السلطة الحديثة واشتغالاتها الرمزية
لم تعد السلطة مجرد أداة تحكُّمٍ مباشر بالمجتمعات الإنسانية عبر قوتها الصلبة، فهذه الوسيلة كانت ناجحة في مجتمعات ما قبل الثورة العلمية والتقنية التي وصلت إلى ذروتها من خلال تطور وسائل التواصل وتنوعها، حيث في هذا الواقع المستجد لم يعد مفهوم الشوكة هو الأصل الذي يجب أن يسعى إليه أصحاب السلطة، أو لنقل لم يعد غاية قائمة بذاتها، لأنّها سرعان ما تنحل في حال تعرضها لخطر خارجيّ يفقدها القدرة على ممارسة عنفها أو قوتها عبر وسائلها الصلبة، وهذا لا يعني غياب أهمية هذه القوة، سواء أكان في البدايات أو أثناء عمل القوى الناعمة، ولكن ما نشير إليه إلى ضرورة أن تتكئ هذه القوة على فهم للبيئة التي تتعامل معها.
فالسلطة في الراهن تحوّلت باتجاه القوة الناعمة للقيام بمهامها مستفيدة من الأدوات الرمزية التي تُوصِلُ رسائلها باتجاه العقل عبر رأس مال رمزي مشترك، يتكئ على التكوين الثقافيّ والاجتماعيّ للشعوب لمخاطبتها بلغتها، وطبقًا لرغباتها من أجل تحقيق غايات محددة. فتفكيك آلية إعمال العقل وفحص الاستجابات الممكنة والمتوقعة، يشكل نقطة البداية في كلّ عملية تغيير أو تثبيت لسلطة ما حديثة ومعاصرة، والقادر على القيام بعملية مقاصة مع الآخرين هو الأجدر على قيادتها، فالسلطة في هذا الموضع كسائس عربة النفس الأفلاطونية، يحب أن تدرك آليات كبح جماح حصاني الشهوة والغضب، والتنسيق فيما بينها حتى تبقى على توازنها، وهذه المقاربة تبقي النفس العاقلة بما هي قيادة أمرية والمتمثلة بسلطة حاكمة طالما استطاعت أن تسيطر على الطبقات الاجتماعية الأخرى عبر امتلاكها القدرة على تسييل رأس المال المشترك للاستفادة منه بتثبيت قاعدتها.
من خلال ما تقدم، السلطة هي تلك القوة القادرة على التلاعب بالعقول، وبالتالي بالشعوب عبر استحضار خطاب، يستطيع أن يوجد حقلًا تداوليًّا شبيهًا بأسواق المال، من يمتلك القدرة الاقتصادية على التحكم به، وتحريكه بسهولة، يستطيع أن يحكمه، لأنّه في هذا الموضع، يمتلك القدرة على استخدام رأس المال الرمزي من أجل إنتاج خطاب يتوافق مع البنية الاجتماعية المخاطبة، لذلك نرى أنّ المجتمعات الإنسانية الحديثة، تميل باتجاه إقامة سلطة مرجعيتها الفاعلين على وسائل الإعلام والتواصل، ومن يسيطر عليها، يستطيع أن يبني أيديولوجية خاصة به، وهذا يعني أنّ العنصر الأساس في بناء السلطة، يتمثل في القدرة التواصلية، ويقتضي هذا الواقع بسيطرتها على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي تشكل بحسب “باولو فرير” منصة لتضليل عقول البشر: “[و] أداة للقهر، إنه يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة”.
والنقطة السابقة، ستكون نقطة انطلاق بورديو، الذي نظر إلى وسائل الإعلام باعتبارها أداة للعنف الرمزي ومن ثم لإحكام السيطرة وضمان الهيمنة، وفي هذا الإطار، اعتبر أنّ القنوات التلفزيونية وبشكل خاص الفضائية منها لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية أو للتثقيف (حتى وإن كانت برامجها تتضمن ذلك)، وإنما هي قد أصبحت أدوات للضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات الراهنة، أو هي وفقًا للمصطلح الذي نستخدمه عبارة عن أدوات للعنف الرمزي – تتوافق مع رأس المال الثقافي والاجتماعي – الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على المجتمع وتسير هذه الأدوات.
إنّ الإعلام ووسائل التواصل بهذا المعنى آلة تعمل على الدفع بالقوى الاجتماعية نحو تحقيق أهداف السلطة واستمرار سيادتها، فتقدم طبقًا شهيًّا يخدم مصالحها، لكنّها بهذا الطبق تمارس تأثيرها الرمزي الدائم على الفاعلين الاجتماعيين، الذين قاموا بمقاصة بينهم وبين السلطة، إذ قامت بتقديم ما يتناسب مع رأسمالهم الخاص، وبالمقابل أخذت منهم الطاعة والركون لها.
فالسلطة الحديثة تعمل على تحقيق مصالحها من خلال التلاعب بالعقل والتأثير به عبر بثّ مجموعة من المثيرات التي تتوافق مع بنية العقل المخاطب، الذي يشكل العنصر العاطفيّ الانفعالي الأساس الذي يقوم عليه، ومن ثم ينتقل إلى التفكير العقلاني الذي يرتبط بكثير من الأحيان بمصالحه الخاصة ومنفعته الذاتية، ليصل بعد ذلك إلى المنفعة بالمعنى الأعم، وهذا ما يجعل كلّ خطاب يتوجه باتجاه الاجتماع عليه أن يقوم على عناصر متعددة:
- إظهار تميّز المخاطب وإشعاره بأهميته عبر العمل على تضخيم التناقض مع الآخر، مقدمة لاستثماره في معركة السلطة، وفي هذا المجال يتمّ اختيار الرموز المناسبة التي تتوافق مع بنية العقل المخاطب سواء من خلال أمثلة تاريخية أو نصوص ذات طبيعة دينية أو أيديولوجية.
- العمل على زرع مجموعة من العناصر التي تعزّز توجّهًا محدّدًا عند المتلقي، يمكنها استخدامها في أوقات لاحقة من أجل مصلحتها الخاصة.
السلطة بالتالي هي القادرة على تفكيك نظام العلاقات المتشابكة.. وبنية العالم الاجتماعي من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة، مما يعني أن الخلفية التي يشتغل عليها هي الرمز لما له من تأثير فائق وغير محدود، إضافة إلى أنه متخفّي، لا يظهر إلا على صورة مواقف من المتلقي سواء أكان ذلك عبر مواقف مباشرة أو انفعالات إنسانية.
المقالات المرتبطة
الوعي والأسئلة الدينية
عادة ما يحدد الإنسان بكونه “كائنًا حيًا واعيًا”، أي يمتلك، بالإضافة إلى العضوية الحية التي يشترك بها مع غيره من الكائنات المتسمة بالحياة، قدرة إدراكية يستعملها في إدراك ذاته وإدراك الوجود.
الليبرالية والتعددية الدينية
إن مسألة التعددية لم تطرح في الأصل فيما يتعلق بالأمر الديني، إنما طرحت في النصف الثاني من القرن العشرين
ترابط القيم وفاعليّتها
لعلّ مصطلح “القيم” – مصطلح ظهر حديثًا، وعبر الترجمات- وهو أكثر المصطلحات شيوعًا واستخدامًا ومعاصرة، وتبعًا لثقافات مستعملِيه تتنوّع التثقيفات