هل لدينا علم كلام جديد؟

by معهد المعارف الحكميّة | مارس 30, 2022 6:03 ص

هل يوجد لدينا كلام قديم وكلام جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو ملاك الجدة فيه؟

قيل في معرض الجواب:

إن التغيّر قد أصاب المقاصد العامّة التي يتحدث عنها العلم القديم، فهذا أمر مرفوض بالكلّية في علم الكلام لأن مقاصده الأساسية التي يبحثها ويدافع عنها هي الإسلام، وهو لا يقبل التغيّر في أصوله ومقاصده الأساسية. وإن كان الذي تغير هو بعض التفاصيل الناشئة من طرح شبهات جديدة، فهذا لا يستدعي ولادة علم جديد، وبالتالي لا يستدعي الفصل بين العلم الواحد إلى علمين بالقول: هذا قديم، وهذا جديد.

وكذلك الحال فيما إذا كان التغيّر مجرد طروء مسائل مستجدة لم تكن سابقًا، فزيادة بعض المسائل وتغير مستوى الشبهات حاصلان في كل العلوم، فلماذا لا نجددها أيضًا؟ وما الفرق بينها وبين علم الكلام من هذه الناحية؟

من هنا رفض الكثيرون من علماء الإسلام فكرة “علم الكلام الجديد” على قاعدة أن دواعي التجدّد التي يُزعم عروضها على هذا العلم هي عرض عام على جميع العلوم، فكما أن علم أصول الفقه مثلًا،- على رغم القفزة التي شهدها مؤخرًا -، لم يستدعِ طرح علم جديد مكانه ليصبح “علم الأصول الجديد”، فكذلك الحال في علم الكلام.

وفي مقابل ذلك يقف آخرون ليؤكّدوا أن ما أصاب علم الكلام ليس مجرّد تغيّر أصاب مجمل العلوم الأخرى، وإنما هو عرضٌ خاص به، وذلك انطلاقًا من فكرة أن الإسلام الذي أخذ علم الكلام مسؤولية الدفاع عنه ليس لعصر دون العصور، وإنما هو لكلّ الأزمنة بما فيها العصر الحديث الذي نعيشه، والذي شهد تطورًا كبيرًا في مجمل المجالات الفكرية، فلا بدّ أن يواكب الإسلام هذه التغيرات والتطورات المستجدة، فيعيد النظر،- على ضوء المعطيات العلمية الحديثة -، بكثير من العقائد والمفاهيم التي كانت سائدة سابقًا وبأساليب إثباتها وطرق تبيينها ليطرح مكانها ما يتناسب مع الواقع الذي يفرضه التقدّم العلمي في كل عصر. وأن الجمود على ما هو قديم ضرب من الرجعية والتخلّف لا يتناسب وجوهر الإسلام كدين عالمي خالد.

وهذا ما يقتضي إعادة النظر بمبادئه وأدواته ومناهجه ولغته كمقدّمة لذلك. من هنا، قد لا يبقى من علم الكلام القديم شيء إلا ويستوجب استبداله بعلم آخر، وهذا فرق واضح بينه وبين العلوم الأخرى.

هذا الطرح جعل علماء الكلام التقليدي يصرّون على الرؤية المتقدّمة، وذلك لأنهم رأوا أن هذا الطرح يدعو في نهاية المطاف إلى تغيير في الإسلام كدين له عقائده ومفاهيمه وفكره، وهذا أمر غير مقبول عندهم بحال، بل نظروا إلى دعاة التجدد نظرة ريب وشك، وربما اتهموهم بمحاولة تغيير الإسلام، والإسلام ثابت لا يتغير.

وهكذا… ارتبط موضوع تجديد علم الكلام بفكرة الثبات والتغير في الإسلام نفسه، لا في أدوات الفكر الإسلامي فقط. وبُنيت المسألة على حسم الأمر في هذا النزاع، فعلى فرض عدم وجود إمكان للتغير في بعض نواحي الدين الإسلامي، فإن البحث عن تحديث علم الكلام يكون بلا جدوى، إذ ما الفائدة إذا غيَّرنا الشكل وأبقينا على المضمون! وهل هذا سوى إعادة طلاء لما هو قديم؟ فأين المعاصرة ومماشاة التطور؟

الثابت والمتغير في الإسلام

طرح موضوع الثبات والتغير في الإسلام في الكثير من المحافل الفكرية المعاصرة وفي العديد من المنشورات والكتب، وذلك لما يرتبط بهذا الموضوع من أمور يمكن أن تبنى على النتيجة.

هناك نظريتان في موضوع وجود المتغير في الإسلام وعدم وجوده:

النظرية الأولى

وهي تقول: لا يوجد في الإسلام إلا الثوابت، فكل الإسلام ثابت، ولا يقبل التغير، لأنه دين الله الخالد الذي لا يقبل التحريف ولا التغيير، وقد تم تشريعه وانتهى، فلا يقبل الزيادة ولا النقصان فضلًا عن التحريف والتغيير.

وهذا الرأي هو ما يتمسّك به العديد من العلماء في حوزة قم وغيرها، ويصرُّون عليه في كتبهم وخطبهم. يقول الشيخ جعفر السبحاني في هذا المجال:

إن بعض الكتَّاب الذين يتظاهرون بالإسلام يفسّرون تطور الإسلام الزمني بما يؤدي إلى محق أحكام الإسلام والقضاء عليها، فأولئك يزعمون أن التعاليم الإسلامية تدخل تحت أطر ثلاثة:

أولاها: إطار الأصول العقائدية كالتوحيد والنبوّة والمعاد.

ثانيها: إطار الأحكام العبادية كالصلاة والصوم وما شاكل.

وثالثها: إطار القوانين التي ترتبط بشؤون الحياة.

فيزعمون أن الثابت من تعاليم الدين ليس إلّا ما يدخل تحت الإطار الأول والثاني فقط، وأما ما يرتبط بالإطار الثالث من القوانين الاجتماعية فليست من صميم الدين، وبالإمكان تغييرها وإحلال ما تقتضيه مقتضيات الزمان مكانها في هذه المجالات.

أقول (أي الشيخ السبحاني):

القائل بهذه المقالة ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ويريد حصر الإسلام في المسجد لتخلو الساحة الاجتماعية لغيره لكي يلعبوا ما يشاؤون، ويستوردوا القوانين الاجتماعية من هنا وهناك، ويملؤوا بها الفراغ، وتكون النتيجة أن مصائر المسلمين يتحكّم فيها أعداؤهم، ويضعـون لهم خطوط المسيرة (1).[1]

ويقول الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في المجال نفسه:

وإذا كان هناك بعض المستجدات في بعض جوانبه فهو خاضع لتلك الركائز الثابتة التي أسسها الإسلام وفرغ منها، وهذا إنما يكون في الفروع فقط.

فالخلاصة: المتغير، وإن بدا لنا نحن القاصرين تغيّرًا، ولكنه في واقع الأمر ثبات لأنه نتيجة حتمية لتلك الأسس الثابتة، غاية الأمر أنه لم يكن معلومًا لدينا واليوم عُلم(2)[2].

النظرية الثانية

وهي تقول: هناك ثوابت ومتغيرات في الإسلام، فالثوابت تتجلى في النص قرآنًا وسنة …”وهو يعبر عن الثوابت التي تتجاوز المتغيرات التاريخية والجغرافية، وترسم الخطوط العامة، إما لتبيين نظام الوجود (الحقائق)، أو لتشريع الأصول التي تجلب السعادة والخير للإنسان (الاعتبارات التي تشمل القيم الأخلاقية والتكاليف الدينية والاجتماعية)”(3)[3].

وبالتالي، فإن المتغير هو ما سوى ذلك مما يعد تخصيصًا لتلك الثوابت ناشئًا من الواقع المتغير “بحيث يكون لكل واقعة حكمها المتغير بحسب تغير الموضوع والضرورات المرحلية، أي التكتيكات التي تتكيف مع مستجدات “الزمكان” (الزمان والمكان)، ولهذا قالوا: ما من عام إلا وقد خص، ولا يمكن إعمال وصفة واحدة موحدة على كل الحالات”(4)[4].

العناصر المرنة في الإسلام

لا شك أن في الإسلام بالإضافة إلى العناصر الثابتة التي تحدثنا عنها عناصر مرنة، وهي عناصر تقبل التحرك والانفعال ضمن أسس ثابتة نابعة من الخطوط العريضة المتقدم ذكرها، تمكِّن الإسلام من مماشاة التطور، فتتكيف معه دون أن تتغير بالكلية ودون أن يزول أساسها الثابت عما كان عليه في الأصل، وقد استخدم السيد محمد باقر الصدر (قده) كلمتي “مرن” و”متحرك بدلًا من كلمتي “متغير”، و”متحول” للإشارة إلى هذا المطلب تحديدًا، حيث قال في بعض معالجاته الاقتصادية:

كثيرًا ما يقول المشككون: كيف يمكن أن تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية في نهاية القرن العشرين على أساس الإسلام مع ما طرأ على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بعد قرابة أربعة عشر قرنًا من توسع وتعقيد، وما يواجه إنسان اليوم من مشاكل نتيجة لذلك.

والجواب على ذلك: إن الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحية دائمًا، ذلك أن الاقتصاد الإسلامي تمثله أحكام الإسلام في الثروة، وهذه الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر:

أحدهما: العناصر الثابتة، وهي الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة فيما يتصل بالحياة الاقتصادية.

والآخر: العناصر المرنة والمتحركة، وهي تلك العناصر التي تستمد،- على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف، من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة(5)[5].

وما قاله (قده) في الاقتصاد يجري بعينه في سائر الفروع، بل في الأصول أيضًا، وذلك بتقريب أن ما هو ثابت في النص (القرآن والسنة) من مسائل العقائد يدخل في ضمن العناصر الثابتة عندما ينص عليه القرآن والسنة الصحيحة. وأما غير ذلك كبعض تفاصيل العقيدة غير المنصوص عليها وطرق تبيينها والاستدلال عليها والدفاع عنها يتغير بتغير مستوى الفهم البشري العام تبعًا لتطور العلوم وتقدم المجتمعات. فيأخذ صورًا وأشكالًا أكثر تناسبًا مع العصر مع محافظته على أصل المبدأ القائم عليه.

وهذا يعني أنه يمكن دخول التجدد في علم الكلام بملاحظة عناصر الإسلام المرنة لا الثابتة.

وكمثال على العناصر المرنة نتحدث عن الصلاحية التي يعطيها الإسلام للولي الفقيه بما هو حاكم للمجتمع الإسلامي لملء منطقة الفراغ بالأحكام الفقهية اللازمة للعصر.

فالمادة الثابتة هنا هي القواعد الفقهية العامة والقضايا الثابتة في أصول الفقه التي ورد النص عليها في القرآن والسنة كنفي الحرج والضرر مثلًا، والمتغير هنا هو الأحكام التي من شأنها أن تفي باحتياجات الأمة كتطبيقات لتلك القواعد، وهي تارة أحكام ثابتة لموضوعاتها، فيكون بيد الفقيه تشخيص موضوعاتها، وتحديد ما إذا كان هناك ضرر أو حرج في فعل أو موقف معين، وأخرى أحكام موجودة بالقوة لا بالفعل يقوم الولي بإخراجها إلى حيّز الفعلية كأحكام جديدة تثبت للموضوعات المستجدة، ولكن على ضوء الأسس العامة لمبادئ الإسلام.

وإلى هذا المعنى يشير السيد محمد باقر الصدر، رحمه الله، عندما يقول:

إن المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين:

الجانب الأول: قـد مُليءَ من قبل الإسلام بصورة منجزة لا تقبل التغيير والتبديل.

الجانب الثاني: يشكّل منطقة الفراغ في المذهب، قد ترك الإسلام مهمة ملئهـا إلى الدولة (ولي الأمر) يملؤها وفقًا لمتطلبـات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ومقتضياتها في كل زمان(6)[6].

الخاتمة

وعليه يتضح أن علم الكلام،- وبعد توسعة موضوعه ليشمل القضايا الأخلاقية والحقوقية وسائر المفاهيم الإسلامية ومسائل الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد -، يشتمل على الكثير من العناصر المرنة التي تقبل التحديث لتتماشى مع متطلبات العصر ضمن الضوابط العامة المنصوصة كما أسلفنا، لأنه سيشمل حينئذٍ قسمًا هامًا من المسائل الفرعية التي تقع ضمن دائرة الاجتهاد الفقهي والنظر العقلي، وهي مسائل للبحث فيها مجال واسع.

(1)[7]  جعفر سبحاني،  معالم  النبوة  في  القرآن  الكريم، (بيروت: دار الأضواء،  1984)، الصفحة  278.

(2)[8]  يستفاد  هذا  المعنى  من  مجمل  كلام  تفضل  به  سماحته  في  بعض  محاضراته  التي  ألقاها  في  بيروت  أواخر  صيف  1999.  يمكن  مراجعة  مجلة  بقية  الله،  عدد  خاص  لشهر  شعبان1420هـ.

(3)[9]  د.محمد خاقاني، أمر  بين  أمرين،  (بيروت: دار  الهادي، 1999)، الصفحة  73.

(4)[10]  المصدر  السابق، الصفحة  72.

(5)[11]  السيد  محمد  باقر الصدر، مجموعة  الإسلام  يقود  الحياة، صورة  عن  اقتصاد  المجتمع  الإسلامي، (بيروت: دار  التعارف،  1979)، الصفحة 22.

(6)[12]  السيد  محمد  باقر الصدر، اقتصادنا، (بيروت:  دار  التعارف، 1981)، الصفحة 400.

Endnotes:
  1. (1).: #_ftn1
  2. (2): #_ftn2
  3. (3): #_ftn3
  4. (4): #_ftn4
  5. (5): #_ftn5
  6. (6): #_ftn6
  7. (1): #_ftnref1
  8. (2): #_ftnref2
  9. (3): #_ftnref3
  10. (4): #_ftnref4
  11. (5): #_ftnref5
  12. (6): #_ftnref6

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14573/ilm-al-kalam/