عـلـم الـكـلام الـجـديـد – إشكالية التأسيس عند قراملكي والسبحاني –

عـلـم الـكـلام الـجـديـد – إشكالية التأسيس عند قراملكي والسبحاني –

شهد المشهد الثقافي الإيراني ولادة معرفية جد هامّة زادت من حرارته في السنين الأخيرة، والأمر يتعلق بظهور دراسات دينية جديدة آلت على نفسها الجواب على بعض الإشكالات التي أغفلتها الأبحاث الكلامية المدرسية، من قبل تساؤلات الحداثة وأثرها على الفكر الديني وإعادة تفسير القرآن الكريم بلحاظ إعمال الهيرمنيوطيقا، ونسبية المعرفة الدينية والتعددية الدينية والعقلانية الدينية، وأثر الواقع على الخطاب الديني التأسيسي وغيرها من الإشكالات والمعارف والتي لم يسبق لها أن طرحت على بساط البحث في إطار علم الكلام المدرسي، سواء في إطار اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه، أو لأن الواقع الثقافي الديني في حينه لم يطرح هكذا شبهات بنفس التدقيق وبنفس الزخم الذي يشهده المشهد الثقافي الديني العالمي.

فالغالب على المشهد الثقافي الإيراني نمطين من التفكير: نمط من التفكير الفلسفي الذي تم توارثه والتفاعل معه سواء من خلال التراث الإسلامي، أو من خلال العطاء الفلسفي الغربي. ونمط من التفكير النصوصي الديني. ونظرًا لتأثر النمط الأول بالتفكير الفلسفي دفعه لإثارة الكثير من الإشكالات الدينية الكبرى أدت إلى وقوع حالة من التوتر المعرفي في إيران، وربما أن خصوصية المشهد ساعدت على تأجيج هذا التوتر مما دفع ببعض المثقفين إلى دفع الثمن نتيجة أفكارهم كمحسن كديفر وأغاجاري.

على العموم، الجنبة العقلانية نجدها حاضرة بقوة ليس فقط عند الحداثيين، بل أيضًا عند رجال الدين لأن الفلسفة تشكل بالنسبة إليهم ضرورة من ضرورات البحث الديني داخل الحوزات العلمية. وهذه عين الخصوصية التي يعرفها المشهد الثقافي الإيراني.

وطبعًا ولادة إشكالات معرفية جديدة بالضرورة سوف تستفز الكثير من الباحثين للتصدي لها إن تبنيًا أو إبعادًا ونقضًا، وأمام هذا الزخم الكبير من الردود تم إعلان ولادة علم جديد أريد له من الأسماء “علم الكلام الجديد” تتبناها فئة ثالثة تدعي وقوع الانسجام مع كلتا الفئتين العظميين، مما جعل هذه التسمية – وهذا يظل طبيعيًّا – تتعرض لردود كثيرة ليس فقط من المفكرين والباحثين المنضوين تحتها، بل أيضًا من المتكلمين المدرسيين الذين اعتبروا مواضيع البحث المنضوية في إطار علم الكلام الجديد يمكن استيعابها في علم الكلام المدرسي، وبالتالي لا داعي لظهور هكذا علم واقعًا. لتتناسل الردود بين مؤيدة لتسمية علم الكلام الجديد ومقرة في نفس الآن بظهور علم جديد (أحد فرامرز قراملكي، والسيد محمد مجتهد شبستري، وأحمد بهشتي، ويحيى محمد، وعبد الجبار الرفاعي من العراق)، وبين الرافضة لظهوره سواء تلك التي تريد له أن يسكن قلعة فلسفة الدين (عبد الكريم سروش، ومصطفى ملكيان وإن بغموض كبير في التموضع)، أو التي تريد إدراجه ضمن علم الكلام المدرسي (عبد الله جوادي آملي، وكمال الحيدري، ومحمد تقي مصباح يزدي، وصادق لاريجاني، وجعفر السبحاني، وشفيق جرادي وغيرهم كثير).

وطبعًا لكل تيار من هذه التيارات المشار إليها أعلاه مستندات للتصدي للموضوع بلحاظ المدارك المعرفية المختلفة والتي لها علاقة بأصل الولادة وآليات التفكير داخل هذا العلم (الجنبة المنهجية للعلم)، وكذا المواضيع التي يهتم بها هذا العلم (الجنبة الماهوية للعلم).

لكن أهم الجنبات التي جعلت تيارات متكثرة بخصوص هوية علم الكلام الجديد تتضارب بين القول بالتبني (سواء في إطار علم الكلام المدرسي أو في إطار فلسفة الدين)، والقول بالاستقلالية، راجعة إلى أصل الجنبة الماهوية لعلم الكلام الجديد، مما يجعل الانكباب على نقاش هذه الجنبة ذو أهمية جد كبيرة لمحاولة الفصل في موضوع “علم الكلام الجديد”، وقد وقع اختيارنا على مفكرين يمثلان التياران معًا أحدهما المفكر أحد فرامرز قراملكي، الذي أبدى مجهودًا كبيرًا لتأسيس النظرية القائلة بولادة علم جديد اسمه علم الكلام الجديد، يتجلى في العديد من الكتابات والإشراف على الكثير من الرسائل والأطروحات لتوطيد هذه الولادة، كما أن مجهوده لم يكن تكميميًّا وحسب، بل إنه طفق يرد على الآراء المخالفة، ولهذا تم اختياره لأنه ناقش تقريبًا جميع النقاط المعارضة للولادة وحاول الرد عليها، مما يجعله أنموذجًا واجب الرجوع إليه في هذا الباب. ولكي نوضح أكثر إشكالية التأسيس عند المفكر سنقف قليلًا عند المنظور الذي تبناه (أولًا) قبل أن نناقشه من جهة إبداء مواطن القوة والضعف في أرائه (ثانيًا)، والثاني هو العلامة جعفر السبحاني والذي يتزعم التيار الرافض للقول بولادة علم الكلام الجديد، مما سوف يضطرنا إلى طرح وجهة نظره الرافضة (ثالثًا) قبل أن ننتقل إلى مناقشتها (رابعًا) خالصين في الأخير إلى نتيجة البحث.

أولًا: منظور المفكـر قراملكـي

ما نقصد بالشق المعرفي لعلم الكلام الجديد هو ذاك الهاجس المعرفي الذي يحرك هذا العلم، والذي يدفعه إلى اجتراح مواضيع والانكباب عليها، وإغفال غيرها على أساس القول بالتخصص، فهي أم الإشكالات التي تحرك المتخصصين للتصدي لها لتضحي هوية معرفية تجعل من هذا المجال يستقل عن غيره بشكل ملفت.

بمعنى آخر تركيزه على مواضيع معينة من جهة أهميتها الحيوية وإغفال غيرها من المواضيع لتعلقها بمجالات معرفية معينة، فعلم الكلام الجديد كما يراد له هو مجال معرفي يبحث عن الاستقلال والتفرد بهوية معرفية ما تميزه عن غيره، لذلك حاول جاهدًا أن يضع مواضيع كبرى كعنوان له، والتي استقاها في الغالب من الطروحات الفلسفية الدينية في الغرب وخصوصًا الأطروحات المسيحية البروتستانتية. فالرؤية الاستقلالية الثابتة لهذا العلم جعلته يبحث عن مرتكز معرفي تأسيسي له.

ولربما أهم من حاول الاهتمام بهذا النوع من التأسيس هو الباحث الفذ أحد فرامرز قراملكي في كثير من أبحاثه سواء المضمومة في كتابه القيم “الهندسة المعرفية لعلم الكلام الجديد”، أو المشذرة في مجلات متخصصة. مما يجعلنا نركز كثيرًا على أعمال هذا المتكلم الجديد من جهة أنه من المشار إليهم بالبنان في هذا المقام، دون أن نغفل عطاءات باقي المتكلمين وعلى رأسهم كل من الشيخ الأستاذ محمد مجتهد شبستري، والأستاذ عبد الجبار الرفاعي وغيرهما فيما يخص دفاعهم على ولادة العلم من جهة الجنبة الماهوية.

المتكلمون الجدد يعرفون جيدًا الوضع المحرج الذي يوجدون فيه، لذلك اهتموا بتأسيس علم جديد حتى يجدوا لأنفسهم موطئ قدم معرفي يعتمدونه في تنظيراتهم، ويجيبون بتوسطه على أسئلة معرفية دينية ما كان لهم أن يتطرقوا إليها تحت دثار علوم متواجدة فعلًا، أو على الأقل هكذا يعتقدون.

ولذلك نجد المفكر أحد فرامرز قراملكي يتحدث عن ولادة علم كلام جديد من جهة حداثة مسائله على أساس المقدمة المنطقية “ليس العلم إلا مسائله”، فحيث إن “تعيين حدود علم الكلام الجديد وتمييزه عن العلوم الأخرى بما فيها علم الكلام التقليدي، والإلهيات المسيحية المعاصرة، وفلسفة الدين، منوط بالفهم الصحيح لهيكلية المسائل الكلامية الجديدة. والتدقيق في المسائل الكلامية الجديدة، ودراسة أساسها المعرفي، والتدبر في معطياتها، يشكل بمجموعه الهندسة المعرفية للكلام الجديد” (1). فعلم الكلام التقليدي كان يهتم بالجنبة التقريرية للمعتقدات الدينية، دون أن يلقي بالًا للبعد الثاني المرتبط بالآثار الواقعية المتحققة فعلًا في الخارج، لذلك يكون “الفرق الأساسي بين مسائل الكلام الجديد، ومسائل الكلام القديم يرجع إلى أن القدماء اهتموا بالبعد التقريري للمعتقدات الدينية، سواء ما يتناول الواقع أو ما يتناول القيم، ولم يعملوا تفكيرهم بالبعد الثاني. وهذا ما يفسر القول: إن التوحيد محور العلوم الدينية التقليدية، بينما المعرفة الدينية أو الإيمان هو محور العلوم الدينية في العصر الحاضر. إن حصر الاهتمام بالبعد المنطقي للقضايا الدينية يشكل مفهوم التوحيد وما يتعلق به من مباحث. أما الاهتمام بالبعد الواقعي للدين، فيفرز الدراسات الدينية المعاصرة” (2). لذا يكون اعتماد المعارف الإنسانية المتعلقة بالعلوم الإنسانية على العموم، والعلوم الاجتماعية على الخصوص هو مورد ارتكاز المتكلم الجديد في التعاطي مع الشأن الديني، لكن دون أن نغفل الهاجس الدفاعي للدين عنده في تعامله مع العطاءات، وعليه فإن المسائل الكلامية الجديدة المشتركة مع الكلام التقليدي، نجد أنها تتفق على مستوى اللفظ وحسب، أما في كيفية التعامل وربما حتى الخلاصات التفصيلية فثمة اختلاف كبير.

زبدة القول عند المفكر قراملكي، أن المسائل الكلامية الجديدة تعرف شقين، كفيلين لوحدهما بضمان الاستقلالية:

المسائل الكلامية الجديدة المستقلة: والتي ليس لها جذور في الكلام التقليدي، لأنها وليدة الأجواء المعاصرة بالكامل.

المسائل الكلامية الجديدة المشتركة: وهي المسائل المعرفية التي لها أصول في الكلام التقليدي، إلا أنها طرحت بشكل حديث حاملة لتصورات جديدة غير معهودة.

من ثمة يكون علم الكلام الجديد علمًا مستقلًّا عن باقي العلوم وإن كان يستفيد منها، ما دامت مسائله إن أصلًا أو تعاطيًا معها متخصصة به مصداقًا للأصل المنطقي “ليس العلم إلا مسائله”.

صحيح أن المعول عليه في التصريح بعلم الكلام الجديد غير متعلق بالمسائل وحدها، كما نوّه إلى ذلك المفكر قراملكي عندما أشار إلى أن “النظرية المختارة في تفسير تطور علم الكلام نسميها نظرية التجديد في المنظومة الكلامية والهندسة المعرفية للكلام. وعلى أساسها لا يكون التجدد خاصًا بضلع واحد من علم الكلام دون غيره، وإنما يشمل جميع الأضلاع المعرفية. ومن ناحية، يبدو التحول في المنظومة الكلامية داخل إطار هذه النظرية بمعنى الظهور العلمي الجديد تمامًا لمقولة أخرى، كما أن التحول في الهندسة المعرفية لا يستلزم مثل هذه الاستحالة في الهوية”(3). أي أن ظهور علم الكلام الجديد لا يلغي علم الكلام القديم بقدر ما هو ظهور تكاملي له، فعلم الكلام الجديد علم جديد قائم الذات لاستقلال مسائله بالضرورة.

وإن كان سبق للباحث أن أشار إلى أن “العلم ليس مجرد مجموعة من المسائل مصفوفة بجوار بعضها، وإنما الذي يمنحها صفة العلم، هو النظام الهندسي الذي يجمعها، فلكل عمل نظامه الهندسي المتكون من أضلاعه المختلفة، كالمنهج واللغة والتوجهات والموضوع والمبادئ والمسائل” (4). إلا أنه يعود ويلتف على هذا التقدمة ليصرح بكفاية تجدد المسائل لولادة علم جديد.

وعليه، فإن محاولة المفكر على الأقل في كتابه الهندسة المعرفية للكلام الجديد كانت محاولة شبه شمولية لتفكيك علم الكلام الجديد عن علم الكلام القديم، لأن الحساسية كانت أكبر ليس فقط لتشابه في التسمية بين العلمين، بل أيضًا لتحقق الهوية الدفاعية عند كل منهما، وهو تشابه كان يخيف الأستاذ قراملكي، لذلك نجده خصص الكتاب برمته لهذه النقطة. إلا أن القول بالاستقلالية ليس متحققًا بتفكيك علم الكلام الجديد عن علم الكلام المدرسي. وبعبارة أخرى، إن شرط الاستقلالية ليس تامًّا باستبعاد علم الكلام المدرسي، وهو الأمر الذي انتبه إليه قراملكي فيما بعد، مما دفعه إلى محاولة إتمام مشروعه بتجهيز ورقة تفكيكية عن فلسفة الدين.

ذلك أنه في مقالة معنونة بـ “الكلام الجديد وفلسفة الدين – رؤية في السمات المائزة” أراد أن يدافع عن استقلال علم الكلام الجديد في مواجهة فلسفة الدين على أربع مستويات إثباتية، أولها الهوية الوسائطية لعلم الكلام الجديد كما علم الكلام التقليدي “فعلم الكلام وساطة بين الوحي المنزل (الكتاب والسنة)، وبين المتلقين”(5)، وأن المتكلم “عالم متدين”، وأن “دور المتكلم في علم الكلام الجديد اكتسب مفهومًا وشكلًا غير مسبوق فقد جنح المتكلم إلى تعليم الأفكار الدينية، وتعريفها والدعوة لها، وعرضها بأسلوب برهاني متقن. واتخذ لأجل ذلك أسلوبًا ومنهجًا ومرتكزات ولغة جديدة. إذًا فالكلام الجديد هو ذات الكلام السابق بعد أن اكتسب نظامًا جديدًا بسبب ضرورة تطابقه مع الأذهان واللغات الجديدة” (6)، بخلاف فلسفة الدين التي تعد منحى من مناحي دراسة الدين؛ أي أن الملاك الدفاعي يظل مغيبًا لأن المفروض في فلسفة الدين أن تدرس الدين من الخارج، وبالتالي لا يتسنى لها إعطاء وجهة نظر حول حقانية وصدقية شأن ديني خاص (7). طبعًا دون نسيان أنه لا يشترط الإيمان في فيلسوف الدين بخلاف المتكلم.

حيث إن منظور الأستاذ قراملكي يثير الكثير من الملاحظات، الناقضة لتصوره، لكننا نرتئي تأجيل إبداء هذه الملاحظات إلى غاية عرض تصور سماحة الأستاذ محمد مجتهد شبستري حتى يتسنى لنا تكوين رؤية عامة على استدلالات الفئة الدفاعية عن الظهور.

الأستاذ محمد مجتهد شبستري

في الحقيقة آراء الأستاذ شبستري بخصوص هوية علم الكلام الجــديـد (وإن كان من المتبنين لها) تظل جد غامضة، بل أنها ظاهرًا قد تقودنا إلى آراء القائلين بتعلق علم الكلام الجديد بفلسفة الدين.

فبمناسبة حوار له أجراه بخصوص علم الكلام الجديد، منشور بكتابه “مدخل إلى علم الكلام الجديد” نجده يصرح بأنه “يكتسب الحديث عن الكلام الجديد معناه إذا قبلنا أن الغرب شهد في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة ولادة مجموعة من الفلسفات والتيارات الفكرية الجديدة. فإذا تعاطينا مع هذه الفلسفات والأفكار عل نحو أنها تمثل واقعًا قائمًا، وأوليناها قيمة ما، فحينئذ يكون هناك معنى للحديث عن الكلام الجديد، وبخلاف ذلك لا معنى للحديث عنه”(8).

وأن المتكلمون الجدد هم الذين لا يرون في التحولات المعرفية الفلسفية والتقنية والعلمية والثقافية الغربية انحرافًا عن المسار، وأن هذه الفئة هي من ” كان يعتقد أن ما حصل هو تعبير عن واقع ظهر في منهج التفكير الإنساني يجب التعاطي معه بجد. كما كان هذا التيار يرى أن ظهور المسائل الفلسفية الجديدة على الأخص في النطاق المعرفي، تسبب بمشكلات جدية للفلسفة الأولى، وبذلك لا يجب أن تنحصر مهمة بيان الدين وتعريفه والحديث عنه في قالب الفلسفة الأولى (يقصد الفلسفة ذات المرتكزات الأرسطية)، بل يجب البحث عن منهج آخر ومقولات جديدة يصب فيها الموضوع الديني. “فعند هذه النقطة” انبثق الكلام الجديد الذي تبناه هذا التيار والتزم به” (9).

فكما هو واضح عند هذا المفكر أن علم الكلام الجديد هو العلم الذي يجيب عن الأسئلة الدينية المستعصية بتوسط المعارف الإنسانية التي ظهرت خلال الأربعة القرون الأخيرة في العالم الغربي.

والواضح أن منظور شبستري يركز على منهجية التعاطي مع الموضوع لكي يصرح بولادة علم الكلام الجديد، وإن كان هذا الاستدلال قد لا يكون كافيًا في الجزم بهذه الحقيقة، لكنه على الأقل عند شبستري يراه كافيًا، بل حتى إنه يرى علم الكلام الجديد علم قائم الذات ولا يحتاج إلى استدلال حتى، وإن كان في مراحله الأولى ولم ينضج بعد.

فبمناسبة حوار آخر أجراه بخصوص نفس الموضوع صرّح بأن: “الكلام الجديد لا تنحصر مهمته فقط في البحث والقراءة للأسئلة الجديدة، وإنما هو عبارة عن منهج جديد في التفكير والتحليل يتناول الإسلام كموضوع أساسي ومحوري” (10)، مؤكّدًا في نفس الآن بأن العلم لا زال في مراحله الأولية وأنه ينتظر الإنضاج بالمراكمة المعرفية والتنظيرية.

نظن بأننا قد أوضحنا، وإن بصفة موجزة، وضعية علم الكلام الجديد والمائز فيه عن باقي العلوم كما هي متصورة عند الطائفة الإنشائية/الدفاعية، مما يجعل من المناسب عرض بعض الملاحظات التي استطعنا استخراجها من هاته الرؤية المجملة.

ثانيًـا: الملاحـظـات

ما يجدر بنا إبداؤه من ملاحظات بخصوص منظور المفكر أحد فرامرز قراملكي، أنه منظور لا زال يحتاج إلى بحث منهجي أعمق حتى تتجلى مصاديق وجود “علم الكلام الجديد”، لأنه وفي خضم تأسيسه لهذه الولادة وقع في مطب معرفي راجع للتجاذب الحاد الواقع بين فلسفة الدين وعلم الكلام التقليدي المدرسي، فهو حين يدفع فلسفة الدين عن مرتع علم الكلام الجديد يوقع هذا الأخير في حضن علم الكلام التقليدي لأنه عقلًا لا يمكن اعتبار اختلاف اللغة والمنهجية عاملان على ولادة علم جديد، ونفس الملاحظة تتجلى بمناسبة الدفاع عن مباعدة علم الكلام التقليدي عن علم الكلام الجديد؛ إذ نجده يسقط في موضوعات فلسفة الدين، وربما أنه يعي هذه المشكلة لهذا نجد الأستاذ قراملكي يتفضل باستعمال لفظ غامض ألا وهو “الهندسة المعرفية”، والذي فشل في تفصيل النقاش بخصوصه وجعله حدًّا. لأن تغير التوجهات والمناهج والمواضيع والمسائل والتوقعات كلها لا تشفع في ولادة علم جديد، وإلا لتحدثنا على علم فيزياء كلاسيكي، وعلم فيزياء جديد بخصوص القطيعة المعرفية التي وقعت على أكثر من مستوى فيما يهم هذا العلم، والتي قلبت رأسًا على عقب المداليل الإقليدية والأرسطية، ونفس الشيء وقع تقريبًا في مجمل العلوم إبان الثورة العلمية التي عرفها الغرب.

ولعل مصداق رأينا يتجلى أكثر في الأعمال الكلامية للعلامة الشهيد محمد باقر الصدر، كما يتجلى في كتابه المعرفي الفذ “الأسس المنطقية للاستقراء”، والذي أشار فيه إلى التجاوز المعرفي والمنطقي لليقين الأرسطي مؤسسًا منهجية جديدة في الاستدلال على أصول الدين، وعلى رأسها إثبات وجود الصانع. فالتحول المنهجي لا يؤدي بالضرورة إلى ظهور علم جديد كما تحول باقي ما أسماها المفكر قراملكي بالأضلاع الهندسية، وربما أن له مقصد آخر من هذا البناء المراد اعتماده، إلا أنه فشل في ذلك إذ لا زال الغموض هو المسيطر.

رب قائل إن هذه السقطة راجعة إلى الترجمة والتي ربما لا تكون موفقة  (والحال أن لا)، لكن هذا التساؤل سريعًا ما يرتفع إذا علمنا أن نفس الاستشكال أثاره المفكر مصطفى ملكيان بمناسبة حوار أجراه، والحال أنه من المطلعين على أبحاث قراملكي باللغة الفارسية.

إلا أن سلسلة الملاحظات لا تتوقف عند هذا الحد، بل نجدها تنجر إلى المسائل الكلامية المتحدث على أنها مستحدثة، والحال أن مجملها سبق له أن طرح وإن بدرجة متفاوتة، فيما يخص اللغة الدينية والتجربة الدينية وتكثر الفهم والوحي النفسي والوحي اللغوي وغيرها من المواضيع التي يعاد إثارتها حديثًا. فالمسائل ليست مستحدثة بالشكل الذي يحاول أن يفهمنا إياها الأستاذ قراملكي، صحيح أن التقريرات مختلفة بمعنى أن ما أضحى بديهيًّا عند المتكلمين الجدد لم يكن كذلك وليس كذلك عند المتكلمين المدرسيين، لكن هذا الأمر ليس مسوغًا للقول بأن ثمة علمين متمايزين موجودان جنبًا إلى جنب، وإلا لوجدنا أنفسنا أمام علوم متشذرة على مستوى المدارس المعرفية المتكثرة داخل كل علم.

وربما أن محاولة المتكلمين الجدد خلق بديهيات فكرية عندهم، غير متيسرة الدفاع وفق معطيات صرح علم الكلام المدرسي جعلتهم يبحثون عن علم يحشونه رؤاهم ويجعلون من أفكارهم مقدمات معرفية واجبة الاعتقاد والاعتبار، على الأقل هذه الملاحظة تصدق على عطاءات الأستاذ محمد مجتهد شبستري المعربة والتي تيسر لنا الإطلاع عليها لاتصافها بالجزمية.

لكن المأزق الآخر الذين يقعون فيه متجلي في الجنبة الدفاعية عن الدين، لأن بعض الرؤى الفكرية تتناقض مع أصل المدعى في هذه الجنبة، بل وتتلاقى إلى حد كبير مع المنظور الغربي وفلاسفة الدين في إيران كعبد الكريم سروش بخصوص نسبية المعرفة الدينية، والهيرمنيوطيقا كما هي متبناة على الأقل عند الشيخ شبستري، مما يجعل المتكلمين يبسطون القول بخصوص التناقض الداخلي بين العطاء الكلامي لبعض المتكلمين الجدد ومدعاهم بالدفاع عن الدين. ولهذا السبب بالذات نجد الكثير من المفكرين يرفضون الاعتقاد بعلم الكلام الجديد، بل لا ترى فيه إلى فلسفة الدين (كعبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان) حتى لا تقع أطروحاتها تحت لازمة الدفاع عن الدين.

بقيت الإشارة إلى أن هناك مجموعة من التخبطات عند المتكلمين الجدد، إذ لا ينفكون على اجتراح الإشكالات التي يثيرها الفلاسفة الدينيون، ويتصدون للجواب عنها وربما بمدخلية فلسفية أو حتى من الشأنية العلمية المعتبرة في الاشتباه، ولا يكادون يحيلون على نص ديني لتعضيد الموقف.

فالمبارزة المعرفية الدينية عندهم تظل عقلانية دون استدلال نصي، وهو نفس ما لاحظناه في الباب الأخير من كتاب الهندسة المعرفية للكلام الجديد، حيث طفق الأستاذ قراملكي في الرد على منظور فرويد للدين بمدخلية نفسية دينية، ولم يشر إلى نص ديني عاضد لطرحه.

والحال أن هكذا إغفال يظل غير مقبول داخل الصرح الكلامي لأن مبتدأ المطارحة تظل نصية قبل أن يتدخل العقل لتعضيدها، وليس العكس. وهو ما نجده مغيبًا عند قراملكي.

مما يجعلنا نسجل أن هناك ثمة أزمة معرفية يعيشها الباحث قراملكي، تتجلى في انمحاء الحدّية العلمية بين علم الكلام (جديدًا كان أو مدرسيًّا)، وبين فلسفة الدين.

ثالثًا: منظور العلامة السبحاني

بمناسبة بحث العلامة لموضوعة علم الكلام الجديد نجده يردها جملة وتفصيلًا مصرحًا في هذا الباب بأنه “قد شاع على ألسن بعض الجامعيين الجدد عنوان: “علم الكلام الجديد”، وهم يلهجون به بفم ملؤه الإعجاب والاعتبار، ويبدو لأول وهلة أن هناك علمين مختلفين أحدهما “الكلام القديم”، والآخر “الكلام الجديد”، ولكل تعريف وموضوع ومسائل وغاية.

ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ ليس ثمة علمان مختلفان، من حيث الموضوع والغاية، بل هو علم واحد يتكامل عبر الزمان حسب تكامل الحضارة وتفتح العقول، وليس ذلك أمرًا شاذًا في علم الكلام، بل هو جار في سائر العلوم أيضًا”(11).

وأن علم الكلام نفسه عرف تطورًا ملحوظًا؛ إذ إنه في بدايته لم يكن إلا مجموعة مسائل قليلة عرفت تكثرًا مع تمدد الزمان والمكان، فيكون الأحرى تسمية مواضيع علم الكلام الجديد بالمسائل الجديدة في علم الكلام.

معتقدًا بأن “الغاية من وصف بعض المسائل بالكلام الجديد، هو تهميش الكلام الإسلامي الذي تكامل عبر الزمان بيد عمالقة الفن وأساتذته بزعم أن المدونات الكلامية لا تلبي حاجات العصر ولا تشبع رغبة الطالبين.

 

ولكنه – يشهد الله – بخس لحق هذا العلم، فإن الكلام الإسلامي قادر على تلبية حاجات المتكلمين فيما يتبنونه في هذه الأيام باسم فلسفة الدين وما يرجع إلى المعرفة الدينية” (12).

فعلى هذا الأساس يرى العلامة بأن المواضيع المستحدثة يمكن إدخالها ضمن علم الكلام المدرسي، وأن هذا العلم كفيل بمناقشة مجموع المواضيع المستجدة والجواب عليها وأخذ نماذج من هذه المواضيع ليرد عليها كلاميًّا.

واحترامًا لمقام البحث نود أن نأخذ عينة من الإشكالات الكثيرة التي طرحها العلامة وكيف أجاب عنها، على أن نبدي ملاحظاتنا في عنوان مستقل.

ما هو السبب لنشأة الدين؟

هنا نجد العلامة بعد أن عرض منظور الفلاسفة وعلماء النفس بهذا الخصوص والذين جعلوا سبب النشأة مرة راجع إلى الخوف (ول ديورانت)، ومرة إلى الحفاظ على المراكز الاقتصادية (كارل ماركس)، ومـرة إلـى الطفـولـيــة (فرويد)، ردها جميعًا بوصفها نظريات ساقطة “التي لم تكن إلا دعاوى فارغة من الدليل، ظهرت لغايات سياسية”(13). على أساس أنها جميعًا أغفلت أن لنشوء الاعتقاد عللًا طبيعية روحية كالفطرة، أو منطقية وعقلية كدلالة العقل الإنساني على وجود قوة عليا عندما يواجه هذا النظام البديع.

“فهذه العلل تكشف أن للاعتقاد جذورًا واقعية في العقل والنفس وهي التي دعت الإنسان في عامة القرون إلى الاعتقاد بالعوالم الغيبية غير عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة أو الجهل بالعوامل الظاهرة أو نظرية الاستغلال أو الحالة الطفولية أو غير ذلك من الفـروض التي حاكها الخيال وأبطلهـا المنطـق والتاريـخ والتجربة”(14).

فعلى هذا الأساس يرى العلامة بأن لا مبرر للتصريح بولادة علم الكلام الجديد، لأن الأمر يتعلق فقط بمسائل كلامية جديدة مستحدثة يمكن لعلم الكلام المدرسي أن يحتويها لرد الشبهات المثارة بخصوصها.

طبعًا مجمل نظرية العلامة جعفر السبحاني تثير الكثير من الإشكالات والملاحظات، تهم صدقية تطور علم الكلام المدرسي، وقابليته للتعامل مع ما أسماه بالمسائل الكلامية الجديدة، والتي سوف نعمل على بسطها في العنوان الرابع.

 

 

 

رابعًــا: ملاحظــات

في البداية يطيب لنا أن نشير إلى استغرابنا من تحامل العلامة على تصورات العلوم الإنسانية لتفسير نشأة الدين، حيث نلاحظه وعلى خلاف عادته، يكيل لها التهم والأوصاف القدحية من “ساقطة”، إلى “دعاوى فارغة”، و “ظهرت لغايات سياسية”، و “عقيمة”، وهي لعمري تقويمات بعيدة كل البعد عن الهدوء العلمي المرجو.

ونحن في هذا المقام نكتفي بهذه الإشارات للتدليل على صلب أزمة علم الكلام المدرسي، ذلك أنه في مقام رد الشبهات كثيرًا ما يميل المتكلم المدرسي إلى كيل التهم والتنقيص من مثيريها وهي طامة بما في الكلمة من معنى. فالنفخ الذي يجري بالنسبة للمؤيدين يقابله التحقير والبخس فيما يخص المخالفين، والعلامة السبحاني قد شكل دليلًا واقعيًّا في الألفية الثالثة لهذه الأزمة – مع احترامنا الشخصي له – إلا أنه حان الوقت أن نتجاوز هكذا أحكام قيمة في مقام التبيين والتأسيس والرد، فلو كانت هذه الصفة الميزة الوحيدة لعلم الكلام الجديد لكفتها فخرًا، بل أنها تمتاز بميزة إضافية تتجلى في أنها تمنح من معطيات المعارف الإنسانية بصفتها تلك للجواب على الإشكالات الدينية الكبرى، وخصوصًا ما عرفته هذه العلوم من تقدم وتطور في مجال مقاربة الشأن المقدس إن توصيفًا أو دراسة علية أو غائية. هذا التطور الذي لا يمكن إنكاره، كما أنه يظل من غير المعقول تجاوز نتائج هذه الأبحاث وردها على أساس عدم صوابها بالجملة.

طبعًا نحن لا ندعي بأن مجموع المتكلمين المدرسيين يتميزون بهكذا صفات، إلا أننا في نفس الوقت لا ننفي بأنها الصفة الغالبة في التوجه الكلامي المدرسي.

هذا فيما يخص شكليات الرد، أما لو خضنا في مضمون الرد فسوف نجد استدلال العلامة السبحاني غير سليم ومردود على مستوى الواقع الخارجي، لأن ما نحى إليه العلامة لا مصداق له على المستوى الخارجي، كما أنه لا يمكنه تفسير مجمل الظواهر الدينية بتفسيرات عامة من قبل استعمال كلمة الانحراف عن الخط السليم، والتي يلهج بها الكثير من المتكلمين أمام مجموعة من الظواهر الدينية التي تصادفهم.

بل حتى إن العلامة السبحاني لا يمكنه أن يفسر لنا كيف نشأت الأفكار الدينية المنحرفة على مستوى الوجود الخارجي لها، وخصوصًا أنه لا يمكنه أن يسندها إلى الفطرة أو المنطق أو الاستدلال العقلي لأن هكذا قول هو ناقض لحجيتهم.

ذلك أنه حقيقة سوف يعجز عن تفسير ظهور عبادة الأوثان في شبه الجزيرة العربية بالأسس الثلاثة التي اعتمدها، بالإضافة إلى أن عجزه سيستمر بمناسبة محاولة تفسيره ظهور ما يسمى الطوطم والطابو في المجتمعات البدائية، والطقوس الدينية والتعبدية حتى من أجل استجلاب المطر أو دفع الكوارث الطبيعية، وهي ظواهر نشاهدها كثيرًا في بعض المجتمعات التاريخية والتي لا زالت مستمرة إلى تاريخه، قد تكون معضلة النظريات الإنسانية لتفسير نشأة الدين راجعة في بحثها عن العامل الأوحد، والحال أنها مجموعها صحيحة بدرجة معينة. ولا يجب أن ننسى أن أسلوب الإخافة والطمع من أوثق الأساليب المشار إليها في كتاب الله الحكيم فإثنينية الرغبة والرهبة كثيرًا ما نجدها في ثنايا الآيات القرآنية.

فسلامة الفطرة والمنطق والاستدلال العقلي يضمحلون أمام هذه التشكلات العقدية، والغريب أن العلامة في كتابه القيم “بحوث في الملل والنحل” (15)، أشار غير ما مرة إلى دور السلطة السياسية في الترويج لبعض الأفكار الدينية المنحرفة كالجبرية، والتي تشكل الدين كل الدين عند الجبريين، حيث أشار إلى أنه “اتخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيئة وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العبث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري: “إن معاوية أول من زعم أن الله يريد أفعال العباد كلها”(16)، والكل بعد أن أوضح العوامل الثقافية والاجتماعية لنشوء الفرق الكلامية الإسلامية.

فقد أوضح إلى أن الأمور العامة والفاعلة في نشوء الفرق الكلامية الإسلامية هي الآتية:

  • الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية.
  • سوء الفهم واعوجاجه في تحديد الحقائق الدينية.
  • المنع عن كتابة حديث رسول الله (ص) ونقله والتحدث به.
  • فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدث عن قصص الأولين والآخرين.
  • الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الفرس والروم والهند.
  • الاجتهاد في مقابل النص.

ربما أن المدخليات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية حتى يجب أخذها بعين الاعتبار لدراسة بعض التشكلات العقائدية وهو ما نجح فيه العلامة في كتابه المشار إليه سابقًا، وربما الإيمان بهذه المدخليات يجعل من علم الكلام المدرسي أكثر تقدّمًا وانفتاحًا وحتى تفهمًا للمنظورات الإنسانية الغربية، إلا أن الأمر لا زال مبكرًا للقول بتحقق هكذا انفتاحية. مما يجعلنا في خلاصتنا نصل إلى حقيقة مخالفة تمامًا لما هو موجود من تصورات.

بقيت الإشارة إلى أن العلامة السبحاني، والذي سبق له أن صرح بأن “علم الكلام وليد الحاجة”، رفض إلا أن يحتوي المسائل الكلامية الجديدة في قوالب معرفية معدة سلفًا وغير وافية للغرض. فتكمالية العلم لا تتجلى في التعاطي مع المسائل الجديدة بقدر ما تهم تجديد المناهج واللغة والهدف، وهي مسائل جد مغيبة في مطارحة العلامة.

لأن الحاجة تفرض الإحاطة بالمبنى الكلي والجزئي للشبهة المثارة، وخلفياتها المعرفية. بغض النظر عن المزايدات السياسوية أو الاجتماعوية التي قد تتلبس بمثير الشبهة. والإحاطة بالمباني يستلزم الاطلاع على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأديان المقارن وعلم الأنتربولوجيا وعلم الإثنولوجيا وعلم الاقتصاد وفلسفة اللغة وغيرها من العلوم الإنسانية، لأنها وحدها تمكننا من مطالعة رأس المسألة الكلامية المثارة ومقاربتها بشكل علمي هادئ لا يحمل تسخيفًا أو تهوينًا من صاحبها، والتدليل على أزماتها الداخلية والخارجية.

الخـلاصـــة

زبدة القول في هذا البحث المختصر، ومع مؤاخذاتنا على العلامة السبحاني إلا أنه لا زال مبكرًا التصريح بولادة علم الكلام الجديد، لأنه تنقصه الخصوصيات الحدية الماهوية كما تم التنويه إلى ذلك بمناسبة معالجة منظور الأستاذ أحد فرامرز قراملكي وهو من هو في هذا المجال، إذ لا زال هاجسًا معرفيًّا يبحث له عن طريق متفرد، ولم يصل بعد إلى هدفه. ليظل لنا سيناريو واحد نعاينه – طبعًا وفق ما استطعنا الإطلاع عليه باللغة العربية – هو تشاركية فلسفة الدين وعلم الكلام المدرسي في هذا الهاجس المعرفي، وعندما نصرح بالتشاركية فهو تصريح بفقدان هوية مما يجعل مجمل المنظورات المتكثرة في كلتا المجالين لها مدخلية في تشكله، كما الصراعات المعرفية والخلاصات المبدئية. فلو توسعت مدارك علم الكلام المدرسي إلى درجة استيعاب العلوم الإنسانية عندها يضمحل هذا الموجود الجنيني لفائدتها، وإلا لو تطورت مدارك فلسفة الدين إلى درجة تبني الجنبة الدفاعية فسوف يضمحل المولود الجديد داخلها*.

يمكننا أن نصرح بأن علم الكلام الجديد في الحالة الراهنة يشكل صرخة تمرد على الأوضاع الفكرية الدينية الراهنة مطالبًا بتوسيع المدارك المعرفية لأحد المجالين، وإلا اعتبر نفسه مولودًا خداجًا يحمل مجموع المفكرين المسؤولية الدينية والشرعية حتى على تخبطاته التي يمكن أن تقع في المستقبل.

مما يعني عدم ترك الأمور على ما هي عليه أي على درجة من المائعية؛ لأن هكذا أوضاع تشكل خطرًا على التصورات الدينية والتي قد تؤدي إلى فقدان اليقين، مما يجعل من تعميق البحث في هذا الباب ضروري جدًّا وحيوي حتى، للبت نهائيًّا في جنسية المولود لأنه لا يكف عن النمو وبشكل متسارع فلنا أن نتبناه حالًا، أو يفرض علينا نفسه قسرًا لكن بشكل مشوه كما كازيمودو الباحث عن فاتنته والتي سوف يميتها ويموت معها.

إنها في جميع الأحوال نهاية مأساوية لا نريدها لا للمولود ولا لأحد العلوم المشايخ (علم الكلام المدرسي وفلسفة الدين).

 

 

الهوامش

1 – أحد قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، ترجمة: حيدر نجف وحسن العمري، مراجعة: عبد الجبار الرفاعي، طبعة دار الهادي ضمن سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، الطبعة الأولى سنة 2002، الصفحة 187.

2 – أحد قراملكي، نفس المرجع، الصفحتان 192 و 193.

3 – أحد قراملكي، نفس المرجع، الصفحة 139.

4 – أحد قراملكي، نفس المرجع، الصفحة 114.

5 – أحد قراملكي، الكلام الجديد وفلسفة الدين – رؤية في السمات المائزة، مجلة المحجة، العدد الثامن، الصفحة 94.

6 – أحد قراملكي، نفس المرجع، الصفحة 95.

7 – أحد قراملكي، نفس المرجع، الصفحتان 98 و 100.

8 – محمد مجتهد شبستري، مدخل إلى علم الكلام الجديد، منشورات دار الهادي، بيروت لبنان، الطبعة الأولى سنة 2000، الصفحة 58.

9 – محمد مجتهد شبستري، نفس المرجع، الصفحة 64.

10 – زينب إبراهيم شوربا، نحو فهم معاصر للاجتهاد، حوارات في الاجتهاد وإمكانيات التجديد، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد، الطبعة الأولى 2004، الحوار تحت عنوان الكلام الجديد، تساؤلات في الموضوع والمنهج، الصفحة 158.

11 – جعفر السبحاني، رسائل ومقالات منشورات مؤسسة الإمام الصادق، الطبعة الأولى سنة 1426 هجري قمري، الجزء الخامس ضمن بحث “علم الكلام الجديد أو المسائل الجديدة في علم الكلام”، الصفحة 165.

12 – جعفر السبحاني، نفس المرجع، الصفحة 166.

13 – جعفر السبحاني، نفس المرجع، الصفحة 168.

14 – جعفر السبحاني، نفس المرجع.

15 – جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، موسوعة فرقية مطبوعة عن الدار الإسلامية، الطبعة الثانية سنة 1991.

16 – جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، الصفحة 240.

* الغريب أن الأستاذ عبد الجبار الرفاعي وهو من المدافعين كثيرًا عن ظهور علم الكلام الجديد، إلى درجة أنه خصص خمس أعداد من مجلته “قضايا إسلامية معاصرة” لهذا الموضوع، كما جهز الجزء الثاني من سلسلة المشهد الثقافي الإيراني لموضوعة “علم الكلام الجديد وفلسفة الدين”، نجده قد أسس مركزًا معرفيًّا في العراق أسماه بمركز فلسفة الدين، كما لو أنه أضحى من المدافعين على احتواء علم الكلام الجديد ضمن فلسفة الدين.

 

 

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
قراملكيالسبحانيعلم الكلام الجديد

المقالات المرتبطة

صلاة الإنسان وصلاة الله

الصلاة عند ابن عربي عبادة خاصّة، حوارٌ حميم بين العبد وربّه، حوارٌ هو أشبه بتقاسم الأدوار في ظهور الوجود

فلسفة الأخلاق الماهية، الضرورة، الأهداف (2)

أيصح منا التغافل عن البحث في فلسفة الأخلاق بالمعنى الذي قدّمناه، وأهميته، وبين أيدينا نصوص الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي حُبلى بكل محفزات البحث

الإيمان بالحسين دافع الإحياء

  نسجت عاشوراء عبر التاريخ أروع المدارس التربويّة الثوريّة الـمُلهِمة للعديد من الثورات، متّخذةً من الأحداث المأساويّة التي جرت آنذاك (في واقعة كربلاء)

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<