الأيديولوجيا: شريعة المتحيِّز

الأيديولوجيا: شريعة المتحيِّز

لم تمُتِ الأيديولوجيا لتُولد مِن جديد. فهي على احتجاب وظهور دائمين. تنحجبُ حين يتوارى أهلها إثر انكفاء، وتنكشفُ في اللحظة عينها لدى أولئك الذين ظهروا في الملأ، غالبين أو مغلوبين. هي نفسها عند الغالب والمغلوب، تمنح مذهبها للجميع، وكلٌ له منها نصيب. إنها واحدة في عالم الأضداد. الضدُّ ونظيرُه يلتقيان على المفهوم ويختصمان في استخدامه.

تحطُّ الأيديولوجيا في عالم الشعور من قبل أن تسري إلى عالم الفكر. لا يفعل الأيديولوجي في ملحمة التحيُّز سوى تحويل مشاعره إلى أفكار وأفكاره إلى مصالح. ولأن تشكيل الأفكار يتوقف على تشكيل الكلمات، فإن كل متحيِّز ماضٍ إلى إنشاء مختزنٍ من المفردات والاصطلاحات والرموز، يسدِّد بها نظامه الفكري ويؤهله لصدِّ الخصوم. إذ مهما كانت الأفكار سديدة ومحكمة البناء فلن تفلح في مقاصدها على الوجه الأتمّ، ما لم تحظَ بجاذبية العبارة وسحرها.

عند هذه المنزلة المخصوصة تحضر الأيديولوجيا لتفصح عن أفكارٍ يعجز العلم الموضوعي عن برهنة حقيقتها وشرعيتها. ذلك بأن قوة هذه الأفكار تظهر ـ كما يقول كارل مانهايم – من خلال نغمتها العاطفية وأسلوبها المحرِّر للجماهير…

حضور الأيديولوجيا في دنيا الإنسان كمثل حضور الجاذبية في فيزياء الطبيعة. الجاذبية غير مرئية ولكنها حاضرة في المنظومة الكونية. الأيديولوجيا كذلك على وجه الشَّبه والنشأة. لا تُرى.. إلا أنها تُستشعرُ، وتسيطرُ، وتقودُ، ثم تسري من غير انقطاع مع كل خاطرة وفكرة، ومع كل حدثٍ ومَيْلٍ إلى مصلحة. فهي إذن من الحتميات التي لا مناص منها للاجتماع الإنساني في اختلافه وتنوعه ووحدته. لا تنمو الأيديولوجيا إلا في أرض الاحتدام، ولذا فهي في احتياجٍ مستديم إلى ضدٍّ لها، وإلا فلن تكون. لا بد من آخر يناظرها أو تناظره لكي تنفرد بعجيب قولها، وتسري بأهلها نحو أغراضهم وغاياتهم. والذين أعلنوا موتها في مستهل الألفية الميلادية الثالثة سيرجعون إليها القهقرى صاغرين. وَجَدَ هؤلاء لمّا فرغوا من أوهام الانقلابات الكبرى في نهاية القرن العشرين، أن للأيديولوجيا سرَّها المكمون. وأنها بالنسبة للمتحيِّزين أشبه بـ “قنبلة مزروعة في الرأس”.. وأن الجدل بشأنها ما لبث حتى عاد إلى حيويته القصوى. فإذا كان العالم الجديد مكتظًا بالتخاصم، شأن ما سلف من عوالم، حقّ أن نرى إليها مذهبًا لكل منتمٍ إلى قضية أو متحيِّز إلى هوية. ولعلّ في قول المفكر الفرنسي ريمون آرون، “تكاد الأيديولوجيا أن تكون فكرة عدوِّي” ما يُعربُ بقوّة عن صورة عالم فرَّقه الاختصام.

* * * * *

لقد تخيَّرتُ وأنا أتهيَّأ لمقاربة الأيديولوجيا، ألَّا أبدأ من السؤال الرتيب عن معنى الكلمة لغة واصطلاحًا. ففي ذلك ـ على خالص الظن ـ ضربٌ من تواترٍ مملٍّ يرفع منسوب الضجر قبل أي قراءة. فلو تناهى إلى السامع سؤالٌ عن معناها انبرى إلى أجوبة لا عدَّ لها من التعريفات والأوصاف. غير أن السامعَ إياه لا ينفكّ يتنبَّه إلى أن ما سمعه هو أدنى إلى استفهام عن خطبٍ صار بديهيًّا مع الوقت. وحالئـذٍ لن يجدَ في نفسه حاجةً إلى التعرُّفِ عما هو معروف. فما يراد معرفتهُ معيشٌ، وكلُ معيشٍ معقولٌ ومدركٌ، وإن تباينت رُتَبُ تعقُّله وإدراكه بين حال وحال.

تلقاء الأيديولوجيا، نجدنا بإزاء تشكيل هندسي متعدد الوجوه، وكل وجه يصلح أن يكون بابًا للدخول إلى هذا الشيء الساحر الذي يدعى المصطلح. فالاستدلال عليه كوحدة معجمية، يتواجه على جاري العادة بعثرات جمّة، أبرزها:

1 . تعايشه مع وحدات اصطلاحية موازية لا ترتبط بمجال تخصصه ـ

2 . تعايش عدة معان داخل المصطلح نفسه ـ

  1. التغيُّر اللفظي والتكرار الإحالي اللذان يتاخمان نموه بصورة دائمة.

إذا كان ما ذُكر يُشكل عقبة منهجية للاستدلال النظري على المصطلح، ففي مقام الأيديولوجيا يتضاعف التعقيد واللَّبس والاجتهاد، بسبب من تموضعه بين منزلَتيْ النظر والعمل.

كيف لنا إذًا، أن نقترب من مصطلح ارتبط بالإنسان ارتباط الاسم بالمسمى، وتعلَّقَ به تعلُّق الماهيات بعلة وجودها؟..

مبتدأ المشكل المعرفي، أننا غالبًا ما تعامَلنا مع الأيديولوجيا كما لو كانت خارج ذواتنا وهوياتنا. والحال خلاف ذلك على نحو كامل. الأقلُّون هم الذين تنبَّهوا إلى أننا لسنا بإزاء مفهوم مستقل عن ماهية الإنسان وهويته وأفعاله. فلو ابتنينا على هذا المقتضى، لقلنا إن منطق عمل الأيديولوجيا هو أدنى إلى غريزة، منه إلى مفهوم أُدرِجَ في العلوم الإنسانية كسائر  المفاهيم. وحين نُنسِّبُه إلى الغريزة فلأنها محرِّكُه الذي يعمل من خلف حجاب. فالإنسان مفطور على التفرد والانحياز والولاء. والفطرة على ما نعلم، سابقة على الفكرة، تحكمها وقلَّما تتحكم بها. لهذا جاز الكلام عما نسميه “فطرة الأيديولوجيا”، لكونها متأصِّلة في ذات حاملها ولا تفارقها البتّة. تتمدَّد حركة الأيديولوجيا في جوهر نشاط الكائن الاجتماعي، ولا يعوزها لكي تظهر إلى الوجود أن ترفع صوتها وتبعث برسائل وإشارات. ذلك بأنها تجري بصمت، وليست مستقلة عن الفرد، ولا عن الجماعة، ولا عن المنبسط الحضاري. فالتحيّز بين الناس يجري مجرى الدم في العروق. ثم لا يلبث المتحيِّز حتى يعلن عن نفسه بشغف، وهو يجوب عالم الاختلاف والاختصام…

* * * * *

الأيديولوجيا بهذه الخاصِّية هي عينُها فلسفة المتحيِّز. ولم نقصد إذ نضفي عليها نعتًا فلسفيًّا، إلا لنشير إلى ماهيتها كحقل خصبٍ للتفلسف. بهذه المثابة هي فلسفة عمل، إلا أنها ليست من سلالة الفلسفات المضافة، كفلسفة التاريخ، وفلسفة العلم، وفلسفة الدين، والفلسفة السياسية، إلخ.. فهي على الحقيقة فلسفة عملية تتحرك في سماء الكل. تتقدم على شكل موضوعات وقضايا، ثم تأتي الفلسفة لتمنح كل موضوع سَمْتَه الخاص.

خاصية الأيديولوجيا هي كمثل خاصِّية الفلسفة من وجهٍ ما. مشاغلها متعددة بقدر ما تتعدد القضايا التي تؤلف محاور اهتمامها. وعلى ما نعلم، فإن الخاصية الملحوظة لكل التعاليم الميتافيزيقية مهما كانت متشعبة، تنتهي إلى الالتقاء حول ضرورة البحث عن السبب الأول لكل موجود. كذلك هي خاصية الأيديولوجيا. فالقضايا التي تؤلف مدار نشاطها، تبقى موصولة بنقطة الجاذبية المتمثلة ببلوغ الغرض الأقصى الذي يتطلع الأيديولوجي إليه. والمعاينة الاستقرائية لتلك الطريقة تثبت أن نموذج الأفكار ومحتواها يمكن أن يتغير. ومع ذلك تبقى طبيعة العقل البشري هي نفسها في جوهرها، حتى بعد حصول تحول تام في الأحداث التي يفترض أنها انبثقت منها. هذا يبرهن ـ كما يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر إتيان جلسون (1884 ـ 1978) ـ في  كتابه “وحدة التجربة الفلسفية” أن الإنسان حيوان ميتافيزيقي بالطبع. أما خلفية مثل هذا التصعيد “الفوق أرسطي” للإنسان فعائدٌ إلى أنه ـ أي الإنسان ـ دائم التطلّع إلى ما هو فوق الحسّ، وما يتعدّى كيانه الفيزيائي. ففي عقل المتحيِّز وقلبه يتحد البعدان الحسيّ والميتافيزيقي لينتهيا إلى أصلٍ واحدٍ وطبيعة واحدة. كما يعود بالنتيجة إلى أن ماهيّة الأيديولوجيا متعلّقة بماهية الإنسان تعلُّقًا ذاتيًّا. لها ما بالإنسان وعليها ما عليه. ولأنها إنسانية الطبع والطابع، فالتعرُّف على فصولها ومجال نشاطها يكون في منطقة التحيّز الزماني والمكاني للكائن الإنساني نفسه. وهذا النشاط هو مزيج من التركيب والتداخل بين المرئي واللّامرئي وبين الطبيعي والميتافيزيقي. من أجل ذلك وجدنا أنها كتلة وعيٍ مؤلَّفة من الأفكار والمعاني والمشاعر المنظورة وغير المنظورة. وهي بالتالي مخصوصة بكل بيئة اتخذت العمل الأيديولوجي مذهبًا لها. لهذا لا يسعنا، وسط النزاع المديد حول المصطلح، إلا أن نجتاز ذلك السيل العَرِم من التعريفات. ربما علينا أن نمضي في مثل هذا الاختبار المعرفي بعدما كفّت الأيديولوجيا عن أن تُعرَّف بمركّبها اللغوي (علم الفكرة) (Ideo-Logic). في مقام الاختبار تتوسع أرض المتحيِّز وتتعدد معاني ما ينجزه من كلمات وأعمال. فعلى هذه الأرض تنبري الأيديولوجيا لتعلن خطبتها، ثم لتؤكد صدق هذه الخطبة، ثم لا تعبأ بما لدى الملأ من نقد. فلو لم تنشأ الأيديولوجيا من أرض الضرورة التكوينية للطبيعة الإنسانية ما كانت لتوجد، وما كان لها كل هذه الجاذبية. ولذا وجب التعامل معها، والنظر إليها كقانون شأن قانون الجاذبية في عالم الطبيعة كما أسلفنا.

* * * * *

ماذا الآن عن المصطلح في بعده الزماني؟…

عطفًا على ما مرَّ معنا، وما قد يجيء لاحقًا، لم نجد للأيديولوجيا تاريخ ولادة، كما حال أي مفهوم أو مصطلح. لكن المشتغل بعالم الأفكار، وهو يسعى للعثور على مفاتيح لتفسير الظواهر والوقوف على منطقها الداخلي، جادٌ في رؤيتها كجسم مفهومي. ولكي تستوي عمليات الفهم لديه على استقامة منهجية يروح يتوسل أقرب السبل لكي ينزلها قاموس المفاهيم. كذلك فعل عالمُ الاجتماع الفرنسي “دستوت دو تريسي” ( 1754 – 1836 ) لمَّا نحت كلمة الأيديولوجيا. فقد جعلها مفتاحًا يُستدل به على منطق عمل الأفكار في أحداث التاريخ. ثم عرَّفها بأنها علم حالات الوعي. أو العلم الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس في نشاطهم الاجتماعي.

مع تريسي (Tracy) صارت الأيديولوجيا من جنس المفاهيم. ثم راحت تشق طريقها وسط اعتراك لا مستقرّ له من التأويلات والأحكام. مع هذا ظلت على فرادتها، بصفة كونها نوعًا مفارقًا لأبناء جنسها. لقد اتخذت سبيلها لِتُجاوِرَ أكثر المفاهيم تعقيدًا وتتوغل فيها في الآن عينه. ولذا فلا انتهاء لزمانها بسبب من سَرَيانها الدائم، ومتاخمتها لكل حدثٍ ذي صلة بالنشاط العام.

تحلّق الأيديولوجيا فوق جميع العلوم، لأن العلوم ـ حسب دي بيران ـ ليست إلا أفكارنا وعلاقتها المختلفة، هذه الأفكار شبيهة بالبلد الممتد واللانهائي التنوع، المنقسم إلى مقاطعات عديدة، يوصلها ببعضها البعض عدد أكبر من طرق الاتصال، ولكن لكل هذه الطرق أصل واحد، بل إن أكثرها يبدأ من نقطة مشتركة ثم يتشعب فيما بعد. هذا الأصل الواحد، وهذه النقاط المشتركة، التي يجهلها المسافرون غالبًا، ما يأخذ الأيديولوجي على عاتقه مهمة أن يعلِّمها لهم بشكل أساسي. (م.دي بيران. العلاقات بين الأيديولوجية والرياضية، مؤلفات 3، 14 – 13).

الكلام المستحدث اليوم عما يسمى “عصر ما بعد الأيديولوجيا”، هو في واقع حاله وصفٌ لطور تالٍ من تبدَّياتها، وليس ختمًا لسيرورتها كما قد يُظن. فالعصر ما بعد الأيديولوجي هو استئناف لغريزة المتحيِّز ومنطِقِهِ بطرق ووسائل أخرى. فلئن انوَسمَت أزمنة الحداثة بالأدلجة، فلسبب يرجع إلى الإعصار الفكري الذي شهدته أوروبا لحظة صعودها القومي والاشتراكي ذي الطابع التوتاليتاري. أما المرحلة النيوليبرالية التي أطلقتها العولمة، فقد امتلأت أدبياتها بالأنباء العاجلة عن حرية السوق، والمجتمع المفتوح كبديل من الأيديولوجيات الفارطة.

* * * * *

لو أنَّ لنا أن نأتي بمفهوم يدل على مفعول الكلمات في الناس وفي الأشياء، لكانت لنا بالأيديولوجيا حجةٌ بليغة. لكنْ لسنا على يقين من أننا بإزائها أمام مفهوم اعتيادي. فلئن كان كل مفهوم على ما نعلم هو تصوُّر ذهني لا يغادر حصنه الذهبي إلّا بإرادة تحيلُه إلى مهمة واقعية، فالأيديولوجيا هي تصوُّر وإرادةٌ في آن. إنها الفكرة وحقل اختبارها في اللحظة عينها، فلا يفترقان ولا يتباينان. فالمفهوم بالنسبة إلى الأيديولوجيا ليس إلا ما تكشف عنه أفعالها في الواقع. ينشأ القول الأيديولوجي من حقل الأفعال، ثم ينمو هذا الحقل ويزدهر بفعل ذلك القول بما ينطوي عليه من جاذبية وقدرة على صنع الأحداث. القضية إذًا، قضية الفاعل الأيديولوجي الذي يحفر حقله بالكلمات، ثم يرجع  إلى الحقل إيَّاه فيسدِّده ويرشِّدُه، أو ليضيف ويعدِّل من لغته.

إذا كانت خصيصة المفهوم، كما في الشائع، تكمن في ما يستدعي ظنيَّة الدلالة عليه، الأمر الذي يوجب الاختلاف والتباين وتكثُّر الرؤى في شأنه، فإن الخصيصة المستترة للأيديولوجيا هي أنها تختصبُ في المنطقة الجامعة بين الظن واليقين. ذاك أنها فكرةٌ وحدثٌ معًا. فإذا كانت الفكرة مبعثًا للظن، فالحدث بما هو وجودٌ عياني، وحضورٌ واقعي، باعثٌ على اليقين. فكيف إذا كان الحدثُ والفكرة متحَدين في مضمار واحد.

* * * * *

تتميَّز الأيديولوجيا بأنها غير ثابتة ثباتًا مطلقًا، وإنما تتمتع بخاصية الحراك. على الدوام تشهد على دورات جديدة من النمو، والتحوّل، والاختفاء، والظهور. كل هذا يحدث في ضوء الأوضاع والمواقف الاجتماعية المختلفة والمتغيرة. فكثيرًا ما تتعرض المجتمعات لاهتزازات داخلية أو خارجية، تظهر حينًا على شكل انزياحات عن الأيديولوجيا السائدة، وتغيرات في البنية الاجتماعية والاقتصادية، وحينًا آخر على شكل صراع بين القيم الخاصة والعامة، وحينًا ثالثًا نتيجة كوارث طبيعية، أو ثورات أو غير ذلك. في مثل هذه الحالات، قد تدخل عناصر جديدة إلى النسق الأيديولوجي تلغي بعض عناصره، أو تعدِّل من بعضها لتتواءم مع الواقع الاجتماعي الجديد. لذا لا ينبغي أن يُنظر إلى النسق الأيديولوجي كنسقٍ ثابت، وإنما  كدينامية سارية في مجمل التحيُّزات الإنسانية..

تشير أفعال المتحيِّز واختباراته، إلى أن الأيديولوجيا قادرةٌ على الفعل، وتحويل الثابت إلى مسعى حيوي. ثمة من نقاد الحداثة من وجد أن العملية الأيديولوجية تختزن القدرة لا على تفسير العالم وحسب، ولكن أيضًا على المشاركة في تحويله. حتى ماركس ـ الذي كان عليه لكي يفتتح عصر الاشتراكية العلمية، أن يذمّ الأيديولوجيا بوصفها وعيًا زائفًا ـ ما لبث حتى استوطن عبر (البيان الشيوعي) أرض الأيديولوجيا الفسيح. وهذا مرجعه إلى أن الوهم الذي تُصنِّعُه السلطة الأيديولوجية حتى تستمرئ أغراضها، هو نفسه جوهر المعرفة التي تمارسها في الواقع. الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي ـ وهو أحد أبرز وَرَثَة الماركسية والمجددين لثقافتها ـ تنبَّه إلى المشكلة بعمق في كتابه “الأمير الحديث”. كان عليه أن يوجِّه نقدًا عاليَ النبرة لنظرة ماركس المبتورة للأيديولوجيا، واعتبرها حقيقة واقعية لا وعيًا كاذبًا. لقد مارس غرامشي في الواقع نشاطًا “تفكيريًّا” معاكسًا لرؤية ماركس، ومؤدى موقفه الفعلي إعادة مَوْضَعَة المفهوم في المحل الذي تستمكن فيه الكتلة التاريخية في إيطاليا من الانتقال بالحداثة البوروجوازية، إلى طورها الثوري البروليتاري.

أما الفيلسوف السلوفاكي المعاصر (سلافوي جيجيك)، فسيلاحظ في سياق مراجعاته النقدية للماركسية أن الأيديولوجيا ليست وعيًا مزوَّرًا ولا تمثيلًا وهميًّا للواقع، بل إن ذلك الواقع نفسه هو الذي يتعيَّن تعقُّلَه بسبب من اتخاذه طابعًا أيديولوجيًّا.

بموجز: لما حكمت الحداثة ـ بجناحيها الليبرالي البوروجوازي والماركسي البروليتاري ـ بالنفي على كل ما ليس بمادي، كانت تمضي إلى الدرجة القصوى من التحيُّز الأيديولوجي. والصفاء العلمي الذي اعتُبر من طرفها معيارًا لفهم العالم، غدا في قليل من الوقت محض حيلة فكرية تعمل وفق مذهب المتحيِّز وفلسفته. قدّمت الحداثة تصوّرًا ثوريًّا لتغيير العالم بواسطة العلم، إلا أن النتائج اللاحقة لمثل هذا التصوّر آلت إلى ضربٍ من وثنية مستحدثة.

ظهرت الحداثة وهي في ذروة دعواها كـ (مادية دنيوية) صمَّاء. لقد حرَّرت ذاتها تمامًا من اللاَّهوت والميتافيزيقا، ثم زعمت أن الإنسان يمكن أن يعيش في جنّة وضعية إلى الأبد، وأنه بسبب قدرته على التفكير يستطيع أن  ينجز خلاصَهُ التامّ… هذه العقيدة المطلقة للمادية الدنيوية ستحظى من الفلسفة الحديثة بغطاء أيديولوجي صلب. جرى ذلك بصفة خاصة على يد هيغل حين أدخل المطلق في الزمان البشري، وكان هدفه الأساسي وصف الظهور التدريجي لروح ما، أو فكرة ما، بأنه ظهور موقوت وآيلٌ إلى نهاية التاريخ. أما فكرة الخلاص عنده فتكشف عن ذاتها في العالم حيث لا شيء مكشوفًا في ذلك العالم ـ كما يقرِّر ـ غير هذه الفكرة وشرفها ومجدها.. على هذه السجيَّة خطت المادية الدنيوية خطوتها العظمى لتجرّد الحضارة الغربية الحديثة من روحانيتها. ومن خلالها أكملت ما نظَّر له لودفيغ فيورباخ لمّا دعا إلى تدمير كل ما هو فوق أرضي، بزعم أن الإنسان هو الحقيقة السامية المطلقة، ولن يبحث من بعد ذلك عن السعادة خارج ذاته.

حين أدَّت المنظومة الأيديولوجية لعبتها كـ (مادية دنيوية)، كانت في الواقع تقوم بمهمّة تأويلية غايتها تحويل إدراكات الناس وإعادة تركيب وعيهم على نصاب أمرها. وتلك مهمة تتحرك في ختام المطاف وفق معيار المصلحة كغاية عليا. من هذا النحو لن يعود التأويل، سواء كان لنص أو لحدث تاريخي، بقادرٍ على النجاة من شروط تلك اللعبة الأيديولوجية ومقتضياتها. كل لحظة في العملية التأويلية تظهر وكأنها مشغولة بإتقان وشغف. ذلك أن الفهم الناتج من تلك العملية لا يمكن فصله عن بنية الحامل الأيديولوجي الثقافية والاجتماعية والعقائدية والنفسية. وبالتالي عن مقاصده وغاياته الحضارية، والكيفية التي ينكشف فيها فهمه على شكل خطاب فلسفي أو بيان سياسي.

* * * * *

ماذا يعني كل هذا في سياق مسعانا لتظهير مرسوم يقترب من حقيقة الأيديولوجيا؟

إن كل صفة تكتسبها الأيديولوجيا تتأتَّى من فعلها. ولا تتحصَّل الكلمات المعبرة عن هذا الفعل إلاَّ بفضل التبادل بين النَّسق والفعل، وبين البنية والحدث، وبين خصوصيات الحيِّز الاجتماعي والفاعلين فيه. وإذن، تتميَّز العملية الأيديولوجية في كونها متعددة الصفات كفاعلها، أي الكائن المتحيِّز. كأن يُقال مثلًا: هذا قول أيديولوجي وذاك قول أيديولوجي، لكن لكلٍ من القولَيْن موقع مختلف تبعًا لاختلاف القائلين به وتعدد مواقعهم. لقد كان من أبرز إنجازات كارل مانهايم أنه أدرك المشكلة فراح يوسع مفهوم الأيديولوجيا إلى النقطة التي أصبح معها يضم الشخص نفسه الذي ينادي بهذا المفهوم. بمعنى.. أن المفهوم صار هو نفسه الشخص الذي يمارس عملية الفهم. ذاك الشخص الذي يختبر فكره وشعوره وشغفه إلى الحد الذي يمتلئ بكلماته ويقول: أنا هو الأيديولوجي أنا هي الأيديولوجيا.

سوف يدحض مانهايم بقوةٍ وجهة النظر القائلة بوجود متفرِّج مطلق، غير متورط في اللعبة الاجتماعية، ويعتبرها ضربًا من المستحيل. فأنْ نصِفَ شيئًا بأنه أيديولوجي، ليس أبدًا أننا نصدر حكمًا نظريًّا مجردًا، بل إن وصفًا كهذا ينطوي على معاينة اختبارية، لممارسة معينة، أو لرأي يتحرك في الواقع تقدمه لنا هذه الممارسة. فكل منظور يُعبَّر عنه من زاوية الناظر هو فعلٌ أيديولوجي بشكل ما. ويذهب جيرار ماندل ((Gerard Mendel) في تفسيره لرأي مانهايم، إلى أن الشخص الأيديولوجي متعدد. إذ أن كل إنسان هو في الوقت عينه استيهام وإدراك. إنه حالة مركبة من ثنائيات متعاكسة متباينة في آن: لاعقلانيةٌ وعقلانية، لاوعيٌ ووعي. حياةٌ على أرضية من الموت، ذاتيةٌ جذرية وضرورةٌ موضوعية، حبٌّ للذات وارتماء في أحضان الموضوع، فطريةٌ واكتساب، مصيرٌ وتشكلُّ، وكذلك استلابٌ وحرية. (جورج هـ. تيلور ـ من المقدمة التي وضعها لكتاب بول ريكور ـ محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا ـ ترجمة: فلاح رحيم ـ دار الكتاب الجديد المتحدة ـ 2002 ـ ص31).

الأيديولوجيا إذًا، متعددة كأحوال فاعليها. لهذا انْبَتَتْ فلسفتُها على البساطة والتركيب، وعلى التناقض والتكامل في اللحظة عينها. هي متعالية لكنها شديدة المرونة عندما تهبط إلى الطبقات الدنيا في عالم الناس. مع هذا لا يمكن الحكم عليها من دون أن تُرى صورتها في الحدث، أو في ما يُتوخى منها من تسيُّد وغلبة. ربما هذا هو الشيءالذي حمل كثيرين إلى نفي الشائعة القائلة بوجود مفهوم بسيط بالإطلاق. ومدَّعى هؤلاء، أن كل مفهوم يملك مكوِّنات معينة ويكون محدَّدًا بها.

زئبقيـة المتكلم الأيديولوجي

لغة الأيديولوجي حين يتكلَّم، زئبقية فلا تُضبط بيسر، ولا يقدر أحدٌ وقفها على لون واحد. فإنها مزيج من ألوان وحروف وكلمات تترجم أحوال المتحيِّز، وتعكس طبائعه ورغباته. وهي من التكثيف واللّبس حتى لا تكاد ترى إلا في تلك المنطقة الرمادية التي يبقى ظهور كل لون فيها رهنًا بحضورٍ موازٍ للون آخر. عندما توصف الأيديولوجيا بطريقة فضفاضة ومسطّحة فسيكون ذلك ناتج خطأ اقترفه الآخر. لهذا غالبًا ما يمتنع أهل الأيديولوجيا عن وصف أنفسهم بأنهم أيديولوجيون. والسبب أن المصطلح موجّه على الدوام ضد الغير. فلا أثر له إلا في ساحة الشخص الخصم أو في رحاب الفكرة الخصم. بالنسبة إلى ضمير المتكلم هي وعيٌ وإدراك ويقين بالغ الصفاء والنُبل، وهي في ضمير المخاطب، وعيٌ زائف ومضلِّل ولا غاية لها سوى الإلغاء والإيذاء. إن لغة الأيديولوجي متحركة، متوترة، سيّالة. لغة سهلة على الفهم وممتنعة عنه في الوقت نفسه. فلسوف يحتاج الناظر فيها إلى مشقة التفكيك، والتحليل، والفطنة، والدراية، لكي تتميّز مواطن الصدق والكذب، والكشف والحجب، والخفاء والظهور. لكن حين يعرب الأيديولوجي عن أمرٍ ما، لا يعود قولُه فيه مجرد كلمات مرسلة إلى النظراء والخصوم. فالقولُ المرَسلُ من طرف المتحيِّز الأيديولوجي لا يلبث أن يرتد إليه على شكل قبول وإقبال من جانب المريدين والأتباع. فإذا استجاب هؤلاء إلى تلك الكلمات وتماهوا معها، سَرَتْ في وجدانهم ومنحوها شهادة الولاء والطاعة.

تفترض الطبيعة الرومانسية المركبة لخطاب الفاعل الأيديولوجي أن تحيط مفرداته بضمير المتكلم وضمير المخاطب معًا، حتى يصيرا مزيجًا لضمير واحد. فالكلمات المُرسلةُ صادقةٌ لا ريب فيها بالنسبة لواضع الخطاب. لقد تمثّلها من قبل أن ينطقها؛ ثم تمثَّلها كرَّة أخرى حين عادت إليه مزهوَّة بشهادة الجمهور. ربما لهذا المقصد كان ميشيل فوكو يردِّد عبارات لافتة للروائي صمويل بيكيت، يقول فيها: “يجب أن أقول الكلمات إلى أن تقولني.. إلى أن تعثر عليّ…”.

إنها “استراتيجية التكرار”، التي هي من بديهيات عمل الأيديولوجي. ذاك أنها مركز الجاذبية الذي ينظم خطبته وعمله على السواء. من دون هذه التقنية التكرارية ـ التي تبدو في الظاهر باعثة على الضجر ـ لن تبلغ الخطبة غايتها. ففي التكرار تترسخ الكلماتُ في الأذهان، وتتملّك الخطبةُ المشاعر، حتى تُحصَّل الاستجابة. يتسامح الأيديولوجي وهو يواصل شغله التأويلي، مع ما لاحظه الفقيه اللغوي ابن جنِّي من أن “أكثر اللغة مجاز لا حقيقة”. المجاز والحقيقة عنده على نفس الأمر. مجازٌ في مقام الحقيقة، وحقيقةٌ في مقام المجاز. كل ما هو مهم وحقيقي بالنسبة إليه هو في مدى تماهيه مع المَيْلَ العام لسيكولوجية الجماهير. لهذا السبب لا يعبأ الأيديولوجي بأحكام الآخرين على واقعية، أو لا واقعية ما يقول. وهذا بالضبط ما قصده بول ريكور بالاستراتيجية الإيصالية للخطاب الأيديولوجي. وهي استراتيجية تقوم على نشاط مثلث الأضلاع:

الأول: قيادة الجهاز الأيديولوجي، واضع تلك الاستراتيجية.

الثاني: اللغة الموصِلة أو الموجَّهة من أجل أن تكتمل جدلية التخاطب.

الثالث: وهو الحلقة الأخيرة في توليد العملية الإجمالية للخطاب الأيديولوجي. بها تتم الدورة الخطابية بإفهام المرسَل إليه فحوى الرسالة.

* * * * *

ليس لدى الأيديولوجي في استراتيجيته الإقناعية أمرٌ لا متناهٍ إلاّ المصلحة. لكن هذه الأخيرة لا تقوم إلا ضمن هندسة قولية لها شرائطها وأصولها. فلا يستطيع الأيديولوجي أن يرسل خطابه بينما يبقى الوجه الغرائزي اللاَّعقلاني للخطاب ساكنًا في عليائه. فلو بقي على هذه الحال لتبدَّد واستحال سديمًا. فلا مناص إذًا من عقلنة اللاَّعقلاني، وتنزيله إلى الوضع الذي يجعله ساريًا في مشاعر الحشود الغفيرة. عندئذٍ يسهل تعريف كل مفهوم حين يجري إنزاله إلى مواضع الاختبار. وكما يقال فإن غياب التعريف بالشيء، مع ممارسة هذا الشيء، واتخاذه دليلًا، لهو تعريف به أيضًا. فالممارسة هي تعريف بالشيء، وهي برهان وجوده واستمراره وانفتاحه. أما التعريف بالشيء بعد انقضاء ممارسته فهو برهان انقضائِه وانغلاقِه. هذا يعني أن اللاّمتناهي الذي تتحرك الأيديولوجيا في أمدائه يستعصي على التعريف. إذ لا انقضاء فيه ولا انغلاق، بينما المتناهي يقبل التعريف، إذ لا استمرار فيه ولا انفتاح…

الذين مضوا في هذا التحليل سيقودهم ذلك إلى مقاربة مفادها، أن النص دائم الإنتاج لأنه مستحثٌّ بشدة. ودائمُ التخلُّق لأنه في حالة ظهور وبيان. ومستمرٌ في الصيرورة لأنه متحرك. وإلى هذا وذاك، هو قابل لكل زمان ومكان لأن فاعليته متولِّدة من ذاتيته النّصية. ولما كان ذلك كذلك، فإن وضع تعريف له “يلغي الصيرورة فيه، ويثبت إنتاجيته على هيئة نمطية لا يكون فيها للمتغيرات الأسلوبية والقرائية من أثر. كذلك يلغي قابليته التوليدية زمانًا ومكانًا ويعطِّل في النهاية فاعليته النّصية”. (ج ـ تيلور ـ مصدر سبق ذكره).

عندما يمضي الفاعل الأيديولوجي إلى بيان هدفه من خلال الكلمات، فإنه لا ينفصل عن الوقائع التي يسعى ليغشاها بتلك الكلمات. وهو بهذا إنما يقوم بإجراء تمرينات على الربط بين الواقعي المتعيِّن، واللاّواقعي الممتلئ بقابليات التوظيف. هذا يشير إلى أن ثمة علاقة حَثِّية بين الوجهين. كلٌ منهما يستحثّ صاحبه على الحراك ليصيرا معًا مصدرًا لولادات لا نهاية لها. فلو أفلح الفاعل الأيديولوجي في إجراءاته، لدلّ فعلُهُ على حسن التوحيد بين مظهرين يبدوان متغايرين فيما هما يستويان على نشأة واحدة.

* * * * *

هل بالإمكان التسامي على “مقترفات الأيديولوجيا” من دون أن يؤدي ذلك إلى اجتناب سحرها أو الانزياح عن مركز جاذبيتها؟…

يبدو السؤال مستغربًا للوهلة الأولى، إلا أنه يحتل منزلته الاستثنائية في الحثِّ على تفقُّه العلاقة بين الفكر والحدث، وعلى التمييز بين براغماتية المصلحة وأخلاقية الاستهداف. بيد أننا لو خطونا أبعد من ذلك، لألفيناه سؤالًا جديرًا بفهم ما قدَّمته الفلسفة الأولى من تنظيرات. لقد أورث الإغريق خلفاءهم معارف ترتبط بماهية الإنسان واحتياجاته المختلفة: المنطق الذي يعلّم كيف نفكّر، والفلسفة التي تعلِّم كيف نعيش. ويمكن القول إن وَرَثَة الثقافة الإغريقية في الغرب الحديث، وسَّعوا تراثهم وعمّقوه، ولم يفكّروا مطلقًا بالانقلاب عليه. إلا أنهم وقعوا في نسيان الغاية العظمى من تعاليم الميتافيزيقا. وهي تسامي الإنسان وتعاليه من خلال تطلعه نحو ما لا يُدرك من عالم المُثُل. وهنا ظهرت السلبية الأساسية للحضارة الغربيّة الحديثة، بما هي مادية دنيوية منزوعة الروح. فمع إرهاصات الحداثة على عتبة القرن الثالث عشر أخذت عقيدة “العقل الخالص” تحفر مسارها في تفكير الغرب، لتعلن: إن أفضل ما يُمكن أن يوصف به هذا الإنسان هو أنه حيوان عاقل.

لما وضع أرسطو “كوجيتو المنطق” ربما لم يكن متنبّهًا للوهلة الأولى إلى تلك الجرعة الزائدة من سطوة الأيديولوجيا على دنيا الإنسان. راح يبيِّن أن الإنسان حيوان راغب بالمعرفة، بعدما خلع عليه نعت الحيوانية الناطقة. سوى أنه لم يمضِ إلى المحل الذي منه تُستظهر غريزة الكائن الاجتماعي في مقام تحيُّزها. فالإنسان إلى كونه عاقلًا، هو كائن متحيِّز بفطرته إلى التسليم بيقين ما والإيمان به. وما ذاك إلا لتطمئن نفسه إلى نهايتها المحتومة. من هذا المحل الغائر في الأعماق تنهض الغريزة الأيديولوجية لتجتاح عوالمه كلها. ولأن الإنسان “حيوان كسول” كما طاب للحكمة اليونانية أن تقول، فقد أردفت قولها بتنبيه أهل المدن، “إما أن يختاروا الراحة وإما أن يكونوا أحرارًا”. وما انبرى اليونان ليتقوَّلوا هذا، إلا لفتح نافذة للحكمة، والتهيُّؤ لظهور الحكيم. فالحكيم وحده من يظهر إلى الملأ كراغب بالمعرفة والمتحيِّز إلى الخيريِّة التامة في آن.

الحكيم المتعرِّف في لحظة انهمامه بالكشف عما لا علم له به، لا يرفض اليقين الدنيوي كما تنشده الأيديولوجيا، إلا أنه لا يتخذه قياسًا للأحكام. يرى إلى الولاءات والعصبيات بعين الحكمة.. يستحكيها بعقل بارد.. يتبصَّرها بوصفها ظاهرة، ويتأولُها كنمط تفكير. ومن قبل أن يصدر حكمه، ينصرف إلى مساءلتها والاستفهام عن بواعثها وديناميات عملها. فليست مهمة الفيلسوف ـ بما هو فيلسوف إلا أن يكون في لحظة التعرَّف متساميًا على فتنة المتناقضات. وما ذاك إلا قصد التحرِّي والجمع وتظهير خط التواصل والامتداد في ما بينها. ذلك لا يعني البتة استقلاله السلبي أو حياده. هو ليس  محايدًا بين الحكمة والضلالة. وبوصف كونه حكيمًا، فهو متحيِّز إلى الحكمة بما تفيض على سالكها من خيرية المعايشة. ولأن التعرُّفَ منفسحٌ يسمو فوق التحيُّزات، لا يلتجئ الحكيم إليه من أجل أن يكون محايدًا بين حق وباطل، وإنما ليتحرَّى منازل الحقانية، والبطلان في مجمل التحيزات التي يعبر فضاءاتها.

كان هوسرل، يدعو كل من أراد أن يصير فيلسوفًا إلى الانعطاف ولو مرة واحدة في حياته على ذاته. وفي داخل ذاته يحاول أن يقلب كل المعارف المقبولة، وأن يسعى إلى معاودة بنائها. فالفلسفة بهذا النحو تغدو ـ برأيه ـ مسألة شخصية لا غير. أي أنها معرفته الخاصة التي تسير به نحو ما هو كوني. (هوسرل ـ تأملات ديكارتية ـ دار المعارف ـ القاهرة 1970 ـ ص 28).

* * * * *

تمكث الأيديولوجيا بمحاذاة هذا الفهم، لأنها أكثر المفاهيم التي تنتجها الفلسفة، جمعًا بين البساطة والتركيب. فمن ناحية كونها مفهومًا بسيطًا، ليس للأيديولوجيا مصداق مادي بعينه. فالمفهوم البسيط ينطوي على استعدادات كثيرة لتوليد مصاديق شتى. وأما من ناحية كونه تركيبًا فلأنه يحمل من الصفات والمعاني ما يجعله حاويًا لوقائع وظواهر تبدو حال ظهورها متباينة ومتفاوتة ومتناقضة بصورة مذهلة.

لذلك لا تُدرَكُ ماهية الأيديولوجيا إلا بالتثنية. أي بالمقابلة بين شيئين وأكثر، أو بين شخص وآخر. كذلك تستظهرُ باتحاد الكلمات والأفعال. يحصل هذا إما على شكل تصور في الذهن، ، تنقله الإرادة بشغف حميم إلى وجود بالفعل..وإما على نحو التمثيل لوجودات واقعية تحمل على التفكُّر بأمرها.

ولأن الأيديولوجيا بسيطة لا تُدرَك إلاَّ بالتركيب، فهي عالم صلاتٍ وعلاقات. وإذن، فهي مولود هذا العالم المتناقض والكثيف ولا تقوم إلّا به. أي عبر تفاعل الأجزاء الحية لذلك العالم. يمكن القول إن ثمة شَبَهًا بين الأيديولوجيا والعلاقة. فالعلاقة لا تحدث إلّا بين حدَّين وأكثر. وإن لم توجد الحدود فلا وجود لشيء اسمه علاقة. إن العلاقة ـ على ما تنظر الفلسفة الأولى ـ من أوهن مقولات الفكر بل إنها الأكثر زوالًا وتبدلًا. ومع ذلك فهي موجودة مع كونها غير قائمة بذاتها. بها تظهر الأشياء متحدة من دون أن تختلط، ومتميزة من دون أن تتفكك. وبها تنتظم الأشياء، وتتألف فكرة الكون. إنها تقتضي الوحدة والكثرة في آن. هي واحدة، وكثيرة بحكم خصيصة الأُلفة التي حظيت بها بين البساطة والتركيب. على صعيد الفكر تربط (العلاقة) بين مواضيع فكرية مختلفة وتجمعها في إدراك عقلي واحد، تارة بسببية، وأخرى بتشابه أو تضاد، وثالثة بقرب أو بعد. وعلى صعيد الواقع فإنها تجمع بين أقسام كيان، أو بين كائنات كاملة محافظة عليها في تعددها. وإذ يستحيل تقديم توصيف محدد للعلاقة حيث لا وجود مستقل لها، فهي كالماهية من وجه ما، لا موجودة ولا معدومة إلّا إذا عرض عليها الوجود لتكون به ويكون بها. لذلك سيقول عنها أرسطو، إنها واحدة من المقولات العشر، وهي عَرَضٌ يظهر لدى الكائن بمثابة اتجاه. إنها صوب آخر، تطلُّع، ميلٌ، مرجعٌ، ويقتضي دائمًا لظهوره وجود كائنين متقابلين على الأقل. صاحب العلاقة وقطبها الآخر، ثم الاتصال بينهما. (من الموسوعة الفلسفية ـ معهد الإنماء العربي ـ إشراف: معن زيادة، مصطلح علاقة).

* * * * *

ديالكتيك المعنى والاستعمال

يصعب فهم معنى الأيديولوجيا بمنأى من الطرق التي يأخذ بها الناس لتدبير أحوالهم وقضاء حوائجهم.. كان فيلسوف الألسنية فيتغنشتاين يقول: “لا تسأل عن المعنى، انظر إلى الاستعمال”. وهو في ذلك يسعى إلى انتزاع المعنى من الأشياء عن طريق اختبارها، ومن الأحداث عن طريق وعي شروط حدوثها. هكذا يُنتزعُ معنى الأيديولوجيا، إذ يتبدَّى لنا في أفعالها وفي الاتجاهات المقصودة من هذه الأفعال. من خلال الاختبار تستظهِرُ الكلمات معناها، حيث تغدو في حقل الأفعال والانفعالات كينونة ضاجَّة بالحركة. ففي اللحظة التي تنجز فيها الكلمات مهمتها في الواقع، تروح تخلع رداءها القديم وحروفها المنصرمة. ثم ليقوم أولئك الذين تلقوها سمعًا وطاعة بإلباسها حروفًا جديدة وعبارات جديدة. فالفكرة ما إن تتمأسس حتى تفقد حيويتها، وبعدها لا تعود تناسب الطور الجديد الذي حلَّت فيه.

لا تهتم الأيديولوجيا بالتوصيف. فهي إن فعلت ووصَّفت المشهد فسترى نفسها وضدها في آن. لذا فهي تؤثر اجتناب الرؤية الدائرية للزمان والمكان الذي تعمل فيه، لئلا يلتبس عليها الأمر وتقع في الاضطراب. وإذا حصل ووقعت في مثل هذا الالتباس، فقد تستغرق في سوء الرؤية، فيلتبس الخطاب وتنكفئ قدرة الفاعل الأيديولوجي على ضبط توترها الداخلي، أو صون حياضها من استباحة الخارج.

ـ من طبائع الأيديولوجيا انحصار كلماتها في الواجب. على الدوام تدور خطبتها العصماء مدار الحقَّانية والرجحان. إنها والحقيقة من الرحم إياه. ولذا بدا أهل الأيديولوجيا على ثقة تامّة من حقانية خطبتهم، حتى حين تجري الوقائع على خلاف ما يقرأونه في الواقع. لهذا السبب يصبح التقرير الأيديولوجي أدنى إلى مقرَّرٍ يعادل “لحظة العقلنة” حسب المصطلح الفرويدي. أي عقلنة ما ليس بمعقول، وإدخاله من ثمة في مصلحة الجماعة. من مفارقات الخطبة الأيديولوجية وفي اللحظة التي تستعمل فيها لغة‌ التوكيد على الـ “ما ينبغي أن يكون”، أنها تسعى لفهم الموجود بما هو موجود من أجل أن تصدر أحكامها. وبحكم طبيعتها الجامعة بين حكم القيمة وحكم الواقع، تستخدمُ العقلانيةَ كوسيلة لإصدار الحكم على نحو أفضل. ربما لهذا سيلاحظ بول ريكور أن الأيديولوجيا هي الخطأ  الذي يجعلنا نستبدل الصورة بالواقع، والانعكاس بالأصل”. ولنا هنا أن نزيد: متى كنا في دائرة المصلحة فلن يقع بَصَرُنا على شيء غير قابل للاستثمار. كل ما في خطبة المتحيِّز يؤول إلى تحويل الأشياء عن مواضعها لتصبح بعد هنيهة، حقائق متخيَّلة ترتدي مشروعية التحويل إلى حقائق واقعية.

مثل هذه الممارسة ليست ناتجة بالضرورة من وَهَنٍ مفترض، في تعقيل ثنائية الواجب والواقع، أو من قصور ذاتي في إدراك الخارطة التفصيلية لمجالات الاختبار. العقلاني متضمَّنٌ، غالبًا في “ميكانيكا الممارسة”، لكنه يختفي تحت ضغط الرغبة في إيصال لغة “الما يجب” إلى حقل الغرائز. ينطوي العقلاني انطواءً إلزاميًّا ضمن عمليات التخطيط المدروسة في الممارسة الأيديولوجية، فلا يفارقها البتة. ذلك أنه يتعلق بتلك الممارسة تعلقًا ذاتيًّا بوصفه جزءًا منها، ونسقًا فاعلًا في إنجاز أهدافها. وفي سياق اشتغاله على ترسيخ منظومته الفكرية والثقافية لإبطال حجة الخصم، يُقدِمُ الفاعلُ الأيديولوجي على الأخذ بناصية “المعرفي العقلاني”، تفاديًا لاقتراف حكم مجرد عن البرهان. وذلك ضربٌ من “المواجهة بالحيلة” عن طريق إفحام الخصم تمهيدًا لتحقيق الغلبة عليه. حتى لتبدو الصورة وكأن “المعرفي العقلاني” يسبق الأيديولوجي، ولو أنه على الحقيقة، يذوي فيه. وبهذا الفهم تصير حضوريته أمرًا بديهيًّا في تقنيات التظهير المنشود للخطبة الأيديولوجية. في كل آن يمارس الأيديولوجي لعبته تكون ممارسته معقولة، ومحكومة بمعايير الحساب العقلي وميزان الخطأ والصواب. وعلى ما يتناهى لنا، فإن كل معقول معروف من جانب العاقل، متَّحدٌ به اتحاد الوسيلة بالغاية. ولو صُودِفَ أن حلَّ الفساد في القضية السارية في حقل الاختبار، فذلك لا يعود إلى الانفصال اللاَّمنطقي بين المقدمات والنتائج، وإنما إلى سوء التقدير في طريقة جمع تركيب وتوليف وتوظيف العناصر الموصلة إلى الغاية.

أما حين يكمل الأيديولوجي ولادته، فسيكون “المعرفي العقلاني” قد تحيَّز، واتخذ لنفسه المحل المناسب في تلك الولادة. لقد تحول “المعرفي العقلاني” إلى قابلية خالصة للخدمة. ولذا فلن يعود بمقدوره أن يتحرك إلاَّ كظلٍّ للأيديولوجي. فالعلاقة بين الطرفين، هي علاقة اتصال الجزء بالكل، والتابع بالمتبوع، وكذلك علاقة المحتاج إلى الغنيّ.

صدق الأيديولوجيا وعدم صدقها

قيل ..”ثمة براءة في الكذب هي العلامة على حسن الإيمان بشيء ما”..

لما ذكر نيتشه قوله هذا، لم يشأ على الأرجح، الحكم بالبطلان على مشاغل الأيديولوجيا. لقد أراد ـ كما عادتَهُ ـ الِإشارة إلى كلماتها الغائرة في قاع النفس البشرية. وما شهوده على وجه البراءة في الكذب إلا لبيان المنفسح العجيب الذي يجول الفاعل الأيديولوجي في رحابه. ربما لهذا سيكون التساؤل عن إمكان الحكم بالصدق أو الكذب على الأنشطة الأيديولوجية، شأنًا يتعذر الجزم فيه…

من قبل أن تمارس الأيديولوجيا ظهوراتها لن يكون بوسعنا الحكم عليها إن كانت كاذبة أو صادقة، عقلانية أو غير عقلانية، ذكية أو حمقاء، كاشفة للحقيقة أو حاجبة لها، مزيفة للوعي أو منتجة لوعي واقعي وحقيقي. في العالم الأيديولوجي كل حكم ظهر إلى العلن فإنما يظهر من ثنايا التحيُّزات التي تضج بحيوية الفاعلين. الناس هم الذين يخلعون على الأيديولوجي، والظواهر الأيديولوجية صفات الحسن والقبح، أو الصواب والخطأ، أو العلم والجهل.

ولكي ندنو من بيان الصورة، علينا أن نلاحظ أن الأيديولوجيا تمارس مشاغلها ضمن ثلاثة مدارج هي أشبه بالأوعية المتصلة:

ـ  الوهم، كأمر مستقل عن الخطأ.

ـ الإسقاط، كمكوّن أساس لشعور زائف بالتعالي.

ـ العقلنة، بما هي إعادة ترتيب منطقي للدوافع والمصالح على نحو يظهر وكأنه تبرير عقلاني للأهداف المقصودة.

سنرى في منطقة التحيُّز، ـ والتحيّز السياسي على وجه التعيين ـ كيف يُحكم على الأيديولوجيا بالصدق والكذب تبعًا لفشلها ونجاحها. فعلى قاعدة الفشل والنجاح تصدر الأحكام، بوصفها تقريرًا يخبر عن قضية غادرت بنيتها الذهنيّة لتحل في مختبر التجربة.

ليس بالضرورة حين يتقرر الحكم بالصدق مثلًا على قضية منتصرة، أن تكون نتائجها شرعية. أو أن يكون الفاعل الأيديولوجي في هذه القضية، فاضلًا أو حكيمًا. المسألة هنا تدور مدار منطق القوة وميزان الغلبة. لكن على الأكيد فإن الغالب استطاع في مثل هذه الحال، أن يستجمع مكوِّنات القدرة لديه، ويلبسها الرداء المناسب من الإنشاءات اللفظية. فقد يستطيع الغالب مثلًا  أن يضفي المشروعية على أفعاله عبر توسيع مساحات التكذيب والبهتان ضد المغلوب، بما يجعلها أكثر قابلية للتصديق.

المسألة تتعلق بالسؤال عن كيفية توظيف القدرات باتجاه المصلحة. وبين البداية وبلوغ الغاية يظهر العقل الأيديولوجي ليحدد تلك الاستراتيجية. في هذا يمكن القول: إن معنى الأيديولوجيا سيتخذ سياقًا أكثر عمقًا ضمن فلسفة الأولوليات. وما سيلُ الخُطَب والأفكار والكلمات سوى الهندسة المعرفية الذي سيمضي الفاعل الأيديولوجي على هَدْيها نحو المصلحة. سواء كانت هذه المصلحة آنية أو بعيدة، أو أنها مصلحة عليا يتوقف عليها مصير مجتمع ودولة وأمة.

* * * * *

لو قُيِّض لنا أن نرى إلى الأيديولوجيا كفضاء لسياحة فلسفية لاخترنا لها هذا التعريف: إنها علم بممارسة الأفكار. أو ـ بتوضيح أوسع قليلًا ـ هي العلم بجدلية ارتباط الأفكار المحدِثة للأشياء، بالأشياء المحدِثة للأفكار. أما مجال عملها فيمكث على خط العلاقة الذي يصل الفكرة بالحدث. والحدث بالفكرة إذ يعيد صنعها في نشأة أخرى. خط العلاقة ذاك، يشتدُّ أو يرتخي، ينقبض أو ينبسط، تبعًا لحركة داخلية جوهرية تتفاعل فيها الإرادة المنتجة للفكرة بإرادة الموضوع الذي تقصده تلك الفكرة لتغيّره. فيتحصَّل من كل ذلك خروج الظاهرة الأيديولوجية إلى الوجود.

على سبيل الختم:

الأيديولوجيا كفلسفة للمتحيّز هي فلسفة الجميع. ليس من أحد إلا هو وارِدُها بجرعة ما. كلٌّ منا ينطوي على أيديولوجي وهو يختبر دنياه الضاجَّة بالاحتدام. فلا مناص للناس في دنياهم من أيديولوجية تعصمهم التيه، كما لا بد لهم في كل حين من أيديولوجي برٍّ أو فاجر.

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الأيديولوجيا

المقالات المرتبطة

السيد أحمد البدوي بين الولاية الصوفية والدعوة الشيعية

تقديم نكتب عن شخصية صوفية مشهورة هو السيد أحمد البدوي، ولكنها مثيرة للجدل منذ حياته وحتى اليوم، من أحبه جعله

دور الجامعات في التربية على الحوار والعيش المشترك

خلقنا الله سبحانه وتعالى مختلفين وأراد لنا أن نظل كذلك، وبث هذا الاختلاف في جميع مخلوقاته

البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)

لقد حمل بين ثنايا روحه العميقة بعضًا من محمّد (ص) وعلي (ع)، ذاب بهما حتّى بانت صرافة روحه وسماحتها، وتشبّهت بهما؛ فالشيء لا ينسجم إلّا بما يسانخه في الجوهر والتركيب.
فما هو معنى البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)؟ وكيف جسّدها في حياته العمليّة؟

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<