by الدكتور أحمد ماجد | يناير 31, 2022 1:09 م
يعتبر الدكتور علي زيعور الرائد في مجال النفسانيات، فهو من الأوائل الّذين أدخلوا هذا العلم إلى العالم العربيّ، ويمكن اعتباره الثاني في هذا المجال، ولكن ما يمتاز به هو محاولته مقاربة الفكر والفلسفة والاجتماع، ولنقل العلوم الإنسانية من وجهة نظر نفسية، وهو لم يكن مقلّدًا ومطبقًا للنظرة الغربية على المجتمعات العربية – الإسلامية، إنّما عمل على تأسيس مدرسةٍ عربيةٍ راهنةٍ في علم الاجتماع والإناسة؛ كما في التنمويات والتربويات؛ وفي الأنا والأنتَ، والنَّحناويةِ مع الأنْتُمِيّة داخل المجال النفسي الاجتماعي التاريخي للشخصية الواقعية واللاوعي في الذات العربية، حاول أن يضمّ إليها مجموعة من الدكاترة في الجامعة اللبنانية، هذه المدرسة التي لم تتوسع، ولكنّها أشارت إلى ضرورة إعادة تأصيل العلوم تلبية لاحتياجات الذات. على كلّ حال يبقى علي زيعور وبمعزل عن المدرسة، التي أرادها كهدية من الجامعة اللبنانية للجامعات العربية، والتي طمح من خلالها أن يبني تيارًا يشتغل على التراث من جهة، ويعمل على معالجة اللاسوي والمنجرح فيها، لم تعمّر كثيرًا، إلا أنّ التراث الذي تركته يبقى يشير إليها، وفي هذا المبحث سنلتقي مع عينة من ما أنتجته من خلال استعراض مؤلفات مركزية للدكتور علي زيعور، وكيفية توزعها على الفروع المعرفية التي اشتغل عليها، والتي جمع فيها بين المنهج النقدي في الفكر، والتحليل النفسيّ:
القسم الأول: مؤلفات علي زيعور
تتوزع كتب علي زيعور على محاور متعددة وهي وإن توحدت بالهدف، ولكنّها تشير إلى طبيعة المشروع الشمولية، التي لا تكتفي بجانب واحد من الموضوع لتبني عليه رؤيتها، إنّما تذهب باتجاهات متعددة، تبتدئ من الفرد وهواجسه وآلامه وأحلامه، وتنتقل إلى الجمعيّ بكلّ تمثلاته، حتى تستطيع أن تبني تصورها، وقد قمنا بتوزيع هذه المؤلفات إلى فروع متعددة:
أولًا: المدرسة العربية في علم النفس والصحة النفسية
– مذاهب علم النفس والفلسفات النفسية[1][1]: يمدّ هذا الكتاب القارئ بمعلومات عن مسار علم النفس ومذاهبه أو فلسفاته ومناهجه.
– حقول علم النفس (بالاشتراك مع مريم سليم)[2][2]: ويتطرق فيه الباحثان إلى علم نفس النمو[3]، والعادات والتقاليد[4]، وعلم نفس المراهق[5]، وعلم النفس العام[6]، وعلم نفس الحيوان[7].
– مناهج علم النفس (مترجم، بالاشتراك مع الدكتور علي مقلد)[3][8]: الكتاب ترجمة لكتاب موريس روكلان، وهو يستعرض مناهج علم النفس.
– علم النفس في ميادينه وطرائقه[4][9]: يناقش هذا الكتاب تاريخ علم النفس، ويبدأ بالحديث عن علم النفس التجريبي، ومنشأ المسائل والمناهج والرواد والتأثيرات اللاحقة والتطور الحدث، وعلم النفس الحيواني وتطور أفكاره ومناهجه، وعلم النفس الفارقي وأصول دراسة الفروقات، والنظريات المتعلقة بالفروقات، وعلم النفس المرضي والمنهج العيادي، وهنا يحدثنا عن ت.ريبو وعن جانيه وج.دوما، وعن الإيحاء ونزعة التنويم والتحليل النفساني. وكذلك يتطرق للحديث عن علم نفس الطفل، وخصائصه العامة ومنهجه وبعض النظريات، ثم ينتقل لعلم النفس الاجتماعي ومبادئه وأعماله التجريبية. وفي القسم الثاني من الكتاب يعطينا الرؤية والمنتوج في المدرسة النفسانية العربية، ويبدأ بالحديث عن المناهج في علم النفس، والمدرسة العربية في هذا المجال، وتاريخها وتطورها ومشكلات المصطلح النفساني، وغير ذلك من التفاصيل والفوارق التي يسردها علينا المؤلف، بين المدرستين.
– مدخل إلى التحليل النفسي والصحة العقلية[5][10]: يتناول الكتاب الخصائص الانفعالية والعقلية، وقام فيه بتقسيم الجهاز النفسي في الشخصية والحضارة والنحن، وأيضًا على توصيف مراكمات السلف في العلاج النفسي، ومعاملة المريض النفسي والمجنون والصحة النفسية عمومًا… بعدها يطرح الدكتور زيعور الأبعاد النفسية للطعام كرمز لإرضاء الأم أو التمرد عليها، وفيه يعرض المؤلف للاختبارات التالية: 1- رائز استكشاف الترتر، و 2- هل أنت مسرف في القلق، و 3- هل أنت مصاب بعقدة نقص، و 4- الثقة بالنفس، و- هل أنت صارم مع نفسك، و 6- اختبر اتجاهاتك، و 7- رائز للوالدين، و 8- اختبر حبك للآخرين، و 9- هل أنت إداري جيد، و10- هل تجري وراء السراب، و11- اختبر صحتك، و 12- هل أنت حسّاس، و 13- امتحن سيطرتك على نفسك…
ثانيًا: المدرسة العربية في الفلسفة، داخل مشروع “الفلسفة في العالم والتاريخ”.
– الفلسفة في الهند – قطاعاتها الهندوسية والإسلامية والمعاصرة[6][11]: يستعرض المؤلف في البداية الفلسفات الهندية الهندوسية وتياراتها، ثم الفلسفة الإسلامية في الهند، وتواصلها مع رموز النهضة في العالم العربي… وقد خصّص القسم الثالث للفلسفة الإسلامية في الهند، وفيه قراءة لبعض نماذجها (أحمد خان، وأمير علي، ومحمد إقبال)… وجمع زيعور بين الأثر والتأثير بين الفكرين العربي الإسلامي والفكر الهندي. والباحث لم يتعرض في هذا المجال للفكر الهندي الحديث؛ أو لبعض منه إلَّا بسرعة. كذلك هو ترك جانبًا موضوعات كثيرة متعلقة بالأدب الصوفي الإسلامي في الهند، وبالفكر الأوروبي، وبالفكر الإسماعيلي، ومما أسقطه في هذا الكتاب، تأثر الفكر العربي المعاصر بالتصوف الهندي أو ببعض النظريات الهندية الرئيسية مثل: (التقمّص، والخلاص، والصفاء الداخلي للإنسان)، النظرة للألوهية، المحبة (البهاكتي)، التأمّل.
– تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطية[7][12]: تناول الكتاب مرحلةً هامَّة من تاريخ الفلسفة، ألا وهي الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وقد استهلَّ الكاتبُ كتابَهُ بمقدِّمةٍ أجلى فيها المراحل التي مرَّت بها الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، والتي عُرِفَتْ – آنذاك – باسم “الفلسفة المدرسية”. وقد قَسَّم الكتاب إلى أبوابٍ وفصول عرضت الملامح التي تألَّفَت منها تلك المرحلة الجذرية من تاريخ الفلسفة؛ فتناول في الباب الأول الأعلام الفلسفية الرائدة والمُمَيِّزَةِ لتلك الفترة، وتطرَّق في الباب الثاني إلى العصر الممتد من النهضة التي بعثها شارلمان في الربع الأخير من القرن الثامن إلى نهاية القرن الثاني عشر، وما اتَّسم به هذا العصر من ازدهار للحركة العلمية. ثم انتقل الكتاب بعد ذلك للحديث عن انفصال المدارس عن السلطة الأُسقفية، والثورة على المعاني المجردة والنزوع إلى الواقع التجريبي.
– فلسفة الحضارة ومعينة المجتمع والعلائقية[8][13]: ويعالج موضوعة فلسفة الحضارة.
– قطاع الفلسفة الراهن في الذات العربية[9][14]: وهو قراءة للتيارات الفلسفية العربية المعاصرة، يبتدئ مع الطهطاوي في القرن التاسع عشر الميلادي، بعد ذلك يتحدث عن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومصطفى عبد الرازق، وإبراهيم مدكور، وعلي سامي النشار، لينتقل إلى الحديث عن الشخصيات الفلسفية المركزية في الفلسفة العربية المعاصرة، فيقوّم تجربة زكي نجيب محمود وعثمان أمين وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وإن كانت إطلالاته على الشخصيات الثلاث الأخيرة سريعة.
– الفلسفة في أوروبا الوسيطية وعصر النهضة والإصلاح[10][15]: ويعتبر الدكتور زيعور أنّ الدراسات للفلسفة الوسيطة يجب أن لا تؤخذ عندنا على أنها نتاج الغرب اللاتيني وحده؛ فقد أسهم الشرق المسيحي، والعالم العربي الإسلامي في حقب من تاريخه العريق، في العطاء الفكري المرتبط باللاهوت، ما يعني أن الاهتمام بالآباء الشرقيين، وبالعرب المسيحيين، اهتمام يفرض نفسه، وفعل حضاري، وفهم يُغني ويوسع نظرتنا لذاتنا وتاريخنا. ثم إنَّه يقدِّم مقاربة إلى تيارات هذه الفلسفة في عصرَيْ النهضة والإصلاح.
الفلسفة المحضة، والفلسفات النفسية، والطبيعية[11][16]: نجد أنه يقدِّم توصيفًا لواقع الفلسفة، وتناصّاتها مع الآخر عبر مقاربة نفسية حاضرة في التصنيف، في كتابٍ يتصف بالموسوعية، ويشتمل على تنوعات المرجعيات: الحاضر أو المسكوت عنها، سواء كانت مركزًا أم هامشًا أم كانت وسيطة أو حديثة أو معاصرة؛ فهو يقدِّمها باستعراضٍ موسوعيٍّ شامل توازي المدارس الفلسفيَّة العالمية، ويتغذّى من حقول علم النفس والتحليل النفسي. هنا تبرز متكافئة قطبَيْة: (الفلسفي، والنفسي).
ثالثًا: التحليل النفسي الإناسي الألسني للذات العربية، المدرسة العربية في التحليل النفسي
– التحليل النفسي للذات العربية – أنماطها السلوكية والأسطورية[12][17]: يتطرَّق في هذا البحث إلى تصنيف الاختلاف بين الفلسفة العربية ـــ الإسلامية، وتياراتها عن اتجاهات علم النفس المعاصرة، حيث يطبق التحليل النفسي في مقاربته للفلسفة، وعلاقتها بذاتها ومجتمعها، وعلاقتها بالآخر. وعمل زيعور على دراسة عدم التوازن بين الذات العربية وحقلها، أو الخلل في صحتها الانفعالية الذي يتمثل في عدم الشعور بالرضا عن الذات بذاتها وبمجتمعها، وعلاقتها بالحضارة العالمية، وهذا ما يجعل الفرد يعيش فصامًا ولا يشعر بالانتماء ولا يصل إلى مراداته، وهذا ما يتطلب صوغ نظرة جديدة للعالم تحرر طاقاته الإبداعية من أجل إعادة بناء الصحة الانفعالية في الرد، والاستقرار المعقلن في المجتمع.
– الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم -القطاع اللاواعي في الذات العربية[13][18]: يظهر الكتاب الاهتمام بما هو كامن ومحتمل أو بالوعي غير المتحقق، وبالأماني والإسقاطات للأنا الصوفية. قرأ من خلاله زيعور الكرامة الصوفية عبر جلسات تحليلية عديدة رأت الرمز بعدد حقيقته، والواقع النفسي يؤثر كالواقع العيني والحسيات والأسباب مخبأة وراء ما يقدّمه الصوفيّ على أنه فوق سببيه وغير خاضع للحتمية. والمخيلة منطلقة بأجنحة قديرة… الكرامة ردود، واستجابات لفظية أو غير مباشرة، وحلم يقظوي، وحلم ليلي، وتشبيه ومجاز، وعطاء لا واع، وحكاية واستعارة، وفعل لا إرادي، ومن هنا تبدو الكرامة ذات وجهين في رأس واحد، وحقيقة ذات مظهرين أو ثوبين، ولغة خاصة وعامة أو عميقة وسطحية معًا. يحاول تبيان الجانب النفسي من خلال منظور تجريبي يريد من خلاله أن يخضع هذا المفهوم إلى التفسير الذي يجرِّده من كل مدّعياته الروحية، وإرجاعه إلى فعالية بشرية تتسم بطابعها البشري، وهو بذلك يجرِّد الكرامة من كل ما هو مفارق وسحري، ويعيدها إلى طابعها الواقعي. وهذا التحليل النفسي سوف يقاربه مقاربة تفسيرية نقف عند ما يفكر به صاحب النص، عبر توضيح ما هو ظاهر أو إظهار ما هو خفيّ، وفك ألغاز ما هو غامض، وتبسيط ما هو معقَّد، وتوحيد ما هو مشتَّت وتفصيل ما هو مجمل؛ فالتفسير هو بالنتيجة تقديم ما يقوله النص؛ وصولًا إلى مرحلتَيْ الشرح، والتأويل.
– الدراسة النفسية الاجتماعية بالعينة للذات العربية من مونوغرافيا قرية إلى التنمية الوطنية[14][19]: الكتاب هو دراسة للذات العربية على ضوء تحليلات نفسية، واجتماعية؛ وذلك بوساطة الوصافة الشاملة والميدانية لقرية محددة.
– العقلية الصوفية ونفسانية التصوف نحو الاتزانية إزاء الباطنية والأوليائية في الذات العربية[15][20]: يستكمل الدكتور علي زيعور في هذا الكتاب تحليله للشخصية الصوفية.
– قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية – المستعلي والأكبري في التراث والتحليل النفسي[16][21]: يقدم من خلاله زيعور قراءة للموروث الذي يتمركز حول المقدس، وتطرق إلى موضوع مركزيّ هو البطولة أو البطل في المخيال العربي في الدين، والأسطورة، والأدب الشعبي والتصوُّف، وانطلاقًا من ذلك، عالج علم البطولة أو قطاع الأكبرية، والبطولة في القيم وشبكة المعايير. إلى جانب دراسة كل من (البطل من حيث البنى والوظائف، ثم تطرق للرئيس العصابي، وعلاج ثلاثة أبعاد في أولها الرئيس الكرامتي ونمط العلائق الذوباتية؛ وثانيها الرئيس العظامي والنكوص إلى الأواليات الطفولية في التكيُّف، والتكييف. أمَّا المفهوم الثالث والأخير فقد جاء بعنوان اللاوعي والبنية اللغوية المؤسسة).
– صياغات شعبية حول المعرفة والخصوبة والقدر- المهاد الإناسي والتحتيات العلائقية في الذات العربية[17][22]: يعالج الموروث الشعبي باعتباره يمثل الوعي الجماعي، وطريق اكتشاف اللاوعي في الفرد وفي الأمة، وعند العمل عليها ودراسة العلائق والمعارف بينها. يستطيع الباحث أن يصل إلى القابع بالذات والمكدوس من المعارف، والجماليات، والعلوم. وهدف المؤلف من وراء عمله عقلنة الموروث، لتسطع أنوار مناهج النظر النفس اجتماعي، ومناهج المقارنة والموضوعاتية. إذ لم تمت داخل الذاكرة الجماعية الحدوثة أو الندّابية، أو المثل الشعبي، وهي ما تزال تحيا، وتوجِّه وإن بدرجات مختلفة البعد عن الوعي، والوضوح، والعقل.
– التحليل النفسي للخرافة، والمتخيَّل والرمزي[18][23]: يركِّز الكتاب على البعد الرمزي، والمباني النفسية التي تتخذ منه وسائل للتعبير، فهو يبحث فيها عبر منهج القائم على حفريات في اللاوعي الجمعي، وهو يعمل على تحليل وتفكيك السرديات الشعبية، وما تحتويه من متخيل ورمز، ويجمع بين لغة الخرافة ولغة المرض النفسي، على الرغم من الاختلاف والتباين بين الأولى (ذات طابع جمعي)، والثانية (فردية نكوصية) إلَّا أنه يتعامل معها وكأنها تعبير عن العقل الجمعي، إذ بنظره: لغة الخرافة كالحال في الحلم، والمرض العقلي لغة تعود إلى الإنسان الكهوفي أو بداية النوع البشري وإلى عالم ما قبل التاريخ وما قبل اللغة. إنها تكشف لنا كيف كان التفكير، والإنسان في عمره القبتاريخي[19][24] والقبلغوي[20][25]. في مسعاه إلى دراسة تطور الوعي العربي من خلال الجمع بين اللغة والعقل، فهو في مشروعه هذا يؤكِّد على أنَّ المدرسة العربية في التحليل النفسي إنَّما هي مسعى الإنسان إلى معرفة الوجود والظواهر الطبيعية، والغامض كما الملتبس والمجهول، وتكشف الخرافة والأسطورة والحكاية الشعبية عن تأسّسها على أواليات دفاعية، وعلى عالم اللاعقل وغير العقل ومجافي العقل؛ فهي بإيجاز تغطية للعجز البشري، وللقصور المعرفي.
– التربية علم نفس الولد في الذات العربية[21][26]: عالج زيعور مسألة راهنة في حياة الناس ومعاشِهم، وسعى إلى تحديد ما يحتاجون إليه من تمثُّلٍ للقيم التي تُعَمِّق التعايشَ وتحقِّقُ السلوكَ القويمَ في علاقةِ الإنسان بربِّهِ وعلاقتِهِ بأخيهِ الإنسان الآخرِ، وعمل على أن يكون أمينًا للمنهج النفسيّ، وهي مميزة وحاضرة في عمله من حيث اللغة والممارسة العلاجية، التي أتت غير منفصلة عن تجربته في الحياة، والمجتمع، وعن تفاعل الوضع العام مع الخبرات الشخصية ومطامح الفرد وتطور قيمه.
– الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة والتعاملية في الذات العربية[22][27]: يرى علي زيعور في كتابه هذا أن: تشكيل الحكمة العملية هي البعد الاجتماعي الأغنى في الذات العربية، إذ عملت تلك الحكمة على تنظيم الاندماج الثقافي الاجتماعي وفق المعايير المثالية، وعلى إخضاع النشاط والعلائق للخير، أو على ربط الفعل والرغبة بالقيمة. لذا، فإن الحكمة العملية، التي تنال أيضًا اسم التدبير أو السياسة بمعنيَيْها القديم والشمَّال، ذات مدى شديد الاتِّساع، إذ تشمل: السلوكات، والمؤسسات، والنظم والعلائق في الفرد، والعائلة، والحلقات الاجتماعية والدولة، وهي نواة الباحث إلى التحليل النفسي الإناسي للذات العربية، حيث تغلب الاتجاه الثقافي الاجتماعي على ما هو بيولوجي، فقد توجه التحليل إلى الوعي، وإلى العقل، وإلى الأنا الاجتماعي، وذلك من دون إغفال، ما هو موجَّه أيضًا إلى الـ “هو”، وإلى الهواجس والمكبوتات واللاوعي والأواليات غير المباشرة…
– اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظي في الذات العربية، نحو إعادة التعضية للسيميائي واللامتمايز والظلّي في المجتمع والشخصية والفكر[23][28]: يضم هذا الكتاب دراسة في مجال وعيْنَة الظلِّي والهاجع، اللاّوعي والقسْري، الرمزي والمخيول، ثم في مجال المعرفة المتكاملة، توخّيًا للانتقال إلى إرادة النضج الانفعالي في الفعل والرؤية والقيمة. هنا يكون نافعًا، وسديدًا، اجتياف تقسيمات الفعل المعهودة، ودخلنتها إذ تكون مقاماتٍ للجهاز النفسي في الشخصية: مقام المحظَّر، الحرام، المباح (حيث الوعي، والمشروع اجتماعيًا). فهذا الكتاب مسعى يحلِّل طبقًا لتشعّبات هي: أ ـــ اللاوعي الثقافي: وهو يفسِّر سلوكاتٍ، وأفكارًا عديدةً راهنة، ويتحكم بالمألوفيّات، ويقود الوعي والتفكير في إشكاليات التراث والحداثة، الهويّة والمعاصرة، غَسْل الذات وتطهيرها، فهو مسبِّبٌ في إبقاء الإنتاج، والتقييم أقرب إلى ما هو إيمانيّات، وعرفانيّات، أيديولوجي وعقلاني، غير موجَّهٍ بالتجريبية، والعقلانية المحضة… ب ـــ أواليات الدفاع هي منتجة للفكر والتكييف، وهي أجهزةٌ فعَّالة في عمليات إعادة الضبط والتوجيه، لكنها أدوات حيليّة (نكوص، إنكار الواقع، انشطار، تبرير، محو…) تُبقي الفكر والسلوك يتغذَّيان مع اللامباشر وناقص التوافق، الطفلي، والاعتمادي، المنجرح والأسطوري، الازدواجي القيمة والمتناقض، الأمومي والعائلي، الجنساني، والإخصابي. ج ـــ العوامل الموضوعية القائمة في الحقل النفسي الاجتماعي تُسهم، متغاذيةً مع العُنصرين السابقيْن، في التفسير ـــ ثم في إمكان تغيير ـــ أُسُس الخطاب العربي وقواعده، منطق التعامل مع النص، والوجود والقيم، منطقنا في البلاغة والتنمية والتَّعْضية… إلَّا أنَّ الجانب الآخر في هذا الكتاب؛ كونه يتناول بالدراسة، والتحليل خطاب الجسد، وما يعكسه من لغة تواصلية غير اللفظية، كما في الإشاريات العربية (حداجة، صباعة…)، وخطاب علم السيميائية العربي، وذلك من أجل أن تكون عمليات إعادة تسميةِ الجسد عقلانيةً وناجحةً معًا، والمُحِفّ، التاريخ والذات، المرجَعية والمفاهيم، اللسان اليومي [العادي] واللسان التقني، التّداوليّات، والدلاليّات… فمثل هذه الميادين أثمرت عمومًا عن عربيةً ناجحة، إذ هي تغذَّت بتجربةٍ تاريخيةٍ عريقة، وبطاقاتٍ مخزونة أو بتدريبٍ حضاريّ سابق.
– انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية، في الصحة العقلية والبحث عن التكيّف الخلّاق[24][29]: ينصب اهتمام الدكتور علي زيعور في دراسته في انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية على مراجعة ما فعلته الثقافة، من هدم وتعمير، بالطبيعة والوجود “الأصلي| للإنسان، ولمراجعة ما فعلته ثقافة الآخر بالذاتيّ، والمحليّ، والخصوصيّ، أي لما أحدثته في الذات العربية أيديولوجية الآلوية [الآليانيّة] والفردنية، والنزعة الاستهلاكية المفرطة، والشهوة ـــ الاستتباع “الأطراف” القليلة الإنتاج، والصناعة… لذا يجد القارئ إطلالات على ما لم تصله الثقافة بعد في الذات العربية: تنظيم الزمان والمكان، فعل الزمان أو تَوْتيره للإنسان، لغة الجسد، لغة الهذا، إذ درس المؤلف مضمون الهذا قصدًا لتشخيص الاضطراب، ومن ثم لاستعادة الصحة؛ ثم كان اهتمامه بالأنا ومشكلات تكيفه مركِّزًا على التعلم والتجاور، وعلى إخراج اللاواعي والظلي والمظلم، للسير في اتجاه التكييفانية، الاتزانية الخلَّاقة، الصحة النفسية الإيجابية والواعية. مستندًا في ذلك على ثقة بقدرة من المخيال، والرمزي، والنفسي، وبالطبيعة الجدلية للفكر، وبالنقد الفلسفي، وبالفلسفة التي تؤمن بالذات المفكرة وباستيعاب اللاواعي بعد إخراجه إلى نور العقل والإرادة. وتشغل روحية الكتاب، أو فكره، الاهتمام بما هو كينوني، وليس فقط بما هو امتلائي عند الإنسان، وبنظرية في الإنسان وقيمه وتواصليته، أو بنظرية في الفعل والعلائقية، وبنظرية في التأويلات والمعرفيات والأنسييات.
– تفسير الأحلام وفلسفات النبوة[25][30]: يفسر ظاهرة جسدية نفسية اجتماعية، أو هي بيولوجية تواصلية تاريخية، يأخذ الكاتب واقعة من الوقائع النفسية الفيزيولوجية الخاصة بالإنسان ويقوم بدراستها دراسة علمية موضوعية على ضوء معطيات علم النفس.
– الأحلام والرموز[26][31]: يعمل هذا الكتاب على المنهجية التي تحدث عنها زيعور كثيرًا في كتبه، ووضع لها قاموسًا نجده هنا يقوم بتوظيف معرفته، بغية معرفة جديدة للفكر والمجتمع، الثقافة والحضارة، الإيمان والعقل، الدين والفلسفة، الوعي واللاوعي. أي هذه الملازمة بين الحلم والواقع محرّضًا على التغيير. فالحلم: هو أداة معرفة بالشخصية والمَرَض النفسي والسّوائية، وبالمعرفة نفسها، والوجود والقيميات، وبالفن والأدب والعلم، وبالتاريخ والإرادة، والحرية والفضيلة. والمؤلف إلى هذا لا يقول بأن القطاع الحلمي هو: في الثقافة، والشخصية، والعقل نفسه، طريق وحيد إلى تشخيص اللاواعي وما يماثله (غير المتمايز، الرمزي، اللامفصوح…) وهو، لا يقول أيضًا إن الحلميات وسيلة حاسمة أو أداة وحيدة للعلاج في عالم الشخصية، الفكر، العصاب والاضطراب النفسي، أو العلاج غير السوائي، والقهري في الشِّعر والأيديولوجيا، الرواية والأسطورة، الكابوس وتخلخل الوعي أو الإرادة، الحضارة والتاريخ… إلَّا أنه يقول بأن الحلميات وسيلة من الوسائل، أو جهاز كشف من بين أجهزةٍ أخرى كلها لابدِّيَّة من أجل الرعاية النفسية على صعيد الفرد، والجماعة، والمجتمع.
ثالثًا: العقل العملي أو السياسة والأخلاق والتربويات في الفلسفة العربية -الإسلامية، النصوص الممجمّعة والقراءة النقدية الاستيعابية.
– الفلسفة العملية عند ابن خلدون، وابن الأزرق في التيار الاجتماعي، والتاريخي. النص المؤسّس: نصوصهما في التربية والنفسانيات، في الطرائقية وعلم الأخلاق[27][32]: يتقدم الكتاب مقاربة نفسية عن حياة ابن خلدون، ويظهر التحليل أنّ شخصية ابن خلدون ماثلة حاضرة في نظريته التربوية، والقيم التي حكمته وطرائقيته، وتصوراته عن الإنسان، والعقيدة الدينية، وأحكامه على الأطوار، والأعمار، والطبائع الكلية، أو على الاقتصاد (الصناعات) والعلوم. ثم ينتقل الكتاب إلى ابن الأزرق كواحد من القادرين على توضيح ابن خلدون. قسم الكتاب إلى قسمين، تضمَّن القسم الأوَّل فصلًا أول احتوى دراسة في سيرة ابن خلدون؛ تمزج بين الفكر والواقع، لأنه من الضروري أن تؤخذ مصطلحاته وأعماله، وفكره أو وعيه وممارساته، غير منفصلة عن تجربته في الحياة والمجتمع، وعن تفاعل الوضع العام مع الخبرات الشخصية، ومطامح الفرد وتطور قيمه. أمَّا الثاني فقد انصبَّ على تحليل المذهب التربوي لابن خلدون، في الفصل الثالث تُقرأ نظرية ابن خلدون في الطرائقيات، وحيث أجهزة التفكير، والمحاكمة للعلم، ودرجات العقل، وفلسفة العلم، و”قانون” السنن الكلِّيَّة، ومبدأ المبادئ، أو جهاز ومنطق “طبائع العمران”، وتوقف المؤلف في القسم الثاني من هذا الكتاب عند ابن الأزرق، أمام “مذهبه” في التحصيل والتعليم، وفي التربويات: صناعتها، موادها، طرائقها، ارتباطها بالعمران، أو بنمط المجتمع، تأثر بالعلوم السائدة وبالدين، التفاعل بين الصناعات أو وجوه الكسب والمعاش والرزق.
– دراسة بالعينة للعقل العملي في العصور العربية العثمانية. النص المؤسس نصوص طاش كبري زادة في التربويات والأخلاق وعلم المقدمات[28][33]: يقدم الباحث في هذا الكتاب طاش كبري زاده، أحمد بن مصطفى، وهو الكاتب الذي حظي بمكانة محترمة داخل سلسلة من الأعلام الذين انصبوا على العملية التربوية، والذين أرادوا حفظ القيم التاريخية، ونقلوها. وقد كان لهذا الكاتب الممثل للفكر العربي العثماني في عصوره الزاهرة مكانته أيضًا في مجال التصوف، إذ برز بمثابة عينة جسَّدت التصوف الصراطي، أي الواضح الحدود والمفاهيم، البعيد عن الشطح، والمغالاة في الباطني والأوليائي، كما أنه برع في مجال الاجتهاد وفي علوم: (البحث، والمناظرة، والإفتاء)، وهدف الباحث في دراسته هذه الوصول إلى استخلاصات حول نشاط العقل العربي العثماني في معالجة الظواهر، ومراكمة النشاط الثقافي المطوِّر للإنسان والمجتمع، للأمة والجماعة.
– حقائق التفسير القرآني ومصباح الشريعة – مع دراسة في مذاهب التصوف في التربويات وأحوال النفس، وفي التأويلية والأحلام والرُمازة[29][34]: اهتمت الدراسة التي بين أيدينا أولًا بتقديم دراسة دارت حول “الرشدانية” العربية الراهنة في عطاءات التصوف ومنهجيته”، وردَّت الدراسة على عدد من الأسئلة منها: ماذا تقول الرشدانية، عبر سعيها المخطط المنظِّر للتكيفاتية الإسهامية، في الفكر الصوفي وطرائقه وقيمته؟ في ثمراته وأجهزة إنتاج تلك الثمرات؟ في مضمونه وأسسه أو فلسفته؟ ما هو المقال في التفسير الصوفي للقرآن؟ في علم التأويل وفي الرموز؟ ثم ماذا هو المقال في الأخلاق، وفي أحوال النفس وتأديبها؟ كما واهتمت الدراسة ثانيًا بتقديم كتاب “التفسير الصوفي للقرآن الكريم عند [الإمام] جعفر الصادق”، وهذا الكتاب مستل من حقائق التفسير للسلمي؛ أما الكتاب الثالث فهو كتاب “جعفر الصادق: مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة”.
– التربية والآدابية والتواصل فى قطاع أهل الحديث والفقه والعبادة. النّص المؤسس: كتاب السمعاني، أدب الإملاء والاستملاء[30][35]: يتناول موضوع التربية والإملاء، ويشتمل على كتابين: الكتاب الأول: التربويات عند السمعاني: تحليل نقدي واستيعابي، والكتاب الثاني هو: السمعاني: أدب الإملاء والاستملاء، وفيه يحدثنا عن آداب النفس في طلب العلم ومجالس التعليم وأدب المملي، ووظيفة المستملي وأدبه وغير ذلك من المحاور..
– ميادين العقل العملي في الفلسفة الإسلامية الموسعة. النص المؤسس: النصوص الأجمعية من الكندي حتى الطوسي والدوّاني ثم الشيرازي[31][36]: يزدحم هذا العمل بنصوص الفلاسفة ابتداءً من الكندي حتى الشيرازي، ليجمع في نسقٍ واحد خطاب الفلاسفة التأسيسيِّين منذ بداياته حتى القرن السابع عشر. ينطوي هذا الكتاب على قراءة جديدة في مجال المدرسة العربية في العقل العملي، أو في الفلسفة العملية حيث النظر العقلاني في قطاعات التربية وعلم النفس التعليمي. وللمرة الأولى، داخل مجال واحد فسيح تجتمع شخصيات جديدة كانت غير مكتشفة أو مطرودة كالعامري و”ابن أبي ربيع”، كما سيحتل مقعدًا محترمًا كل من “الطوسي”، و”الدوّاني”، و”الشيرازي”. يشمل الكتاب ميادين الأخلاق والتربية كافة، بالإضافة إلى السياسة والاقتصاد.
– الروافد: حوافز يونانية في العقل العملي الإسلامي داخل الفلسفة العربية الإسلامية الموسعة: النص المؤسس: نصوص فيثاغوراس، أفلاطون، أرسطو، دمسكيزس، بريسون[32][37]: هذا الكتاب يحتوي على كتيبات: الأول دعاء نظرٍ في الروافد اليونانية بل الهلينستية. وقدمها المؤلف مجمّعة مستخرجة من مصادر مختلفة، وقصدًا لتسهيل استعمالها. وجاء الكتيب الثاني بمثابة دعاء للنصوص أو جسم للروافد الهلينستية في العقل العملي العربي الإسلامي. وأخيرًا الكتيب الثالث وهو مفيد وقادر على توضيح التحليل، في اللغة الأعجمية، لقطاعين داخل العقل العملي العربي الإسلامي هما: سياسة النفس حيث يطرح الفِكرُ القيم التي يراها مميزة للإنسان في سلوكه ووعيه، كما في تكوين نمطه وأسلوبه في التحقيق وضبط الذات. والحال هذا، فإنّ ذلك هو مبحث الأخلاق. حتى وإن كان التمركز على الأنا وحدها وفي ذاتها أي حيث الضبط هو سياسة النفس عينها مأخوذة كمعزولة أو كفردٍ قائم بذاته يدبر نفسه باستمرار فيلاحق عيوبها أو يعزز الفضائل فيها. أما السياسة (التدبير، التعاملية، تنظيم العلائقية) الثانية فتختص بالمهمشين: المرأة الخدم، بالإضافة إلى سياسة الأهل والأقارب والجيران والسوقة…
نلاحظ من خلال العرض الذي قدمناه شمولية تحليل الدكتور زيعور للذات العربية، فهو لم يترك زاوية من زوايا الذات دون إخضاعها للتحليل، حتى يأتي تحليله لها شاملًا واستيعابيًّا، وهو في هذا الموقف، كان يرى أنّ معالجة الظاهرة لا تكون موفقة إلا عند التعاطي معها بكليتها واستحضارها كاملة في الذات، فأيّ خلل في توصيفها، قد يؤدي إلى سوء فهم أو عد القدرة على تحديد ما تعانيه من مشكلات.
القسم الثاني: مسوغات المشروع
يبقى موضوع النهوض الحضاري ماثلًا عند الحديث عن كلّ مشروع فكريّ، فهو الغاية والمقصد الذي يسعى المؤلف لتحقيقه، وعند الوقوف مع الدكتور زيعور، سنلاحظ أنّه وقبل البدء بطرح أسس مشروعه، توقف قليلًا، وأحال الذات الحضارية العربية – الإسلامية على عيادته النفسية، لينظر في واقعها، وقد بدأ عمله بجملة من الأسئلة تتعلق بالذات البانية للحضارة، فهل بإمكان الأمة “القلقة” “المتوترة” “المضطربة” و”المنجرحة” أن تبني حضارة؟ هنا بدأ الدكتور عمله بتحديد إطار الاشتغال، وأخذ يبحث في العناصر التي أدّت إلى انجراحات الذات، فوجد أنّ جذر المشكلة بدأت عندما أرادت هذه الذات أن تتعرف على الآخر لتعرف من خلاله ذاتها، فكما هو معروف: “الذات لا تتكون ثم لا تنمو ولا تزدهر، لا تبقى وتستقر وتعمرـ إلا بالآخر، سواء أكان الذاتات الفرعية أم الإنسان في الدار العالمية”[33][38]، لكنّها لم تستطع التكيّف مع الوقائع التي وجدت نفسها فيها، وأخذت تشعر بالنقص والدونية مع الغير، وهذا ما دفعها إلى نكوص طفوليّ، تحتمي به، وتعويض: “عن حاضر حضاريّ منجرح”[34][39]، مما ولد ذات متضخمة بإرثها التاريخى المتوارث، بكلّ ما فيه. ومما زاد الأزمة حدة هو انفجاج ذوات داخل الذات الكبرى، أنتجت أيديولوجيات غالت بذهابها باتجاه الآخر لتتماهى معه، وتنتج خطابًا تسفيليًّا تجريحيًّا للذات، يُضاف إلى هذين العنصرين، آخر، يتمثّل في سلطة الاستبداد السياسيّ التي تفرض نمطيتها وثقافتها على المجتمعات.
وهنا يلاحظ الدكتور زيعور أنّ مشكلة الإنسان العربيّ في لاوعيه، الذي لا بدّ من العمل على استكشافه، لأنّه يشكل أصل السلوك والتفكير، وبالتالي إذا أردنا أن ننهض لا بدّ من العودة إلى هذه الذات لمعرفة المعوقات التي تجعل منها منجرحة، لا تمتلك النضج النفسيّ والانفعاليّ، ولعل الإعاقة الأبرز في هذا العقل هو التمركز حول الذات واستسلامه للاهوت، الذي عاد إليه، ليس بوعيّ فاعليته إنّما للاحتماء من الآخر، بما يشكل عودة إلى الأبويّ والحاميّ، وهذا ما يجعل العقل العربى عقلًا أصولىًّا مستسلمًا للاهوت القديم: “إنّ الأصوليّ، والصراطي المتعصّب، هما اللذان قد يصدق فيهما القول عن عقلية مقفلة، واستسلام تام أمام اللاهوت القديم، ورفض أدنى علمانية أو تاريخية للقراءة أو التفسير أو التأويل”[35][40].. وهذه الشخصية: “لمن الصعب جدًّا أن تُقنع المتعصب بأن الدين ليس وحده المفسر للإنسان والوعي، للحرية والتاريخ، في الحضارات الإسلامية، وأنه لمن غير المقنع […] يزعم أنّ كلّ إنسان، وكلّ ما في كلّ إنسان، داخل تلك الحضارات، يسيطر على سلوكه ووعيه الدين سيطرة مطلقة أو هيمنة أحادية، تجعله متحجرًا مقفولًا مغلولًا. ذاك خطاب غير دقيق، مجروح وعصابى إنه هذائي وبارانويائي، مجتزأ”[36][41].
فالدكتور زيعور، يرى أنّ النهوض، يستوجب التوفر على المعطيات المتعلقة بالذات والعمل على تحليلها على ضوء تجربة الإنسان في العالم ومن خلال علاقته بالآخر، الذي يجب أن يتمّ التفاعل معه، ولكن بإرادة حرّة تحفظ الذاتية، وهذا الأمر لن يتمّ من خلال حيل دفاعية، لجأ إليها العقل العربيّ في كثير من الأحيان للتعويض والهروب، فعندما يتخذ العقل العربيّ حيل أو آواليات دفاعية، قد يكون يستعمل أداة غير دقيقة للدفاع عبر استعادة التراث الفردوسي، والنعيم العدني الطفولي بشكل ذهنيّ دون بلوغ الغاية المتمثلة بالخروج من الانجراحات النفسية[37][42]. وعلى هذا الأساس، يطرح زيعور سؤال التحديث ويجيب عنه: “ما هو التحديث، أو الإدخال في العصر وخصائص المعاصرة؟ ما هي التنمية المستدامة المتكاملة المتناقحة المتوازنة؟ إنّ ذلك كُلّه يأتي بمثابة إرادة في تكييف حضاري للذات، على نحو إيجابيّ إسهاميّ، مع الآخر، مع الذات الأخرى، مع صورة عين الذات المثالية المرغوبة”[38][43]. زيعور إذًا لا يرى قطعًا مع الماضيّ، فهذا الماضي هو جزء من الذات، لا بدّ من العودة إليه وسؤاله على ضوء المشترك والعالميّ، والرغبة الإسهامية في الحضارة العالمية، وهذا الأمر لن يتمّ إلا من خلال مقاربات نقدية- فلسفية، تهتم بالصحة النفسية العقلية للحقل والفضاء على أن يكون: “الموقف الشّمّال، الإزائي والأجمعي”[39][44]، فلا يجوز في فكر زيعور أن نجمل بالحديث عن أيّ طرف، فنقوم: “بصبّ كلّ النقد على الخطاب الدينيّ ولا سيما المتطرف المتمثّل بسيّد… إنّ ما تقوله الفلسفة في ذلك الخطاب غير تاريخيّ، قطعيّ، دوغمائيّ، غير محاور، مرتكز على مسلّمات وإيمانيات أو اعتقادات، هو قول معروف. لكنّه ليس حلًّا للمشكلة التي نرى إنّها مشكلة الصحة النفسية العقلية أو التكييفانية المنفتحة”[40][45].
ما يريده زيعور في هذا الموضع، هو إخضاع كلّ تفكر لمتطلبات الذات: من هنا كان الخطاب المعافى نفسيًّا وعقليًّا هو الذي ينتقد من الداخل: “فالذي يودّ أن يحاور سيد قطب، أو حسن البنا، ومن إليه، سيكون في الموقف المتزن إن أعاد قراءة خطاب الوحي الإسلاميّ بحيث يبين لنا أن سيد قطب تشدّد، أو قرأ بمنظور خاص ضيّق، أو عادى نصوصًا، وارتكز على نصوص، أو أغفل الخصائص التي ميّزت عبر التاريخ خطاب الوحي عن تفسيراته الاجتماعية والسياسية وعن الظواهر الإسلامية المتعددة. ذاك أنّ القراءة المجتمعية والمعرفية، النقدية الاستيعابية، تميّز هنا بين خطاب متشدد، وخطاب منفتح ينادي بإسلام يكون مغذّيًا وغذاء للالتزام بالإنسان، بالوحي الذى هو قراءة راهنة حية للحياة”[41][46]، وهكذا نستطيع أن نرقب من خلال هذا المشروع ضرورة التماهي مع التراث، والتطابق مع مضمونه، على أن تكون علاقتنا معه شمولية ونقدية واستيعابية، تعتمد المقارنة بين مبتنياته والتاريخية.
ومع هذا الانشداد باتجاه الذات، أكد زيعور أنّ هذه الحقيقة، لا يجب أن تحجب الرغبة التواصلية مع الآخر، فعلى المجتمعات العربية – الإسلامية، أن تقوم بفهم الآخر، والتعامل معه باعتباره عنصرًا مكمّلًا للذات: “ما زلنا نحذر من السلوكات والعوالم الفكرية العقيدانية [الدوغمائية]. هنا أطلقنا اسم العُقاد على ذلك المرض (أو العصاب أو العارض) الذي تقع فيه الشخصية فتتقوقع داخل التصلّب أو الرفض الطفليّ بل المرضي، وتتصف بالتكيّف المقفل”[42][47]. لذلك على المجتمعات العربية – الإسلامية الاستفادة منها وإدماجها في منظومتها القولية، فأثناء العمل على النهوض الحضاري، لا بدّ من الالتفات إلى ما ينجزه الآخر، والبحث في المنطقة المشتركة بين “الأنا” و”الأنت”، يقول زيعور: “إلى جانب ما هو متّفقٌ حوله بين الأنا والأنتَ، أي مشتركٌ بينهما بُعدًا وفُروقًا أو تشابهًا وتماثُلًا، يتّفق أيضًا ومجرى الاهتمام عند المفكّرين النظريين بمشاكل الكُلِّ والحيّزِ العام، وشؤونِ المجتمع وصراعات الأفكار، وأمراضِ التواصلية، واضطراباتِ مقامات وأجهزةِ الشخصية وأغوارها وقطاعها الأعلى الأخلاقي، وفلسفاتِ السؤال، ومحدوديةِ العُمر والوجود، واستحالةِ التطابق بين اللغة والفكر، التبليغِ والتبلُّغ أو الإرسال والتلقِّي، أو الإرادة والقدرة، الواقع والمعنى، الشيء والكلمة[43][48]… لإيجاد أجوبة مشتركة: “على كل ضفةٍ لنهر التاريخ والحضارة يقف العقل المتعقِّبُ المنقِّبُ في موضوعاتٍ عالمية البُعد أو الوجه والصعيد: ففي كل فكرٍ أو فلسفةٍ قطاعٌ أو مقولةٌ غرضها البيئة والأنساق البيئية، التصحّر والجفاف، الخوفُ من تبدّلات المناخ ومن الجوع والظلم والجور، ومن مشكلاتِ تناقص المياه وتكاثر السكان وعدم كفاية حملات التشجير أو المحميات الطبيعية. وعلى الضّفّتَيْن، العربية كما الغربية، تتصارع الأفكار، والمواقف، والقيم، والأوطان، والأيديولوجيات، وقضايا السلاح والأمن والغذاء، والتصادم بين أنظمة التنمويات كما التربويات الفردية والجَمعية الجماعية”[44][49].
مشروع زيعور، ليس مشروعًا نظريًا، يكتفي بأخذ فرع معرفيّ والعمل عليه، فهو يسعى إلى دراسة العوارض النفسية، التي تتأتى للذات العربية المعتدى عليها فكريًّا، الممزقة القلقة دائمًا من مخاوفها القديمة، من عقدها التاريخية الطفولية، هذه المخاوف تتمثل فى خوف الذات العربية من الاندثار، الأذى، فقدان الكرامة، وفقدان التقدير الذاتى. فهو يسعى إلى إخراج الإنسان العربيّ من بلاداته التي يتلذذ بها عبر استعادة واعية لتراثه مع تجديد معناه.
[1][50] علي زيعور، مذاهب علم النفس والفلسفات النفسية، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[2][51] علي زيعور ومريم سليم، حقول علم النفس، (بيروت، دار الطليعة، 1986).
[3][52] موريس روكلان، مناهح علم النفس، ترجمة: علي زيعور/ علي مقلد، (بيروت، دار المنشورات العربية).
[4][53] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[5][54] علي زيعور، مدخل إلى التحليل النفسي والصحة العقلية، (بيروت، الدار العالمية، 1997).
[6][55] علي زيعور، الفلسفة في الهند – قطاعاتها الهندوسية والإسلامية والمعاصرة، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[7][56] جونسو، تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطية، ترجمة: علي زيعور، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[8][57] علي زيعور، فلسفة الحضارة ومعينة المجتمع والعلائقية، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1994).
[9][58] علي زيعور، قطاع الفلسفة الراهن في الذات العربية، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[10][59] علي زيعور، الفلسفة في أوروبا الوسيطة وعصرَي النهضةٍ والإصلاح، (بيروت، المكتب العالمي، 1998).
[11][60] علي زيعور، الفلسفة المحضة، والفلسفات النفسية، والطبيعية، (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015).
[12][61] علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية – أنماطها السلوكية والأسطورية، (بيروت، دار الطليعة، 1987).
[13][62] علي زيعور، الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم -القطاع اللاواعي في الذات العربية، (بيروت، دار الطليعة، 1978).
[14][63] علي زيعور، الدراسة النفسية الاجتماعية بالعينة للذات العربية من مونوغرافيا قرية إلى التنمية الوطنية، (بيروت، دار الطليعة، 1978).
[15][64] علي زيعور، العقلية الصوفية ونفسانية التصوف نحو الاتزانية إزاء الباطنية والأوليائية في الذات العربية، (بيروت، دار الطليعة، 1979).
[16][65] علي زيعور، قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية – المستعلي والأكبري في التراث والتحليل النفسي، (بيروت، دار الطليعة، 1982).
[17][66] علي زيعور، صياغات شعبية حول المعرفة والخصوبة والقدر- المهاد الإناسي والتحتيات العلائقية في الذات العربية، (بيروت، دار الأندلس، 1983).
[18][67] علي زيعور، التحليل النفسي للخرافة، والمتخيَّل والرمزي، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2008).
[19][68] القبل تاريخي.
[20][69] القبل لغوي.
[21][70] علي زيعور، التربية علم نفس الولد في الذات العربية، (بيروت، دار الأندلس، 1985).
[22][71] علي زيعور، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة والتعاملية في الذات العربية، (بيروت، دار الطليعة، 1988).
[23][72] علي زيعور، اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظي في الذات العربية، نحو إعادة التعضية للسيميائي واللامتمايز والظلّي في المجتمع والشخصية والفكر، (بيروت، دار الطليعة، 1988).
[24][73] علي زيعور، انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية، في الصحة العقلية والبحث عن التكيّف الخلاق، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992).
[25][74] علي زيعور، تفسير الأحلام وفلسفات النبوة، (بيروت، دار المناهل، 2000).
[26][75] علي زيعور، الأحلام والرموز، (بيروت، دار المناهل، 2000).
[27][76] علي زيعور، الفلسفة العملية عند ابن خلدون، وابن الأزرق في التيار الاجتماعي، والتاريخي. النص المؤسّس: نصوصهما في التربية والنفسانيات، في الطرائقية وعلم الأخلاق، (بيروت، دار الطليعة، 1995).
[28][77] علي زيعور، دراسة بالعينة للعقل العملي في العصور العربية العثمانية. النص المؤسس نصوص طاش كبري زادة في التربويات والأخلاق وعلم المقدمات، (بيروت، دار الطليعة، 1995 م).
[29][78] علي زيعور، حقائق التفسير القرآني ومصباح الشريعة – مع دراسة في مذاهب التصوف في التربويات وأحوال النفس، وفي التأويلية والأحلام والرُمازة، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[30][79] علي زيعور، التربية والآدابية والتواصل فى قطاع أهل الحديث والفقه والعبادة. النّص المؤسس: كتاب السمعاني، أدب الإملاء والاستملاء، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993).
[31][80] علي زيعور، ميادين العقل العملي في الفلسفة الإسلامية الموسعة. النص المؤسس: النصوص الأجمعية من الكندي حتى الطوسي والدواني ثم الشيرازي، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2000).
[32][81] علي زيعور، الروافد: حوافز يونانية في العقل العملي الإسلامي داخل الفلسفة العربية الإسلامية الموسعة: النص المؤسس: نصوص فيثاغوراس، أفلاطون، أرسطو، دمسكيزس، بريسون، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2000).
[33][82] على زيعور، العقل الصراطى فى الفلسفة والأيديولوجيا والمدنيات، (بيروت، دار النهضة العربية، 2008)، الصفحة 10.
[34][83] المصدر نفسه، الصفحة 11.
[35][84] على زيعور، العقل الصراطى فى الفلسفة والأيديولوجيا والمدنيات، مصدر سابق، الصفحة 18.
[36][85] المصدر نفسه، الصفحة 18.
[37][86] علي زيعور، حقول التحليل النفسي والصحة العقلية كما الروحية والحضارية، مصدر سابق، الصفحتان 218 – 219.
[38][87] على زيعور، العقل الصراطى فى الفلسفة والأيديولوجيا والمدنيات، مصدر سابق، الصفحة 19.
[39][88] علي زيعور، انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية، في الصحة العقلية والبحث عن التكيّف الخلاق، مصدر سابق، الصفحة 38.
[40][89] علي زيعور، انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية، في الصحة العقلية والبحث عن التكيّف الخلاق، مصدر سابق، الصفحة 38.
[41][90] المصدر نفسه، الصفحة 38.
[42][91] المصدر نفسه، الصفحة 20.
[43][92] حوار ريتا فرج مع الدكتور علي زيعور على الرابط:
https://www.alhiwartoday.net/
[44][93] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14378/alizayour2/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.