المنهج التأويلي للدكتور حسن حنفي في “النقل والإبداع”

by معهد المعارف الحكميّة | مارس 7, 2022 9:58 ص

نحن أمام عمل موسوعي مترامي الأطراف يتميز بالعمق والغزارة، والقوة في التمسك بمنهج إعادة بناء العقل، عبر السفر فيما يمكن تسميته بعقل النقل ونقل العقل.

موسوعة من النقل على الإبداع، تعلن أنها رد على ما يسميه المفكّر الكبير بظاهرة التشكل الكاذب التي حرصت على أن تظهر الحكماء المسلمين مجرد مترجمين ونقلة، مع تغافل تام عن الجوانب الإبداعية التي ظهرت خلال التفاعل مع الوافد بحضور الموروث.

“يقوم من النقل إلى الإبداع” على فرض عمل مغاير وهو أن الحكماء لم يكونوا تابعين للنقل ولا نقلة عنهم، بل كانوا مبدعين. نقلوا أولًا من أجل التمثّل، ثم أبدعوا ثانيًا تأكيدًا على وحدة الثقافة. (النقل، التدوين، الجزء1، الصفحة 36).

والهاجس الذي يحكم العمل من أوله إلى آخره هو إثبات مقولة الإسهام الحضاري لكل ثقافة في تراكم حضاري للإنسانية جمعاء، وإظهار الوحدة السمفونية التي تظهر التفاعل بين الوافد والموروث كعملية تكاملت فيها الجهود، وتوالت فيها العهود.

يقف هذا العمل الموسوعي الكبير في مقابل دعاوى المستشرقين والمتغربين من جهة كسر احتكار الغرب القديم والحديث للفلسفة والتفلسف، وفي مقابل التيار الفقهي المتشدّد الذي يكفّر الفلاسفة وينهى عن الكلام، كما يحاول ترشيد منهج بعض الباحثين الكبار في مقاربة هذه المسألة من جهة الغيرة الزائدة على الشرق من الذين أخرجوا الحكماء المسلمين من الدائرة الحضارية الإسلامية وألحقوهم بالغرب القديم المتمثل باليونان.

رأيت الدكتور حنفي ينسب هذا الرأي الأخير إلى الدكتور علي سامي النشار في كتابه “مناهج البحث عند مفكري الإسلام”، وبالفعل يصل النشار إلى حد تصنيف الفلاسفة المسلمين إلى هليني إسلامي، ومشائي، ورواقي، ولكنه يعقّب: “أنهم لم يقفوا عند حد الشرح، بل أضافوا أبحاثًا خاصة بهم”. ثم يبرهن في بقية الكتاب على نقاط الخلاف والإضافة حتى يصل إلى إثبات دور المسلمين في اكتشاف المنهج الاستقرائي العلمي، الذي لم يكن لليونان وفلسفتهم أي دور ملحوظ في تأسيسه وتطويره مع ميل واضح عند النشار للأصوليين والفقهاء.

كلا الكتابين يلتقي في تقديري عند الإبداع ولكنه يختلف في الانطلاقة المنهجية، الحنفي يضيف على النشار إبداعية الفلاسفة، ويعيد تركيزهم في داخل الدائرة الحضارية الإسلامية بنزعة حوارية واضحة فيها غمز خفي أحيانًا، وواضح أحيانًا أخرى من قناة الفقه الخادم للسلطان، أو ما أسميه الدين المؤسسة في مقابل الدين الرسالة.

  1. المنهج أو المناهج

تختلف المناهج التي يسلكها الحنفي في كتابه بحسب ضرورات العرض والبحث، فتارة نجده تاريخيًّا، وخاصة في النقل، ثم بنيويًّا في التحول، ثم يغوص في تحليل المضمون في مجلد الإبداع، ويسمح الكاتب لنفسه بتجاوز هذه التقسيمة فيغرق في النقل في التحليل لبيان فكرة يريد أن يؤسس لها للمستقبل: كأولوية الوافد على الموروث في البداية، وأولوية الموروث والإبداع في النهاية.

ولكن المنهج الحاضن لهذه المناهج هو المنهج التوفيقي الذي يبتعد عن الأحكام الصارمة ويحرص على إبراز التكامل في العملية التي دامت ما يقرب من أربعة قرون، إذا توقفنا عند ابن رشد، ثم استؤنفت مع صدر الدين الشيرازي في القرن العاشر وما بعده قبل أن يذوي الاهتمام بالفلسفة ويصبح شديد النخبوية بعدما حقق الاتجاه الفقهي المتشدّد نصرًا ساحقًا عليه، فحول الفيلسوف إلى عين من عيون النجاسة.

يبرز المنهج التوفيقي في نهايات العرض فيما يبديه الكاتب من ملاحظات تستهدف تنظيم الأفكار أو إثباتها، ففي تلخيصه لإنجازات الفارابي يقول:

“قرأ الفارابي أرسطو قراءة أفلاطونية، كما قرأ أفلاطون من قبل قراءة أرسطية، حتى يمكن ضم المذهبين معًا في تصور ثالث يجمع بين الاثنين، فتحول أرسطو إشراقيًّا، كما تحول أفلاطون عقليًّا طبيعيًّا، والفارابي هو الجامع بين الاثنين في تصور متكامل أتاه من الموروث كمخزون نفسي يمده بتصوراته للعالم”. (التحول، الجزء2، الصفحة 64).

ويستمر هذا المنهج حاكمًا حتى الجزء الثاني من المجلد الثالث (الإبداع)، في الخلاصة التي يقدمها الكاتب عن معيار العلم ومحك النظر للغزالي فيقول:

“معيار العلم عرض للوافد الموروث في إطار الموروث الأصلي وهو ما يسمى بلغة العصر “أسلمة العلوم” من أجل التفهيم والاحتواء حفاظًا على أصالة الموروث وقدرته على الإبداع”. (الصفحة 159).

ولا يتسع المقام لعرض بقية الشواهد على هيمنة المنهج التوفيقي حتى عند الخوض في تحليل النصوص، وقد نجد في الهدف العام الذي يشغل المفكر سببًا لتحكم المنهج التوفيقي في كتابه، واسمحوا لي أن ألاحظ هذه الأمور في محاولة فهمي لما يريده كاتبنا الكبير:

– لقد قرأت له في ثقافة المقاومة وفي جريدة الجريدة، وسمعته في المؤتمر الأخير يخفف من أهمية الجدل النظري وصولًا إلى العمل، فالمختلفون نظريًّا يمكنهم أن يتحدوا في العمل.

وهذا موقف عبّرت عنه كتاباته في العقيدة والثورة عندما حاول أن يقرب المسافة بين الإسلاميين والعلمانيين، ووجد في العدلية مدخلًا عقيديًّا لوحدة الجهد الاجتماعي والسياسي بين القوى المختلفة.

– هنا أيضًا يستحضر الكاتب تجربة التفاعل بين الوافد والموروث ليخاطب الحاضر، ويعيد كتابة النصوص ببصيرة الحكيم المعاصر، معيدًا وصل ما انفصل بين الأمة وتاريخها، معتبرًا أن عملية التواصل ليست تلقائية، بل عملية جديدة على الحكيم المعاصر أن يقوم بها ويحييها ويسوقها لتستعيد تأثيرها في تغيير الحاضر وبناء المستقبل.

– مع الجابري والحنفي نجد إعادة بناء العقل النظري والعملي مقدمة ضرورية للتغيير، وكلاهما يعرف أنها ضرورية ولكن ليست كافية، فالعقيدة والثورة لم تجد من يتبنّى تسويقها من كوادر وأحزاب ومؤسسات فكرية واجتماعية وأكاديمية وسياسية، مما يعيدنا إلى دائرة العلاقة بين المفكر وصاحب القرار، والعلاقة بين النخبوية والجماهيرية، بل وإلى دائرة الفلسفة والناس في المشرق العربي، والدور الذي يمكنها أن تقوم به في توسيع آفاق الفهم للوافد والموروث، ثم ترجمة هذا الفهم حركة في الواقع والمستقبل.

  1. تأثر التأويل بمنهج التوفيق

إذا كنا نريد أن نعبر من التاريخ إلى العصر، فمن الطبيعي أن يميل تأويل النصوص إلى توسيع حقل الدلالة، بل وإلى خلق دلالة خافية للنص مستمدة من البحث عن إرادة الفيلسوف الذي يريد، بحسب حنفي غالبًا، أن يؤكّد على أصالة الموروث حتى وهو ينقل الوافد ويتمثله تمهيدًا للتنظير الإبداعي، يقول في مجلد الإبداع: “إن أهم دلالة للطبيعيات القديمة هي نزعتها الإنسانية، اتجاهًا نحو الإنسان، واتجاه الإنسان نحوها، فالإنسان والطبيعة متضايفان مما يحفظها من الطبيعيات اللاإنسانية، سبب التلوث والتصحر، كما أن الطبيعة مفتوحة  مما يحفظهما من الطبيعيات النسبية الخالية من القيمة ومن الله_ الأقنوم”. (الصفحة 370).

وهذه كما يظهر استفادة معاصرة من طبيعيات ابن سينا، “فالمهم هو الرؤية لا الحدث، والمنهج لا الموضوع، والمقدمات لا النتائج”. (الصفحة 370).

وفي محاولة للتركيز على الفرادة والأصالة، يذكر الكاتب عقب ذكر النصوص المطولة عدد المرات التي ورد فيه اسم الفيلسوف اليوناني، ويعتبر ذلك مؤشرًا لعدم انبهار الحكيم العربي باليوناني ومضيه في شخصنة الوافد على الرغم من أن هناك عوامل أخرى قد تسبب هذا الاقتصاد في ذكر الحكيم اليوناني منها الحملة على الغرب القديم ووسم الفلاسفة بالتبعية، ثم رغبة الفيلسوف في تمرير الفلسفة اليونانية بأقل تحسس ممكن من قبل الأمة الإسلامية ونخبها المترصدة.

  1. ملاحظات

– إذا قاربنا تاريخنا الفلسفي على طريقة الحنفي فمن المؤكد أننا سنصبح أكثر ثقة بأنفسنا، فالإبداع ليس مقتصرًا على الأقدمين، وإنما هو اليوم تحدي يومي يمكننا أن نقوم بمتطلباته المعرفية والعلمية….

– ولكن التاريخ الإسلامي أظهر الحاجة الماسة إلى ظهور الفقهاء الفلاسفة الذين يردمون الهوة بين آفاق الفلسفة وأصالة الفقه، ويحولون الفلسفة والفكر إلى حوافز تطوير للاجتهاد الفقهي، الذي أثبت أنه الأفعل في عمليات التغيير الكبرى في العالم العربي.

وليس عيبًا ولا منقصة أن نقول: إن الفقه المنفتح على الفلسفة هو مفتاح التغيير فلا تكفير ولا إقصاء ولا إلغاء، بل تفاعل وحيوية فكرية تضيء النص بجرأة الفيلسوف وتقوائية الفقيه.

– وتشكل تجربة الإمام الخميني وشخصيته الجامعة بين الفقه والفلسفة والعرفان، مدخلًا لفهم شروط التغيير المعاصر التي لا تكتمل إلا بتحرير الفقيه من السلطان، ومصالحة النص مع الفهم المتطور للدين الرسالة بعيدًا عن سكونية الدين المؤسسة.

أرى أن الشريعة طلبت من العقل إنشاء المعرفة في الجدل الصاعد من الخلق إلى الحق، وإنشاء الفهم في الجدل النازل من الحق إلى الخلق لكي تلتقي أسفار العقل الصاعدة مع آيات الوحي النازلة.

“لقد ضحت الأشعرية بالإنسان في سبيل الله في الظاهر، وفي سبيل السلطان في الحقيقة. فقد كان الأشاعرة فقهاء السلطة، لذلك يسمون “الأموية”. فقد كانت النتيجة السياسية للأشعرية أولوية إرادة السلطان على القانون، يفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه”. (الإبداع، الجزء3 ، الصفحة161).

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14492/hasanhanafi2/