by فاطمة الموسوي | يونيو 13, 2022 8:48 ص
“يمكننا القول إنه مات الإنسان لتحيا الأشياء”.
يعدّ الفيلسوف وعالم النفس الألماني إريك فروم (1900-1980) من روّاد المدرسة الفرانكفورتية الناقدة للنظم المعاصرة (الرأسمالية، الاشتراكية ـ الفاشية) والتي توجه أطروحاتها إلى المحاولة للبرهنة على أن عقلانية المشروع الثقافي الغربي في جوانبه الثلاث: نتاجه الفلسفي- العلمي، نظمه الاجتماعية التاريخية، نسقه القيمي السلوكي تؤلف جميعها أيديولوجيا متكاملة ومتماسكة هدفها تبرير التسلط وجعله عقيدة تغطي أوليات القمع[1][1]. لا يُعتبر فروم أول مَن قارب المفاهيم الفلسفية كالحرية، الاغتراب، الوجود.. فقد استعمل هذه المصطلحات ومنها الاغتراب العديد من الفلاسفة قبله باختلاف دلالتها الوجودية، الاجتماعية، السايكولوجية، ولكن ما يهمّنا في هذه السطور الإضاءة حول مفهوم الاغتراب بوصفه مرض الإنسان العصري، وما عزّز هذا الفهم له أنه عبّر عن سياق حضاري لتحوّلات تاريخية مأساوية شهدها القرن العشرون حيث عاصر فروم الحربين العالميتين وعايش صعود الحركات النازية والفاشية وهذا ما نراه حاضرًا في كتابه “الهروب من الحرية”، حيث تطرّق فيه للعلاقة الجدلية بين الحرية والاغتراب وارتباطهما الوثيق والمائز في أن يكون وجود الإنسان لذاته أو الوجود في ذاته[2][2]. وقد تناول شخصية هتلر كنموذج للشخصية السادية- المازوشية المغتربة.
قد استخدم فروم مفهوم الاغتراب كأداة لنقد الواقع والكشف عن إخفاقاته السياسية، الاقتصادية، الوجودية وما لها من دخالة في تشكيل شخصية الإنسان المعاصر الذي أعيد قولبة وجوده ضمن سردية الاستهلاك والتملك الفاحش في ظل النظام الرأسمالي. وعندما نذكر مساوئ النظام الرأسمالي لا يعني هذا تبرئة الاشتراكية من مضان التضحية بالإنسان لأجل الاقتصاد، ففروم ينتقد الاشتراكية كما الرأسمالية على حدّ سواء وإن كان يعتقد بنوع من “الاشتراكية الجديدة” التي تقترب بفهمها من فكر ماركس الشاب لا ما يفهمه الماركسيون الكلاسيكيون.
عندما نتحدث عن الاستهلاك بوصفه مشكلة سايكولوجية لا نعني به الاستهلاك الطبيعي الذي يحفظ الوجود الإنساني، وإنما معناه أن وجود الإنسان وإدراكه لذاته قد تحوّل من كوجيتو أنا أفكر إذن أنا موجود إلى أنا أملك أنا أستخدم. فأصبح الرفاه المادي، الإنتاج، غاية بحدّ ذاته بعد أن كان وسيلة، وامتدّت الأولوية الاقتصادية “الكم” إلى حياة الإنسان أيضًا فتحوّل وجوده إلى رأسمال مهمته الوحيدة هي استثماره قدر الإمكان، فيتشيّأ الإنسان، وعندما يصبح الإنسان شيئًا يموت وإن كان مرئيًا، وحينئذٍ يصبح خطيرًا على نفسه والآخرين[3][3].
إنّ جوهر الاغتراب عند فروم يدور مدار “العبادة الصنمية” ولا تعدّ الأخيرة من المفاهيم الحديثة إنمّا تمتد بجذورها إلى الديانات السماوية التي سعت للتخلص من الوثنية. ويمكن أن تعرف الصنمية بأنها حالة هروب الإنسان من ذاته إلى الآخر (الحزب، المال، الإنسان، المعتقد..) والخضوع له واتخاذه صنمًا وهذا ما عبّر عنه فروم “بالوثنية الجديدة” والذي سنتناوله في السطور اللّاحقة.
لنبدأ بقصة تاريخ الاجتماع البشري. لقد استمرّ الإنسان يرى نفسه كجزء من الطبيعة والقبيلة لفترات طويلة من قبل أن يعي وجوده كذات مستقلة منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به. ويطلق فروم على عملية الانفصال هذه “الاصطباغ بالفردية” ويعتقد أنها قد بلغت ذروتها في التاريخ الحديث الواقع بين حركة الإصلاح والعصر الراهن[4][4].
فحين اصطبغت الذات بالفردية تنامت قوى النفس وازداد شعور الإنسان بالوحدة، أي أصبح حرًّا ووجد نفسه أمام خيارين إما الخضوع لسلطة أو لشيء كآلية للهروب من هذه الحرية، وإما الارتباط مع الطبيعة والآخر بعلاقة تحفظ الاستقلال الذاتي. وعندما نتحدث عن الهروب نصيب بذلك مفهوم الذات المغتربة التي يعيشها الإنسان المعاصر والتي يسمّيها فروم الذات المزيّفة وما يقابلها من ذات أصيلة.
الذات الأصيلة والذات المزيّفة
يمكن تعريف الذات الأصيلة بأنّها الذات القادرة على التفرّد، الحب، العقل، الإبداع والتي تدرك وجودها كوحدة مستقلة تجاوز الطبيعة خلافًا للحيوان. إنها قدرة الإنسان على إدراك العالم بالفكر الذي ينبع من الداخل نتيجة نشاط خاص غير مستمد من الخارج، أي أن يعيش الإنسان أفكاره الأصيلة ولا نعني بالأصالة هنا الجدة التي لم يفكر بها أحد من قبل، بل يقصد بها تلك التي تصدر عن الفرد نتيجة نشاط داخلي[5][5]. حيث يتجاوز العقل الجانب النفعي بهدف ربط الإنسان بالأشياء عن طريق فهمها والنفاذ إلى جوهرها ومعانيها العميقة[6][6].
الذات المزيّفة: هي الذات التي تهرب من خوفها ووحدتها إلى الأشياء والناس، وقد تصل شدّتها إلى الدرجة التدميرية، وهي استئصال الموضوع بدل من الهروب منه. ويعتقد فروم أن تطور النزعة التدميرية في الإنسان المعاصر وانجذابه لكلّ ما هو آلي ميكانيكي ميّت هو الآلية الواضحة للتعويض عن الحياة غير المعاشة، وتعدّ الأسلحة النووية المثال الأخطر على اغتراب الإنسان وضياعه. فيمكن أن نصف الذات المغتربة بأنها نمط من الوجود يعيش فيه الإنسان غريب عن نفسه، أي أنه لم يعد يعيش ذاته كمركز لعالمه وكخالق لأفعاله، بل إنّ أفعاله ونتائجها تصبح سادته الذين يطيعهم [7][7] ويعبدهم.
ومن المفارقة نجاحنا “في إقناع أنفسنا أنّنا نحن الذين نصنع القرار، بينما نحن في الحقيقة نتطابق مع توقعات الآخرين مساقين بالخوف من العزلة وبتهديدات مباشرة أكثر إزاء حياتنا وحريتنا وراحتنا”[8][8].
ومن بين الآليات التي يمكن الحديث عنها لطمس الذات الأصيلة:
1- محو الانفعالات الإنسانية؛ وذلك من خلال إدخال الشعور الانفعالي في المحرّمات وخاصة ما له من تأثير عميق في شخصية الإنسان كالشعور بالمأساة. فإن التفكير في الموت وجانبه المأساوي هو صفة من الصفات الجلية في الإنسان ولكن الحضارة قد أنكرت الموت فلم تتناوله باعتباره بُعد مختلف عن الحياة وإنما عبارة عن استمرار ظلّي وكئيب للحياة. وبذلك أنكرت جانبًا رئيسيًّا من جوانب الحياة وهو الموت والمعاناة التي تعتبر من أقوى المحركات للحياة. هذا ويلعب الطب الحديث دورًا غامضًا في عملية قتل الانفعالات من خلال تصنيفه لنموذج الشخصية السوية التي لا تغضب جدًّا، بل تحزن جدًّا وما عدا ذلك فيصنّف شخصية “عصابية” “طفولية” لطمس معالم وأنماط الشخصيات التي لا تتطابق مع الأنموذج التقليدي[9][9].
2- التربية: فأساليب الأهل التربوية إضافة للمناهج التدريسية لا تشجّع على التفكير الأصيل، فهي تركّز على حشو رأس الطالب بالكثير من الحقائق المبعثرة وغير المترابطة والتي تستولي على طاقته لدرجة أنها لا تترك له فراغًا للتفكير.
3- نسبية الحقائق: إنّ الحقائق تصاغ لكي تكون مفهومًا ميتافيزيقيًّا ولكن في عصرنا أصبح من يتحدث عن رغبة اكتشاف الحقيقة يعدّ رجعيًّا لأنّ الحقيقة ذاتية، بل تكاد تكون مسألة ذوق، وبذلك يتحوّل التفكير من باعث جوهري لتحقيق احتياجات الفرد ومصالحه إلى جهاز لتشجيع الوقائع ومن هنا يبدأ طمس الذات[10][10].
4- لفّ المشكلات بالضباب وتضخيمها بجعل المشكلات الفردية والاجتماعية صعبة ومعقدة للغاية لدرجة أنه لا يستطيع الفرد العادي استيعابها – وهي في الغالب عكس ذلك- ومحاولة إيهامه أنه لا يستطيع حلها سوى الأخصّائي وهذا ما يخلق شخصية زاهدة بمعرفة أي شيء ومؤمنة بكل شيء يقال لها.
ومن هنا يمكننا استخلاص معنيين للحرية بكلا جانبيها الإيجابي والسلبي، فالحرية الإيجابية هي الحالة الكيفية التي يكون فيها الفرد متحرّرًا من القيود الداخلية والخارجية مع اتحاده بالآخرين وحفظ الذات. أما الحرية الكمية هي التحرر من القيود الخارجية مع بقاء النفس مكبّلة بالحاجة والخضوع للآخر، وبقاء العقل موجّه بالآراء الخارجية فيعيش أفكار غيره ويجعل واقعه متطابقًا مع سلطات مجهولة. فهو يتحرّر كمًّا لا كيفًا، وهذا الاغتراب الذي يعيشه الإنسان المعاصر الذي اعتقد أنه تحرّر من سلطة الدين ولكنه في الواقع بات أسير سلطات أخرى. فالعملية لم تكن تحرّرًا بقدر ما كانت استبدال سلطة “قديمة” بأخرى حديثة.
أشكال الاغتراب
إنّ الإخفاقات الإنسانية التي يختبرها إنسان هذا العصر تجعلنا نشعر بالقلق ونحن نشهد أنفسنا تزداد تجرّدًا من إنسانيتها كلما ازدادت اقترابًا من حالة السوبرمان “الإنسان الأعلى”[11][11]. ويمكن ردّ هذه الإخفاقات إلى أنّنا غيّبنا المطلق (هدم الميتافيزيقا) وأطلقنا قيم اللّذة، وجعلنا التملك غاية ونمط وجود سعيًا لتحصيل أقصى متعة ورفاهية والعمل على تحقيق المصلحة الشخصية[12][12] وزيادة الاستهلاك، فضلًا عن انفصال السلوك الاقتصادي عن النظم الأخلاقية والقيم الإنسانية “فأصبح المجتمع الصناعي يحتقر الطبيعة ويحتقر كل ما ليس من صنع الآلة ويحتقر الشعوب التي لا تصنع الآلات. فالناس ينجذبون اليوم لكل ما هو ميكانيكي ولما لا حياة فيه، وينجذبون يومًا بعد يوم للتدمير”[13][13]. لقد أصبح الإنسان يحسّ بنفسه من خلال ما يمتلكه وليس من خلال ماهيته، وهذا ما نرى بعض انعكاساته في:
1- الدين: يعتقد فروم أننا نعيش في عصر أكثر وثنية من العصور الماضية، حيث يرى أن تعريف التوحيد الذي جاء به الأنبياء بأنه عبادة إله واحد وأن الوثنية عبادة آلهة متعدّدة فهمًا سطحيًّا وساذجًا. ويعتقد أن الفرق الجوهري بين التوحيد والوثنية لا يكمن في أنهم اتخذوا آلهة متعددة وإنما معناه خضوع الإنسان وعبادته لمنتوج يديه فهو ينحت الأشياء لكي يعبدها، “وما يحدث هنا هو بالضبط ما أسماه فرويد بالتصعيد وهو كما نعرّفه في التحليل النفسي طريقة تمظهر وثنية يصعد الإنسان معاش نشاطاته الشخصية على شيء خارج عن ذاته، وقد يكون هذا الشيء إنسانًا آخرًا أو شيئًا ما من خشب أو حجر مثلًا”[14][14]. ويقوم بالاستسلام له وهذا حال إنسان عصرنا، إنه محكوم بالأشياء التي صنعها وقد يشعر أنه لا يساوي شيئًا إلا إذا اتّحد مع الدولة ، العمل، المدرسة، والأحزاب، حينها يشعر بذاته فالأشياء باتت تعيد تكوين الإنسان الحالي.
مع تأكيد فروم على أهمية الجانب الروحي للإنسان وتشديده على أن الإيمان هو عنصر أساسي يضمن دينامية الوجود، غير أنه لا يعتقد بوجوب إيمان بدين[15][15] أو معتقد معين بالضرورة. وإنما يعرّف عملية الإيمان بأنها تجربة تنقسم إلى إيمان عقلاني وغير عقلاني، والمائز بينهما أن الايمان العقلاني يكون نتيجة إمعان المرء الباطني في التفكير والشعور، أما اللاعقلاني هو ما تمارسه النفس المغتربة وهو الخضوع لشيء أو لمعطى يتقبله المرء بصرف النظر عما إذا كان موجودًا أم لا. وإنّ طابع الإيمان غير العقلاني هو السلبية، سواء كان موضوعه زعيمًا أو وثنًا أو أيديولوجيا أو حتى علمًا. فلا بدّ من أن نتحرّر من الإيمان غير العقلاني ليكون لدينا إيمانًا في قوة تفكيره خلّاقًا[16][16].
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه وكما استلب الجانب الواعي في الإنسان كذلك استلب جانبه الروحي. فقد أوجدت الرأسمالية ميكانيزم لتسليع الحاجات الروحية وجعلها خاضعة للعرض والطلب، وذلك من خلال خلق شيء من عدم وجعله ضرورة من ضروريات الحياة الروحية. ويعتقد فروم أن تقوية مبدأ الامتلاك يقود في نهاية المطاف إلى هدم الحضارات من خلال تفعيل الطاقة التدميرية للإنسان نتيجة الفراغ الروحي والمعنوي الذي تعيشه الحضارة الصناعية اليوم[17][17].
2- التخاطب: يمكن ملاحظة نمطي التملك والكينونة في حوار شخصين، يرى كلّ منهما أن ذاته هي رأيه وأنه قد تملّك المعلومات وأصبح يرى وجوده من خلالها، فلا يهتم أيّ منهما إلّا بإيجاد مزيد من الحجج المنطقية للدفاع عن رأيه ولا يُتوقع من أيّ منهما تغيير موقفه وهذا ما يُسمّى بالتمركز حول الذات، إما بالنمط الكينوني فيتحاور الطرفان وينفتح أحدهما على الآخر وهما ينسيان ما يملكان من المعلومات ولا تقف هذه المعلومات في طريق تفاعلهما. فالشخصية التملكية تستند إلى ما تملك، بينما الشخصية الكينونية لا تستند إلا على أنها حاضرة وكائنة وحية[18][18].
3- الحب: ولمفهوم الحب أيضًا معنيان كما في الإيمان والسلطة والعلم وغيرها، معنًى ضمن إطار التملك، ومعنًى ضمن إطار الكينونة. تتضمن خبرة الحب وفق أسلوب التملك السيطرة على ما ومن نحب واحتوائه وسجنه، إنها عملية خنق وإهلاك وليست عطاء للحياة. إنّ ما يسمّيه الناس حبًّا ليس في الغالب إلا فسادًا وابتذالًا للكلمة[19][19]. وهذا ما يُطلق عليه “الحب الصنمي”، الذي يعود بنا إلى مفهوم الاغتراب. وأكثر ما يعبّر عنه هي جملة (الوقوع في الحب)، بينما إذا أردنا أن ندرك الحب في نمطه الكينوني فإن الحب ليس علاقة وقوع بشخص معين، وإنما هو موقف واتجاه يحدّد علاقة الشخص بالعالم[20][20]. فالحب عملية نهوض ونشاط إيجابي مثمر يخطو فيه الإنسان إلى الأمام ويتسامى. إنّ كلّ ما نشهده من إنفاق الأموال على صناعة الأشكال المختلفة للحياة الجنسية وإنتاج الأفلام الإباحية وغيرها هي مجرد آلية للهروب من العجز عن تحقيق حب حقيقي في حياة الإنسان سواء كان في العلاقات الأسرية، العاطفية، أو الصداقة. ولذلك شرع الإنسان يهرب إلى الإباحية من نفسه نتيجة لتغرّبه عن ذاته و”أصبح الجنس في المجتمع الاستهلاكي بمثابة حجاب يغطي النقص في الحياة الحميمية، ذلك أن المرء يعوّض التغريب الإنساني عن طريق القرب الفيزيقي. لكن الحميمية الجسدية لا يمكن أن تعوّض بحال من أحوال الحميمية النفسية”[21][21].
هل هناك حلّ في الأفق؟
يرى فروم أنه لا يوجد أمام هذ الحضارة سوى خيارين ينحصران بـ: إما البربرية والهلاك، إذا ما استمر الإنسان بهذا النمط التملكي الذي يجعله غير مبالٍ بالآخر، فيقتل بضغطة زر، ويظلم بذريعة تطبيق القانون تحت مظلّة البيروقراطية المقيتة التي تجعل منه آلة هدفها التنظيم بحدّ ذاته سواء تعلق الأمر بمصائر الآخرين وأرواحهم أم بقشرة بصل.
يرى فروم أنّ العالم لن يتوحّد ولن يتخلّص من آفات الرأسمالية من غير بعث للإيمان ومناهضة الصنمية فضلًا عن تفعيل وتجذير”نزعة إنسانية جديدة” كشرط أساس في إنقاذ البشرية من مصيرها المرتقب. وقبل أن نتخلص من القومية أو ما يُسمّى بالبنية القبائلية والتي جوهرها “الشعور بنزعة التفوّق” لن تتفعل هذه النزعة فمن دون القضاء على هذا وهم سوف نواجه خطر القضاء على الإنسان عن طريق الإنسان. وعند الحديث عن أهمية مفهوم النزعة الإنسانية الجديدة وكيفية تحقّقها، لا يدّعي فروم أنه هو من ابتدعها، فهي تضرب بجذورها إلى ما قبل 2500 سنة، حيث وُجدت في الحضارات الصينية والهندية وفي مختلف الديانات السماوية والأرضية ونشاهدها في الكثير من التعاليم والوصايا، وهنالك الكثير من الآيات الناظرة إلى خلق الإنسان على صورة الله، والداعية إلى عدم التمييز بين إنسان وآخر، وإلى حب الغرباء الذين لا ينتمون إلى نفس البيئة الثقافية القومية[22][22].
وترتبط أهمية النزعة الإنسانية بفهم جوهر الإنسان، مؤكّدًا على أنّ الإنسان ليس جانبًا ماديًّا فحسب، ولا هو بالخيّر مطلقًا ولا بالشرير كما يعتقد أغلب الفلاسفة وعلماء النفس. فمن دون معرفة هذا الجوهر والحاجات التي نشأت عنه لا يمكننا إقامة مجتمع سويّ. فلا بدّ من التعرف حقيقةً على هذه الحاجات، ولا يمكن أن تُجعل الأكثرية معيارًا في هذا البحث، فقد تكون أشدّ الأهداف مَرضيّة هي أكثر الأهداف التي يريدها المجتمع الذي يعيش حالة من “العصاب الجماعي”[23][23]. يصور له الرذائل فضائل فقط لوجود “المصادقة الجماعية”. ولأجل ذلك لا بدّ من فهم ما يسمّيه “الجوهر المؤسّس”؛ أي أن جوهر الإنسان هو ذاك التناقض بين الإنسان كحيوان يعيش في الطبيعة وبين الإنسان كوجود وحيد يعيش ذاته في هذه الطبيعة، وبالتالي فإنه يعيش ضعفه وعزلته وعليه أن يجد طريقًا للوحدة مع الطبيعة والآخرين. وكما توضّح من خلال أسطر المقال لا يقصد بها الوحدة الوجودية التي يفقد بها ذاتيته واستقلاله. فعند قراءة التاريخ الإنساني نرى أن هناك شكلين أو طريقين للاتحاد مع الطبيعة: الأولى تتمثّل بالهروب من الذات وتعطيل كل ما هو إنساني (العقل، الوعي، الإبداع..)، وهذا ما نراه في الديانات البدائية، (السحر، المخدّرات، الاستهلاك المرضي، اللّهو..)، وأما الطريق الآخر هو الاتحاد مع الطبيعة عن طريق تطوير القوى الإنسانية الخاصة بالعقل والحب بمقدار يصبح العالم منزلًا للإنسان يمارس فيه إنسانيته الكاملة.
[1][24] راجع: توم بوتومور، مدرسة فرانكفورت. ترجمة: سعد هجرس. بنغازي: دار أويا،2004 ، الصفحة 20.
[2][25] الوجود لذاته يقصد به الوجود الإنساني والوجود في ذاته وجود الأشياء.
[3][26] راجع: إريك فروم، كينونة الإنسان. ترجمة: محمد حبيب. سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع، 2013، الصفحة 24.
[4][27] راجع: إريك فروم، الخوف من الحرية. ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة1، 1972، الصفحة 27.
[5][28] راجع: إريك فروم، الخوف من الحرية، مصدر سابق، الصفحة 195.
[6][29] راجع: حسن محمد حسن حماده، الاغتراب عند إيريك فروم. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة1، 1995، الصفحة 69.
[7][30] المصدر نفسه، الصفحة 37.
[8][31][8] إريك فروم، الخوف من الحرية، مصدر سابق، الصفحة 160.
[9][32] راجع: المصدر نفسه، الصفحة197.
[10][33] راجع: الخوف من الحرية، مصدر سابق، الصفحة 199.
[11][34] إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر. ترجمة: سعد زهران، مراجعة وتقديم: لطفي فطيم. عالم المعرفة، الصفحة17.
[12][35] لايقصد بالمصلحة الشخصية حب الإنسان لذاته وسعيه لتلبية حاجاته ومصلحته الحقيقة. وإنما يعتقد أن الإنسان في العصر الحالي قد ضيّق مفهوم الذات إلى أن أصبحت ذاته تساوي ما يملك، فتحول إلى سلعة في مجتمع الاقتناء هذا، وبالتالي فإن اهتمامه بذاته هو في الواقع اهتمامه بما يريده السوق فهو يسعى لتلبية رغبات الثقافة الاستهلاكية لا رغبات نفسه الحقيقة.
[13][36] إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، مصدر سابق، الصفحة 22.
[14][37]إريك فروم، الإنسان المستلب وآفاق تحرره. ترجمة: حميد لشهب، تقديم: راينر فونك. الرباط: فيديببرانت، الصفحة 49.
[15][38] يعرف فروم الدين بأنه: نظام للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطى لكل فرد في الجماعة إطار للتوجه وموضوعًا. بعد التأكيد على أنه حاجة أصيلة في كينونة الإنسان.( إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والظهر، مصدر سابق، الصفحة 127).
[16][39]إريك فروم، ثورة الأمل: نحو تكنولوجيا مؤنسنة. ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. القاهرة: دار الكلمة، الطبعة1، 2010، الصفحة 32.
[17][40] الإنسان المستلب، مصدر سابق، الصفحة 18.
[18][41] إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، مصدر سابق، الصفحة 46.
[19][42] المصدر نفسه، الصفحة 55.
[20][43] إريك فروم، فن الحب: بحث في طبيعة الحب وأشكاله. ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. بيروت: دار العودة، 2003، الصفحة 47.
[21][44] الإنسان المستلب، مصدر سابق، الصفحة 100.
[22][45] راجع: الإنسان المستلب، مصدر سابق، الصفحة 117.
[23][46] راجع: إريك فروم، مجتمع سوي، مصدر سابق، الصفحة 124.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14985/erichfromm/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.