الدستورانية الإسلامية في منظور الإمام الخميـني (مقـاربــة مبـدئيــة)
الـمقـدمــة
إحياء الفكر الديني من أنبل المهام التي يمكن أن يقوم بها كل مسلم لأنه وبكل بساطة يسهر على إبقاء جذوة الإسلام مشتعلة، وليس من منكر القول بأن من أهم المجالات الواجب فيها تجديد الخطاب الديني هو المجال السياسي لما يعانيه من فقر تنظيري قل نظيره في العالم الإسلامي أجمع، فيكون من باب العدالة التعامل مع بعض الأقلام النيرة – وإن كانت قليلة – بتحليل خطاباتها وتفكيكها من أجل إعادة البناء، لتضحي قراءتها تجديدًا بامتياز لفكر مجدّد داخلديني، وأيضًا حفاظًا على ذكرى المفكّر موضوع الدراسة.
وإيمانًا منّا بأن تحييز الموضوع المبحوث فيه من أولى أولويات الكتابة حتى يتسنّى لملمته وإحاطته بشكل جيد آثرنا التركيز على جنبة فكرية معينة من الفكر السياسي عند الإمام روح الله الموسوي الخميني ألا وهي الدستورانية الإسلامية لما لهذه الجنبة من أهمية كبيرة لا تنكر كما سوف يظهر من خلال الدراسة، ونقصد بالدستورانية تلك الملكة الثابتة للتنظير الدستوري؛ أي السياج النظري في التفكير الدستوري وهي في حالتنا موضوع الدراسة واقعة داخل النسق الإسلامي، والتي سوف نأتي على إعطائها تعريفًا أكثر أيضاحًا فيما بعد. دون أن نغفل الإشارة إلى حيوية البحث عند هذا المفكّر العتيد. مما يجعل هذه الورقة ذات أهمية لا تنكر في هذه الظرفية الخاصة والمتمثّلة في الوقوف أمام الغزو الفكري الغربي بما فيه الأفكار الدستورية المتناقضة ومفهوم الأمة الإسلامية.
في البداية لا بأس من الإشارة إلى أنه مبدئيًّا عندما نتحدث عن الدستورانية فإننا نقصد تلك الحمولة المعرفية والعقدية المشكلة للعقل الباطني لفكرة الدستور، فهي الثابت الذي لا يتغير داخليًّا وهو العقال الإبستيمي لأي مراجعة دستورية مطروحة للنقاش في السوق السياسي، وعليه لا يكون مستساغًا اعتبارها الإطار السياسي الكفيل بتحصين حريات المحكومين وتقييد سلطة الحاكمين كما ذهب إلى ذلك الأستاذ محمد ضريف (1) لأن هكذا تعاريف فيها مصادرة على المطلوب وتوجيه للفكرة غير مستقيمة والحد. فعلى سبيل المثال أية أيديولوجية موجودة بوصفها مجموعة أفكار حاكمة على المنظور الفكري والاجتماعي يمكن أن تفيد البشرية كما يمكن أن تضر بها، وبالتالي لا يكون مستساغًا تعريف الأيديولوجيا على أنها نسق الأفكار الحامية للمجتمع، نفس الشيء يصح على الدستورانية الشيوعية كما تجسدت في الدستور السوفياتي أو الدستورانية الفرانكية، وعليه يظل تعريفنا هو الأسلم لإحاطته بالمعنى دون توجيه للمضمون.
والآن وبعد أن تم تحديد المفهوم محور البحث لا بأس من أن نشير إلى أنه برجوعنا لمجمل الكتابات والدراسات الإسلامية سواء التي كتبها الإمام، أو كتبت حول الإمام، أو حول الحكومة الإسلامية والتي تيسر لنا الاطلاع عليها، سنقف على حقيقتين أوليتين هما: أولاهما: أن الإمام قد أوضح الأسس المعرفية الدينية الاعتقادية التي لا محيد عنها من أجل إنشاء حكومة إسلامية والحفاظ عليها، وثانيتهما: أنه لتحقق فكرة الحكومة ولضمان ديناميتها التاريخية واستمراريتها تلزمها أدوات إجبارية التوسط Medium، إذ لا يمكن المجازفة بالتخلي عن إحداها. وعليه نجد أنفسنا أمام ثابت ماهوي وثابت أداتي، وهذه الإحاطة قل نظيرها في العالم المعاصر، حيث النسبية أضحت معتقدًا أديولوجيًّا نقبل به دونما التفكير في صحته من عدمه. لأنه وإن كان ثمة إجماع حول الثبوت الماهوي لفكرة ما مع الإيقان بحركة داخلية لها، لم لا نسميها جوهرية على غرار التنويع الصدرائي، فإنه قلما نجد إيمانًا بالثوابت الأدواتية، وهذا ليس غريبًا على تلاميذ ميكيافيلي حيث النتيجة تبرر الوسيلة، ولذا فإن العقل السياسي الغربي، بما هو عقل ثائر على الأرثوذكسيات الدينية بوصفها عقائد إطلاقية متترس وراء النسبي واللا إطلاقي، لا يهتم بمشروعية الأداة ما دام الهدف نبيلًا، وإن كنا نتساءل عن حقيقة سمو الهدف مع دناءة الوسيلة الموصلة إليه.
ومن ثمة تكون مساهمة الإمام في هذا الباب من المساهمات القليلة جدًّا والجدية في نفس الآن والمتصفة بروحية سياسية حاملة لخصوصيات الروح في قلب المادة، هذا شبه التفرد يجعلنا نقف مشدوهين أمام عطائه المعرفي الثري جدًّا، موقنين بأن أفكاره وأخلاقياته ما هي إلا عصارة نسق معرفي متكامل ظل مختمرًا لقرون خلت.
صحيح أن البعد الوحياني في التغيير الاجتماعي والسياسي وجدناه عند مفكرين كثر كالمفكر الإسلامي الكبير حسن البنا أو الدكتور علي شريعتي أو سيد قطب حاضر بقوة كبيرة، إلا أن شيئًا ما كان ينقص التركيبة الإبستيمية مما جعل من أفكارهم تظل في مقام الفكرانيات لم تعرف نزولًا واقعيًّا وعمليًّا، وبعبارة أخرى أن أفكارهم لم تجد طريقها إلى التطبيق، ليس لعدم كفاءة حاملي الفكر، بل بالعكس هؤلاء قد أظهروا إحاطة ممتازة بالموضوع الذي بحثوا فيه – مع بعض التحفظ في كتابات شريعتي – بل لعدم قابلية أفكارهم للتطبيق لأجنبية النسق المعرفي وعدم اتساقه مع المنظور المتبنى من قبلهم، فمثلًا النسق الفكراني الرابض على المجال السياسي في مصر حيث المذهب الحنفي والشافعي هو الغالب، نجد أنه من غير المتصور اعتماد واقع الخروج على السلطان بوصفه أميرًا للمؤمنين، لذا نجد السيد البنا لم يجد بدًّا من التركيز على طرد الاستعمار ونصح السلطان.
وطبعًا إن الخطاب الإسلامي بوصفه خطابًا قرآنيًّا بامتياز يجب أن يدور مع القرآن لا مع السلطان، وإلا انكفأ الخطاب على نفسه. وهذه هي المعضلة الفكرية للكثير من الإصلاحيين؛ إذ نجدهم يودون إمساك العصا من الوسط، متناسين أن صفاء الرسالة ترفض هكذا خيارات فالدوران يجب أن يتم حيث القرآن حتمًا دون مواربة.
وهذا الوضوح المعرفي الجذري هو الذي نجده ناضحًا في الخطاب السياسي عند الإمام، والأكيد أنه لولا وحيانية اجتهاده الكاملة لما حافظ هذا الاجتهاد على صفاء منظوره، كما سيأتي بيانه فيما بعد.
وحتى لا يشيط بنا القلم نعود إلى صلب الموضوع، معلمين القارئ بأننا سنشطر هذا البحث إلى شطرين: نخصص الأولى لمناقشة الأسس المعرفية للدستورانية الإسلامية عند الإمام، ثم ننتقل لمناقشة الأسس الأدواتية في الشطر الثاني لنخلص إلى مواصلة البحث، فبسم الله مجراها ومرساها.
الشطر الأول: الأساسيات المعرفية في الدستورانية الإسلامية عند الإمام
الحقيقة تقال: إن استنباط الأساسيات المعرفية من خلال الخطاب السياسي والديني للإمام كان من السهولة بمكان، ربما لحرص الإمام على بسط مشروعه وفقًا لأبسط الأساليب لتحقق الهدف التعبوي المرجو.
وباستقراء للنصوص المكتوبة للإمام بخصوص المنظور السياسي المتبنى، يمكن لنا الوقوف على مجموعة أسس معرفية يعتبرها الإمام ضرورية لتحقق الحكومة الإسلامية وللحفاظ عليها بالأولى، وهي ثبوت الحاكمية لله سبحانه وتعالى وحده، والاستقامة الدينية للولي الفقيه بوصفه امتدادًا لخط الإمامة، والبناء العاشورائي للأمة الإسلامية. وعند قولنا بالأسس المعرفية الضرورية لقيام وبقاء الحكومة الدينية الإسلامية فإننا بالنتيجة نشير إلى الدستورانية ما دامت هذه الأخيرة هي الحمولة العقدية والمعرفية للمنظور السياسي لفكرة الدستور الضامنة للضوابط الحاكمة في الحكومة. وعليه تكون الإحاطة بهذه الأسس والتنقيب فيها بمثابة إحياء لكتابات حية للإمام وترويج لمنظوره الأسلم إلى حدود الفترة الراهنة.
الـحـاكميــة لـلــــه
في البداية لا بأس من الإشارة إلى أن وجهة نظر الإمام لم تكن بدعة في هذا المجال، بل الكثير من المفكرين والمصلحين أشاروا إلى نفس الفكرة، إلا أن السيد الخميني تفرد بمنظور واضح على الأقل بين باقي العلماء في القرن المنصرم. وهذه المسألة تظهر بوضوح كبير إذا ما ارتأينا تقليص المقارنة بين الإمام والعالم أبي الأعلى المودودي بوصف هذا الأخير يشكل الأب الروحي والملهم لكل من أتى بعده متبنيًا نفس الطرح؛ أي الحاكمية الإلهية عند إخواننا أهل السنة والجماعة.
فبالرجوع إلى كتابات السيد أبي الأعلى المودودي وخصوصًا كتابه نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، سنقف على معضلة معرفية خطيرة تؤدي بنا لا محالة إلى تمامية الأنتجنسليا الدينية للمجتمعات، إذ نجده ومباشرة بعد إقراره للحاكمية الربانية المطلقة وبخضوع الدولة الإسلامية لها تشريعًا ورقابة، يحيلنا على أشراط عامة، حيث يصرّح بخصوص صفات أولي الأمر ومؤهلاتهم أن: “هذه المسألة – أي مسألة الصفات والمؤهلات – على جانب عظيم من الأهمية والخطورة في نظر الإسلام حتى أني لن أبالغ إذا قلت إن هذه المسألة هي التي يتوقف عليها نفاذ الدستور الإسلامي أكثر من أي شيء آخر.
فالأهلية للإمارة ولعضوية مجلس الشورى على نوعين: أهلية قانونية يمتحن بها منظم الانتخابات (القائم بأمر الانتخابات)، أو القاضي رجلًا ثم يحكم عليه بكونه أهلًا أو غير أهل لمنصب من المناصب. وأهلية أخرى يراعيها المرشحون والمصوتون ثم يبدون آراءهم في رجل من الرجال. أما الأهلية الأولى، فيحوزها كل واحد من أهالي البلاد البالغ عددهم إلى الملايين ومئات الملايين. وأما الأهلية الأخرى، فهي التي لا تبرز منهم فعلًا إلا عددًا قليلًا جدًّا”(2). والمتمعن سيقف على أن الاكتفاء بهذه الأشراط لن يضمن تحقيق الحاكمية، والأكيد أن هذا التقصير الذي ظهر عند السيد المودودي راجع إلى تبنيه نهج الخلفاء الراشدين في التولية والبيعة، دونما إلقاء بال لخطورة المنصب، بل يكتفي بتبني أربعة أشراط هي الإسلام والذكورة والعقل والبلوغ وسكنى دار الإسلام (3) دونما اهتمام لا من قريب ولا من بعيد لتقوى الله والعلم ولاتباع نهج الله ورسوله، فنحن نطرح سؤال يحمل براءة الأطفال هو أية حاكمية هاته سنضمن تطبيقها من قبل ولي أمر أقصى ما يتصف به إسلامه غير المميز له عن من سواه، وذكوريته وعقله المانع للقول بحمقه وبلوغه وسكناه إلى جوار من سيحكم؟
إن التاريخ يدين هكذا معيار لأنه باحتكامنا إليه سوف نقف على سابقية تحقق نفس الأشراط في الحكام سواء في الدولة الأموية (وإن لم يكن في جميعهم)، أو العباسية أو العثمانية ولا أظن بأن السيد المودودي يقول بأن هذه الدول قد طبقت حاكمية الله في الأرض، وعليه فإن المعيار المعتمد مختل معرفيًّا ولا يفي بالغرض.
وبالفعل، فإن أقصى ما يمكن أن تحققه لنا نظرية المودودي هي إعادة استنبات دولة على الطراز الأموي تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية ولا تتورع في انتهاك الحرمات، لكن طبعًا وفق آخر تقليعة دستورية.
هذا فيما يخص الأدوات، أما فيما يخص صلب النظرية المعرفية فإن أي قارئ متفحص لما يقرأه سيقف على تناقض كبير بين القول بالحاكمية المطلقة للخالق جلّ وعلا والتقعيد المودودي، حيث نجده يبحث في البضاعة الغربية عن مفاهيم ومؤسسات هي في الواقع ذات حاكمية شعبية مطلقة (4)، ولا يمكن البتة التقليص من هذه الحاكمية لفائدة الحاكمية الربانية إلا بمسخها، وهنا نتساءل كيف لعالم يستند لآخر المنتجات السياسية الغربية يقول بالحاكمية الربانية؟ وربما أن هذا العجز المفاهيمي والاقتباس المبتسر هو الذي جعله لا يهتم بالشخصية الإسلامية القيادية والبعد الروحاني للأمة، والحال أنه ليستقيم مدخله النظري لا بدّ من استقامة أسانيده المعرفية. فالغفل عن هكذا بديهيات لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نشوء نزاعات قاتلة بين الفرق الإسلامية المدعية لتمكنها من تحقيق الحاكمية الإلهية، وبالفعل هذا ما وقع، والكل تنكّر للأساسيات الروحية والتربوية الدينية السالكة بالمرء نحو الله.
وهنا وبالضبط تتجلى كمالات النظرية الدستورية عند الإمام كما سوف يظهر من خلال المناقشة أدناه.
إنه بالرجوع إلى الكتابات المحورية للإمام وخصوصًا كتاب الحكومة الإسلامية سنقف على مسألتين محوريتين ركز عليهما الإمام وهما: مؤسسة الحاكمية، ومؤسسة ولاية الفقيه، حيث نجده في كتابه يقرر بأنه في الحكومة الإسلامية “يختص التشريع بالله تعالى، فالشارع المقدس في الإسلام هو السلطة التشريعية الوحيدة. فلا حق لأحد بوضع القوانين، ولا يمكن وضع أي قانون غير حكم الشارع موضع التنفيذ. لذا ففي الحكومة الإسلامية بدلًا من “مجلس التشريع” الذي يشكل إحدى السلطات الثلاث في الحكم يكون هناك “مجلس تخطيط” يضع الخطط لمختلف الوزارات من خلال أحكام الإسلام، وتحدد كيفية أداء الخدمات العامة في جميع أنحاء البلاد من خلال هذه المخططات” (5)، وطبعًا هذه الفكرة متحققة في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران في المادة 71 و 72 الناصتين على التوالي: “يحق لمجلس الشورى الإسلامي أن يسن القوانين في القضايا كافة، ضمن الحدود المقررة في الدستور”. و “لا يحق لمجلس الشورى الإسلامي أن يسن القوانين المغايرة لأصول وأحكام المذهب الرسمي للبلاد أو المغايرة للدستور. ويتولى مجلس صيانة الدستور مهمة البت في هذا الأمر طبقًا للمادة السادسة والتسعين من الدستور”. إذ أن سلطة سن للقوانين فإنها تظل مسقفة وفق لأصول وأحكام المذهب الرسمي أي المذهب الجعفري الذي هو مذهب آل البيت الأطهار (ع).
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار حديث الثقلين لأيقنا بأن مذهب آل البيت هو المذهب المتجلية فيه الحاكمية الإلهية في أعلى درجاتها، وسوف نعمل على تفصيل هذه المسألة فيما بعد. إذًا فالحاكمية تتجسد في اتباع القرآن والسنة والعترة الطاهرة الماسكة بناصية التأويل.
وطبعًا هذا الاستحكام العقدي يجعل من الضوابط المعرفية المستلزمة للإيمان بتحقق الحاكمية متوافرة، عكس نهج أهل السنة والجماعة حيث يتعذر مثل هذا الاستحكام، والذي نجد فيه كل فرقة فرحة بما لديها، مما يجعل حالة التيه رابضة على العقول وبعيدة عن الحاكمية المدعى الركون إليها، والتاريخ يسعفنا في إثبات مدعانا، فالعوز المعرفي الأولي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى خلاصة مفتقرة إلى السند.
وطبعًا أن القول بالحاكمية لا يعني البتة الاستبداد بالحكم وإرغام الشعب على ما تراه الثلة الحاكمة من اجتهاد بل بالعكس، وهنا جوهر التميز، للشعب الكلمة الأولى والأخيرة فيما يعرض على البلد من سياسات عامة، فالإمام نجده في مناسبات كثيرة سواء في كتابه الحكومة الإسلامية أو في غيرها من الكتابات أو الخطابات الجماهيرية يركّز على الدور الشعبي، ففيما يخص القوانين الإسلامية واجبة التطبيق نجده يذهب إلى أن “القوانين الإسلامية التي وردت في القرآن والسنة يتلقاها المسلمون بالقبول والطاعة. وهذا مما يسهل عمل الحكومة، ويجعلها مرتبطة بالشعب”. (6). كما في مكان آخر نجده يصرح بأن “الحكومة الإسلامية التي نفكّر فيها سوف تستمد إلهامها من رؤية الرسول الأكرم (ص)، والإمام علي (ع) وتعتمد على آراء عموم الشعب” (7)، وقد أكّد هذه الحقيقة الإمام القائد علي خامنئي عندما صرّح بأن “الشعب ينتخب شخصًا من بين الأشخاص اللائقين لرئاسة الجمهورية، ثم يقوم (الإمام) بتنفيذ رأي الشعب بتعيينه رئيسًا، أي أنه إن لم يصادق (الإمام) على انتخابه لن يصبح رئيسًا للجمهورية. فـ (الإمام) – وهو الفقيه العادل وولي أمر المسلمين – يمسك زمام الأمور بشأن تعيين أعلى مسؤول تنفيذي في البلد” (8). كما أشار في موضع آخر بأن “الحكومة الدينية الإلهية – بطبيعتها وفي حد ذاتها – ليست فقط لا تتناقض مع الحكومة الشعبية، وتدخل الناس في الحكم، وإنما هي الوسيلة الأنجع والأسلوب الأفضل لتيسير مشاركة الشعب الفعالة في إدارة أموره وتدبير شؤونه” (9). وتتجلى هذه الحقيقة في أجلى صورها في الفصل الثالث من الدستور، ومن المادة 19 إلى المادة 42 منه، بل والأكثر من ذلك نجد بأن تأييد الرأي العام يدخل كمكون ضروري لانتخاب القائد في المادة السابعة بعد المائة “بعد المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني قدس سره الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته، توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من الجامعين للشرائط المذكورة في المادتين الخامسة، والتاسعة بعد المائة، ومتى ما شخصوا فردًا منه باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة في المادة التاسعة بعد المائة انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم يعلنونه قائدًا، ويتمتع القائد المنتخب بولاية الأمر ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك، ويتساوى القائد مع كل أفراد البلاد أمام القانون”.
وكما هو ملاحظ فإن هذا البعد الشعبي نجده منتفيًا عند السيد المودودي، والذي يمكن أن نقول وفق نفس رغبته في اقتباس المفاهيم الغربية، متبنيًا للطرح الإكليروسي الولائي على الأمة دون أن يكون لهذه الأخيرة أي دور اجتماعي أو سياسي يذكر.
استـمـرار الولايـــة
هنا نجد السيد الخميني قد تسلح بمجموعة من الأحاديث الشريفة، كما تسلح بالكلام للاستدلال على استمرار الولاية مع الفقيه وفق نفس الإطلاق الثابت تكوينيًّا للأئمة الأطهار (ع)، مع اختلاف جوهري إذ أن هذا الأمر مجعول للفقهاء اعتباريًّا لانتفاء العصمة عنهم، مما يجعل من الضابط الشعبي ضمانة مهمة جدًّا لعدم انحراف الفقيه عن الخط الإمامي المتبع.
فولاية الفقيه كمؤسسة سياسية إن كانت قد عرفت مع علماء وفقهاء سابقين أفاضل فإنها لم تتجسم كتفصيلات إلا مع الإمام الخميني، ونحن لضيق الحيز لن نستفيض في مناقشة ولاية الفقيه ومشروعيتها لأن هناك كتابات كثيرة قد كفتنا هذه المسألة، ولكننا سنركّز البحث حول فكرة الاستمرارية وأثرها على فكرة الدستور.
إن القول باستمرارية الحجة والشاهد لمن الأقوال المحورية في المذهب إذ ما كان للخالق أن يترك أمر عباده دون أن يصطفي لهم خيرة خلقه لينير لهم الطريق بدأت أولًا مع رسله وأنبيائه لتستمر مع الأئمة الأطهار والذين يتجاوزون بعض الأنبياء في المقام، وتظل في العلماء بشروط جوهرية تنتفي عنهم بانعدام الأشراط.
والقول باستمرار الحجة لمن الأقوال المسنودة قرآنًا وحديثًا، حيث نجد الباري سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[1]، والحديث الشريف القائل: “العلماء ورثة الأنبياء”[2]، ومقبولة حنظلة، وكذا الحديث المروي عن أبي عبد الله (ع) الذي قال: “ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة، يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله” (هذا الحديث بسنده مذكور في كتاب أصول الكافي باب أن الأرض لا تخلو من حجة)، وغيرها كثير من الأدلة، وحيث إن العلماء ورثة الأنبياء مما يجعل أن الحجية والشاهدية قائمة لهم بالجعل لا التكوين باجتماع الأشراط كلها وإلا انتفى وصف العالمية عن المدعي لها.
والإمام (رض) قد فصل القول في هذه النقطة مما يجعل من مسألة التخوف من الإكليروسية التمامية منتفية أساسًا.
فبخصوص الأشراط المستلزمة في الفقيه لكي تكون له الولاية المطلقة لا بدّ من أن يكون مجتهدًا، متعففًا عن الدنيا غير طالب لأجر، متبعًا للكتاب وسنّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين. وهو نفس ما نجده في الدستور سواء في المادة الثانية منه، أو المواد المتعلقة بشروط تعيين القائد كما في المادة 109 حيث يستلزم:
“1 – الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه (شرط الأعلمية).
2- العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية (الاستقامة العقدية).
3- الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة، والقدرة الكافية للقيادة (الإحاطة بوضع البلد).
وعند تعدد من تتوفر فيهم الشروط المذكورة يفضل من كان منهم حائزًا على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره”. وطبعًا القول بولاية الفقيه راجع لمبدأ أساسي هو “أن ماهية القوانين الإسلامية تفيد أنها قد شرعت لأجل تكوين دولة، ولأجل الإدارة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع” (10). وقد سبق للإمام الخامنئي أن فصل هذه الأشراط في كتابه الحكومة الإسلامية عندما وقف على ملامح شخصية النبي (ص) قائلًا: “إن ملامح شخصية النبي ملامح نيّرة تطرق إليها القرآن الكريم في العديد من آياته، وقد استنبطتها من هذه الآيات وهذه الملامح هي:
أولًا: أن الله – تعالى – قد منّ عليهم بالعلم والمعرفة والحكمة والتزكية الأخلاقية.
ثانيًا: هي أنهم لم يريدوا لأنفسهم أي أجر في مقابل الجهود التي يبذلونها والمشاق التي يتحملونها.
ثالثًا: أن الأنبياء مارسوا عملهم في أوساط المحرومين. وكانت تربطهم وشائج الود وأواصر الحب مع هذه الشريحة التي كانت تشكل الأغلبية الكبرى والأكثرية العظمى طوال التاريخ” (11)، وطبعًا عندما نقول بأن العلماء ورثة الأنبياء فإنهم قد ورثوا مجمل ما يورث من حكمة وتسنّن وسلطان دونما ادعاء معصومية من قبلهم. وعليه، فإن الولاية المطلقة بوصفها استمرارًا للقيادة لا تكون إلا للعالم المثبت تحوزه أو تحريه تحوز صفات الأنبياء والأئمة، ما دامت حكمة الله في خلقه أنه تارك فيهم القدوة الحية وفنار الإيمان حتى لا تكون للخلق حجة على الخالق.
إلا أنه وتجاوزًا لمعضلة التشخصن ولإثبات استمرار القيادة لا بدّ من جهاز سلطوي ممأسس يتكفل بتحقيق شريعة الله في الأرض، وعليه فإنه يجب أساسًا على الدولة الإسلامية “أن تعمل وفقًا لإرادة الله، وتقوم بتوجيه الناس وهداية المجتمع نحو الأهداف نفسها وفي الاتجاه ذاته، وضمن المسار نفسه الذي أراده الله عز وجل. ولذلك فإن وظائفها هي الوظائف المقررة من قبل الله، أي أن عليها أن تتعامل مع العباد بالأسلوب نفسه الذي يرضاه الله ويعامل به الكائنات وبني الإنسان”(12)، لكن وإيمانًا من الفقيه أن الأمة لا تعيش مقطوعة على باقي العالم لا بدّ أن تكون من مأمورية الدولة “بناء الذات وتربية النفس” (13)، حتى تضمن الدولة استمرار الرؤى الجهادية في الشعب. وعليه وعلى خلاف الرؤية السياسية السالفة في الزمان القائلة بوجوب سابقية الدعوة على الدولة، بما هي تراتبية زمانية في الثورة، نجد أن منظور الإمام حتى لا نقول منظور الإسلام يؤكد على ثلاثية دعوة – دولة – دعوة وطبعًا هذا المنظور هو وحده الكفيل بالحفاظ على ثمار الثورة وعلى الأمة في الدنيا والآخرة، ونرتئي تأخير بسط هذه المعادلة إلى آخر الورقة.
البـنــاء العـاشـورائي
سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) عندما ترك المدينة متجهًا إلى العراق بصحبة أحب الخلق إليه أولاده ونساؤه وعشيرته وخلّص شيعته، لم يخرج طالبًا للسلطة ولا الجاه، بل حاملًا رسالة للبشرية جمعاء هي أن الأخذ بناصية الخلق لا يكون إلا لمن يتقي الخالق حق تقاته أو لمن يتحرى ذلك.
والمأساة التي تعرّض لها ما هي إلا قربى إلى الله سبحانه وتعالى على خط الأئمة حتى لا يسكت على كظة مظلوم ولا حيف ظالم، وطبعًا هاته الروحانية بهكذا طابع رسالي هي ما ركّز عليها الإمام الخميني في تعبئته لأمة إيران وتربيتهم عليها باعتبارها مسلكًا ضروريًّا لنجاح فكرة الحكومة الإسلامية بوصفها مكوّنًا معرفيًّا أساسيًّا وإن كان يصح لنا القول بأنها مكونًا عقائديًّا بما هي منبنية على العاطفة والوله الإمامي.
ففي مقامات كثيرة ركّز على محورية الأثر العاشورائي على الذهنية الإيمانية، فمثلًا في شهر محرم سنة 1342 هجري قمري وجه السيد الإمام خطابه إلى المبلغين العظام وهيئات مجالس العزاء على أن يتعلموا “من سيد المظلومين التضحية والفداء في سبيل إحياء الشريعة”، وفي خطاب آخر سنة 1978 ركّز على فكرة أن “شهر محرم هو شهر النهضة الكبرى لسيد الشهداء وخير أولياء الله، الذي أعطى بثورته البشرية تعاليم البناء والثبات في مواجهة الطاغوت، فقد كان يرى أن طريق إفناء الظالم وتحطيم المستبد إنما هو بالتضحية والفداء، وهذه هي تعاليم الإسلام للأمم إلى الأبد” (14). فخيار التضحية والفداء من أجل إحياء الشريعة بواسطة حكومة إسلامية ضامنة للتطبيق، والبناء والثبات على النهج من أجل ضمان استمرار الحكومة الإسلامية. هما الحمولتين المعرفيتين الناشئتين في عقل الأمة والواجبتي الحفاظ عليهما من أجل الحفاظ على النظام.
إن هذا الانبناء المفهومي لا يتيسر إلا في عقل شيعي يعرف حق الولاية بما هي “فعالية ذهنية ذات أصل غير مفارق… وهناك فضاءات اشتغل فيها هذا العقل، فكانت بذلك أحد تلويناته… كونه عقلًا انبثق عن مأساة… وتتحول تلك المأساة إلى نظام رموز وإشارات… تبقى هي اللون الطاغي على الفكر الشيعي اليومي… تشده بالمأساة، لتركزها وتخترق بها الزمان… لتتحول المأساة إلى الذاكرة المعاشة والخارقة في آن … تتعالى على الزمن في نغمة متصلة تجعل من كل يوم عاشوراء ومن كل أرض كربلاء”(15). فالذهنية غير المتوقفة عند مأساة شهادة الحسين (ع) وغير المحيطة بعظمة هذه التضحية، لا يمكن لها أن تقف بإيجابية أمام الحدث وتضعه في سياقه الذي يستحقه، ألا وهو وضعه فوق الزمان وفوق المكان لأنه معتقد جوهري للقول باستمرار الولاية في الأرض.
فالحفاظ على ثمار هذه التضحية غير متيسرة إن لم تشفع بالقول باستمرار الولاية في الأرض، وبهذا تثبت عقيدة الغيبة الكبرى وهاته الأخيرة لا تحترم إذا لم يتم احترام رواة حديث آل البيت بأوسع تفاسيرها أي العلماء الجامعين للشرائط، إذ إن الواضح أن المركبات المعرفية الماهوية تدور في حلقة مفرغة، فالقول بحاكمية الله يجرنا إلى القول باستمرار الولاية الكفيلة وحدها بالحفاظ على ثمار التضحية الحسينية المؤدية بنا إلى العض بالنواجذ على استمرارية الولاية الكفيلة بتحقيق الحاكمية الإلهية.
وعليه فإن القول بأن (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) قطب الرحى في العقل السياسي الشيعي لا يتيسر الاستغناء عنها، وقد صدق الإمام عندما أثبت هذه الحقيقة في خطبة له بتاريخ 26/08/1979 سنوردها على طولها لأهميتها الكبرى:
“هذه الكلمة (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) هي كلمة كبيرة، يشتبهون في فهمها، يعني هم يتخيلون أننا يجب أن نبكي كل يوم، ولكن محتوى هذه الكلمة هو غير هذا، ماذا فعلت كربلاء؟ ما هو الدور الذي لعبته أرض كربلاء في يوم عاشوراء؟ يجب أن تكون كل الأراضي هكذا، إن دور كربلاء كان في أن سيد الشهداء (ع) حارب بعدة أفراد، لقد أتى عدد محدود إلى كربلاء، ووقفوا بوجه ظلم يزيد وفي مواجهة الحكومة الجبارة، وفي مواجهة طاغية زمانهم، وضحوا وقتلوا ولم يقبلوا الظلم وهزموا يزيد.
يجب أن يحصل هذا في كل مكان، وكل الأيام يجب أن تكون هكذا، يجب أن يفهم شعبنا هذا في كل الأيام، والمعنى هو أن اليوم أيضًا يوم عاشوراء ونحن يجب أن نقف بوجه الظلم، وهنا أيضًا كربلاء ويجب أن نمارس دور كربلاء فهذا ليس محصورًا بأرض وحدها، ولا يمكن أن ينحصر فقط بمجموعة أفراد، إن قضية كربلاء لم تكن منحصرة بمجموعة من سبعين نفرًا ونيف وبأرض اسمها كربلاء، يجب أن تلعب كل الأراضي وكل الأيام هذا الدور، يجب أن لا تغفل الشعوب عن أنها يجب أن تقف بوجه الظلم، ففي بعض الروايات – التي لا أعلم الآن مدى صحتها وسقمها – أنه من الأمور المستحبة أن يكون المؤمنون في حال الانتظار وهم يحملون السلاح، أن تكون الأسلحة مهيأة، لا أن تكون الأسلحة متروكة جانبًا ويقعدون هم بالانتظار، أي أن يكون لديهم أسلحة من أجل المواجهة مع الظلم ومع الجور. هذا تكليف، نهي عن المنكر، وهو تكليف علينا جميعًا وهو أن نواجه الأنظمة الظالمة، خصوصًا تلك الأنظمة المخالفة لأساس الإسلام” (16). والصراحة تقال: إن الحراك الاجتماعي من القاعدة إلى القمة مع هاجس كربلائي هي الضمانة الوحيدة لتحقق الحاكمية الربانية، لأن من لا يملك هذا الهاجس ولا يحمل في قلبه وعقله الحكمة الحسينية سيكون امرءًا أرضيًّا مدخول بالمنطق اليزيدي أو الرزوخني المستكين لإكراهات الواقع والمتقوقع حـول ” قل الله واستقم”، ويا ليته فهم معنى هذه الآية لحمل ذو الفقار ولجاس خلال الديار بحثًا عن تحقيق شرع الله في أرضه، بما هو دين رحمة ويسر، وما وقف على فهم ينسجم مع الأنانية البشرية الماسكة بناصيته ومع مرضه الفطري المؤدي به نحو الوهن، تلك العلة الثابتة في النفس ما لم يتم طردها بحب آل البيت.
فكل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء عقيدة ثاوية في الشعور واللاشعور الجمعي الإمامي، لذا نقول للدكتور شريعتي: إن لون التشيع أسود فبهكذا لون نحافظ على حمرتنا (17).
الشطر الثاني: الأساسيات الأداتية للدستورانية الإسلامية وفقًا لمنظور الإمام
والآن وبعد أن ألمحنا إلى الأساسيات المعرفية الماهوية للدستورانية الإسلامية عند الإمام قدس سره الشريف، ننتقل إلى مناقشة المكونات الأداتية والتي سبق وأكدنا بأنها من نفس قيمة المكونات الماهوية ليس من حيث الثبات فحسب بل ومن حيث الضرورية أيضًا.
وباستقرائنا للنصوص التي توافرت لدينا خلصنا إلى أن الثوابت الأداتية ترتفع إلى اثنتين كبريتين يمكن لأي باحث أن يفصلها إلى أكثر من ذلك لكن نحن ارتأينا جعلها في اثنتين من أجل التحكم في الموضوع معرفيًّا، هاتين الثابتتين الأداتيتين هي الشورى المسقفة، والطاعة المسقفة.
إذ بهكذا أدوات يتسنّى للنظام السياسي الإسلامي الاستمرار على نفس النهج الذي بني عليه قبل التمكن.
الشـورى المـسـقـفـــة
كثيرة هي الأقلام الإسلامية التي تعاملت مع الشورى كآلية للمشاركة في الحكم واضعة إياها نظير الديموقراطية، غافلة عن معطى حيوي يرفع من شأن الشورى عن المضاهاة للديموقراطية الغربية.
حيث لا ترى فيه إلى اجتماع أراء الأغلبية والملزمة للأقلية وللحاكم بقرار ما، مؤسسة هذا المنظور على الآيتين الكريمتين ﴿وشاورهم في الأمر﴾، وكذلك ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾، وبالتالي تكون الشورى من هذا المدخل نظيرة للديموقراطية الغربية، باختصار هذه خلاصة نظر الكثير ممن تطرق للشورى وحكمها في الإسلام.
لكن وبرجوعنا إلى إطلالة متأنية عند الآية الكريمة ﴿وشاورهم في الأمر﴾ سوف نقف على ملاك رائع ولطف رباني قل من انتبه إليه عند إخواننا من أهل السنة والجماعة، والحقيقة أن من أثار انتباهنا لهذا المقتضى هو البحاثة السيد فرح موسى في كتابه القيم مبدأ الشورى بين ولاية الفقيه وولاية الأمة. حيث أوضح بتفصيل أكبر إلى أن الشورى لا تكون إلا بلحاظ الولاية “لأن الله سبحانه وتعالى لم يطلق العنان للشورى لتكون في كل المجالات وحول كل شيء، لا تقيد بقيد، ولا تقف عند حد، إذ لو ترك الله الأمر إلى الناس لعادوا إلى جاهليتهم تحت عنوان الشورى، وقوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ إنما يستفاد منه أن يكون الأمر تحت ولاية الله والرسول والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون” (18)، فمن غير المتيسر عزل آية ﴿وشاورهم في الأمر﴾ عن سياقها فالقول يكون بالاستفتاء في ظل الولاية لأنها أولًا تحيل على المؤمنين، ثانيًا أنها تظل تحت مؤسسة النبوة بما هي ولاية. وعليه فالشورى الإسلامية لا تفهم على أساس أنها حشد للأصوات دونما عقال ديني أو ملاك شرعي هذا الملاك الذي يظل هو الولاية المستمرة مع آل البيت إذا أخذنا بعين الاعتبار آية الولاية والقائلة: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾ بما يفيد أن ولاية علي (ع) قبس من ولاية النبوة، فتضحي الشورى في عهد النبي بنفس اللحاظ قائمة في عهد علي (ع) ومستمرة في صلبه إلى حين القائم الحجة (عج)، والقول بخلاف ذلك مظنة الرجوع إلى عصر الجاهلية “لأن الشورى تبقى مقيدة بولي الأمر في كل زمان، فإذا خرجت الأمة بالشورى من دائرة ما أمرت به ونهت عنه، فإن من شأن ذلك أن يعيدها سيرتها الأولى، لأن الفصل بين الولاية والشورى لا يبقي أي معنى لامتداد الرسالة، التي قرنت مع الإمام، وهذا ما نفهمه من حقيقة الاقتران بين ولاية الله تعالى والرسول (ص) والإمام علي (ع) فيما ورد في آية ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا… ﴾؛ وهذا الفهم لا ينبغي أن يستثنيه المؤمن في حركته السياسية وفيما يعتمده من مبادئ لتحقيق ذاته اجتماعيًّا وسياسيًّا” (19). بقيت الإشارة إلى أن الاقتران الذي أشار إليه السيد موسى لا يفيد التبعية بمعنى تبعية ولاية النبي لولاية الله، بل فقط إشارة للعرضية، بمعنى أن ولاية النبي وآل البيت جعلية عرضية ليست حقيقية وإلا لجاز لنا القول بتعدد الولايات الحقيقية مشتركة بين الخالق والخلق وهذا محال، وبهذا وجب التنويه. (20).
هاته الاستمرارية في الولاية وكما سبق لنا أن نوهنا في الشطر الأول من هذا البحث الثابتة للعلماء الجامعي للشرائط في عهد الغيبة الكبرى، تمثّل ملاك الشورى الإسلامية أي أنه لا يتسنّى الاستماع إلى أصوات المسلمين فيما لا يثبت شرعًا على وجه المطلقية، هذا الملاك المنتفي في المقاربات السابقة والمنتجة غفلا عن سقف الولاية.
لكن ماذا نقصد بالتسقيف في هذا المجال، طبعًا لا أحد عاقل يتحدث عن الحرية المطلقة، أو العارية من أي التزام اتجاه المجموع. فالتسقيف المشار إليه هو أن الشورى المسموح بها لا يجب أن تمس الثوابت الدينية والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال رهنها برغبة الشعب إن إنفاذًا أو تعليقًا للأمر الشرعي، لأن السماح بهكذا مساحة يتناقض ماهويًّا مع الرسالة ومع ما سمحت به لأمة محمد (ص).
وهذا ما خلص له الإمام (رض) في مجموعة من خطبه نقتبس منها ما نراه الأكثر تعبيرًا في المقام، حيث نجده بتاريخ 6 نونبر 1978 يصرح بأن: “الحكومة الإسلامية التي نفكّر فيها سوف تستمد إلهامها من رؤية الرسول الأكرم (ص) والإمام علي عليه السلام وتعتمد على آراء عموم الشعب”. وفي مناسبة أخرى أكد بأن على الماسكين بزمام الأمور “أن يحترموا آراء العموم في مكان بشكل دقيق وأن لا يقبلوا بأي نوع من أنواع التسلط والتدخل من قبل الأجانب في تقرير مصير الناس” ( خطاب 2 يناير 1978 ) (21)؛ ففي هذا القول إشارة واضحة إلى وجوب استشارة الأمة تحت سقف النبوة والولاية وعدم التسلط أو الاستعانة بآراء الأجانب. ولهذا فخصائص الجمهورية الإسلامية تتلخص في أن الناس هو المراقبون الحقيقيون للأمور (خطاب 7 أبريل 1981) حتى تتقبل من رسول الله (ص)، وإمام الزمان خطاب 1 يونيو 1982 (22). فالشورى الإسلامية المسقفة بالولاية هي جوهر نظرية الإمام إلا أنه يرى لها قوة إلزامية في عصر الغيبة الكبرى، وطبعًا هذا الطرح مستقيم إلى أقصى حد ما دامت ولاية الفقيه هي جعلية بالعرض عن الولاية التكوينية العصمتية، صحيح أن الأستاذ موسى في كتابه الآنف الذكر يفهم منه بأن المشورة لا سلطة إلزامية لها على أساس الولاية العصمتية، ونحن نتفق معه في هذا الطرح، لكن أن يمددها إلى الفقهاء في عصر الغيبة الكبرى هنا نختلف معه لعدم صحة الملاك المعتمد من قبله، فالقول بالاقتباس لا يعني التكوين أو الجاهزية الخلقية للولاية، فالفقيه شخص روحاني يتحرى التقوى، جامع للشرائط يرث الحكومة المطلقية من باب الجعل لا التكوين؛ لأن الفقيه ليست له جاهزية خلقية للولاية (العصمة)، بل فقط قابلية الاستماع إلى القول فاتباع أحسنه، ومن ثمة تكون المشورة المالكة لوصف الأحسن ملزمة له من هذا الباب، ونرى الاكتفاء بهذا القول حتى لا نخرج عن الموضوع واحترامًا أيضًا لضيق الحيّز المسموح به.
وطبعًا نجد نفس الطرح تم تبنيه في دستور الجمهورية من باب السيادة ما دامت هذه الأخيرة ليست إلا كنه حق المشورة والإشارة، مشيرًا في المادة 56 إلى أن السيادة المطلقة على العالم وعلى الإنسان لله، وأنه هو الذي منح الإنسان حق السيادة على مصيره الاجتماعي، وأن هذا الحق يتم التعامل معه من قبل السلطات الحاكمة في الجمهورية وهي السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة. (المادة 57 من الدستور)، فالواضح أن التحدث عن سيادة الفرد الاجتماعية تم في إطار أنها هبة ربانية الذي تظل له جل وعلا السيادة المطلقة، وعليه فإن سقف الشورى وفقًا لهذا التوضيح تظل مخصصة للمصير الاجتماعي لا تتجاوزه، ما دام أي تفويض آخر لم يثبت، بل بالعكس ثبت خلاف ذلك، حيث قال جل وعلا: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ الآية. مما يفيد أن مجال السيادة دنيوي محض، وهذا طبعًا بلحاظ الولاية؛ لأن الخالق أشار إلى ذاته بالاستخلاف، والمستخلف (بالفتح) يطيع دائمًا المستــخـــلف (بالكسر)، وأية مشورة بين المستخلفين (بالفتح) تظل دائمًا واقعة تحت السقف الذي حدده المستخلف (بالكسر) وإلا تحدثنا عن خيانة الخلفاء.
مما يؤكّد بما لا يدع مجالًا للشك بأن الشورى تظل متحيّزة وخاضعة للولاية في مقاصدها وملاكاتها، وإلا كفت على أن تكون شورى إسلامية. فالخالق جلّ وعلا أشار إلى مقتضى استمرار الولاية ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾ الآية، والتي وكما سبق وفصلنا أنها نزلت في الإمام أمير المؤمنين (ع). فسقف الولاية هو نفسه سقف الله، ما دام الولي حجة الله في أرضه والذي يوضح للعلماء حلال محمد وحرامه (ص) (مجاري الأمور بيد العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه) على مقتضى الاستمرارية، ومن ثم يثبت بأن سقف الشورى الإسلامية هي بالفقيه القائد الجامع للشرائط لا يتم تجاوز تقريراته لأنها اجتهاد شرعي وفق خط الولاية، وهو ما أسميناه سابقًا بفنار الإيمان، لأنه لا يجوز عقلًا قبول دين المرء دونما التفات إليه في الأمور السياسية، والأخذ بتوجيهاته وخصوصًا إذا ما علمنا بأن الإلمام بالأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد من الأشراط اللازم توافرها في الإمام القائد.
الطاعـة المسقــفــــة
السيادة من أهم مكونات الدولة أية دولة، وطبعًا من مستلزمات السيادة طاعة الأمة لولي أمرها مما يجعل واجب الاتباع من ألزم اللوازم في الحكومة أية حكومة بالأحرى إذا كانت حكومة إسلامية ترنو الخلاص لمجموع الأمة، ما دام مشروعها تحقيق العدالة الإلهية في أرضه من جهة الاستخلاف والخلافة الحقة.
وطبعًا أنه عند التحدث على تحقق العدالة الإلهية بوساطة حكومة ربانية نلمح إلى ثقافة معينة ومشروع سياسي واجتماعي محدد ينهل من معين الدين بالضرورة، وبالتالي فإن الطاعة تظل قائمة وجودًا وعدمًا مع صدقية هذا المشروع لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، إلا أن الإشكال العقلائي الذي يظل رابضًا على الذهنية الإسلامية، هو كيف يتسنى القول بأن المشروع السياسي والاجتماعي للأمة متفق مع الرغبة الربانية؟ وإذا سلمنا بأن المشروع رسالي محض، كيف يتسنى الاقتناع بالمستجدات التي قد تحدث، وباجتهادات أولياء الأمر؟ طبعًا هذين السؤالين يشكلان محورية النقاش العقدي والسياسي الذي عرفه التاريخ الإسلامي بين مجموع الفرق.
إلا أننا ورغبة منا في لملمة الموضوع في هذه الورقة سنركز على المنظور الإمامي بوصفه مرتكز اجتهاد الإمام روح الله الموسوي.
كما سبق وألمحنا أن الولاية التكوينية المنصوص عليها في آية ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾ تفيد بأن النبي(ص)، وعلي (ع) أولياء تكوينيين بمعنى الجاهزية الذاتية والسابقة على الخلق للولاية على الخلق، ثابتة لهما بمقتضى هذا النص. فتشريعاتهما وتقريراتهما ربانية محض، وعليه يحدث لنا التحقق بأن المشروع الاجتماعي والسياسي المحمدي والعلوي مشروع رباني، وإذا ما انتقلنا إلى حقيقة التنصيص بالولاية خلفًا عن سلف كما هو ثابت بجمع من الأحاديث الصحيحة، فعلى سبيل المثال لا الحصر ورد عن “محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه عن عبد الله ابن المغيرة عن ابن مسكان عن عبد الرحيم بن روح القصير عن أبي جعفر (ع) في قول الله عز وجل: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ فيمن نزلت؟ فقال: نزلت في الإمرة، إن هذه الآية جرت في ولد الحسين (ع) من بعده، فنحن أولى بالأمر وبرسول الله (ص) من المؤمنين والمهاجرين والأنصار، قلت: فولد جعفر لهم فيها نصيب؟ قال: لا، قلت: فلولد العباس فيها نصيب؟ فقال: لا، فعددت عليه بطون بني عبد المطلب، كل ذلك يقول: لا، قال: ونسيت ولد الحسن (ع)، فدخلت بعد ذلك عليه، فقلت له: هل لولد الحسن (ع) فيها نصيب؟ فقال: لا، والله يا عبد الرحيم ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا” (23). أيقنا بأن تقريرات ومشاريع الأئمة الأطهار (ع) هي تقريرات ومشاريع ربانية. مما يضع بين أيدينا جهازًا معرفيًّا ربانيًّا كاملًا متكاملًا بخصوص المنظور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري، ليضحي ركيزة للفقهاء الجامعي للشرائط في الاقتباس والسير النهجي. ومشكّلًا لنفس الوقت معيار صحة الاجتهاد من عدمه فإذا ما ثبت للمرء مخالفة الاجتهاد لصريح هذا الجهاز المعرفي – وعندما نقول جهازًا معرفيًّا لا نقصد الآراء والفتاوى، بل نقصد الملاكات وكنه العلل المعتمدة من قبل الأئمة الأطهار – رمى به بعرض الحائط، وبالتالي تسقط الطاعة اللازمة، لأنه فيه معصية للخالق وفقًا للحديث الشريف المشار إليه آنفًا، ما دام الله سبحانه وتعالى أشار على سبيل الحصر لمن الولاية العرضية. والإمام (رض) صرّح بذلك في مناسبات عديدة منها خطبته الصادرة بتاريخ 1 يونيو 1982 حيث أوضح: “إن هدفنا من الجمهورية الإسلامية هو أن تكون جمهورية يتقبلها رسول الله (ص) وإمام الزمان روحي له الفداء، وإذا حصل أي خدشة في أحكام الإسلام فلا رسول الله يقبلها ولا أئمتنا. في نفس الوقت الذي نسير فيه بخطوات واسعة يجب أن نبذل جهدًا في أن تكون كل خطواتنا إسلامية وباتجاه الإسلام” و “إن كل هدف الجمهورية الإسلامية هو تطبيق أحكام الإسلام في هذا البلد”. خطاب 24 غشت 1981. فالبعد النهجي واضح في هذين الخطابين، وإذا ما ثبت بالملموس خروج الجمهورية عن الخط وجب الخروج عليها عصيانًا لأوامرها لعصيانها لنهج الرسول (ص) والأئمة الأطهار.
فمن خلال ما سبق إيجازه نقف على نكتة مهمة جدًّا هي أن طاعة الشعب مرتبطة بطاعة الحكومة لخط الإسلام والذي هو نفسه الخط الإمامي، وإذا ما زاغت الحكومة عن الخط سقط واجب الطاعة، بل قام واجب الخروج بدلًا عنها. فالسلطة منشطرة بين طرفي العلاقة الحاكم والمحكوم بالتوازي، وهو نفس ما كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يسعى إلى تحقيقه والتدليل على صحة ما يذهب إليه من خلال كتاباته، والأكيد أنه لهذا السبب دعم قلبًا وقالبًا الثورة الإسلامية في إيران الشقيقة، ففي مقال له منشور بمجلة المراقب الجديد Le Nouvel Opservateur بتاريخ 16 أكتوبر 1978 وعند تطرقه لفلسفة الثورة الإسلامية أشار إلى أن: “ثمة معنى يبحث عنه هؤلاء الرجال الذين يسكنون هناك إلى درجة التضحية بأرواحهم. هذا الشيء الذي نسينا حتى إمكانية تكرره عندنا منذ عصر النهضة أو الأزمات الكبرى التي عرفتها المسيحية، ألا وهي: الروحية السياسية. أعرف أن الفرنسيين سيضحكون من هذا الكلام ولكن أعرف أيضًا بأنهم مخطئون” (24).
خـاتمــة / مـواصـلــــة
سبق لنا أن ألمحنا في صدر الورقة أن صلب منظور الإمام (رض) هو إحاطة الدعوة بالدولة سبقًا ولحقًا، وهي خصوصية إسلامية لا نجد لها حضورًا في الفكر الغربي، مما يجعل من التعبئة الدينية محيطة بحياة المرء من جميع الجهات لأن مناط وجود كل فرد تتجلى في حياته اليومية أي ما يجري أمام عينيه من مجريات تتحكم فيها بالطبيعة الحكومة، لذلك يكون القول بأن الأمة على دين ملوكها صحيح إلى أبعد حد، فمن خلال هذه الحقيقة تكون استمرارية الدعوة بتوسط الدولة من أكثر المنظورات الإسلامية تحقيقًا للنهج الرسالي، حيث نجد الرسول عليه الصلاة وعلى آله كثيرًا ما ركّز على تربية المسلم إن خارج السلطة أو داخل السلطة هاته الأخيرة التي كان يحبذها أكثر لما فيها من تطبيق للمنظور الاجتماعي والسياسي الإسلامي على الواقع، لكن ومخافة تغول السلطة على حساب الدعوة كان عليه الصلاة وعلى آله يحرس على تعيين الربانيين في الأماكن الحساسة وينيبهم عنه في المدينة المكرمة معقل الدولة الإسلامية.
وعليه، تكون أولوية الدعوة من خلال الدولة من أهم وأخطر الإنجازات النظرية الإسلامية والتي لا يتمسك بها إلا من أوتي حظًا عظيمًا من الإيمان والعلم، فالتاريخ يشهد في دورته بأفول دول عظيمة قامت على دعوة ما فتأت أن تخلت عنها لوقوع الغلبة لها، لتبدأ في التآكل من الداخل إلى حين انهيارها المحتم، فالدولة الفارغة من الدعوة محكوم عليها بالزوال حتمًا. وهذا الكبريت الأحمر هو ما ركّز عليه الإمام روح الله الموسوي الخميني، ففي خطاب له أمام كبار المسؤولين صرح لهم مرارًا على أن القول بالأمرية لا يمكن أن يشكل ميزة بقدر ما هو تكليف، وأن الحاكم هو في الأصل خادم الأمة، مشيرًا إلى واقعة الحوار الذي جرى بين أمير المؤمنين (ع)، وبين عبد الله بن عباس (رض)، فلنبق على الدرب لأنه وفقط بهكذا إيمان نحقق معنى روحي فداه.
الـهــوامــــش
1 – محمد ضريف، القانون الدستوري مدخل لدراسة النظرية العامة والأنظمة السياسية، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الطبعة الأولى، الصفحة 19.
2 – أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، دار السعودية للنشر والتوزيع، 1985، الصفحة 245.
3 – أبو الأعلى المودودي، نفس المرجع، الصفحة 246.
4 – إذ من المتيسر الرجوع إلى كتابه أعلاه حيث نجده يطفح بمفاهيم من قبل الحكومة الثيولوجية والديموقراطية وغيرها كثير.
5 – روح الله الموسوي الخميني، الحكومة الإسلامية، مركز بقية الله الأعظم، الطبعة الثانية 1999 عن مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، الصفحتان 82 و 83.
6- الخميني، نفس المرجع، الصفحة 83.
7 – الاستقامة والثبات في شخصية القيادة، ترجمة الشيخ كاظم ياسين، دار الوسيلة، الطبعة الثانية 1995، الصفحة 309.
8- علي خامنئي، الحكومة في الإسلام، تعريب رعد هادي جبارة، دار الروضة، الطبعة الأولى 1995، الصفحة 26.
9 – على خامنئي، نفس المرجع، الصفحة 31.
10 – الخميني، نفس المرجع، الصفحة 69.
11 – خامنئي، نفس المرجع، الصفحة من 75 إلى 81 بتصرف شديد.
12 – الاستقامة والثبات في شخصية القيادة، الصفحة 200.
13 – نفس المرجع، الصفحة 201.
14 – نفس المرجع، الصفحة 169.
15 – إدريس هاني، العرب والغرب أية علاقة.. أي رهان؟ دار الاتحاد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1998، الصفحة 76.
16 – الاستقامة والثبات، الصفحتين 331 و332.
17 – سبق للدكتور علي شريعتي في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي أن تمسك بأن اللون الأحمر هو اللون الحقيقي للشيعة لا اللون الأسود لون الحداد، الرجاء الرجوع إلى هذا الكتاب القيم.
18 – فرح موسى، مبدأ الشورى بين ولاية الفقيه وولاية الأمة، دار الهادي، الطبعة الأولى 2000، الصفحة 50، ولنا عودة لهذا الكتاب في بحث مستقل لأهميته الكبيرة.
19 – فرح موسى، نفس المرجع، الصفحة 51.
20 – لمزيد من التوسع الرجاء الرجوع إلى بحث آية الله عبد الله جوادي آملي بعنوان: جولة في مباني ولاية الفقيه، ترجمة الأستاذ خالد توفيق.
21 – الاستقامة والثبات، الصفحة 309.
22 – الاستقامة والثبات، الصفحتين 310 و 311.
23 – محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ضبطه وصححه وعلق عليه محمد بن جعفر شمس الدين، دار التعارف للمطبوعات 1998 الصفحة 343 و 344، في باب ما نص الله عز وجل ورسوله على الأئمة (ع) واحدًا واحدًا. ويمكن الرجوع إلى نفس المرجع والإطلاع على الأحاديث الصحيحة منها في أبواب الإشارة والنص.
24 – Didier Eribon Michel Foucault ( 1926 – 1984 ) Ed Flammarion 1989 Page 302
من الأفضل الإطلاع على هذا الكتاب القيم الذي يحمل في أحشائه أجوبة حول اللماذية والكيفية التي كان يفكر بها الفيلسوف ميشيل فوكو طوال حياته المعرفية، أما بخصوص الثورة الإسلامية فلمزيد من الاتساع الرجوع إلى الباب السادس المتضمن لرؤية الفيلسوف بخصوصها.
[1] سورة الرعد، الآية 7.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 1، الصفحة 164.
المقالات المرتبطة
الفكر العربي الحديث والمعاصر | علي زيعور رائد المدرسة النفسانية العربية – المؤلفات والتسويغ للمشروع
يعتبر الدكتور علي زيعور الرائد في مجال النفسانيات، فهو من الأوائل الّذين أدخلوا هذا العلم إلى العالم العربيّ، ويمكن اعتباره
رؤية الدكتور طه حسين لخلافة الإمام علي (ع) وحكومته
في الفترة المعاصرة، وبعد التطورات التعليمية والثقافية منذ ظهور الحداثة المعاصرة، بدأت إعادة قراءة قضايا التاريخ المبكر للإسلام…
إدارة المؤسسة الكونية بعين اللانظم
هذا المقال أقدّمه كقراءة – أخرى – لبرهان النظم (أو ما يطلق عليه التصميم الذكي المطروح في البحوث الخاصة بفكرة التطور الدارويني، الذي يقابل الانتقاء الطبيعي