيط.
لست مع عسكرة الثقافة ولا مع استعمارها، بل لنبني إنسانًا قادرًا على التعقل، ومدركًا لما يريد، ومختارًا له، في فضاء حر، لكن حرية منضبطة بمبدأ الدليل والبرهان وليست منفلتة، حرية علمية موضوعية تسعى لكشف الحقيقة لا تسعى لفرض ما تراه حقيقة، أن تعلمني كيف أصطاد أفضل من أن تصطاد لي.
والقرآن حاور وناقش وسمع كل الآراء تحت مبدأ “قل هاتوا برهانكم”، وليس أهواءكم وميولكم واستمزاجاتكم. ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[2].
[1] سورة غافر، الآية 29.
[2] سورة يونس، الآية 35.
المقالات المرتبطة
لمعة في علم التفسير
يُعَدّ علم التفسير ميدانًا حديثًا نسبيًّا بين الميادين العلميّة الإنسانيّة، بعد أن وُضِعَت له قواعد، وجرت فيه أبحاث ومناظرات، وخاض
قانون العلية | قراءة جديدة
يوم أبصرت وجودي كنت لا أزال فتًى صغيرًا، كنت أشعر بالغربة القاسية، أنظر إلى العالم الخارجي بكل تفاصيله فأدرك أنه
اختيار المنهج بداية الطريق
لا يمكن النجاح في مواجهة هوى النفس ورغباتها بطريقة عشواء، ولا تسع حياتنا القصيرة إجراء التجارب البشريّة عليها لاختيار الأصلح،