الهوى الأخلاقي في ارتباط المصريين بأهل البيت (ع) في التاريخ والواقع
إن حب المصريين لأهل البيت (ع) هو حب مقدّس، مرتبط بالوجدان والعقل والنقل والضمير، لا يقل حبهم عن أي منتمي للمذهب الشيعي، وتمتلئ الدولة المصرية بمئات الأضرحة والمقامات لأناس من أهل البيت (ع)، ويفتخر الأشراف بنسبهم، وهم من النسل النبوي الشريف، ودعاء المصريين عمومًا ينتهي (بحق جاه النبي وأهل بيته).
وفي الأربعين سنة الماضية وانتشار الفكر الوهابي التكفيري في مصر، وهو فكر يعادي أهل البيت، أو نواصب جدد يحرمون زيارة الأولياء الصالحين، وخاصة من النسل النبوي العلوي الزهراوي، ولكن ظل ولاء الأكثرية الغالبة من المصريين يحتفلون بمواليد أهل البيت في كل مكان، خاصة في القاهرة التي تمتلئ بالعشرات من رؤساء أهل البيت (ع).
كثيرون حاولوا تفسير حب المصريين لأهل البيت، مثلًا ذكر الدكتور “جمال حمدان” في كتبه “شخصية مصر… دراسة في عبقرية المكان”؛ أن تعلق المصريين بأهل البيت نابع من جغرافيتهم النيلية، فدول الأنهار تتعلق بمن يطهر الناس من الإثم والآثام، كما يطهر ماء النيل الأرض، ومنهم من قال إن حب المصريين لأهل البيت نابع من التراث الفرعوني، الذي قدّس الصالحين من الملوك، وليس كل الملوك، وغيرها من التفسيرات المختلفة، ولكنها تتفق على أن ولاء المصريين لأهل البيت (ع) ولاء غير مشكوك فيه، ومن خلاله تبوأت مصر مكانتها منذ الدولة الفاطمية وحتى اليوم، كما قال الدكتور “عبد المنعم ماجد” في كتابه الضخم “ظهور الدولة الفاطمية وسقوطها”.
يحكي كتاب “العدل الشاهد في تحقيق المساجد” للأستاذ حسيني الشافعي، أن الخديوي إسماعيل أراد تجديد المسجد الحسيني، فقال بعض الخبثاء “لا يوجد في الضريح رأس ولا دفن”، فأمر الخديوي بتشكيل لجنة من شيوخ المذاهب الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي (لم يكن المذهب الحنبلي معترفًا به في مصر)، وأن ينزلوا البرزخ ثم يخبروا الناس، ونزل الشيوخ البرزخ بالفعل، وخرجوا وقالوا: “وجدنا في القبر كرسي من الأبنوس وفوقه ستارة من الحرير الأخضر وفوق الستارة الرأس الشريف وبجانبه نصف أردب من الطيب الذي لا يفقد رائحته مع الزمن”.
والأردب مكيال مصري قديم ما زال مستخدمًا، والأردب يساوي مئة وخمسين كيلوجرام، المهم أنه تم تجديد المسجد الحسيني وتوسعته، وتمت توسعته مرارًا متعددة، آخرها تجديده في شهر رمضان المنصرم 1443هـ|2022.
ويرفض المصريون بإصرار من يقول إن الرأس الشريف مع الجسد الشريف في كربلاء أو أنه في دمشق، كما يرفضون من يقول إن السيدة زينب مدفونة في دمشق، أو أن المدفونة في مصر هل زينب الصغرى أو أم كلثوم، يرفضون بإصرار، مهما أسندوا من حجج تاريخية، وهو كما نرى تنافس شريف لخصه الشاعر موسى محيي الدين في قوله:
لا تطلبوا رأس الحسين بشرق أرض أو بغرب ودعوا الجميع وعرّجوا نحوي فمشهده بقلبي
ولقد أخطأ المؤرخون قديمًا، وأخذ منهم حديثًا من قالوا إنهم ارتبطوا بأهل البيت منذ قيام الدولة الفاطمية وتأسيس القاهرة، وهو قول غير صحيح بالمرة، ربما العادات المصرية الحالية جاءت من الدولة الفاطمية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومولد الإمام الحسين، ومولد السيدة زينب والسيدة نفيسة …إلخ، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، وليلة 27 رجب ذكرى الإسراء والمعراج أو يوم المبعث، والليالي الرمضانية، هذا بالإضافة إلى المأكولات: الكنافة والهريسة والتمر هندي، واستخدام الفوانيس من قبل الأطفال في ليالي رمضان، وتلك العادات انتقلت من مصر لباقي الدول الإسلامية.
كل هذه أخذها أهل مصر كتراث من الدولة الفاطمية، وهي الدولة التي أطلق عليها معاصروها “الدولة المصرية”، وعندما سقطت الدولة على يد الأيوبيين “انقطع قلب المصريين”، كما قال المؤرخ ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ”.
وخلال الدولة الفاطمية أسلم الأكثرية من شعب مصر، أمسى المسيحيون أقلية، ولكنهم نسوا لغتهم وتحدثوا اللغة العربية، فصار الجميع عربًا باللسان.
وخلال الدولة الفاطمية أيضًا أبدع المصريون في تلاوة القرآن الكريم، وظلت المدرسة القرآنية المصرية هي السائدة في العالم حتى الوقت الحالي.
تعرّف المصريين على أهل البيت (ع)
عرف المصريون أهل البيت وفضلهم مبكرًا، منذ حدوث الفتنة الكبرى، حيث كان المصريون هم القائمون على الثورة؛ ونقصد بالمصريين هنا العرب الذين استقروا في مصر، حيث لم يكن الإسلام قد انتشر في كافة ربوع الدولة المصرية.
من كبار الصحابة ومن شيعة أمير المؤمنين (ع) الذين وصلوا مصر مبكرًا مع الفتح الإسلامي أبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود، وقد اختارها عمر بن ياسر منفى اختياري له بعد تصاعد الفتنة ضد عثمان بن عفان.
ثم عرف المصريون مالكًا الأشتر، الذي قُتل بالسمّ الذي تخصص فيه الأمويون، قتله والي القلزم (مدينة السويس الحالية) بأمر من معاوية بن أبي سفيان عام 37 من الهجرة، أخفاه العرب المسلمون بمعاونة المصريين المسيحيين، وذلك في منطقة صحراوية شرق القاهرة هي منطقة “المرج”، وبنوا عليه ضريحًا، وإمعانًا في الإخفاء سُمّي الضريح “سيدي العجمي”، أي الأعجمي باللهجة المصرية، وحتى اليوم يعرف أهل منطقته بسيدي العجمي، رغم معرفتهم اليقينية باسمه الحقيقي مالك الأشتر، قائد جيش أمير المؤمنين (ع) وحامل عهده إليه وإلى كافة المصريين الأصليين والعرب، لم يفرق بينهم.
ليس الأشتر فقط، بل كرره المصرين، فبعدما قُتل محمد بن أبي بكر في الفسطاط، وضعه معاوية بن خديج في بطن حمار ميت، ثم أحرقه بالنار، وعندها استعان شيعة مصر بالمصريين الذين كانوا ما زالوا على دينهم، ولكنهم ساعدوا في إخفاء رفات ابن أبي بكر، بعيدًا شمال شرق القاهرة بحوالي مئة كيلومترًا في قرية تقع على ضفة نهر النيل تُسمّى “ميت دمسيس” التابعة لمدينة المنصورة.
وظلّت رفاة ابن أبي بكر مخفية حتى عام 1950، عندما كان العمال يحفرون في أرض المسجد الكبير بالقرية لتوسعته، وجدوا حجرًا كبيرًا مدوّنًا عليه اسم محمد بن أبي بكر وتاريخ استشهاده عام 38 من الهجرة النبوية، وما زال المصريون يزورون قبر ابن أبي بكر تبرّكًا وأخذ العبرة.
أدرك المصريون بميراثهم الحضاري الحق الذي في جانب الإمام علي(ع) والباطل الذي يمثله معاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، الذين سرقوا ونهبوا الأراضي، وأرسلوا بالسخرة منتجاتهم الزراعية إلى أعراب الجزيرة العربية العاطلين عن العمل، وكانوا يمثلون برجوازية عربية مبكرة، وأن الدولة الأموية دولة عنصرية عربية، ليس كل العرب، ولكن الطلقاء من القرشيين، وزاد اقتناعهم بعد مجزرة كربلاء واستشهاد سيد الشهداء الإمام الحسين(ع)، فانضم المصريون كغيرهم للمعسكر العلوي الحسيني.
وصول أهل البيت إلى مصر
ازدادت محبة المصريين كثيرًا لأهل البيت (ع) منذ أن قدمت السيدة زينب (ع) واستقرت في مصر، قادمة من مدينة النبي(ص)، وقد علم المصريون بقرب وصولها للحدود، فخرج المصريون مسلمون ومسيحيون جميعًا لاستقبال من أطلقوا عليها لقب “الطاهرة”.
وبعد الترحيب الكبير الذي لقيته السيدة زينب ومن معها، دعت دعوتها الشهيرة لأهل مصر فقالت: “أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة مخرجًا، ومن كل ضيق فرجًا”.
حين استقرت في أرض مصر وهبها والي مصر آنذاك “مسلمة بن مخلد” قصره كله للإقامة فيه، لكنها اكتفت بغرفة واحدة فقط في القصر، أقامت الطاهرة في هذه الغرفة وجعلتها مكانًا لتعبدها وزهدها، وتحولت هذه الغرفة بعد وفاتها إلى مقامها الآن، فتسمى هذه الغرفة مقام السيدة زينب، وأوصت السيدة زينب قبل وفاتها بأن يتحول باقي القصر إلى مسجد، فكان لها ذلك.
وتحول قصر الوالي إلى مسجد السيدة زينب، وأطلق عليه المصريون عدة ألقاب منها : الطاهرة – الست – أم العواجز – صاحبة الشورى – رئيسة الديوان، وجرت عادة من المصريين عندما يشعرون بالظلم خاصة من الولاة، أن يذهبوا إلى ضريح السيدة زينب ويكنسوه وهم يدعون على الظالم، حدث هذا كثيرًا في تاريخ مصر، منذ وصول الست وحتى اليوم.
وفي مدينة القاهرة، مدينة الألف مئذنة التي يعود تاريخ إنشائها إلى مراحل الفتوح والغزو الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص عام 641م. وإنشائه مدينة الفسطاط، ثم إنشاء العباسيين لمدينة العسكر، فبناء ابن طولون لمدينة القطائع، ومع دخول الفاطميين مصرَ قادمين من المغرب، شرع القائد جوهر الصقلي في بناء العاصمة الجديدة للدولة بأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في عام 969م. وأطلق عليها اسمها الحالي ولا زال، وذلك وفق ما ذكر عبد الرحمن زكي في كتاب “بناة القاهرة في ألف عام”.
ومما تبقّى أثره من الدولة الفاطمية هو جامع وجامعة الأزهر الشريف، والذي بُني أساسًا من أجل نشر الدعوة الإسماعيلية، ولكنه كان منفتحًا على كافة المذاهب والعلوم.
وسبق أن أكدت دار الإفتاء المصرية مرارًا، “أن المسلمين أجمعوا على أن للنسب النبوي الشريف مزية على غيره من الأنساب، في الدنيا والآخرة، وأن محبة آل البيت النبوي ومودتهم من الإيمان، ولا علاقة لذلك بالمغالاة المنهي عنها؛ فإنها لا تكون في المحبة، وإنما تكون في الاعتقاد. …وجاء الشرع الحنيف بالأمر بحبّ آلِ بيتِ رسول الله (ص)؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (سورة الشورى، الآية 23) … وصح عن سعيد بن جُبَيرٍ أنه قال في معنى هذه الآية: “لم يكن بَطنٌ من قريش إلا كان له فيهم قرابة؛ فقال: إلا أن تَصِلُوا ما بيني وبينكم مِن القرابة … فهذا إيصاء بقرابته (ص) يأمُرُه الله تعالى أن يبلغه إلى الناس … وأمرنا رسولُ الله (ص) بحب آل بيته والتمسك بهم، ووصانا بهم (ع) في كثير من أحاديثه الشريفة”، انتهى ما جاء برأي وإفتاء دار الإفتاء المصرية بخصوص أهل البيت ومحبتهم والتخلق بأخلاقهم، وهو قول لا يصدر إلا من كان قلبه شيعي الهوي علوي القول محمدي الأسوة.
والمصريون عمومًا شيعيو الهوى سنيو المذهب، كما ذكر الإمام روح الله الخميني(قدس سره).
حمى الله مصر ونصرها وأعادها بحق جاه سيدنا النبي وأهل بيته الكرام البررة.
المقالات المرتبطة
الدور القيادي للإمام الخامنئي في إدارة الأزمات (الحلقة الثالثة: النماذج الثقافية)
كانت الثورة الثقافية بنظر الإمام الخميني ضرورة وطنية إسلامية، ويُعدّ الاستخفاف بها خيانة للإسلام والبلاد، وبعد أن فهم الأعداء طبيعة الثورة الإسلامية الثقافية
حقيقة مفهوم الأثير
يتردّد على مسامعنا في أروقة الإعلام مصطلح “الأثير”؛ وفي استهلال الحديث في الإذاعات خصوصًا، ويعطونه هالة من التأثير السمعي “الشفاء
الوعي والأسئلة الدينية
عادة ما يحدد الإنسان بكونه “كائنًا حيًا واعيًا”، أي يمتلك، بالإضافة إلى العضوية الحية التي يشترك بها مع غيره من الكائنات المتسمة بالحياة، قدرة إدراكية يستعملها في إدراك ذاته وإدراك الوجود.