من أجل نسق عقدي انفتاحي مطارحة في البراديغم التأويلي الأوسطي

by الأستاذ عبد العال العبدوني | مارس 30, 2022 5:57 ص

تشكل الثقافة الدينية بما هي مجموعة معطيات وطقوس ومناسك تجليات للفكرة الدينية العظمى الحاكمة على غيرها من التفصيلات، وهاته الفكرة العظمى لا تتحيّز إلا بمقتضى مسلكية معينة في قراءتها وفهمها. وأنه بوقوع تغير في مسلكية أو طريقة فهم الدين تتغير النتيجة على مستوى تكوين الثقافة الدينية.

وطريقة فهم الدين هي متكثرة بتكثر التيارات الفكرية لاختلاف منبنياتها ووسائل النظر عندها، لكن جميع هذه التيارات تظل محكومة بقانون داخلي وشمولي يسمى البراديغم، بوصفه المنطق الداخلي المتفق على حدوده ومحدداته في زمان ما ومكان ما، ويركن إليه في الغالب بدون وعي به لرسوخه في الأنفس كما العقيدة Doxe، لأنه طريق اليقين المبحوث عنه أو على الأقل هكذا يتصور.

فأي فكر ديني نتج إلا ويكون خاضعًا لمنطق البراديغم الذي يفكر من داخله وعندما ينتج أفكاره يظل تحت عباءته، فقط يبقى الفرق في نوعية البراديغم الذي يشكل الناظم الداخلي للمعطيات الثقافية الدينية. فلو عدنا إلى المنتوج الفكري الديني الإسلامي على الجملة سوف نجده يقف على مسلكيات فكرية معينة من خلالها تتم محاكمة الأفكار الشاذة، والتصريح بصوابها من عدمه.

صحيح أن مناط إنشاء الأفكار الدينية في الإسلام كانت ولا زالت تتأسس على النص الديني بوصفه كاشفًا للمصداقية، إلا أن درجة التعامل معه كانت مرهونة بمدخلية العقل في التعامل مع النص واستنطاقه. مما أدّى إلى ظهور براديغمات كثيرة للتعاطي مع النص الديني، آثرنا حصرها في أربعة لاستحالة أن تكون أكثر من ذلك وهي: البراديغم النصي الظاهري؛ وهو الناظم الفكري الذي يقف أمام الظهور الأوحد للنص، وقائل بحجيته وإطلاقية ما تحصل من تصور على أساس ظهوره، والبراديغم التأويلي الأوسطي؛ وهو الناظم الفكري الذي لا يقف فقط عند الظهور الأول للنص، بل يغوص من جهة استبطانه واستنطاقه طوليًّا دون أن يلغي الظهور العرفي، والبراديغم التأويلي الجذري؛ وهو الناظم الفكري الذي ينظر إلى النص كموجود ثانوي ولا يهتم إلا بالواقع كحاكم أوحد، والبراديغم الكشفي الطرقي؛ وهو الأنموذج الفكري الذي يدبّر الفهم الديني على أساس الحقائق التي تتحصل في ذهن المرء نتيجة اليقين الوجداني المتحصّل نتيجة الرياضة الروحية مع تمتين المعارف الشرعية وهو طريق عرفاني صلب أيضًا، إلا أنه يحتاج إلى مصاديق خارجية وهي غير متيسرة، مما يضطرنا على أهميته لا نعتبره العمدة في الإصلاح الديني المرجو، وطبعًا تحدث تشوهات كثيرة في المسار الفكري تأتي نتيجة الخلط بين البراديغمات أو القفز من إحداها إلى الأخرى بدون مستند معرفي معتبر. ومجموع هذه البراديغمات هي التي حكمت التاريخ الفكري الإسلامي ولا زالت حالة الشد والجذب متحققة فيما بينهم إلى هذا العصر تحت عناوين كثيرة.

ونحن في هذه الورقة ما دمنا نركز على النسق العقدي الانفتاحي، فإننا بالضرورة نسعى إلى الذب على البراديغم التأويلي لما يقدّمه لنا من أنموذج تسامحي، يعايش الواقع بشكل محايث بخلاف البراديغم النصي اللاتاريخي واللاواقعي بالضرورة.

بقيت الإشارة إلى أننا عندما نتحدث عن النسق فنحن نتحدث عن كلية معرفية تهم الجنبة العقائدية تتأثث بمجموعة من الأفكار الجوهرية التي تتسامى إلى المقدس، مشكّلة خط السلوك الذي يجب على المعتقد القيام بها، وهذا الموضوع سوف نبسط القول فيه بمناسبة البحث، لكننا قبل ذلك لا بأس من إعطاء تعريف مقارب لمصطلح البراديغم كمدخل خاص للموضوع قبل بسط القول في الصلب.

المدخل الخاص: ماهية البراديغم ومدماكيته

البراديغم كما سبق تعريفه هو المنطق الداخلي المتفق على حدوده ومحدداته في زمان ما ومكان ما، ويركن إليه في الغالب بدون وعي به لرسوخه في الأنفس كما العقيدة Doxe، لأنه طريق اليقين المبحوث عنه أو على الأقل هكذا يتصور، وهو على هذا الأساس يشكل الأرضية التحتية للبت بخصوص نقطة ما، لذلك كثيرًا ما يتم وصفه على أنه الأنموذج Type الكفيل بحل جميع المعضلات المعرفية على ضوئه.

وهو على هذا الأساس يتحول إلى عقل مركزي حاكم على مجموع الإنتاجات الفكرية وعلى جميع المستويات، متحكّم في العقول الجهوية والفردية دون أن تعي هذه العقول بأنها تعمل داخل صواميل عملاقة حُدِّدت سلفًا.

قد يكون هذا الطرح يتفق في عدة جوانب مع النسقية الفوكالدية، لكن هذا ليس عيبًا ما دامت الأعمال الفوكالدية الصابّة مبدئيًّا في نفس الاتجاه قد قدّمت الأدلة الكافية على صحة وجود نسق كبير متحكّم في مجموع العطاءات الفكرية، بل حتى في الممارسات الأكثر حميمية.

لكن المدماكية لا تتجلى فقط في تحديد المعالم الكبرى للعقول الجهوية والفردية، بل تذهب إلى حدود تطويع هذه العقول والعطاءات بشكل يجعلها غير قادرة على التفكير خارجه، ربما هذا الكلام فيه كثير من التشييء للعقل الإنساني ولا تنقصه السوداوية، لكن لو صرحنا بأن البراديغم في حد ذاته؛ أي بما هو هو ليس عيبًا لأنه موجود معرفي لا بدّ منه في تأثيث المشهد الطبيعي في عالم الشهادة قد ترتفع هذه السوداوية ولو جزئيًّا، فالعيب يتجلّى في مضمون هذا البراديغم، لذلك نجد الرسالات الإلهية على مدار التاريخ عملت على إنتاج مضمون مختلف للبراديغم لتضمن للبشرية السعادة، من جهة أن التوحيد ناظم طبيعي وفكري كبير وهو على ضوء هذه الحمولة يتعامل مع الكتابات السياسية والاجتماعية والفلسفية حتى، وهناك من يرى حمولة أخرى وعلى ضوئها يحاكم الخطاب والواقع.

وحرصًا منّا على الحفاظ على السياق السليم للموضوع سوف نحرص على البحث في الموضوع الإسلامي وفق براديغم واحد من بين مجموعة من البراديغمات التي تدرس من خلاله وهو البراديغم التأويلي الأوسطي، لما له من أهمية خاصة تتجلّى كبرياتها في تجاوز نقائص البراديغمين الآخرين لا يعرف تطرّفًا إلى أحد قطبي العقل والنص، بل هو أوسطي يتعامل بالعقل مع النص قبلًا وبعدًا في حالة من التأثّر والتأثير المتبادل، ودون أن نوغل في التفاصيل نرى أن نرجئ مناقشته إلى حين البدء في صلب البحث.

بقيت الإشارة إلى أن البحث لن يكون بالعمق المناسب لهكذا طروحات، لكنه لا أقل يضع الأمارات الكبرى لهذا البراديغم محاولين في نفس الآن إيضاح الوجه الإيجابي والوجه السلبي، وهذا لا يتنافى مع منطق الذب الذي سبق وأن نوهنا إليه.

البراديغم التأويلي الأوسطي

لكل ظاهر باطن ولكل باطن باطن يليه هاته المسلّمة المعرفية لدى التأويليين تكاد تختفي ضمن أكسيومات التفسيريين، لسبب بسيط هو تلك الأزمة السياسية التي عرفها الإسلام في فجره مباشرة بعد انتقال الرسول الأكرم (ص) إلى رحمة الله، من خلافة أبي بكر والجدالات العقدية والسياسية التي عرفتها سواء في السقيفة أو في المسجد النبوي، وطبعًا هذه الأزمة كان يجب التغلب عليها باعتماد ظاهر الحال، وظاهر  المآل لإضفاء الشرعية الدينية على ما حدث، صحيح أن المستند لم يكن شرعيًّا في البداية لأن أبا بكر في مقام احتجاجه على الأنصار أشار إلى أوسطية قريش بين القبائل، وبالتالي فإن الطاعة تكون متحققة، بخلاف لو تسلم السلطة غير قرشي لأن الاقتتال سوف يكون على أشده، وخصوصًا أن رأسي الأنصار كانوا من الأوس والخزرج وهما قبيلتين شديدتي العداوة فيما بينهما، فقد قال أبو بكر: “ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا”. وبالفعل تم تولية أبي بكر بدون رضا من سعد بن عبادة الذي قال فيه عمر بن الخطاب: “قتل الله سعد بن عبادة” (1)، فكان القرار السياسي هو إلباس هذا الحكم لبوسًا شرعيًّا مما دفعهم إلى تبنّي المصدر التشريعي الثالث وهو الإجماع لإخراس المعارضة.

نفس المعتمد الظاهري تم تبنيه على مستوى القرآن الكريم حيث عمد الخليفة عثمان بن عفان إلى توحيد ما سمي بالقراءات وإحراق غيرها من المصاحف، والتي كانت تحتوي على قراءات تأويلية ثرية جدًّا كما مصحف عبد الله بن عباس، وربما القصة كما يرويها علماء القرآن كجلال الدين السيوطي تحمل أكثر من معنى.

ففي كتابه “الاتقان في علوم القرآن” نجد العلامة السيوطي ينقل القصة على التفصيل الآتي:

“قال الحاكم: والجمع الثالث هو ترتيب السور في زمن عثمان. روى البخاري عن أنس: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن. فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق” (2). وكان من الصحف التي تم إحراقها مصحف عبد الله بن عباس، والإشكالية تتجلى في أنه من المصاحف الحاملة للسان القرشي، مما يجعل إحراق هذا المصحف راجع لسبب آخر ألا وهو التأويل الذي كان به يقرأ القرآن الكريم، فالنصية التي حرص عليها عثمان بن عفان تنظر إلى عملية التأويل على أنه انحراف عن المسار، وخصوصًا أن القراءات المختلفة على الألسن المتكثرة أضحت شبيهة بالفرق الضالة من يهود ونصارى.

بل والأكثر من ذلك، أن الرسول عليه الصلاة وعلى آله حسب الروايات المستفيضة والمعتبرة عند العلامة جلال الدين السيوطي تشير إلى أن القرآن نزل بسبعة أحرف، وبأن الرسول ارتضاه من طريق للتوسيع على الأمة، فمن أي وجه يتحقق صحة ما نحى إليه عثمان بن عفان. أفلا يعتبر تصرفه ضربًا لتشريع الرسول عليه الصلاة وعلى آله.

ملاحظة أخيرة تنجر إلى أخواتها وهو أنه لم يحفظ لنا تاريخ الأديان المقارن واقعة اختلاف القراءات عند اليهود والنصارى، أو حتى تلاوة الكتاب المقدس عندهم، لأن التحريف الذي يتحدث عنه القرآن الكريم تحريف أولي وقع في النسخة الأصلية لتنجر بطبيعة الحال إلى مجموع النسخ المأخوذة عنها، فالكلام واضح التهاتر. وإذا ما أردنا أن نجاري الراوي في قصته فإنه نقول بأن البروتستانت يلغون جزءًا من العهد القديم، على أساس أنه ليس من الكتاب المقدس بخلاف الكاثوليك، لكن هذا الصراع الكتابي لا يمكن أن يفسر على أنه اختلاف في التلاوة.

رب قائل إلى أن الراوي يلمح إلى أن الاختلاف يشمل الفهم، وبأن القراءة أريد لها الفهم في هذا المقام، فإننا نرد عليه على أن توحيد (الحروف) لن يؤدي بالضرورة إلى توحيد الفهم، ولا بأس أن نعاين مجموع الكتب التفسيرية لنلاحظ هذا الاختلاف.

نحن هنا لسنا بصدد محاكمة أي شخص، لكن فقط ما نود التنويه له هو أن الانحراف الذي تعرفه البنية الفوقية للمجتمع سواء فيما يخص السلطة السياسية أو السلطة المعرفية تؤثر كثيرًا على الثقافة العامة للمنطقة، وهذا عين ما حدث بحيث تحولت المعرفة الدينية الغالبة إلى معتقد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبالتالي فإن “الآخر” أجنبي عن الموقع الموجود فيه “الأنا”، وبما أن “الأنا” مؤمن بالضرورة فإن “الآخر” كافر بالضرورة أو في أحسن الأحوال عاص، وهذه من مطلقيات العقل النصي ذي الفهم الأولي، لذلك كثيرًا ما نقف على خطاب تفسيقي للغير دون محاولة فهم أطروحته على أساس موضوعي، بل قد يصل الحد إلى استعمال أسلوب التهكم والاستهتار بأفكار باقي الفرق الإسلامية، وفي الغالب تحريف آرائهم بقصد دفع القارئ إلى التقزز والاشمئزاز ونبذهم على الإطلاق، وطبعًا هذا الأسلوب يظل غير سليم بالمرة وإن كان يدل على شيء فهو يدل على ضعف المعتقد، بحيث إن المؤمن لا يستسيغ قراءة رأي المخالف قراءة موضوعية وحيادية مخافة أن يهتز إيمانه، فيقوم إلى إصدار الفتاوى التكفيرية وإحراق الكتب على أمل أن يحافظ على معتقده ومعتقد أتباعه.

وبإطلالة بسيطة على التاريخ الإسلامي سوف يقف القارئ على هكذا سلوكيات، وطبعًا هذا التصرف يظل مثبتًا لمعالم الحدية التي يتصف بها البراديغم النصي التبسيطوي.

أما البراديغم التأويلي فهو ينطلق من مبدأ عدم الوصول إلى الحقيقة بمشتملاتها الكاملة ما دام لكل حقيقة باطنًا يخصها، يصل إليه الراسخون في العلم، مما يجعل من الحيز الضيق الموروث عن التفسيريين أكثر اتساعًا عند أصحاب الطرح التأويلي وأرحم بالمسلمين.

وأن الإمام علي بن أبي طالب (ع) هو رأس هذا التوجه التأويلي، فقد عمل على تصويب الوضع الفكري الديني عندما عمد إلى إعادة تثبيت نخبة فكرية وسياسية من أصحاب التأويل “أعاد الإمام علي الاعتبار لنظام الدولة الإسلامي، وقام بتفعيله، بتفعيل مشروع تعليم القرآن المؤول، الذي ينتج فقهاء التأويل، الذين مثلوا هيكلية النظام السياسي، المسؤول عن حركة الأمة وتطورها نحو إقامة الكتاب: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[1][1]. فتبوأ فقهاء التأويل في عهد الإمام علي مقامات قيادية، فاستعملهم على الأمصار، وعلى التعليم، وفي سلك القضاء، بعد إن عزل العمّال والقضاة، الذين ينتمون للعهود البائدة، وطردهم من المساجد. ويمثل ابن عباس نموذجًا لولاة علي(ع)، فقد نصب واليًا على البصرة، فكان إلى جانب ذلك يعلم الناس في مسجدها تأويل القرآن، فخرّج أفواجًا من الفقهاء، ومارس القضاء بين الناس مستندًا في أحكامه إلى القرآن المؤوَّل” (3).

مما أعطى دفعة كبرى للفكر الديني في حينه، وربما لو استمر الأمر إلى حينه لما كان العالم الإسلامي يعيش أزمة حضارية كما هو وضعه الآن.

ومحاولة منا في الإيجاز نظن بأنه أضحى من الضروري العكوف على بحث التأويل كمدماك معرفي.

غالبًا ما يوضع هذا العلم قبالة النص القرآني، ليشير على العموم إلى محاولة تفسير القرآن بالرأي، خلاف الطرح السلفي الذي يرى تفسير القرآن بالمأثور، إلا أن هذا المأثور – وهنا أس المعضلة المعرفية – انتقائي، ولا يهتم بقراءات بعض الصحابة المشهود لهم بالعلم والورع كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب التأويليين بامتياز، مما يجعل ادعاء تفسير القرآن بالمأثور موضوع نقاش. ونحن في هذا الباب سوف نعمد إلى عرض تصور تأويلي إسلامي كما أتانا من التراث، قبل أن ننتقل إلى إجراء توصيف تأريخي للتأويل في المدرسة الغربية خاتمين البحث بمجمل ملاحظات نظنها كفيلة بتكوين نسق عقدي منفتح.

التصور الإسلامي للتأويل

يرى سماحة الشيخ أحمد البحراني بأن المسلمين تعلموا التأويل، مما جعلهم يتسلمون خزائن الكنوز المعرفية المتمثلة في آيات الكتاب الحكيم، وترددت أصداء كشوفاتهم المعرفية في نصه، وبرزت خلافة الإنسان بإنتاج خطابه مع الحفاظ للقرآن بمقام التصديق على الخطاب المتولد منه أو من النص النبوي بوصف الرسول عليه الصلاة وعلى آله الترجمة التطبيقية للنص القرآني في أجلى صورها. ومن هنا يتحقق فهم الآية القرآنية الكريمة ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾[2][2]، والرد إلى الله رد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى شخصه أو سنته. وهذا عين الواقع التأويلي.

والنظر إلى كتاب الله من جهة النزول التأويلي يؤدي بالضرورة إلى إنتاج آيات غير قابلة للحصر، مما يؤدي إلى الإحاطة الكاملة بالواقع الذي يضمن تلك الحركة التلاقحية مع المستجدات، وهذا التأويل يمارس على أساس آلية نسخية على آيات القرآن الكريم، بمعنى استنطاق النص القرآني من داخله ببعضه البعض، بل ويكفل خطًّا معرفيًّا مفتوحًا بين الإنسان وربه كما يعبر في الحديث الشريف “إذا أحب أحدكم أن يحدثه ربه فليقرأ القرآن”، ومن خلال هذا الخط المعرفي يطلع الإنسان على الكثير من الحقائق المعرفية، ليكون القرآن بلورة في عالم النبوءة، لها القدرة على أن تري مستنطقها حقيقة الأحداث في الأبعاد الزمنية المختلفة.

“وهذه الطريقة المنهجية، التي يمثلها التأويل كمنهج استنطاق، تحصن عملية البحث في الخطاب من الثغرات، التي يمكن أن تتسلل عبرها أهواء الباحث، فتلاحق الآيات وترادفها لتجيب كل منها على الشبهة التي تطرأ على الآية قبلها، فتحجب الهوى وتصده عن الدخول كموجّه لآيات الخطاب. بهذه الطريقة، يتضح أن ليس للباحث نصيب منها إلا بمقدار التعقب، والتتبع، والإصغاء للقرآن الناطق، ليكون الحكم لله. يضاف إلى ذلك، أن التأويل يكفل توحيد الأفكار المستنبطة من الكتاب بنفي الاختلاف المعبر عن التناقض، لأن العملية التأويلية إذا ما وقعت في الخطأ نتيجة تفويت الباحث لآية معينة تنسخ النتيجة النهائية التي توصل إليها. فإن للمتدبرين الآخرين القدرة على الإشارة إلى تشابه النتيجة المنتهى إليها، والمتشابه لا يعمل به، ولا بدّ من إحكامه بنسخ التشابه بالآية المفوَّته في التركيب.”فهو منهج محكم لا يترك الباب مفتوحًا من أجل التخبط أو إدخال الأهواء في القراءة التأويلية، بل هو منهج محصن لجسم الخطاب، بل حتى أنه يسمح للغير بتقويمه على أساسه نفس النهج المتبع. وهذه من كمالات المنهج التأويلي.

بقيت الإشارة إلى أن التأويل كآلية وطريقة لها قواعدها وشروطها، ممكنة للحركة الداخلية للخطاب حركة منهجية. وفحوى هذه القواعد تتلخص في جعل الخطاب القرآني هو الذي يملي عملية التغيير في خطاب قرآني آخر، فالتغيير نتاج إيحاءات الآيات اتجاه بعضها البعض وعبر المزاوجة بين الآيات، ويظل جسم الخطاب القرآني هو الشاهد على سلامة النتاج. حينها يتجلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾[3][3]. “حيث التحدي القرآني الكامن في هذه الآية، يتلخص في أن الآية القرآنية أينما وجهت بلحاظ الآيات الأخرى الناظرة لها، والمرتبطة بها بعلاقة إبدال أو إكمال أو تقديم وتأخير أو حذف أو تغيير في الشكل أو الإعجام، فإن التصريف لا يؤدي إلا إلى فكر سديد وعلم جديد، لا يمكن أن يتناقض أو يختلف. وهو ما يجعل كلام الله يتميز عن كلام البشر، وحينها يظهر أن وراء القرآن قدرة خارجة عن نطاق الطاقة البشرية، وتتجاوزها إلى حد الإعجاز، مما يدل على ربانية مصدره”.

فكما هو معلوم أن القرآن قد قسم آياته إلى محكم ومتشابه، وأنه لكي يتبين المعنى لا بدّ من رد المتشابه إلى المحكم قد تحقق الفهم. وليس بخفي أن ربط معرفة الناسخ والمنسوخ وبين تأويل الخطاب على وجوه كثيرة. فإرجاع الآيات المتشابهات إلى الأخر المحكمات، يؤدي إلى نسخ التشابه، وتصرف الآيات إلى وجوه. بهذا ينجلي الإطار العام للتأويل باعتباره منهجًا للاستنباط من الكتاب.

هذا مجمل تصور الشيخ أحمد البحراني والذي آثرنا تعقبه في عمومياته، لأنه تصور جامع لمجموع النظريات التأويلية الإسلامية التي ظهرت إلى تاريخه.

أحببنا أن نطرحها كتصور إسلامي مبدئي لعملية التأويل، وكيف تنضبط هذه العملية، وإيمانًا منا بضرورة الاستفادة من عطاءات العصر الحديث من نظريات مشابهة سننتقل إلى عرض تصور غربي لعملية التأويل قبل أن نختم البحث بمنظور نقدي شمولي نراه، والله أعلم، كفيلًا بتركيب نسق عقدي منفتح.

التصور الغربي للتأويل

بدأت الهيرمنيوطيقا أو علم التفسير (نصر حامـد أبو زيد)، أو الفَسارة (مشير باسيل عون) كمصطلح قديم طريقها داخل دوائر الدراسات اللاهوتية العامة كجهاز من القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النـص الـديـنــي (الكتاب المقدس) (4). وظلت آلية داخلدينية على الأقل لدى اللاهوت البروتستانتي لمدة من الزمن حتى أتى المفكر الألماني الشهير في أوساط رواد الهيرمنيوطيقا شلايرماخر (المتبني للموقف الكلاسيكي)، الذي نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتي ليكون علمًا ودربة لعملية الفهم وشروطها في تحليـل النصــوص (5)، ومجمل نظرية هذا المفكر متركزة على أساس أن النص هو وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ، وبالتالي فهو يشير – في جانبه اللغوي – إلى اللغة بكاملها. ويشير – في جانبه النفسي – إلى الفكر الذاتي لمبدعه، والعلاقة بينهما جدلية صرف (6)، وأنه كلما تقدم النص في الزمن صار غامضًا بالنسبة لنا، وصرنا أقرب إلى سوء الفهم منه إلى الفهم. وعلى ذلك لا بدّ من قيام علم يعصم القارئ من سوء الفهم مهما تقدم الزمن، لذا ينطلق شلايرماخر لوضع قواعد الفهم من تصوره لجانبي النص، اللغوي والنفسي. فيحتاج المفسر للنفاذ إلى معنى النص إلى موهبتين، الموهبة اللغوية، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية (7).

فهناك وفي أي نص جانبان: جانب موضوعي يشير إلى اللغة، وهو المشترك الذي يجعل عملية الفهم ممكنة، وجانب ذاتي يشير إلى فكر المؤلف ويتجلى في استخدامه الخاص للغة. وهذان الجانبان يشيران إلى تجربة المؤلف التي يسعى القارئ إلى إعادة بنائها بغية فهم المؤلف أو فهم تجربته دونما احترام لأوليات الاعتبار؛ بمعنى يمكن للقارئ أن يبدأ من الاستعمال الخاص للغة كما يمكنه أن يبدأ من الفهم المشترك فكليهما يؤدي إلى الآخر(8).

والعملية تتأسس على إعادة القارئ بناء تاريخية موضوعية للنص؛ وهي عملية تعتد بكيفية تصرف النص في كلية اللغة، وتعتبر المعرفة المتضمنة في النص نتاجًا للغة. ولهذه البداية جانب آخر، وهو ما يطلق عليه شلايرماخر إعادة البناء التنبؤي الموضوعي، وهي تحدد كيفية تطوير النص نفسه للغة.

وللبدء من الجانب الذاتي كذلك له جانبان: الأول إعادة البناء الذاتي التاريخي، وهو يعتد بالنص باعتباره نتاجًا للنفس، أما الجانب الثاني وهو الذاتي التنبؤي فهو يحدد كيف تؤثر عملية الكتابة في أفكار المؤلف الداخلية (9).

غير أن أهم مؤاخذة على هذه النظرية هي أن شلايرماخر يضع قانونًا لتفسير النص مطالبًا القارئ من أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخي الراهن ليفهم النص فهمًا موضوعيًّا تاريخيًّا، حالًّا نفسه محل المؤلف. وطبعًا ثمة استحالة في حصول ذلك وهنا يتجلّى عين رومانسية شلايرماخر (10)، والتي سيحاول كل من ديلثي وغادامر تجاوزها كما سوف يتم بيانه فيما يتبع.

نعم، لقد حاول ديلثي إيجاد تفسير وفهم صحيحين في مجال العلوم الإنسانية، وذلك في محاولته الجادة لإقامة العلوم الاجتماعية على أساس منهجي مختلف عن العلوم الطبيعية (بخلاف تيار الوضعيين) مركّزًا على فارق جوهري هو أن مادة العلوم الاجتماعية مادة معطاة – العقول البشرية – وليست مشتقة من أي شيء خارجها، بخلاف مادة العلوم الطبيعية، وعليه فإن العالم الاجتماعي يجد مفتاح العالم في نفسه وليس في خارجها. وعليه أساس الفهم الذاتي الصحيح يتجلى في إقامتها على أساس معرفي وأساس بسيكولوجي (11). فالأساس المعرفي عند ديلثي يتأسس على التجربة الذاتية فهي المقابل للتجربة في العالم الخارجي بالنسبة للعلوم الطبيعية. والتجربة الذاتية هي الشرط الضروري غير الممكن تجاوزه لأي معرفة ما دام أن هناك مشتركًا بين الآحاد من البشر، وعليه يصبح من المتيسر الإدراك الموضوعي القائم خارج الذات، إذ أن هذا الموضوعي الإنساني يحمل تشابهات من ملامح التجربة الأصلية عند الذات المدركة (12). وطبعًا هذا الفهم المؤسس على التجربة الذاتية وقراءتها كما الشيء الموضوعي راجع للتعبير سواء كان في سلوك اجتماعي أو نص مكتوب.

فمجمل نظرية ديلثي هي أن الهيرمنيوطيقا لا تعني عملية الفهم لشيء معطى محدد سلفًا، له وجود خارجي محايد عن المتلقي الذي يحاول أن يفهم هذا الشيء أو النص. إن هناك بين المتلقي والنص الأدبي شيئًا مشتركًا هو تجربة الحياة، هذه التجربة ذاتية عند المتلقي، ولكنها تحدد له الشروط المعرفية التي لا يستطيع تجاوزها. وهذه التجربة موضوعية في العمل. بقيت الإشارة إلى أن تأثير الفيلسوف الكبير ديلثي على كل من هايدغر وغادامر من الأمور غير الخافية، وربما ما سيتقدم تبيانه بخصوص هذين الفيلسوفين سيشكل توضيحًا لحجم التأثير ولحدوده في نفس الآن.

فأما هايدغر فإنه كما ديلثي عمل على سبر منهج يكشف عن الحياة من خلال الحياة نفسها، معتمدًا على بعض المفاهيم التي صقلها أستاذه هوسرل من قبل الوجود Etre ، والوجود الإنساني، فالفهم هو “قدرة إدراك إمكانات الذات للوجود في سياق حياة الشخص، ووجوده في العالم”. فالفهم بهذا المعنى أساسي وسابق على أي فعل وجودي. كما أنه هو أساس اللغة والتأويل، والتأويل هو عبارة عن إضفاء الصراحة على الفهم، لأن الفهم متقدم على التأويل فيكون التأويل منبني على أصل الفهم لا العكس (13).

الواضح أن الهيرمنيوطيقا عند هايدغر هي فن لفهم الوجود بما هو موجود وغير منبنية على أوليات منهجية صارمة كما هي مفصلة عند ديلثي، والملاحظ أن الفيلسوف الألماني غادامر قد نهج نفس نهج ديلثي وهايدغر على التفصيل الآتي.

فالفهم عند غادامر لا يشير إلى علم التأويل أو قواعده، ولا إلى المنهج المعرفي للعلوم الإنسانية كما هو عند ديلثي، إنما هي فعل فلسفي نواته: كيف تتيسر عملية الفهم وتكون ممكنة؟ ثم ما هو الفهم؟(14).

فغادامر يرى بأن الفهم فعل تاريخي، بمعنى أن النص لا يفهم إلا في سياق متطلبات العصر، ولهذا فإن الفهم يرتبط دائمًا بالزمن الحاضر، ولا وجود له خارج التاريخ. وأن المفسر له فهم خاص يختص بعصره يجب أن لا ينفك عنه، بل لا يستطيع ذلك (15).

واللغة في هيرمنيوطيقا غادامر هي الوجود الذي ينتظم في إطار الفهم، ولهذا فإنه يعد الفهم والتأويل شيـئًا واحدًا(16). والخلاصة أن تفكيك الفهم عن التأويل ما هو إلا تصور انتزاعي، وأنه لا معنى للفهم، والمعرفة بمعزل عن اللغة والتأويل. والفهم يتركز في ثلاثة أبعاد غير منفصلة عن بعضها:

– المهارة العملية (وهذه المهارة تم تلافيها في الهيرمنيوطيقا الكلاسيكية).

– المهارة الفهمية.

– المهارة التفسيرية.

وفي هيرمنيوطيقا غادامر يوجد اتجاهان لتبيين الفهم بوصفه ظاهرة لغوية، هما:

الاتجاه الأول: يبدأ وصف غادامر للفهم الهيرمنيوطيقي بتحليل ظاهرة الحوار، فهو يعتقد أن الفهم هو شكل من أشكال الحوار والحادث اللغوي يتحقق عبره الارتباط.

الاتجاه الثاني: إن السنن الثقافية تتوافر على صورة اللغة بمفهومها الواسع، وتفسير هذه النصوص يعني البدء بالحوار معها، ومن ثم يقع الفهم في أجواء اللغة، وميزته هو “النظم اللغوي” (17).

هذه مجمل الرؤية التأريخية للهيرمنيوطيقا في العالم الغربي وباختصار شديد لم يؤثر على فحوى النظرية عند كل مفكر.

لا يخفى على القارئ أن بعض التنظيرات هي عارية من المكنة العقلية في المقاربة، وربما هذا راجع لغالبية النزعة الرومانسية على الفترة التي تم فيها كتابة نظرية المفكر اللاهوتي الكبير شلايرماخر، هذه النقيصة التي دفعت بالفيلسوف ديلثي إلى أن يتطرف في محاولته للعقلنة المطلقة من أجل قراءة العالم والإنسان.

صحيح أن كلا التوجهين له نصيب من الصحة في المقاربة العلمية، إلا أن كليهما يحمل في ذاته بذرة موته، ولهذا نجد بعض المفكرين طفقوا يبحثون عن أسلوب تلفيقي توافقي من أجل الخروج بنظرية تأويلية متماسكة، وأفضل من نجح في هذا الباب هو الفيلسوف الفرنسي ريكور حيث أسس منظوره على التوفيق بين الملكة التأويلية التي تحدث عنها شلايرماخر، والعقل التأويلي الذي سعى إلى تقعيده الفيلسوف ديلثي.

فبول ريكور الفيلسوف الفرنسي الموسوعي والمتمكّن من مادة بحثه عمد إلى إجراء مصالحة كبيرة بين التيارين الفكريين الغربيين على أساس ميوله الفكرية والتي تركزت على ثلاث مدارس فلسفية تأثر بها كثيرًا “ألا وهي مدرسة تفكر الذات (الذات العاقلة) في الذات Philosophie Reflexive، وهي المدرسة التي أنشأها فيخته وسار عليها جان نابير، ومدرسة علم الظاهرات أو الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) التي أسسها هوسرل وانتمى إليها هايدغر من بعد أن طوعها لخدمة البحث عن معنى الكينونة في الإنسان أولًا، ومن ثم في اللغة، وأخيرًا في الكينونة عينها، ومدرسة الفلسفة التحليلية الناشطة في الفضاء الثقافـي الأنكلوساكسـونـي” (18)، دونما أن نغفل الإشارة إلى الطريقة التي يدمج فيها هاته المدارس الثلاث حيث يتخذ خط فلسفة التفكر الذاتي الذي يتحرك قصدًا في نطاق الفلسفة الظاهراتية ليضحي الجميع تعبيرًا هيرمنيوطيقيًّا آخر لهذه الفلسفة الظاهراتية (19).

فريكور والذي وجه انتقادًا إلى طريقة هايدغر لمقاربة الوجود والكينونة مسميًّا إياها بالسبيل القصير (20)، استعاض بطريق جديد أسماه بالطويل مبينًا إياه: “إن الطريق الطويل الذي أقترحه يطمح هو أيضًا أن يبلغ بالتفكر إلى مستوى الأنطولوجيا (علم الكينونة أو علم الوجود). ولكنه يبلغ إليه بلوغًا متدرجًا فيراعي تعاقب مقتضيات علم المدلولات (السيمانطيقا)، ومن ثم التفكر. وإن الشكل الذي أفصح عنه في ختام هذا المقطع لا يصيب إلا إمكان الإتيان بعلم الكينونة مباشر (أنطولوجيا مباشرة)، منعتق في الأساس من كل تطلب منهجي، ومنعتق بنتيجة ذلك من دائرة التأويل التي ينشئ هو لها نظريتها”. فالواضح أن ريكور يصر على ضرورة الاعتماد الدائم على معطيـات اللغـة ومعطـيـات التفكـر في الـذات العارفـة(21).

بقيت الإشارة إلى أن هذا الطريق الذي اختاره الفيلسوف ريكور محاولًا تجاوز مزالق غادامر الذي ظل خاضعًا لهواجس كل من ديلثي (حل مسألة أصل العلوم الإنسانية)، وهايدغر (علم الكينونة) كانت ناجحة إلى أقصى الحدود إلا أن ما حاول إخفاؤه هو تأثره العميق بالمنهج التفسيري الكتابي المعتمد من قبل اللاهوتي الألماني رودولف بولتمان، وإن كان أشار إلى اطـلاعه على كتابـات هـذا الأخيـر (22).

صحيح أن منظور الفيلسوف الفرنسي متكامل منهاجيًّا يجمع بين الذات العارفة الساكنة في صميم الزمان والمكان، واللغة بوصفها جمع رموز ينبغي الإمساك بتلابيبها لاستجلاء معناها. وهو عين ما يجب أن نطمح له كأمة تأويل ندرس النصوص الدينية بنوع من المسؤولية التاريخية ودون أن نخل باللغة الدينية وبقواعدها الداخلية والخارجية، نقول إن المنهج تكاملي جدير بالاحترام والأخذ بعين الاعتبار إلّا أن مسألة صغيرة تجعله غير مفيد في المجال الذي نحن بصدد التعامل معه وبحثه، وهو أن الذات العارفة إن كان لها محل اعتبار في القراءة الدينية إلا أنها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار بعض القراءات الممتازة والتي تظل راسخة غير قابلة للتجاوز أو الزحزحة من قبل القراءات النبوية والرسالية، وهو ما أغفله كل من ريكور وبولتمان.

حيث إنه وبعد أن تقدمنا بعرض  موجز لأهم المدارس الفكرية التي اهتمت بالتنظير لنظرية التأويل، يطيب لنا أن نتقدم ببعض النقود عليها من باب استكمالها لا أقل ولا أكثر، وهو بطبيعة الحال عرض لتصورنا للموضوع.

فأهم النقود الموجهة لنظرية التأويل كما هي ظاهرة في المدرسة الدينية والفلسفية الغربية يمكننا بسطها على التفصيل الآتي:

انعدام وضوح معالم تأثير القبليات وأهميتها

ذلك أن التفسير الخاطئ يظل خاطئًا بقطع النظر عن القبليات المعتبرة، وليس بالضرورة تغيير القبليات يؤدي إلى الفهم الصحيح. إلا إذا تم التحدث عن قبليات قطعية مشتركة بين المفسرين ووجوبية توافرها ليستقيم التفسير. وهذا ضرب نظرية الهيرمنيوطيقا في الصميم.

لأن أقصى ما يمكن استفادة الباحث منه هو تعميق البحث بخصوص الموضوع محل التفسير دونما توجيه من قبله، وأنه وعلى أساس البحث تتكامل القبليات حتى تصل موطن الإحاطة بالنص المراد تفسيره، وطبعًا تكامل القبليات رهين بالرؤى المتبناة من قبل الباحث، فالأنتروبولجي يرى أولويات القبليات رهينة بالمساحة المكانية والزمانية لنزول النص، بخلاف الألسني الذي يرهن قبلياته بتضارب المدارس الألسنية واللغوية، والكل بخلاف العارف الذي يرهن قبلياته بالعمق الذوقي مع شفافية القلب حتى يتيسر الكشف. وطبعًا مع هكذا نظرية تظل جميع التفاسير لها مصداقية صحة وإن بشكل نسبي دونما تفرد إحداها بالصحة على الإطلاق.

هذا على مستوى الوجه الأول من النقد، أما الوجه الثاني فإن القول بتعدد التفاسير على إطلاقها دونما عقال هو نسف لملاك النص القطعي الدلالة وغير قابل لأي فهم آخر، فعندما يصرح أحدهم بأن عمرًا دخل السوق فهذا له مفاد واحد، ولا يمكن القول بتعدد التفاسير بخصوص هذا المعنى إلا إذا سلمنا بخطأ باقي المفسرين. أو أن الكلمات تحتوي معاني مختلفة وهذا عين الوقوع في الدور. لأن النص (على الأقل في المستوى الشرعي) في الأصل يحمل على قطعية الدلالة، وإذا سلمنا بجواز تعدد التفاسير بخصوصه كف أن يكون نصًّا.

حقيقة التركيز على القبليات تكون له فائدة وثمرة فقط في تبيان نفسية المفسر، والتي ربما تفيد في إعادة قراءة النص المفسر. لكن هذه الثمرة تفقد أمام القرآن الكريم لأن موطن الاعتبار هو حقانية التفسير لا نفسانية المفسر فهذه مجالها الخصب هو الأدب في أوسع أبوابه.

وقوع الدور المؤدي للبطلان

لقد سبق لنا أن نوهنا إلى أن المفكرين في معرض تبيانهم لمراحل الهيرمنيوطيقا يختمون بمرحلة ضرورة ترجمة النص إلى الإطار التاريخي للمفسر. لكن حيث إنه يكون من المنطقي أن تخضع الترجمة نفسها بوصفها منتهى الفهم الأول إلى فهم ثاني نكون قد وقعنا في الدور المبطل للنظرية من الأساس، وإليكم تفصيل ذلك أن كل فهم (طبعًا وفق الرؤية الهيرمنيوطيقية) يحتاج إلى تفسير ولا تتضح دلالة النص على المعنى، إلا في ضوء التفسير، بل إن النص يتكلم بواسطة التفسير، ويلقي بمكنوناته إلى الخارج عبر عملية التفسير، إذن لا شك في أن فهم هذه الترجمة يحتاج إلى تفسير هو الآخر، مما يؤدي إلى حدوث تسلسل سلبي مبطل، فهذه ضربة أخرى للهيرمنيوطيقا من قبل التولد السلبي للأفهام، أما موطن الدور الحقيقي المتحدث عليه سابقًا فيتجلى في أن كل تفسير بحاجة إلى تفسير أيضًا مما يجعله مفسرًا لما يليه.

الخـلـط فـي المدارك المعرفيــة

الواضح أن تركيز الهيرمنيوطيقيين على القبليات وعلى محوريتها، راجع إلى وقوعهم في الخلط – أو ربما إيقاعنا نحن في الخلط – بين المدارك المعرفية الأولية والمدارك المعرفية الثانوية. ومقصودنا بالمدارك المعرفية الأولية هي المدارك المتبناة داخل علم معين، مثلًا علوم التفسير بوصفها موضوع هذا البحث، وبين فلسفة العلم أي المدارك المعرفية الناشئة خارج العلم والتي تريد الحكم عليه.

فالهيرمنيوطيقي يريد في بحثه توسيع الدائرة بإدخال المدارك المعرفية الثانوية في قلب المدارك المعرفية الأولية، وهو أمر مستحيل لأن المدارك المعرفية الثانوية لا تهتم بمصداق الحقانية ولا بمصداق الخطأ والصواب، بخلاف المدارك المعرفية الأولية التي تجد نفسها أمام هذين المحورين الهامين. ومن هنا نفهم تركيزهم على تعدد التفاسير وعلى ضرورة البحث بخصوص الاختلاف (لا الخطأ والصواب) في المباني المعتمدة. إلا إذا صرحوا لنا مشكورين بأن مقاربتهم تتجه كليًّا للمدارك المعرفية الثانوية دون نية إدخالها في المدارك المعرفية الأولية وهذا مستحيل لأنه عين القول بالتسلسل في الأفهام، والصحيح أنهم محكوم عليهم بهكذا وضع لأن الهيرمنيوطيقا أرادت لنفسها خرق الحدود وضبط المدارك المعرفية الأولية من الخارج، وهو أمر غير متيسر إلا إذا تم تبني الأساس القائل بحاكمية العقل على النص.

أزمـة بـؤرة مـعـنـى الـنـص

بهذا الخصوص نجد الهيرمنيوطيقي يقع في مطب معرفي آخر، لأنه يعجز عن تبيان المسلكية الصحيحة والكفيلة بضمان الخلوص إلى بؤرة المعنى في النص، فإن كان يقصد بأن بؤرة المعنى تفهم خارج النص (والظن أن لا) فهذا دور آخر يوقعنا فيه لأن فهم النص يوجب الاعتماد على خارج النص، وهذا عين الدور والحال أن هذا ليس فهمًا بقدر ما هو استقراء، أما إذا كان من خلال النص (وهـذا هو الغالب) فكيف نصل إلى البؤرة دونما اعتماد قبليات مختلفة، بل ومتضاربة حتى، فهذا يجرنا أيضًا إلى ضياع الوصول إلى بؤرة معنى النص حقيقة ومتفق عليها، هذا إذا سلمنا بأن البؤرة في غير حاجة إلى فهم، أما والحال أن أي نص بما فيه البؤرة في حاجة إلى فهم وتفسير فإن الدور والتسلسل لن يتوقف، فكل بؤرة معنى النص تقع للفهم والتفسير بنفس المراحل مما يجعلها تحتاج بدورها إلى بؤرة وهكذا دواليك إلى أقصى حدود التجزيء. ومن ثمة نفشل في الإمساك بالبؤرة حقيقة، وطبعًا الكل وفاقًا للمنظور الهيرمنيوطيقي.

طبعًا هذه كانت بعض وجوه النقد التي وجهناها إلى فقه التأويل، وأنه بتصويبها قد نحصل على منظور فكري معرفي يساعدنا في تجاوز الكثير من مطبات البراديغم الظاهري التي لا زلنا قابعين فيها، فكيف يكون هذا التصويب؟

التصور الخاص للتأويل

حقيقة الهيرمنيوطيقا حققت فتوحات فكرية كبيرة جدًّا وخطت خطوات عميقة جدًّا من أجل تشريح الخطاب وإعادة التعامل معه من جهة التثوير والإثراء، إلا أنها وكغيرها من الإنجازات المعرفية البشرية عرفت مجموعة من النقائص حرصنا على تبيان بعضها وفق البضاعة المعرفية الضئيلة جدًّا التي نتوفر عليها، أما النقائص الحقيقية فربما هي أكثر من ذلك، لا زالت خافية عن أنظارنا.

نقول بأننا حرصنا على الوقوف عند بعضها وكما هو معلوم بأنه بطرح السؤال الصحيح نكون قد ضمنا نصف الإجابة، فأولى المنزلقات متعلقة بالنسبية الكاملة بخصوص التفاسير الموجودة إلى حدود الساعة، وثانيها التحدث عن بؤرة للمعنى بدون استدلال معتبر، وثالثها الحاكمية على مؤلف النص بأكثر مما يقصد وهذا عين السقوط في المصادرة عن المطلوب.

وعليه، فإنه بوقوفنا على وجود مفسر كامل بامتياز (وهي إحدى مصاديق العصمة) واعتماده كسقف في التعامل مع الخطاب ربما سيشكل ضمانة من حالة التسيب التي يمكن أن يقع فيها الهيرمنيوطيقيون يقينًا مع إيمانهم بنسبية جميع التفاسير. نفس الأمر ينجر إلى بؤرة المعنى مناط التأويل، حيث يجب أن نتبع مصداق الخطاب واعتباره العمدة، وبالتالي نغوص في الخطاب على مستوى المدارك المعرفية الأولية ونبحث فيها عن الحقانية من عدمها، وليس الأخذ بالمدارك المعرفية الثانوية كما هو واقع الحال، بالأحرى الخلط فيما بينهما كما هو عند الهيرمنيوطيقيين حتى نتجاوز السقطات المعرفية التي سبق تسجيلها. أما فيما يخص السقطة الثالثة والتي تدعي فهمها للنص أكثر من مؤلفه، فليس لدينا حل بخصوصها إلا من حيث تعقب مراد المؤلف في مجموع الجسم الخطابي دون أن نستطيع الجزم بمراده، ما لم يكن شارح النص معصوم فمن هذه الحالة يمكن لنا الجزم بمراد صاحب النص، ما دامت تقريرات المعصوم حجة، صحيح أن هكذا يقينية متحققة على أساس الإيمان والاعتقاد بعصمة المفسر ولا مصداق خارجي لها، إلا أن اليقين الوجداني كافي للوصول إلى الخلاصات المتغيى تحصلها، لأن اليقين حتى الوجداني يظل مغيبًا في إطار فلسفة الهيرمنيوطيقا.

صحيح أن مباحث الدليل اللفظي كما هو مطروح عند العلامة الشهيد محمد باقر الصدر، بخصوص الدلالة التصورية، والدلالة التصديقية الاستعمالية، والدلالة التصديقية الجدية المهيمنة على غيرها من الدلالات لأنها تفيد القطعية*، قد تصب في نفس الخانة وإن باختلافات يسيرة تهم حجية الظهور، الشيء الذي يرفضه الهيرمنيوطيقيون من الأساس. لأن الفهم الأولي اعتباطي خالي من القبليات المعرفية المرجـوة (لأن القبلية المعتمدة في الظهور هو العرف)، لذلك لا ينزعون على هذا الفهم أية حجية، ما عدا إذا اعتبروا المدرك العرفي قبلية من القبليات ولعمري هذا متعسر التصديق لسبب وحيد أن القبليات التي يركزون عليها هي تلك الناتجة عن المخاضات الفكرية والذهنية الواصلة حد العالمية. فهم على سبيل المثال يصرحون بأن عبارة السماء تمطر قد تحمل معاني كثيرة بخلاف ظاهرها، وهذا عين الظهور العرفي المنقوض من قبلهم.

فقط ولكي نكمل الصورة المقترحة فإن ما نقصده بالتأويل هو أكثر من التأويل الذي كان عند طائفة من القراء إذ المدرسة “تقوم على نوع من التفكيك المضمر، لبنية النص، ثم إيجاد النظيـر أو المـرادف للفــظ مـحــل (الشبهة)، ونقله إلى سياق آخر، حيث يستطيع اكتساب معنى آخر. ويعود إلى موضعه مجددًا في صورة استبدالية. ولا يكفي آلية المماثلة، أن تتأطر في المجال الواحد، بل قد تخرج لتستدمج مختلف السياقات – قرآن، حديث، أمثال العرب – بل إن العملية التمثيلية هذه تتجاوز عالم النصوص والكلمات لتقـع على عالـم الأشياء” (23). بمعنى أن الواقع يكون حاكيًا على الخطاب/النص، والعكس صحيح مما يجعل هذا التأويل يتفق مع البعد الاشتقاقي للكلمة؛ أي رد الأشياء إلى أصولها.

فالتأويل كما هو عند أنصاره، يلعب دور “مفجر دائم لمكامن النصوص. فتثوير القرآن في ضوء ما سلف، يجعل القرآن يعاصر كل الموضوعات المتجددة، ويكشف عن أحكامه المختلفة بعدد الإحالات الاستبدالية، التـي لا تحـصـى” (24). لأنه خطاب بالضرورة منفتح على أكثر من حقبة زمانية ومن جغرافية معرفية طبعًا باستحكام داخلي برد المتشابه إلى المحكم ذلك أنه ما دام “كل معنى جديد يكشفه التأويل، يكون بمثابة إحكام لمتشابه، فإنه يأخذ موقع الحكم النسبي للموضوعات المتجددة. هذا يعني أن الارتباط بالمورد الأول، أمر مرفوض قطعًا، لأن ثمة أكثر من نزول للنص. وكل وجه يكشـف عنـه التـأويـل”(25). فالواضح أن التأويل يضمن حيوات كثيرة للنص ويجعله معاصرًا بامتياز. والحقيقة أن النص القرآني بوصفه أكمل النصوص يحمل في طياته هاته الحيوات الكثيرة فقط ينتظر من يستثمره بشكل فعلي، “فتحميل النصوص بعضًا من المعاني المحددة، هو من باب التعاصر الذي تفرضه ديناميكية النص، التي هي ديناميكية متصلة بحركة الواقع ومتغيرات الظروف” (26). فالنص والحال كذلك يتحرك داخل دواليب التاريخ ويخضع فهمه لقهريات الزمان والمكان مما يجعله نصًّا مساوقًا لحركة المجتمع، لكن يجب أن لا يفهم من ذلك معنى التطاول والتسيب لأن الفهم التاريخي للنص راجع ضرورة إلى رؤية المؤلف له، فإما أن النص كاشف بنفسه على معناه القطعي الدلالة، وإما أنه متدثر بالظاهر، والحال أن المراد هو الباطن مما يضع القارئ أمام ضرورة الرجوع إلى تفاسير المعصومين كشفًا للباطن، أو لبواطن النص، وإلا اجتهد اجتهادًا من أجل استبطان النص واستنطاقه مستحكمًا بقواطعه من محكمات، لكنه وفي أي حال من الأحوال ليس له أن يقف عند الظاهر لأن ذلك مخالف قطعًا لمراد مؤلف النص.

زبدة القول هو أن البحث عن بؤرة معنى النص غير متيسر ما لم يكشف النص عن ذلك، وإلا فإن السعي وراء ذلك دونه خرط القتاد، اللهمّ إلا إذا صرحنا بموت المؤلف أو أن المفسر يفهم النص أكثر من مؤلفه وطبعًا هذا ساقط الاعتبار عندنا. مما يجعل عملية البحث عن البؤرة دونما كشف كلي من النص ذاته سواء بظهور معنى محكمه أو برد متشابهه إلى المحكم وفق نسق تداولي، أو إضاءة من مفسـر ممتاز (معصوم) تجني على النص لا أقل ولا أكثر.

وعليه يضحي البراديغم التأويلي الذي نبحث عن تفعيله في هذا المقام هو اليقين بحاكمية صاحب النص على النص، وأن التفسير لا يتم إلا من داخله بمصداق ظهوره الأولي وتحقق معناه من خلال الباطن بعرض بعضه على البعض الآخر وبرد متشابهه إلى محكمه، منتجين نصًّا آيويًّا وفقًا للتخريج الهانائي، وأن أي تفسير متقيد بهذه الضوابط يظل تفسيرًا مشروعًا ما لم نقف على تفسير ممتاز مؤسس على المعصومية عندها نقف أمام هذا التفسير من جهة تحقق المعنى في أجلى صوره، أو أمام مقتضى عقلي كاسر لظهورية هذا النص، وطبعًا المقتضيات العقلية المتحدث عنها لا بدّ أن تكون متحققة من خلال إعمال العلوم الإنسانية والفلسفية والكلامية.

الحقيقة تقال بأنه بهكذا جهاز معرفي عائش تاريخه حتى الصميم ومطلع على آخر الإنجازات المعرفية في مجال العلوم الإنسانية وكذا الفلسفة وعلم الكلام (اللاهوت) يمكن أن نضمن استمرارية تعامل المسلم مع كتاب الله وسنة المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام تعاملًا إحيائيًّا، ونكون بذلك وفقط بذلك قد ضربنا رزوخية البراديغم النصي التبسيطوي في الصميم، وحققنا فتحًا عقديًّا يستوعب المخالف، بل ويرد مجمل الشبهات والإشكالات الدينية الكبرى التي تقف في وجه المتدين مرات عدة في يومه.

صحيح أن هذا البراديغم التأويلي الأوسطي لا يسمح بالوصول إلى نتيجة واحدة لكنه لا أقل يضع أنموذجًا إيمانيًّا عقديًّا أوضح وأسلم، لا يخاف من الأسئلة الكبرى التي تثار هنا أو هناك، ولا يوصد على نفسه الباب مستغشيًا بثيابه لأنه عيي أمامها. فلذلك نعاين تكسر الكثير من الأفكار الدينية التي استمرت لقرون خلت بسهولة غريبة فقط لأنه تم تمحيصها، مع ملاحظة مسألة جد هامة وهي أن البراديغم التأويلي الأوسطي لا يؤمن كثيرًا بالثوابت والحال أنها متغيرة فهو ينظر إليها في حجمها الطبيعي لذلك لا يرى ضيرًا في نسف الكثير من الأدوات المفاهيمية بإفراغها من حمولاتها التقديسية والنفخ النفسي لها، ليعيد بلورتها على أسس علمية أمتن وأصلب مرهونة بصدقيتها أكثر من النظر إلى قائلها، فعقلية التشخصن قد ولت إلى غير رجعة، وحلت محلها الموضوعتية والقوانين الداخلية المحركة لها. كما أنها تتعايش بشكل حضاري مع الإنتاج الفكري الإنساني تقلمه وتصقله وتؤسس بنيانًا فكريًّا دينيًّا على أساسه، لأن الواقع الحالي يرفض سد الأبواب وطلب السلامة، فبهذا البراديغم ووحده نضمن الجواب على مجموعة من الأسئلة الكبرى التي لا زالت تؤرق المؤمن، من قبل كيف أعيش متدينًا في هذا العالم؟ وماذا يقدم لي تديني من وصفات لأزماتي الكبرى؟ وأين يتجلى وجودي الأكبر في هذا العالم؟ وكيف يتحدث القرآن الكريم إلي في الألفية الثالثة؟ وكيف يجيب على هواجسي؟ وكيف أرى الرسول الأكرم عليه أفضل الصلوات وعلى آله والسلام.

فبهكذا براديغم نعي جيدًا من أين وفي أين وإلى أين ولعمري هي رأس المسألة.

الهـوامــش:

1 – سيرة ابن هشام المطبوع عن المكتبة العلمية، المجلد الثاني، الجزء الرابع، الصفحتان 184 و 185، ويمكن الرجوع إلى مجموع المصادر التأريخية العمدة للوقوف على اتفاقها في الإجمال على هذه الصيغة في الخطاب.

2 – جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ضبطه وصححه وخرج آياته محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، سنة 2002، المجلد الأول، الصفحة 120.

3 – المرجو الرجوع إلى مجمل أبحاث سماحة الشيخ أحمد البحراني المبثوثة في موقع التأويل.

4 – نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، 1999، الصفحة 13.

5 – المصدر نفسه، الصفحة 20.

6 – المصدر نفسه، الصفحة 20.

7 – المصدر نفسه، الصفحتان 20 و 21.

8 – المصدر نفسه، الصفحة 21.

9 – المصدر نفسه، الصفحة 22.

10 – المصدر نفسه، الصفحة 23.

11 – المصدر نفسه، الصفحتان 24 و 25.

12 – المصدر نفسه، الصفحة 25.

13 – مشير باسيل عون، الفسارة الفلسفية – بحث في تاريخ علم التفسير الفلسفي الغربي، بيروت، دار المشرق، ضمن سلسلة المكتبة الفلسفية، الطبعة الأولى، 2004، ما ضمن هو عصارة ما فصل في الفصل الخامس من الكتاب المخصص لفسارة هايدغر.

14 – نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الصفحة 42.

15 – المصدر نفسه، الصفحة 42.

16 – المصدر نفسه، الصفحة 42.

17 – يرجى الرجوع إلى كتاب مشير باسيل عون المنوه به أعلاه بخصوص فسارة غادامر، وكذا المقالة الشيقة لأحمد بهشتي.

18 – مشير باسيل عون، الفسارة الفلسفية – بحث في تاريخ علم التفسير الفلسفي الغربي، الصفحة 156.

19 – المصدر نفسه، الصفحة 157.

20 – المصدر نفسه، الصفحة 158. وتجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسي وصم فسارة هايدغر بالسبيل القصير لأن “علم كينونة الفهم إذ يعرض عن مناقشات المنهج، يحمل نفسه توًا إلى مستوى علم كينونة الكائن المحدود ليستطلع فيه فعل الفهم لا كنمط في المعرفة، بل كنمط في الكينونة، ويجري الانتقال إلى هذا المستوى بتحول مباغت في الإشكالية. فبدلًا من السؤال عن الشرط الذي به يمكن الذات العارفة أن تفهم نصًّا من النصوص، أو أن تفهم التاريخ، يجري السؤال عن جوهر الكائن الذي يقوم فعل الفهم في صلب كينونته”.

21 – المصدر نفسه، الصفحة 159.

22 – المصدر نفسه، الصفحة 160.

* شخصيًّا عندما أحاول الإشارة إلى العلّامة محمد باقر الصدر تعلوني رعشة، لأن مقام هذا العلّامة عالي جدًّا ومستوانا المعرفي الذي لا زلنا نقبع فيه دون المستوى المطلوب، مما يجعلني لا أجرؤ على إظهار منظوره في تفسير النص ومقارنته، وإن كنا ننصح بالرجوع إلى الكتب التالية لأهميتها وعلاقتها بالموضوع:

– دروس في علم الأصول، الحلقات الثلاث خاصة مباحث الدليل اللفظي ضمن الأدلة المحرزة.

– بحوث في علم الأصول، للسيد محمود الهاشمي، وخصوصًا المجلدات الثلاث الأولى المتعلقة بمباحث الدليل اللفظي.

23 – إدريس هاني، محنة التراث الآخر – النزعات العقلانية في الموروث الإمامي، منشورات الغدير، الطبعة الأولى 1998، الصفحة 375.

24 – إدريس هاني، نفس المرجع، الصفحة 377.

25 – إدريس هاني، نفس المرجع، نفس الصفحة.

26 – إدريس هاني، نفس المرجع، الصفحة 381.

[1][4]  سورة المائدة، الآية 68.

[2][5]  سورة النساء، الآية 59.

[3][6]  سورة النساء، الآية 82.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [1]: #_ftnref1
  5. [2]: #_ftnref2
  6. [3]: #_ftnref3

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14567/paradeigma/