رأس العبادة | آدابٌ للدعاء
ولا يفوتنا هنا أن نذكر بعضًا من الآداب المعنوية المفيدة للوصول إلى مثل هذه النتيجة من ذلك:
أ. أن يوقر المرء في قلبه كون العبادة تشريف من الله شرّف به الإنسان، بحيث يصبح أداء التكليف إنجازًا إنسانيًّا تحرريًّا. من حُرٍّ كرّمه ربه وسيّده إذ استخلفه وأولاه شرف الحضور الدائم عنده، وهذا ما يخرجه من أسر المحيط والضغوط الدنيوية المذلة. وعليه السعي لوظيفة إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
ولا يقتصر التشريف على هذا النحو المجتمعي، بل هو يقوم بتربية الإنسان على قيم الرحمة؛ إذ عند كل زمن عبادي أو فعل عبادي انعتاق جديد من النار.. والنار هنا هي التعبير الأمثل عن الخطيئة والزلة التي تُخرجِ من النعيم والرضوان.. فالانعتاق بسبب التكليف العبادي هو هذا التحرر الداخلي والصفاء الروحي الذي يمكن للإنسان أن يعيشه وهو يخاطب ويحادث مولاه.. يطلب منه وبثقة، يستغفره وبرجاء، بل تصل الثقة أن يحاججه بكرمه سبحانه، وبتوحيد العبد له ليصبح الواجب مع إخلاص التوحيد حقًّا من حقوق الإنسان أمام ربه.
ب. تنقسم عبادة الطاعة إلى قسمين:
القسم الأول: الطاعة المقتصرة على أداء الفعل وإن بشيء من التوجه ولو على مستوى استحضار النية. وهذا الأمر المشترك في أدب كل توجه من قبل الداعي إلى ربه.
القسم الثاني: الطاعة المشفوعة بالجد والاجتهاد؛ وهي التي يعمل الداعي أو العابد على التزامها ضمن صورة المداومة على الفعل بوقت أو أوقات محددة، وأعداد من الذكر أو الدعاء محددة، وغير ذلك من التزامات. كما أن فيها صورة التمعن في التأمل والتذكر والتدبر، بحيث تنم عن حالة من التفكر يصل إلى مقام الذكر القلبي، فالأحوالي بعد ذلك، وهو ما يعطي هذه الطاعة والدعاء طابع الخصوصية المحببة؛ لأنه يتحول إلى جزء من الذات.
وهنا دعونا نفرّق ولو استطرادًا بين الذات التي هي الخصوصية المفتوحة على الوجد والمحبة، وبين الذاتية بمعنى الرغبة بالذات والاستغراق فيها، ففي الأولى تنفتح الذات على الله سبحانه كمحبوب نتقرب إليه من حبنا الذاتي له. وفي الثانية نجعل من الله والناس في دائرة التوظيف لمشتهياتنا الذاتية وخصوصياتنا.
إن الأولى حالة فطرية خلقنا الله وجعلنا عليها، بينما الثانية اكتساب لخاصية تولدت لدينا مما كسبته جوارحنا ونفسنا الأمّارة بالسوء.
على كل حال، فإن الجد والاجتهاد سبيل من سبل الرقي والسمو والتطور الذي ينقل الإنسان من حضيض التثاقل إلى الأرض نحو أفق الروح والعزة الإنسانية القادرة على الإصلاح والإعمار.
ج. أن نؤكد مع الدعاء على محورية الحديث مع الله سبحانه مستحضرين أن الله سبحانه الذي خاطبنا في كتابه العزيز(القرآن الكريم)، من حقه علينا، حق أعطانا إياه وهو أن نجيبه بخطاب النفس والقلب واللسان والحال وهو الدعاء. لذا فلو تأملنا قليلًا في مضامين الأدعية المأثورة لوجدناها بمثابة إجابة أو استجابة لخطاب قرآني مثلًا “أنت قلت وقولك الحق”، “وأنت قلت ادعوني أستجب لكم، وقد دعوناك…”، وغيرها كثير مما يضعنا كداعين أمام أدب من الحضور الواعي والمتفاعل مع مصدر الوجود والحياة.. وفي هذا تأسيس لمنهج بالغ الحساسية مفاده: أن النص القرآني ينطوي على طاقات لا يمكن لنا تفعيلها في حياتنا إلا من خلال وعيها وعيشها في كل مفصل ومنعطف من منعطفات تجاربنا وهمومنا وقلقنا الحياتي والحضاري، ثم إن علينا أن نعكس هذه التجربة المفعمة بالتمازج مع الخطاب الإلهي ضمن رؤية نعبّر عنها بأساليب التلاقي مع المصدر الذي هو الله سبحانه، وأحد وجوه هذا التعبير المركزية هو الدعاء مما ينجم أن الدعاء هو مخزون المعرفة والتجربة التي تولدت في الروح والعقل بفعل التدبر في النص والتبصر بشؤون الحياة.
وقد تتبدّى لنا تقاسيم وجه هذه الصورة لو عُدنا إلى بعض المقاطع من الأدعية.
المقالات المرتبطة
فلسفة التولّي والتبرّي في أدبيّات زيارة الإمام الحسين (ع)
تنطوي الزيارة، بوصفها نمطًا قوليًّا وممارسة عمليّة على أدبيّات تربويّة يتغيّاها الدين الإسلاميّ. ويظهر ذلك من خلال ما تحمله من دلالات معنويّة عالية وسامية في بيان نهج الحقّ ومواجهته للباطل في كلّ زمان ومكان
البعد العرفاني في فكر محمد رضا فضل الله
يحفل التاريخ الفكري بالكثير من الشخصيات التي لم تأخذ حقها في البحث والتحليل، فهي بقيت في عالم الظل
من دروس الطفّ
تقدّم الوجود بتطوّراته، وتعالى بكماله. فتأهّل للوحي الإلهيّ، وعبرت عليه النبوّات المقدّسة المحدودة متدرّجةً ناشرةً دروس الإصلاح والصلاح.