الزهراء (ع) أنموذجٌ حيّ للكمال الإنساني

الزهراء (ع) أنموذجٌ حيّ للكمال الإنساني

تحفل حياة السيّدة الزهراء (ع) بقيم كثيرة كانت في صلب حياتها المباركة؛ قيم عظيمة لإنسانة من أعظم مخلوقات الله، إنّها سيّدة نساء العالمين، وهذا اللقب لم يكن كالألقاب التي نحصل عليها في حياتنا العاديّة، بل هو لقب تميزّت به (ع) لميزات وخصائص معنويّة وجسديّة اختصّها بها الباري عزّ وجلّ، فنالت عن جدارة هذا اللقب.

وظهرت تجلّيات هذه القيم في حياة السيّدة الزهراء (ع) على الصعد كافّة، ابنة وزوجة وأمّ، أو عالمة، وعابدة، كذلك على صعيد تعاملها مع الجيران وغير ذلك.

فهي ابنة تربطها بوالدها علاقة تراحميّة كلّها حبّ وودّ لم نسمع مثلها من قبل، وقد أحاطت والدها بعاطفة كبيرة لذا كنّيت بأمّ أبيها، لأنّها كانت تغدق على والدها حنانها كلّه، وكانت تزيح عنه همومه التي كان يعاني منها من أذى قومه، وتروّح عن نفسه، وكان الرسول يحبّها حبًّا جمًّا قلّ نظيره في التاريخ خاصّة أنّها (ع) فقدت أمّها وهي بعمر صغير، فوجدت في والدها ذلك الحضن الدافئ والملجأ الآمن وسلوتها في الحياة فعوّضها (ص) عن هذا الفقد.

وروي عن مجاهد قال: خرج النبي (ص)، وهو آخذ بيد فاطمة (ع) فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله[1].

أمّا عن حياتها كزوجة، كانت نعم الزوجة لزوجها أمير المؤمنين علي (ع)،  حيث عاشا في بيت تغمره السعادة والألفة والوئام والحبّ والاحترام، حيث وصف عليّ عليه السلام حياتهما معًا قائلًا: “فوالله ما أغضبتُها ولا أكرهتُها على أمرٍ حتّى قبضها الله عزّ وجلّ، ولا أغْضَبَتْني ولا عَصَتْ لي أمرًا. لقد كنت أنْظُر إليها فتنكشِف عنّي الهموم والأحزان”[2]. وكانا يتقاسمان العمل، فلها ما هو داخل عتبة البيت وله ما هو خارجها. عن أبي جعفر (ع) قال: إنّ فاطمة عليها السلام ضمنت لعلي عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب: نقل الحطب، وأن يجئ بالطعام[3].

ولنأتي إلى حياتها كأمّ، ونظرًا لأنّ الأمومة هي في فطرة كلّ امرأة، تختزن بداخلها كلّ مشاعر الحنان والمحبة لأولادها، لذا نجد السيّدة الزهراء (ع) قد جسّدت كلّ معاني الأمومة مع أولادها، وقد وهبها الله تعالى أن تكون أمّ الأوصياء، فاهتمّت (ع) بتربيتهم أيّ اهتمام، كانت لهم المعلّمة، والمربيّة، وأنشأتهم على قيم الدين الحنيف، حيث قدّمت لأولادها ولكلّ البشرية أنموذجًا يحتذى به من خلال أسلوب التربية الذي اعتمدته (ع)، والقائم على القيم الدينيّة والمفاهيم الأخلاقيّة، وغرست في نفوس أولادها فضائل الخير والكرم، وكانت نعم الأمّ حيث أغدقت على أولادها أجواء الفرح والسرور تلاعبهم تمازحهم، حتىّ أنّها جعلت من هذا البيت المتواضع بيتًا عامرًا بالسعادة والمرح.

أمّا حياتها العبادية، فقد كانت عابدة زاهدة، قال الإمام الحسن (ع): مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْبَدَ مِنْ فَاطِمَةَ عليها السلام كَانَتْ تَقُومُ حَتَّى تَتَوَرَّمَ‏ قَدَمَاهَا[4]. وهذا الحديث يدلّ على أنّ حياة السيّدة الزهراء رغم كلّ انشغالاتها بشؤون البيت وتربية أولادها كانت تتحيّن الفرص لتلجأ إلى الباري، وتتعبّد إليه في محرابها، قائمة ليلها، قارئة للقرآن والدعاء، فكان كلّ نفس تتنفّسه هو تجلّ لهذه العبادة الحقّة من هذا الكائن النورانيّ الزاهر الذي أضاء على حياة محبّيها بأنوار من ذلك الفيض المقدّس لنتعلّم، ونقتدي منه كيف نعبد الله، وكيف نتقرّب من الله، وكيف تكون العلاقة مع الله، فعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنّ ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيمانًا ويقينًا إلى مُشاشها، ففرغت لطاعة الله[5].

وعن عبادتها أيضًا يقول الرسول الأكرم: “وأمّا ابنتي فاطمة، فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسيّة، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله زهّر نورها لملائكة السماء كما يزهّر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي فاطمة سيّدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها، من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار”[6].

وعن حياتها وتعاملها مع المجتمع المحيط بها، وعلاقتها بجيرانها، فقد خصّصت لهم (ع) حيّزًا من عبادتها، وتميّزت (ع) بدعائها الدائم للآخرين ولجيرانها، وكانت تهتمّ بهذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، حتّى أنّها كانت تقدّم الآخرين على أولادها ونفسها، ففي رواية عن الحسن عليه السلام أنّه قال: رأيت أمّي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمِّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أمّاه! لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بُنيَّ، الجار ثمّ الدار.[7] والسيّدة الزهراء عليها السلام تعطينا هنا الدروس والعبر، بأنّه على الإنسان أن يدعو لغيره قبل نفسه، وأن يؤثر الآخرين على نفسه، لأنّ الله سبحانه وتعالى مطّلع على خبايا أنفسنا فعندما يرى صدق دعائنا للآخرين، تجاب دعوتنا بإذنه تعالى.

ونظرًا لأهميّة العلم، أولى الإسلام أهميّة كبرى للتعلم، حتّى بات العلم فريضة على كلّ مؤمن ومؤمنة، فعن الرسول (ص): اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد[8]. ولأنّ الزهراء (ع) نشأت في هذه البيئة المسلمة التي تولي العلم هذه الأهميّة فقد حفلت حياتها العلميّة بمجالس العلم والتعلّم، وممّا جاء عن الزهراء (ع) في فضل العلم أنّه قد حضرت امرأة عند فاطمة الصديقة (عليها السلام) فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك فأجابتها عن ذلك، ثم ثنّت فأجابت، ثم ثلّثت فأجابت إلى عشر مرات، ثمّ خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله، قالت فاطمة (ع) هاتي فاسألي عمّا بدا لك، أرأيت من ذا الذي يصعد يومًا إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مئة ألف دينار أيثقل عليه ذلك. فقالت: لا فقالت: اكتريت أنا لكلّ مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤًا فأحرى إذًا أن لا يثقل عليّ لأنّي سمعت أبي (ص) يقول: إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع من الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله، إلى أن قالت فاطمة (ع): يا أمة الله إنّ سلكًا من تلك الخلع لأفضل ممّا طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل ما طلعت عليه الشمس فإنّه مشوب بالتنغيص والكدر .[9]

فكانت (ع) العالمة التي كبرت في حجر أبيها (ص)، ونهلت من علمه الربّاني، فكان معلّمها ومربّيها، أخذت منه الكثير، وكانت (ع) تعرف قدر العلم وقيمته، فحفظت عن أبيها الأحاديث والروايات، وقامت بدورها التربويّ اتجاه نساء المسلمين فكانت المعلّمة لهم، ونقلت لهم ما حفظته وتعلّمته من والدها، وكانت مركزًا لمراجعتهنّ في المسائل التي كانت تعترض لهنّ. فنشرت العلم عن أبيها بين نساء قومها لكي لا تبقى امرأة من دون أن تنهل من تلك العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.

إنّها السيّدة الزهراء (ع) القدوة والنموذج الحيّ والمتكامل لكلّ إنسان يريد أن يرتقي في حياته الإنسانيّة نحو مدارج الكمال الربّاني، لأنّها (ع) كانت منظومة متكاملة من القيم التربويّة والأخلاقيّة والنفسيّة والمعنويّة والروحيّة، وما ذكرناه ليس إلّا نزر قليل من تلك القيم التي تحفل بها حياة سيّدتنا الزهراء (ع)، ولذا، على كلّ إنسان رجل أو امرأة أن يقتدي بهذا النموذج الربّاني النبويّ؛ لكي يؤسّس في حياته قاعدة متينة مرتكزة على هذه المنظومة من القيم التي إن تحقّقت في حياته نال السعادة في الدارين، وحقّق الهدف من كونه إنسانًا يسعى إلى بلوغ الأهداف السامية الكاملة التي أرادها الله عزّ وجل.

 

[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 43، الصفحة 54.

[2]  الشيخ عباّس القمّي، بيت الأحزان، الصفحتان 53 و54.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنور، الجزء 14، الصفحة 197.

 [4]  العلامة المجلسي، بحار الأنور، الجزء 43، الصفحة 76.

[5] المصدر نفسه، الجزء 43، الصفحة 46.

[6]  الشيخ الصدوق، الآمالي، الصفحتان 175 و176.

[7]  الشيخ الصدوق، علل الشرائع، الجزء 1، الصفحة 182.

[8] محمد الريشهري، موسوعة العقائد الإسلاميّة، الجزء 2، الصفحة 220.

[9] الإمام زين العابدين (ع)، شرح رسالة الحقوق، الصفحتان 496 و497.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الكمال الإنسانيفاطمة الزهراءالسيدة الزهراء

المقالات المرتبطة

الأنثروبولوجيا علم الإنسان المنظور إليه كحقل اختبار

لو كان ثمة علمٌ يتأبَّى على الانحصار في كهفه الخاص، ثم يمضي لاستباحة حقول مجاورِيِه من العلوم الإنسانيّة، فتلك هي الأنثروبولوجيا. علّة الأمر، أنّ هذه الأخيرة، شكَّلت واحدة من أكثر دروب العلم

من الأسرة نبدأ

قصة شهر رمضان في القرآن متعدِّدةُ الآفاق والفصول، ويصحُّ أن نقول بأنّ (المناسبة)، أو (الموسم)، أو (الفصل) الرمضانيّ هو مدرسةُ الزمن الإسلامي المكثَّف، وهو وقت الانعطاف والتغيير،

الموت كتجلٍّ للمقدّس: في تحديد ماهية المقدَّس في الإسلام

على هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك وعند ذلك تميّز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلّوا فيها، وهو الخضوع العبوديّ والامتثال كما حكاه الله عنهم.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<