تقرير الجلسة الثالثة من أعمال المؤتمر الخامس للتجديد والاجتهاد الفكري
الجلسة الثالثة والأخيرة عند الساعة 2 ظهرًا حملت عنوان: تأثيرات أطروحة الثورة الإسلامية في خارج الجمهورية وداخلها/ ترأستها الأستاذة مريم ميرزاده.
فتحدث علي ذو علم عن “المنظومة الفكرية للثورة الإسلامية” وقال: ينبغي في منظومة “فكر الثورة الإسلامية” الإجابة على أسئلة عامة وأساسية ثلاثة تُطرَحُ في مقابل أي فكر أو نظام فكري وفلسفي يدعي القدرة والفعالية في رسم مسار سعادة البشر وتقدمهم:
- ما هي مبادئ فكر الثورة الإسلامية وأسسه؟
- ما هو مسار التحقيق الموضوعي لهذا الفكر، وما هي عملية تحقيقه؟
- ما هي غايات هذا الفكر وأهدافه؟
ينبع فكر الثورة الإسلامية من أسس ومبادئ قادرة على إيجاد تحول عميق على صعيد الحياة التقليدية والجماعية للبشر، ثم على لعب دور إرشادي وتحفيزي للمجتمع في مجالات بناء الدولة والتنشئة الاجتماعية، ويمكنه في المحصلة أن يكون الركيزة والمُتَّكأَ في بناء الحضارة الإسلامية الحديثة.
وتقدم هذه المقالة إجابات على الأسئلة العامة سالفة الذكر عن فكر الثورة الإسلامية من منظور الإمام الخميني (قدس سره)، والإمام الخامنئي (دام ظله الوارف) بإيجاز، وهي:
- مبادئ فكر الثورة الإسلامية وأسسه
يتمثل المستوى المحوري والمركزي لهذا الفكر بالمصادر الأصيلة والجذور الخاصة بفكر الثورة الإسلامية وهي: العقلانية والقرآن الكريم والنبي الأعظم (ص) وأهل البيت(ع)، حيث يُعّدُّ استخدام العقل الفطري في الحقيقة الركيزةَ الفكرية الأولى للإسلام الأصيل، والهبةَ الإلهية التي أودعها الله في فطرة جميع البشر، ومن هذا المُنطَلَق، تتضح في القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (ص) وأهل البيت(ع) ضرورة التمسك بالمصدر المعرفي المطلق والخالص للوحي والاستفادة منه.
أما المستوى التالي لهذه المنظومة، فهو ينقسم إلى قسمين، هما: المفاهيم الأساسية والبنيوية، والقيم الأساسية، وهو يبين توجهات الثورة الإسلامية بالنسبة إلى عدد من المفاهيم والمقولات المطروحة في أي فكر أو فلسفة والحكم عليها. فالإنسان هو مفهوم تدور حوله تصورات مختلفة، وهو بالنسبة إلى المفكرين مبدأ الحكم على المدرسة والنظام الفكري.
وأضاف، فالإنسان في فكر الثورة الإسلامية هو أفضل المخلوقات الإلهية ولديه كرامة ذاتية انطلاقًا من كونه خليفة الله، وهو من يختار طريق تقدمه عن طريق عُنصَرَي العقل والاختيار الواعي، والالتزام بدين الحق.
وأما الدين فهو مفهوم أساسي آخر يحظى بأهمية بالغة في فهم الاختلاف بين فكر الثورة الإسلامية والأفكار المنافسة والمزعومة. وهو المفهوم الذي يتعرض اليوم للتصورات الخاطئة والانتقائية، وقد تمكنت الثورة الإسلامية كونها ثورة دينية نفض الغبار عن هذا المفهوم وتصوير حقيقته الداعية إلى التركيز على المصداق الحقيقي والشامل وهو الإسلام المحمدي الأصيل، الإسلام القائم على مبدأ التوحيد الذي لا يَعتَبِرُ التوحيدَ مبدأً عقائديًّا فحسب، بل يعدُّه أساسًا مؤثرًا ونافذًا في جميع أبعاد الإسلام وفكر الإنسان المسلم وعمله.
ومفهوم العرفان وهو العلم الداعم للمعنوية العقلانية وما يميز النظام الإسلامي عن غيره من الأنظمة الاجتماعية، هما مفهومان يجب تحليلهما ودراستهما امتدادًا للمفاهيم السابقة. حيث يوضح فكر إمامي الثورة الإسلامية وسائر مفكروها التصورات المُشَوَّهة وغير الكاملة عن الإسلام والمتعلقة بهذين المفهومَين.
ورأى أن الحياة والعدالة والتحول والجهاد هي مفاهيم أساسية ارتبطت ببعضها أولًا، وهي مفاهيم مهمة جدًّا في فكر الثورة الإسلامية وما يميزه عن الأفكار الرائجة ثانيًا. فلن يتحقق معنى الحياة ومفهومها وهدفها وكذلك محورية دور العدالة في الحياة الفردية والاجتماعية للبشر دون أن يطرأ تحول نظري واجتماعي عميق على المناخ الحضاري المعاصر للبشر. والدور الأساسي هو للجهاد بمعناه الحقيقي والصحيح الممتزج بالذكاء والعقلانية والمنطق والسِّمَات الأخلاقية والمنطقية. وتعد هذه المفاهيم مسائل مهمة، يؤدي تبيينها إلى تمهيد الطريق نحو معرفة فكر الثورة الإسلامية.
وأضاف وأما القيم الأساسية التي تحكمها المُثُل الدائمة للبشر وبخاصة في الأنظمة الاجتماعية، هي الحرية والأخلاق والمعنوية والعدالة والعزة والأخوة.
أما المستوى الأخير من قسم مبادئ المنظومة المفاهيمية لفكر الثورة الإسلامية وأسسها، يتمثل في الأُطُر والعناصر الفكرية الناعمة المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية للمجتمع الإسلامي.
ويعتبر المنهج الإصلاحي أهم مفهومٍ قرآني وإسلامي يدفع الفرد والمجتمع في أي مكان كان نحو مسار التحول والإصلاح.
وقال ذو علم: ويبقى السؤال العام والرئيسي الثاني كالتالي: ما هو المسار الذي يسلكه فكر الثورة الإسلامية ليتحقق بشكل موضوعي وما هي عملية ذلك؟ وما هي الأطياف والفئات التي تلعب دورًا إبداعيًّا في تحقيقه وما هي عوائق تحقيقه؟ وما هي الاستراتيجيات والآليات التي يتخدها فكر الثورة الإسلامية في مرحلة استقرار النظام الاجتماعي؟ وبشكل خاص، ما هي أوجه الاختلاف الأساسية بين هذه الاستراتيجيات وبين الاستراتيجيات السَّارية في الحضارة الغربية الراهنة في العالم اليوم؟
ويشدد في هذا المجال على عنصر الثقة بالنفس في المستوى الأول لهذا القسم ليكون أول عناصر تحقيق الثورة، وتعتبر الصحوة الإسلامية نتاجَ تنامي الثقة الإسلامية والثورية بالنفس وتعزيزها وترسيخها. حيث كانت الصحوة الإسلامية تيارًا مستمرًا في إيران التي تُعتَبَرُ المنشأ الأصلي للصحوة الإسلامية والمحور المركزي لأوج الصحوة الإسلامية والثقة الوطنية والثورية في الزمن المعاصر، وقد تمكن هذا التيار من تحقيق الإنجازات بعد الحركة المشروطة -التي انطلقت قبل 70 سنة من انتصار الثورة الإسلامية- على الرغم من المطبات والعقبات التي مرَّت بها.
ولفت إلى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعلّمت دروسًا متنوعة وخاضت العديد من التجارب التي يمكنها أن تكون مجدية بالنسبة إلى أي شعب أو مجتمع في تحقيق فكر الثورة الإسلامية الأصيل بشكل عيني: ومن التجارب القيمة التي حددت مسار تعزيز التوافق والتظافر بين “الديمقراطية الدينية” و”ولاية الفقيه” بناء على “الإسلام المحمدي الأصيل” وخلافًا لوجهات النظر السلبية إزاء الحضور الاجتماعي والسياسي للدين والآراء التي تقول بتعارض النظام الديني مع الديمقراطية الدينية.
وعن أهداف الثورة الإسلامية وغاياتها قال: ما هي الغايات والمآرب التي يسعى نحوها فكر الثورة الإسلامية وما هي الأهداف التي يحاول تحقيقها؟ يمكن القول باختصار: إن القيم الأصيلة في الإسلام الخالص هي نفسها المُثُل التي تسعى الثورة الإسلامية إلى تحقيقها مثل: الحرية والأخلاق والمعنوية والعدالة والاستقلال والعقلانية والكرامة والأخوة على مستوى المجتمع الإسلامي وكذلك على مستوى العالم. حيث تتكامل هذه المُثُل والقيم وتتشابك مع بعضها البعض، وهي كما سلف ذكره مختلفة عن التصورات والآراء البشرية الرائجة اختلافًا جذريًّا.
ومن وجهة نظر أخرى، يتمثل هدف فكر الثورة الإسلامية وغايته في تحقيق التقدم الشامل والحقيقي للمجتمع الإسلامي، ثم في بناء الحضارة الإسلامية الحديثة، التي تتشكل عبر هذه القيم. إن التقدم في العلم والتكنولوجيا، وكذلك الوحدة بين مؤسستي الجامعة والحوزة اللتين تهيئان منصة التعاون والتماشي بين مؤسستَي العلم والدين في المجتمعات الإسلامية، وكذلك عاملَي التقريب بين المذاهب الإسلامية ووحدة المسلمين العاملان الرئيسيان في تشكيل الأمة الإسلامية، هي الأهداف التي جرى التركيز عليها في فكر الثورة الإسلامية ولا سيما من قِبَل إمامي الثورة وسائر مفكريها. لذلك يقع فكر الثورة الإسلامية مع امتلاكه للهوية الفلسفية والفكرية التوحيدية والإلهية في مقابل وجهات النظر والسلوكيات الداعية للتفرقة وإضعاف الأمة الإسلامية، وهو يسعى لتقديم نموذج عن المجتمع الإسلامي، ويفكر في مستقبل الأمة الإسلامية المشرق في عصر العولمة وفي ظل جهود المستكبرين الرامية إلى ابتلاع المسلمين في هيكلية الحضارة الغربية الفاشلة المختلقة للأزمات. وفي هذا السياق، يَعتَبِر هذا الفكر قضية فلسطين قضيةً مهمةً من بينِ المؤامرات والأزمات المفتعلة في العالم الإسلامي، وهو يهدف إلى تحريرها من نَير الصهاينة المدعومين من الاستكبار العالمي ليكون ذلك هدفًا وسيطًا لتيار الثورة الإسلامية، وقد قدم هذا التيار بالطبع سبيلًا لحل هذه القضية بناء على الإيمان بمبدأ العدالة والديمقراطية الدينية وذلك ضمن إطار منطقي يقول بأن “لكل فلسطيني صوته” في تعيين النظام السياسي الحاكم في فلسطين، ويعتقد أن المقاومة وجهاد المسلمين المواجهين والمتمسكين بالقضية الفلسطينية، مستمرة حتى رضوخ نظام الهيمنة، وإذعانه لحق الفلسطينيين في تحديد مصيرهم.
وفي المحصلة إن منتهى أهداف الفكر الإسلامي بناء على المبادئ الحُكْمِيَّة والمصادر الإسلامية الأصيلة هو التمهيد لتشكيل حكومة العدل العالمية تحت لواء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، الأمر الذي سوف يتحقق بعد ظهوره ونُصرَةِ أعوانه المخلصين والمجاهدين له، وبالتالي، فإن الارتكاز على خطاب المهدوية والاعتقاد به يفضي دائمًا إلى إحياء الأمل بمستقبل واعد ومشرق للمستضعفين في العالم والأمة الإسلامية في العصر الذي يُسَخِّر فيه المستكبرون كامل جهودهم من أجل زرع اليأس لدى مظلومي العالم، وهذه القضية هي أكثر المسائل وضوحًا في المنظومة الفكرية للثورة الإسلامية. نعم، فالأمة الإسلامية وبخاصة الشباب قادرة بمشيئة الله على تعجيل وصول جبهة المقاومة الإسلامية إلى مُثُلها العليا بشكل أسرع والتي تتمثل في إنقاد جميع الشعوب المظلومة على ضوء بناء الحضارة الإسلامية والاستعداد لشروق شمس الولاية العُظْمَى أرواحنا له الفداء وإرساء العدالة والمعنوية في كافة أرجاء العالم وذلك من خلال ارتكازها على البصيرة والوحدة والجهاد والاتكاء على هويتها الثورية والإسلامية.
وعن تبیین نظریة النظام الثوري تحدث عبد الحسین خسروبناه فقال: أحرزت الثورة الإسلامية تقدّمًا وإنجازًا كبيرًا في مختلف المجالات، لكن الطريق لا يزال في بدايته ولا تزال الثورة الإسلامية في أولها. ومن أجل اتخاذ الخطوات القادمة فلا بد من اكتمال الأسس المعرفية للنظام لكي يرتفع بناء النظام الإسلامي عليها. ومن جهة أخرى، لا يمكن لهذا الفكر أن يتوقف عند الحدود الجغرافية لبلد معين، بل هو ينتشر بشكل طبيعي ويستقطب استعطاف الشعوب وأذهانهم، وهو بحاجة إلى هذا الدَّعم قدر الإمكان (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه الطلاب النموذجيين وممثلين عن الهيئات الطلابية المختلفة، 17/10/2006).
ولا يمكن لأي حكومة أو نظام اجتماعي أن ينشأ أو يستمرَ أو يتطورَ دون وجود نظرية خاصة. (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه أعضاء هيئة إحياء ذكرى الشهيد طالقاني، 15/8/2016). لذلك، يتوقف تطور الجمهورية الإسلامية الإيرانية وارتقاؤها على التنظير في مختلف المجالات التي تحتاجها الثورة الإسلامية، وعلى تقديم نظرية خاصة بالنظام الثوري.
ولدى نظرية النظام الإسلامي أركان عديدة، كما يتمتع النظام الناتج عن هذه النظرية بمجموعة من الخصائص، ولديه إنجازاتٌ وواجباتٌ ومسارٌ لعملية تحقيقه، وسوف نعمد إلى إيضاح البنود التالية بغية تبيين نظرية النظام الثوري ورسم ملامحه بشكل دقيق:
- تبيين مفاهيم نظرية النظام الثوري
من أجل وصف نظرية النظام الثوري وتحديد ملامحه بشكل دقيق سنقوم بداية بتعريف مصطلحات: النظرية والنظام، والنظام الثوري فيما يلي:
النظرية
من خلال الاستعانة بكلام الإمام الخامنئي، النظرية هي مجموعة من المفاهيم المرتبطة التي تهدف إلى تبيين حقيقةٍ خارجية أو توصيةٍ بإحداث تغييرٍ على حقيقة خارجية، ويجب على النظرية توفير الأداة اللازمة لاختبارها وإثباتها. وترتبط صحتها العلمية بامتلاكها صدقًا منطقًا وخبريًا، فيما ترتبط صحتها العملية في فوائدها وفعاليتها (ر.ك. الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه طيفًا واسعًا من أهالي كاشان وآران وبيدغل، 11/11/2001، والمجلسَ الاقتصادي الاستراتيجي، 17/5/2011، وجمعًا من طلاب المدارس والجامعات من كافة أنحاء البلاد، 3/11/2018، خطب صلاة الجمعة في طهران، 9/1/1991، رسالته إلى حجاج بيت الله الحرام، 19/3/1999).
النظام
من خلال الاستعانة بكلام الإمام الخامنئي، النظام هو مجموعة من الأجزاء والعناصر والقيم المنسجمة والمرتبطة ببعضها، وبِسبب الارتباط والانسجام السائد عليها فهي تشكل مجموعةً عامةً جديدة ومُنَظَّمَة وتَتْبع نَظْمًا معينًا، وهي تعمل وتصارع من أجل تحقيق أهدافها ومُثُلِها الخاصة التي تعتبر سبب وجودها (ر.ك. كلام الإمام الخامنئي خلال لقائه جمعًا من طلاب الجامعات من مختلف أنحاء البلاد ومُمَثِّلين عن الهيئات الطلابية، 2/7/2016، وعددًا من رجال الدولة ومسؤولي النظام، 12/12/2001، وطلبة وأساتذة الحوزة العملية الأفاضل بقم، 21/10/2010).
النظام الثوري
هناك فكر خاطئ منذ بدايات الثورة الإسلامية ومن الأيام الأولى على انتصارها وحتى الآن، وهو منتشر في أوساط جماعاتٍ من الثورة، يقول بأن الثورة الإسلامية كان لها وجهٌ بارز حتى مرحلة تشكيل النظام، ولكن عليها أن تذهب وشأنها فلم نعد بحاجة إليها بعد أن تأسَّسَ النظام واستقرت المؤسسات والقوانينُ والروتين الإداري، ويُعِبِّرُ هذا التوجه عن الثورة بأنها توترٌ ونزاع وصَخَبٌ وممارسات غير قانونية وما إلى هنالك. (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه جمعًا من طلاب الجامعات، 28/5/2018).
خلافًا للتصور المذكور، تعتبر الروح الثورية روحَ الشعب الإيراني والمسألةَ الأولى والأساسية التي تتقدم حركة الثورة الإسلامية. فقد تحققت الثورة الإسلامية من خلال المعنويات الخالصة للشعب واستطاعت تحرير البلاد من نير الهيمنة وتخليصها من الضغط الحكومي الذي كان يُمَارَسُ عليها من قبل الغرباء. فالروح الثورية تعني عدم الخوف أو التحفظ، بل التعاطي الجاد والعمل بما ينبغي فعله بعيدًا عن مظاهر التفاخر والتجمل. (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه جمعًا من المعلمين والمثقفين،1/5/2019). فالنظام الإسلامي هو في وسط ساحة حرب عظيمة وشاملة، يجب الشعور بهذه المعركة والتعرف على الطرف المقابل. فإذا لم يكن لدى النظام مسار ثوري؛ ولم يسعَ وراء مُثُله العليا أو يَصِلْ إليها ولم يختلفْ عن النظام السابق للبلاد، فمن المُتَيَقِّنِ أنه لن يكون حينها نظامًا ذا قيمة دون مسار ثوري (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه جمعًا من طلاب الجامعات، 28/5/2018).
ويجدر الالتفات إلى أن الثورية لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار النظام الاجتماعي. فهناك فكر خاطئ يعتقد به البعض ممن يدعون بأنهم ثوريون؛ إلا أنهم يرفضون النظام والقيم والأركان والمبادئ ويشككون بها. فالثورية لا تعني تفكيك النظام الناجم عن الثورة وتدميره؛ بل هي مسار صحيح يسعى نحو تحقيق أهدافه العليا بعقلانية واندفاع وتفاؤل وشجاعة، ويكون ذلك ممكنًا في إطار ومسار النظام الإسلامي أي النظام الموجود بالفعل، وغيرَ ممكنٍ خارج هذا الإطار (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه جمعًا من طلاب الجامعات، 28/5/2018).
- أركان نظرية النظام الثوري
إن نظرية النظام الثوري ووفقًا لما جرى من تعريف سابق للمصطلحات، هي مجموعة من المبادئ والأركان المرتبطة والمنسجمة التي تُعبِّرُ عن النظام الثوري وتقوم بتحليله. ولهذه النظرية أركان ثلاثة وهي: بناء الذات، والتنشئة الاجتماعية، وبناء الحضارة. (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه رئيس وأعضاء مجلس خبراء القيادة، 10/3/2016 وبيان الخطوة الثانية).
وهناك علاقة طولية بين الأركان الثلاثة وهي بناء الذات والتنشئة الاجتماعية وبناء الحضارة؛ حيث يأتي بناء الذات في المقدمة، ثم تليه التنشئة الاجتماعية، ثم بناء الحضارة الإسلامية. والمقصود من العلاقة الطولية هو العلاقة التراتبية، أي أنه هناك تقدم وتأخر في التراتبية لا في الزمن.
إن بناء الإنسان هو أهم مسألة بالنسبة إلى أي ثورة، فإذا لم يَقُمْ أيُّ نظامٍ ثوري ببناء الإنسان؛ فكأنه لم يفعل أيَّ شيء، فأعظم فتوحات الثورة الإسلامية يتمثل بِبناء الشباب والصَّالحين (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه جمعًا من الضباط وقادة لجان الثورة الإسلامية، 31/12/1990، الإمام الخميني، صحيفة الإمام، ج15، ص395). فالنظام الاجتماعي الممتاز ينشأ بفضل وجود الأشخاص البارزين في المجتمع البشري. فإن وُجِدَ أُنَاسٌ أكارِمٌ وشُجْعَانٌ وسَمِحِيْنَ وصادقين؛ سيتشكل مجتمع مميز حينها، والعكس صحيح بالطبع (الإمام الخامنئي، كلامه الذي استهل به درس البحث الخارج، 3/3/2019).
ولنيل أهداف النظام الثوري، يجب في البداية -من الناحية التراتبية- أن يعمد كل فرد إلى بناء ذاته وتنقية نفسه من الشوائب وتعزيز كماله، فبناء الذات هو عملية مُستَدَامَة تجري خطوة بخطوة، وهي مسؤولية ثقيلة تقع على كاهل جميع البشر، وهي تُقْسَمُ إلى درجتين “بناء الذات الفكري- المعرفي”، و”بناء الذات الروحي والأخلاقي”. (الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه العلماء ورجال الدين في كرمان، 1/5/2005، وطلاب جامعة فردوسي مشهد 15/5/2007، وأهالي بوشهر 31/1/1992، وخطب صلاة عيد الفطر السعيد، 16/12/2001).
وعن بناء الذات الفكرية – المعرفية قال خسروبناه: إن لعملية بناء الذات الفكري – المعرفي أسلوب خاص وخطوات عديدة. فالعقلانية الإسلامية هي محور عملية بناء الذات الفكري – المعرفي، لا العقلانية غير الإسلامية، حيث إن سبيل النمو والارتقاء في بناء الذات الفكري – المعرفي متمثلٌ في التمسك الدائم بالعقلانية الإسلامية والتشبث بها.
أما بناء الذات الروحي – الأخلاقي فإن لهذا المستوى مسار خاص وخطوات عديدة. فالمعنوية الإسلامية هي منهجيةُ بناءٍ للذات على الصعيد الروحي والأخلاقي؛ وذلك يعني أن مواجهة الإنسان لبناء الذات يجب أن تدخل من بوابة المعنوية الإسلامية وأن تنطلق من جانبها ونظرتها، فإذا لم تكن المنهجية المعنوية الإسلامية متوفرة في هذا النوع من بناء الذات، أو إذا ترافقت بمنهجيةٍ معنويةٍ غيرِ إسلامية، فسيكون أشبه بالحِمْلِ المائلِ الذي لا يصل إلى المنزل فما كان أساسه باطل فهو باطل.
وتحتم التنشئة الاجتماعية في النظام الثوري على الإنسان بغية توفير الحياة السعيدة التي ينشدها، القيامُ بالتزكية الأخلاقية التي تُحرِّرُ مكنونَه من القبائح والأدران، وتَفسح أمامه المجال للحركة الجماعية في ساحات الحياة، وتعينه في اجتياز التحدي المفروض عليه مع الطبيعة والداعمين لأنظمة الظلم والاستكبار، (الإمام الخامنئي، رسالته إلى حجاج بيت الله الحرام، 19/3/1999).
وتابع خسروبناه، يجب على البشر بعد بنائهم لذاتهم، أن يبذلوا جهودًا لبناء مجتمعهم. ولتحقيق هذا الركن المهم فهم يحتاجون إلى عناصر وأرضيات معينة. ولإيضاح مسألة التنشئة الاجتماعية في النظام الثوري؛ يجب بدايةً تبيين عملية التنشئة الاجتماعية، ثم التعريف بعناصر المجتمع الإسلامي، وفي نهاية المطاف يجب التعريف بأرضيات التنشئة الاجتماعية. وليس المقصود من التنشئة الاجتماعية الثورية معالجة قضايا المجتمع عبر تعزيز الهوية والأسرة والمجتمع فحسب، بل المقصود منها ذلك النوع الذي يمضي نحو بناء الحضارة.
أما عملية التنشئة الاجتماعية فلا يمكن تناول قضايا المجتمع وصقله والوصول به إلى الكمال دفعةً واحدة؛ بل إن عملية التنشئة الاجتماعية تجري ضمن مسار خاص. فيجب على الفرد بداية تحقيق هويته الإسلامية ليقوم في الخطوة التالية بجعل أسرته إسلامية أثناء بنائها، وفي المرحلة الثالثة وبعد تشكيل الأُسَرِ الإسلامية سيصبح المجتمع مجتمعًا إسلاميًّا متشكلًا من أسر إسلامية.
وفي ما يخص عناصر المجتمع الإسلامي، اعتبر خسروبناه أن المجتمع يصبح إسلاميًّا عندما تكون عناصره إسلامية؛ أي يجب أن تكون عناصره وأضلاعه الستة إسلامية لكي نحصل على مجتمع إسلامي، وهذه العناصر هي 1. الثقافة؛ 2. السياسة؛ 3. التعليم والتربية؛ 4. الاقتصاد؛ 5. الصحة؛ 6. الأمن في المجتمع. ومن بين هذه العناصر، تفوق أهمية الثقافة أهمية سائر العناصر الأخرى، فهي تملك عامل الأصالة؛ فإذا لم تَسُدْ الثقافة الصحيحة والإسلامية على المجمتع، فلن يكون هناك أخبار عن السياسة أو التعليم والتربية أو الاقتصاد أو الصحة الإسلامية. (ر.ك. الإمام الخامنئي، بيان الخطوة الثانية، السياسات العامة للصحة، 7/4/2014، وكلامه خلال لقائه أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 10/12/2013، كلامه خلال لقائه جمعًا من العاملين في الإذاعة والتلفزيون، 17/5/2004، لقائه جمعًا من المعلمين والمثقفين، 7/5/2014، خلال مؤتمر سياسات الاقتصاد المقاوم، 11/3/2014، خلال لقائه أعضاء مجلس تأمين المحافظات، 13/2/2001، خلال لقائه قادة القوى العسكرية في الجمهورية الإسلامية، 26/4/2015).
وفي معرض حديثه عن بناء الحضارة في النظام الثوري، قال خسروبناه: يعد الإيمان بالإسلام أول حاجة لبناء الحضارة الإسلامية الحديثة. وفضلًا عن الفعاليات الشخصية، فإن للإسلام وظائف عامة كالحكومة والتنشئة الاجتماعية وبناء الحضارة.
وتابع، وبناء على التاريخ والمنطق، إذا دعت أمة ما إلى بناء الحضارة ولم تمتلك أيديولوجية أو فكرًا أو مدرسة خاصة، فلا يمكن لهذه الأمة أن تتحرك وتبني الحضارة.
يعتبر بناء الحضارة حركة رفيعة وعملية تكاملية. ومن أجل تحقيق بناء الحضارة، فنحن بحاجة إلى بعض الأرضيات إلى جانب الأرضيات اللازمة في عملية التنشئة الاجتماعية. وللتعرف على هذا الركن يجب بداية دراسةُ عمليةِ بناءِ الحضارة ودراسة أرضياتها. والمقصود من بناء الحضارة في هذه النظرية هو بناء الحضارة الثورية. فالحضارة التي تتمتع بخصائص ثورية، هي حضارة تمهد أرضيات ظهور صاحب العصر(عج).
- خصائص النظام الثوري
يتمتع النظام الثوري بخصائص فريدة تميزه عن سائر الأنظمة والثورات، وتُعَدُّ هذه الخصائص من عوامل التطور والإشعاع المتزايد يومًا بعد يوم. حيث إن مبدأها وجذرها ومنشأها يعود إلى نظرية النظام الثوري نفسها، ويمكن مشاهدتها بشكل موضوعي وخارجي في النظام الثوري. وخصائص النظام الثوري هي أنه: 1.يتمتع بفكر جديد؛ 2. حيّ وحكيم ويتقبل النقد، 3. متلتزم بالمبادئ؛ 4. لديه شعارات فطرية وعالمية؛ 5. قابل للتكامل؛ 6. مقتدر وفي ريعان الشباب؛ 7. يربط بين الشعارات والحقائق والاستراتجيات. (ر.ك. الإمام الخامنئي، بيان الخطوة الثانية للثورة وكلامه خلال لقائه الشباب في محافظة أصفهان، 3/11/2001، وخلال لقائه مسؤولي النظام، وأعضاء مجلس خبراء القيادة، 8/9/2011 وخلال خطب صلاة الجمعة في طهران، 11/9/2009، وخلال لقائه ضباط وعناصر القوى الجوية في جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية، 8/2/2018، وأعضاء مجلس خبراء القيادة، 5/9/2013).
- منجزات النظام الثوري
إن نظرية النظام الثوري، هي ليست نظرية مجردة وذهنية محضة؛ بل لها وظيفة خاصة وهي منشأٌ لأثرٍ خارجي، ويمكن لوظائفها أن تنمو وتتعزز يومًا بعد يوم من خلال الاستخدام الكامل لهذه النظرية. وفيما يلي بعض أهم إنجازات النظام الثوري في الخطوة الأولى طوال الأربعين عامًا: 1. إنهاء الانحطاط التاريخي الطويل؛ 2. المحافظة على الأمن والاستقرار ووحدة الأراضي الإيرانية؛ 3. التطور في مجالات العلم والتكنولوجيا والبنية التحتية الحياتية والاقتصادية والعمرانية؛ 4. رفع مستوى المشاركة الشعبية والتسابق للخدمة؛ 5. الارتقاء بالرؤية السياسية للشعب؛ 6. ترجيح كفة العدالة خلال تقسيم الإمكانيات العامة؛ 7. تعزيز المعنوية والأخلاق في المناخ العام؛ 8. الصمود في مواجهة المستكبرين في العالم (الإمام الخامنئي، بيان الخطوة الثانية).
- مسار تحقق النظام الثوري
إن النظام الثوري هو ليس حركة فردية أو تتم دفعة واحدة، بل يتطلب تحقيق النظام الثوري فعاليةً وحركةً جماعية وعملية؛ وهي عبارة عن: 1. خطوة التفكير؛ 2. خطوة تقوية الفَعَّالين الثقافيين – الاجتماعيين؛ 3. خطوة تقوية الجماعات الثقافية – الاجتماعية؛ 4. خطوة إيجاد حراك عام؛ 5. خطوة بناء الشبكة؛ 6. خطوة صناعة الخطاب؛ 7. خطوة بناء الجبهة. 8. خطوة الحكم الإسلامي. (ر.ك. الإمام الخامنئي، كلامه خلال لقائه الجبهة الثقافية للثورة، 22/4/2013، وأهالي محافظة أذربيجان الشرقية؛ 18/2/2019، وجمعًا من الطلاب الجامعيين، 22/5/2019، وأعضاءَ مجلس خبراء القيادة، 6/3/2014، وأعضاءَ وحدة التبليغات الموجهة لخارج البلاد في حزب الجمهورية الإسلامية، 9/12/1982، وخلال اتصالٍ مُصوَّرٍ مع الهيئات الطلابية، 17/5/2020، ومع طلاب الحوزات العلمية، 8/5/2019).
وختم خسروبناه بالقول: إن لدى نظرية النظام الثوري أركان ثلاثة، ولدى النظام الناتج عن هذه النظرية خصائص وإنجازات وواجبات ومسار عملي خاص. وتعتبر عمليات “بناء الذات والتنشئة الاجتماعية وبناء الحضارة المتشابكة والمتداخلة الأركانَ الثلاثةَ لنظرية النظام الثوري. كما تتمثل خصائص النظام الثوري في أنه: نظام ذو فكر جديد؛ حَيٌّ، يتقبل النقد وحكيم؛ ملتزم بالمبادئ؛ لديه شعارات فطرية وعالمية؛ قابل للتكامل؛ مقتدر وفي ريعان الشباب؛ لديه استراتيجيات وحقائق وشعارات منسجمة. ويتألف مسار تحقيق النظام الثوري من ثماني خطوات هي: التفكير، وتقوية الفعالين الثقافيين – الاجتماعيين، وتقوية الجماعات الثقافية – الاجتماعية، إيجاد حراك عام، صناعة الخطاب، بناء الشبكة، بناء الجبهة، والحكم الإسلامي.
وتحت عنوان: “الثورة الإسلامية وضرورة تبدل المعاني في المسيرة الحضارية من وجهة نظر آية الله السيد الخامنئي” تحدث حبيب الله بابائي فقال: لم تكن الثورةُ الإسلامية مجرد ثورةٍ في البُنى السياسية، بل كانت ثورةً في نظام المفاهيم والمعاني أيضًا، بحيث استطاعت أن تخلق مشهدًا جديدًا في مجال الوجود، والإنسان، والمجتمع، والقيم الأخلاقية، ووضعت مسارًا مختلفًا عن النظام العلماني في ترقّي الإنسان المسلم المعاصر. لقد كانت النخب الفكرية للثورة –خاصةً قادتها- التي تأثّرت بفكر الإمام الخميني رحمه الله وكلامه أثناء تأسيس الثورة، وتأثّرت أيضًا بتصريحات الإمام الخامنئي دام ظله بعد ثبات الثورة واستقرارها، هي مَن صمّمّت وقدّمت هذه المفاهيم المستحدثة. بعضُ هذه المعاني والمفاهيم الثورية والحضارية هي معانٍ ثابتة ومأثورة من تاريخنا، وبعضها يركّز على الظروف الزمانية والمكانية والاحتياجات الاجتماعية والثقافية والسياسية الجديدة، التي قد تمّ طرحها بالخصوص في الفترة التي تلت الثورة، وفي مواجهة الظروف الداخلية والخارجية، وفي الاستنطاقات المتكررة والمتجددة للمصادر الإسلامية والقرآن الكريم.
وتوقف عند المعاني الجديدة للحضارة عند الإمام الخميني فقال: لم تكن الثورة الإسلامية في إيران مجرد ثورة في الهيكلية، بل الأهم من ذلك أنّها كانت ثورة في المفاهيم والمعاني الجديدة والأصلية، التي قدّمها قادة الثورة، لا سيما الإمام الخميني رحمه الله، بعنوان كونه مجتهدًا عالمًا بزمانه. لقد أدخلت المعاني التي طرحها الإمام الخميني رحمه الله إيرانَ –مع كلّ ما فيها من قصور ونقاط ضعف- في نموذجٍ جديد من المعاني، وعالمٍ من المفاهيم الجديدة. وقد مرّ الإنسان الثوري مع هذه المفاهيم الأصيلة والجديدة بمرحلة الدفاع المقدس، ثمّ مرحلة البناء، فمرحلة الإصلاحات المضطربة، ومن ثمّ حرّر نفسه من المراحل العصيبة اللاحقة.
وأضاف: كانت المعاني والمفاهيم التي صاغها مهندس الثورة الإيرانية أثناء قيام الجمهورية الإسلامية، فعّالة في تشكيل العالم الحضاري للإيرانيين الثوريين. على سبيل المثال، فقد أوجد مفهوم “البسيج”[1] في تصريحات وأدبيات الإمام الخميني رحمه الله ثقافةً جديدة وهيئات متنوعة في إيران، حيث كان لها تأثير دائم أثناء فترة الدفاع المقدس، وفي الحياة الاجتماعية والثقافية للشعب أيضًا. لقد كانت ثقافة البسيج من المفاهيم المؤثرة للغاية في الحركات العامة والإصلاحية. وكذلك، كان المفهوم الجديد لـ”الجهاد” وتطبيقه على “جهاد البناء”، و”الجهاد الأكاديمي”، و”الجهاد الثقافي”، وصولًا إلى الجهاد في المجالات الاجتماعية والحضارية، من أكثر المفاهيم فعّالية وتأثيرًا، بحيث أدّى إلى نشوء المؤسسات الحيوية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهناك معنى من المعاني البسيطة –لكن الشاملة للغاية – قدّمه الإمام الخميني رحمه الله، واستُخدم على نطاق واسع في الساحات العالمية حول نظام الهيمنة والحكومة الأمريكية، هو مصطلح “الشيطان الأكبر”، هذا المصطلح الذي لم يترسخ حول أمريكا في العالم الإسلامي فقط، بل تمّ استخدام هذا المفهوم أيضًا في العالم الغربي بخصوص أمريكا نفسها بعنوان أنّها (Great Satan). وفي سياق متصل، شبّه الإمام علاقتنا بأمريكا وصوّر هذا النوع من التضاد والتعارض بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، بعلاقة “الذئب والنعجة”. وبالإضافة إلى هذه المفاهيم، أعلن الإمام الخميني رحمه الله في خطوة ذكية ومبتكرة في مواجهة إسرائيل، أن آخر جمعة من شهر رمضان المبارك هو “يوم القدس العالمي”، وقد أحدثت هذه التسمية بالفعل تحولات واسعة داخل الدول الإسلامية في مسألة المواجهة والصراع مع إسرائيل.
مضافًا إلى الموارد المذكورة في الأعلى، فإنّ المعنى الذي أحدثَ الإمامُ الخميني رحمه الله من خلال الثورة الإسلامية تحولًا فيه، هو معنى الحضارة، حيث بدّله من الحضارة كـ”حداثة علمانية” (في كتاب “نحو الحضارة العظيمة” الذي كتبه محمد رضا بهلوي)، إلى الحضارة كـ”تحقق كامل للدين”. طبعًا، ينبغي التنبّه إلى أنّ مصطلح “الحضارة” في أدبيات الإمام الخميني رحمه الله كان يحمل في الغالب معنى سلبيًّا، وهو قد استخدم هذا المصطلح لإنكار الحضارة الغربية، والردّ عليها وعلى الحضارة التي وعد بها النظام الشاهنشاهي في كتاب “نحو الحضارة العظيمة”[2]. لقد كان المشروع الفكري للإمام وبالالتفات إلى موقعه التاريخي ودوره التأسيسي في الثورة، ومن زاويةٍ معينة، هو الحكومة الإسلامية (المرحلة الأولى من بناء الحضارة الإسلامية)، وليس الحضارة الإسلامية بشكلٍ كلي. ومن زاوية ثانية، وبالالتفات إلى عباراته الأخرى، التي تَعتبر الإسلام في أعلى مراتب الحضارة[3]، أو تعتبر حضارة المسلمين فوق جميع الحضارات[4]، أو التي تؤكد على الحضارة الإلهية[5]، فإنّه يشير أيضًا باختصار إلى الجوانب الإيجابية للحضارة، ولكن نظرًا لكون فترة قيادته من بداية النهضة حتى رحيله، كانت فترةً للتأسيس، ولم تكن لتفسير وتفصيل خطاب الثورة والجمهورية الإسلامية، لم يستطع الدخول في الجوانب الإيجابية للحضارة الإسلامية بشكلٍ مفصّل[6].
ومع هذا كله، وعلى الرغم من أدبيات الإمام السياسية والسلبية في موضوع الحضارة، لا يمكن بلحاظ مبانيه الفكرية ورؤاه الشاملة الاجتماعية، والسياسية، والفلسفية، والعرفانية، عدم اعتباره مبدعًا أو مؤسسًا للحضارة. وبحسب بعض الباحثين، يمكن البحث بالأساس عن خصائص الفكر الحضاري في أراء الإمام الخميني رحمه الله وممارساته بشكلٍ أكبر في أماكن أخرى. مثلًا، أفكار وطروحات الإمام في خصوص الثورة الثقافية، والوحدة بين الحوزة والجامعة، واتحاد الأمة الإسلامية (أسبوع الوحدة)، ودور الزمان والمكان في عملية الاجتهاد، والأهم من ذلك كله، هو موضوع ومعنى ولاية الفقيه المطلقة والأحكام الولائية، وأخيرًا تفسير الحكومة كفلسفة عملية فقهية. نعم، لقد شكّلت هذه العناوين جميعها نقاطَ تحوّلٍ في الرؤية الحضارية للإمام الخميني رحمه الله[7].
وعن المفاهيم الجديدة للحضارة عند آية الله السيد الخامنئي قال: لقد تمّ خلال فترة قيادة آية الله السيد الخامنئي إدخالُ عدّة مفاهيم مهمة جدًّا. وكان بعضها مطروحًا على المستوى الوطني والبعض الآخر على مستوى العالم الإسلامي في طريق تشكيل الحضارة الإسلامية الجديدة. وكانت بعضُ هذه الأمثلة على المفاهيم التي ظهرت على الصعيد الوطني في تصريحات القائد عبارة عن: قضية الإمداد الثقافي (مقابل العناية الاجتماعية) من أجل “الرعاية الثقافية”، و”الرعاية الدينية”، و”الرعاية الإيمانية”، و”الرعاية الأخلاقية” التي أثيرت من قِبل الذين يعانون اجتماعيًّا. نعم، لقد أدّت نظرته الإبداعية والمبتكرة هذه في موضوع “الإمداد الثقافي” في أن تصبحَ هذه المسألة أحدَ أكبرِ المشاريع البحثية والتعليمية في الحوزات العلمية في قمّ ومكتب التبليغات الإسلامي لاحقًا، وتُؤهّلَ طلاب العلوم الدينية في النظام الإسلامي للتعامل مع الأضرار، ومع الضحايا الاجتماعيين (كالمدمنين مثلًا). ومن القضايا الأخرى التي أثيرت أيضًا على المستوى الوطني في إيران، -وعلى الرغم من معارضة بعض الحكومات ورجال الدولة للمقام المعظم للمرشد الأعلى، غير أنّها تمكّنت في بعض الأماكن من حلّها- كانت قضية الاقتصاد المقاوم؛ من أجل مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية، حيث فُتحت -من خلال سحب مفهوم المقاومة إلى المجالات الاقتصادية- طُرقٌ جديدة للإيرانيين عمليًا، في مواجهة الأزمة الاقتصادية في إيران. وقد كان العدوان الثقافي، وحلف الناتو الثقافي، والكمين الثقافي، من بين المفاهيم المهمة الأخرى التي أثارها القائد في مواجهة القضايا الثقافية الغربية، والهجمات الثقافية على إيران وجيل الشباب فيها. وعلى الرغم من عدم أخذ هذا الأمر على محمل الجدّ من قبل بعض المسؤولين الثقافيين في ذلك الوقت، إلا أنه تمّ التعامل معه بجديّة من قبل القوى الثورية والمؤسسات الثقافية (المعروفة اليوم باسم “آتش به اختيار[8]“). وهكذا، تناول القائد في مواجهة الأسئلة الأساسية، وضرورة تحرّك الحوزات العلمية للإجابة على الأسئلة الاجتماعية الهائلة بعد الثورة، قضيةَ ومفهومَ ثورة البرمجيات، وسعى إلى بناء كفاءات نخبوية جديدة؛ من أجل إحداث موجة علمية جديدة (في مجال العلوم الإنسانية)، وفتح الطريق للابتكارات العلمية وحل المشكلات والتعقيدات من خلال تمهيد الأرضية للحرية الفكرية.
ومن بين الموضوعات الأخرى التي أثيرت على المستوى الوطني لحل القضايا الداخلية، موضوعُ الديمقراطية الدينية والتوجه إلى بُعدي الدين – الشعب، الإلهي-الإنساني، والمشروعية والمقبولية. وموضوع الفتنة وموضوع البصيرة في مواجهة الاضطرابات الداخلية في إيران في فترة الانتخابات عام 1388ش، واستخدام أداتَي الديمقراطية والحرية؛ من أجل الدولة الديمقراطية في إيران، وكذلك كان موضوع القوى الصديقة وغير الصديقة من المفاهيم الأكثر أهمية، التي كانت فعّالة في تنظيم علاقات المجتمع الإيراني، وأدت أحيانًا إلى اتخاذ قرارات معينة في أروقة صنع القرار وصناعة القرار السياسي. وأيضًا من بين الموضوعات المهمة الأخرى التي أثارها على المستوى الوطني، موضوع النموذج الإسلامي الإيراني للتقدم، حيث شكّلَت عام 1390ش –بمقتضى مرسوم- مركزَ النموذج الإسلامي الإيراني للتقدم، وعيّنت أعضاءً له في المجلس الأعلى. وكذلك ما أثاره سماحته في خصوص مواجهة قضية “برجام[9]“، كانت عنوان المرونة البطولية، التي طُرحت في وجه السلام أو المفاوضات مع أمريكا وأوروبا بشأن البرنامج النووي الإيراني. وأخيرًا، قدّم أيضًا في مواجهة الهجمة الضخمة الحاصلة في الفضاء الافتراضي، وخلق الشبهات العقائدية والسياسية، وتدمير “الأمل” في المجتمع الإيراني، مفهومَ جهاد التبيين على أنّه “فريضة فورية”، الأمر الذي يقتضي السعي إلى مواجهة سريعة ومكثفة مع الموجة الضخمة لعمليات الحرب النفسية للعدو في الفضاء الافتراضي. وهناك موضوع آخر مهم للغاية على المستوى الوطني، وهو موضوع الاستقلال الثقافي، الذي قدّمه إلى جانب الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، حيث قال: “أقول إنّ كلَّ حركة –اليوم في عالمنا الحاضر- وكلَّ خطوة، وكلَّ كلمة، من أجل الاستقلال السياسي للدول والأمم، هي من أجل الاستقلال الثقافي لها أيضًا، هي من أجل الاستقلال والنمو الاقتصادي للدول والأمم، ومن أجل الوحدة، من أجل اقتدار الأمّة الإسلامية، هي من أجل ترويج العلم في العالم الإسلامي، ومن أجل نمو شباب فيه. إنّ أيّ تحرك في هذا الاتجاه هو عملٌ صالح، إنّه حسنة” (24-8-1398).
المفاهيم العالمية– هي نوع من مفاهيم القيادة الحديثة، الذي تمّ استخدامه على مستوى عالمي ومن أجل العالم الإسلامي، لصياغةِ حضارةٍ جديدة، والتي بالإضافة إلى موضوع الحضارة في أدبيات القائد والعديد من المفاهيم العملية التي لديه في هذا الصدد كما ذكرنا سابقًا، يمكن الإشارة إلى موضوعات مختلفة ومتعددة في هذا المجال. حيث تمّ طرح كل واحد منها على مستوى العالم الإسلامي، وفي اتجاه تشكيل الحضارة الإسلامية. وواحدٌ من مفاهيم الحضارة هذه، الذي يقع بالطبع في الاتجاه السلبي لمنافسنا الحضاري (أي الحضارة الغربية، وخاصة أمريكا)، هو مفهوم نظام الهيمنة. ينقسم العالم -في نظام الهيمنة- من وجهة نظر المرشد الأعلى للثورة، إلى قسمين: المهيمن والمهيمَن عليه، ولا وجود لجبهة ثالثة (جبهة مستقلة) فيه. (لقاء مع البسيج بتاريخ 6-9-1398).
وتابع: موضوع آخر من الموضوعات المهمة، التي صاغها من وجهة نظر عالمية عامة، هي مفهوم المنعطف التاريخي، ومؤخرًا بحث النظام الجديد في العالم في خطاباته.
وقد طرح الرؤية ذاتها ضمن موضوع آخر بعنوان: “النظام العالمي الجديد” بعد الحرب الروسية الأوكرانية، قائلًا: “يقف العالم اليوم على أعتاب نظام عالمي جديد، نظام يتشكل اليوم بعد عصر النظام القطبي العالمي، ونظرية النظام الآحادي القطبية العالمي، حيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية –بالطبع- في هذه الفترة أضعف يومًا بعد يوم… يجب النظر إلى قضايا حرب أوكرانيا الأخيرة بشكل أعمق وفي سياق تشكّل نظام عالمي جديد، والذي من المحتمل أن يتبعه عمليات معقدة وصعبة، لذا يجب على جميع الدول -ومن جملتها الجمهورية الإسلامية- في مثل هذه الظروف الجديدة والمعقدة، الحضور القوي في مجال الأجهزة والبرمجيات ضمن هذا النظام الجديد؛ وذلك من أجل ضمان مصالح البلاد وأمنها، وحذرًا من التهميش.” (6-2-1401، في لقاءٍ مع جمعٍ من الطلبة الجامعيين).
وهنا مفهومٌ آخر مهم أصرّ عليه المرشد الأعلى آية الله السيد الخامنئي لما يقرب من ثلاثة عقود خلال قيادته، هو مفهوم الحضارة. حيث استمر -بعد الإمام الراحل- مفهومُ الحضارة في أدبياته الجديدة، والذي تركّز جزء منها على إنكار الحضارة الغربية (خاصة الأبعاد السياسية والأخلاقية للغرب)، بمقاربةٍ أجدد وربما أكثر جدية ضمن خطاباته. ولكن تدريجيًّا، ومنذ العام 1370 ش (1991 م)، وبعد عقدٍ من انتصار الثورة، ظهرت الأدبيات الإيجابية والتأسيسية للحضارة ضمن خطابات القائد. ثمّ بعد ذلك، نُشرت نظرية هنتنجتون حول صراع الحضارات المبتنية على صدام الحضارات (كمقالٍ عام 1372 ش -1993 م-) في أمريكا، ثم تمّ طبعُها على شكل كتاب عام 1375 ش (1996 م). وفي 30 شهريور (سبتمبر 1998 م)، اقترح رئيس الجمهورية الإيراني آنذاك في الأمم المتحدة، كردٍّ على نظرية هنتنجتون، إجراءَ حوارٍ بين الحضارات (مقابل تلك النظرية). في الوقت عينه، استمر خطاب الحضارة في أدبيات قائد الثورة في إيران، والذي كان قد بدأ منذ العام 1372 ش (1993 م)، وهو (القائد) شدّد مع الجماهير الخارجية -وأحيانًا الأجنبية- على مسألة الحوار بين الحضارات[10]، وأكدّ مع الجماهير الداخلية، على مسألة تأسيس الحضارة وعملية بنائها (منذ سنة 1379 ش/2000 م وما بعدها). إنّ ما قاله المرشد الأعلى، ويقوله عن الحضارة ليس هو عبارة عن إعطاء أملٍ كاذب للمجتمع الإيراني والعالم الإسلامي، بل هو أمرٌ ناشئ من الاهتمام بكفاءة ومجالات الحضارة في إيران من ناحية، والإعداد والتخطيط لمستقبل إيران التقدمي، كنموذجٍ للحضارة في العالم المعاصر، من ناحية أخرى.
“المدار الحضاري” في مقابل “وضعية تريميدور”
من وجهة نظر المرشد الأعلى للثورة، فإنّ الثورة الإسلامية -ووفق مقياسٍ معين- في الأربعين السنة الثانية، لا فقط أنّها ليست في وضعية التريميدور، وبالتأكيد لن تكون كذلك، بل هي يجب أن تدخل مدارًا آخرًا، وهو مدار صناعة الحضارة. تم طرح مفهوم “تريميدور” لأوّل مرّة من قِبل كرين برينتون في كتاب “تشريح الثورة”. وتريميدور يعني الرجوع إلى التشكيلات القانونية، والثقافية، والحضارية، والسياسية، الكائنة قبل الثورة. ووفق برينتون فإنّ هذه التشكيلات قد عادت في الثورات الكبرى، كالثورة البريطانية، والثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والثورة الروسية، إلى سابق عهدها ما قبل حصول هذه الثورات. وفي هذا السياق، يشدد سماحة القائد على أنّنا لا فقط لسنا في مدار تيريميدور –ولن نكون كذلك- بل إنّنا سنضع لا محالة أهدافًا جديدة على جدول أعمالنا.
ثم توقف عند التأصيل القرآني للفكر الثوري – الحضاري عند قائد الثورة وسأل من أين تأتي المعاني الوطنية والعالمية، والمعاني السلبية ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾، والإيجابية ﴿وَيُؤْمِنْ بِاللَّه﴾، والمعاني الثقافية والحضارية، في الثورة الإسلامية وفي أدببات الإمام الراحل والمرشد الأعلى للثورة؟ وقال: يتضح من خلال دراسة إجمالية في آثار وتصريحات الإمام الخميني والمرشد الأعلى للثورة، أنّ الأصل الأساسي لأدبيات أئمة وقادة الثورة، هو القرآن الكريم.
وخلص إلى بعض الاستنتاجات وأبرزها أنه يجبُ من أجل استمرار الثورة وتشكيل الهوية الحضارية للإسلام، السعيُ -بشكلٍ متزامن- إلى خلق المعنى من جهة، وتقويض المعاني من جهة ثانية. كما إنّ تراكم المعنى في الديالكتيك بين حاجاتِ العصر، والفكرِ الإسلامي، يُعدّ من ضرورات استمرار حفظ الثورة، والثورة الإسلامية، والاستقلال في المعنى، وفي الثقافة، والاستقلال في الحضارة أيضًا. وفي هذا السياق، تُظهر الحياة العلمية والعملية لقادة الثورة الإسلامية في إيران -أي الإمام الخميني رحمه الله، وآية الله السيد الخامنئي- الاهتمامَ بهذه الضرورةِ، وبالإنتاجِ المستمر للمعاني والمفاهيم الدينية في المعارك السياسية والاجتماعية والحضارية (في المقاربة الإلهية-الاجتماعية) في فترةِ ما بعد الثورة الإيرانية. لقد تمكّن أئمةُ الثورة، بإصرارهم واستقامتهم ضدّ نظام الهيمنة العالمي، من أن يخلقوا المعاني الأصيلة. وهم من ناحية أخرى، ركّزوا على نقد وتقويض المعاني الغربية العلمانية، وبهذه العملية، فتحوا طريقًا مختلفًا أمام الإنسان الثوري وأمام إيران بعد الثورة. في هذا المجال، ومع مرور الفترة المضطربة بعد الثورة، والفترة الحرجة بعد رحيل الإمام الخميني رحمه الله في إيران، كانت الثورة الإيرانية وعالم المقاومة في العالم الإسلامي، مدينةً لذكاء واجتهاد وإصرار آية الله السيد الخامنئي، في منع نفوذ المعاني الالتقاطية إلى داخل الشبكة المعنائية والهوية الشخصية للثورة الإسلامية. ويبدو اليوم، أنّه ولأجل استمرار هذه الحركة الحضارية، وتأمين مجموعةِ معانٍ جديدة في العالم الإسلامي، من اللازم على الأمة الإسلامية والنخب المسلمة في عالمنا، التوجه نحو القرآن الكريم وقراءته مرارًا وتكرارًا، واصطياد المعاني الجديدة من خلال التردد المتكرر على آياته نفسها ومواجهتها مع بعضها بعضًا -وهكذا بالنسبة إلى القرآن والسنة- كما من اللازم أيضًا الاستفادة منه في مسيرتهم الحضارية.
وختم قائلًا: ينبغي تطوير عملية استنطاق القرآن الكريم، والاستفادة منه في عملية التجوال المتكرر بين احتياجات وتحديات حضارة العالم الإسلامي من جهة، والمصادر الدينية والتراث الإسلامي من جهة أخرى. كما ينبغي -في هذا الديالكتيك- أن يتمّ استخراج معان جديدة من القرآن؛ في اتجاه حلّ مشاكل العالم الإسلامي، وفتح آفاق جديدة أمام المسلم المعاصر. وبدون شكّ، ستكون هذه إحدى الخطوات الأساسية؛ للتخلص من معاني الهيمنة للرأسمالية والعلمانية في العالم الغربي، وستساعدنا في بناء العقلانية الإسلامية-الحضارية، وحفظ الاستقلال الفكري والثقافي والهوية الخاصة في صيرورة حضارتنا.
عن دور الثورة الإسلامية في بناء الحضارة الإسلامية الحديثة تحدث الدکتور رضا غلامي فذكر بداية أن الثورة الإسلامية حققت انتصارها في ظروف لا يمكن لأحد فيها أن يتصور بوجود أرضيةٍ لرفع راية الإسلام السياسي -وبخاصة في إيران التي كانت قد تحولت إلى قاعدة قوية للولايات المتحدة الأمريكية من أجل ضمان مصالحها في جنوب غرب آسيا- بعد الهجمات الغربية الفعالة على النهضات الإسلامية وأفكار الإسلام السياسي في العالم الإسلامي.
وأضاف: في بدايات نشأة الثورة الإسلامية، كان هناك تصور بأن الثورة عاجزة عن الاستمرار أمام التحديات، وأن شعلتها ستنطفئ بسرعة. إلَّا أن الثورة الإسلامية أظهرت أنها لا تملك قدرات كامنة فريدة تخولها من التغلب على التحديات والأزمات فحسب، بل تسعى لتحقيق رسالة تاريخية عظيمة وهي إحياء هدف بناء الحضارة الإسلامية الحديثة.. وتكمن المسألة الأساسية فيما يلي: كيف يمكن للثورة الإسلامية اليوم إنهاء عهد السيطرة العالمية للحضارة الغربية القوية والسعي لبناء الحضارة الإسلامية الحديثة رغم المشاكل التي تواجه العالم الإسلامي؟
وتسعى المقالة إلى حل هذه المسألة الأساسية، والتي بَحثَها عددٌ قليل من المؤلفات، مستعينة بالمنهجبة الوصفية – التحليلية والاستنباطية في بعض الحالات. حيث جرى بناء على هذه المنهجية تقديم الأبحاث ومراجعتها بطريقة وصفية، وكذلك العمل بالمنهجية الاستنباطية بالنسبة إلى الأبحاث التي تفتقد إلى المؤلفات العلمية التي يمكن الاستناد عليها.
وإذا ما تم التساؤل عن الإطار النظري للمقالة، فقد اتخذت من نظرية الإسلام السياسي للإمام الخميني(قد) إطارًا نظريًّا لها.
القدرات الحضارية في إيران الثورية
وأوضح غلامي قائلًا: من الأسئلة المهمة التي تُطرَح عادة ضمن أبحاث الحضارة، هي القدرات الحضارية لإيران في عهد الثورة الإسلامية. حيث يُطرَحُ هذا السؤال في الحقيقة إلى الذين يشككون بمسألة تحول الثورة الإسلامية إلى محورٍ لبناء الحضارة الإسلامية الحديثة نظرًا لبعض المشاكل الاقتصادية في إيران. وسَيَرِدُ فيما يلي طرحٌ لأهم القدرات الحضارية المتاحة في عهد الثورة الإسلامية بشكل مُفَهرَس، حيث إن بعض هذه القدرات تعد قدرات كامنة وبعضها موجودة بالفعل. ومن الجدير بالذكر أن تسمية القدرة الحضارية تُطلَقُ على القدرات التي تلعب دورًا أساسيًّا في بناء الحضارة الإسلامية الحديثة.
الأولى: التعاليم الإسلامية.
الثانية: حياة القيم الثورية وجاذبيتها.
الثالثة: الإيمان الوطني بالذات.
الرابعة: تشكل الخطاب الحضاري.
الخامسة: التطورات العلمية والتقنية الملحوظة.
السادسة: الاعتماد على الذات الذي فرضته العقوبات.
السابعة: المجتمع الشاب والذكي.
الثامنة: الثروات والهبات الإلهية العظيمة.
التاسعة: البنية الاقتصادية القوية.
العاشرة: العلاقات الدولية الواسعة مع سائر الشعوب.
الحادية عشر: نجاحات جبهة المقاومة في تغيير المعادلات السياسية.
وأشار إلى أن بمقدور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد بناء الحضارة الإسلامية الحديثة إكمالها في ساحة عظيمة من العالم الإسلامي، وجعلها حضارة عالمية تتخطى حدود العالم الإسلامي. وسمَّينا ذلك بنظرية المحور والساحة.
وقال: مما لا ينبغي إغفاله، الدور الاستثنائي الذي لعبته التطورات العلمية والتقنية في إيران بعد الثورة الإسلامية في إيجاد فكرة بناء الحضارة الإسلامية الحديثة. وبناءً على المعلومات الصادرة عن مجامع التقييم المعتبرة، تحتل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الوقت الراهن المرتبة الخامسة عشر عالميًّا والأولى على مستوى العالم الإسلامي في إنتاج المقالات العلمية والبحثية. كما صعدت إلى المرتبة السابعة في العالم في مجال إنتاج المقالات المُعتَبَرة (ايسنا، 2020). ولدى إيران نهضة في تسجيل براءات الاختراع، حيث بلغت المرتبة الثالثة في العالم في مجال إنتاج براءات الاختراع وتسجيلها (فارس 2020). فضلًا عن ذلك تحتل إيران المرتبة الرابعة عالميًّا في تقنية النانو في مجال التقنيات حديثة الظهور (فارس 2021)، وحسب تقرير المركز الإعلامي الإيراني للتقنيات الحيوية، احتلت إيران المرتبة الثالثة عشر في العالم في مجال تقنيات العلوم الحيوية. وبالنسبة إلى التقنية النووية السلمية، تعد الجمهورية الإسلامية الإيرانية واحدة من بين الدول الأفضل في العالم، كذلك في مجال صناعة الأدوية فهي من الدول السبعة الأولى في العالم، وفي مجال إطلاق الأقمار الصناعية فهي من الدول الخمسة الأولى على العالم. (الميزان، 2020). وذلك فضلًا عن تألق الشباب اليافعين الإيرانيين في الأولومبيادات العالمية والمشاركة الفاعلة للعلماء الإيرانيين في المشاريع العلمية العظيمة في أبرز المراكز العلمية في العالم. وتتمتع التطورات العلمية والتقنية في العالم المعاصر بأهمية فائقة كونها الرائدةَ في تحقيق التقدم بمختلف مجالاته، ولم تسهم هذه التطورات في تشكيل فكرة ظهور الحضارة الإسلامية الحديثة بشكل فريد فحسب، بل جعلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قادرة على تخطي حدود العلم في بعض المجالات ودخول أفق الحضارة الإسلامية الحديثة بشكل عملي.
وبناء على ما تقدَّم، يمكن شرح رؤية الحضارة الإسلامية الحديثة فيما يلي:
أولًا: تحقيق مستوى مناسب من العلاقات والتفاعلات الإنسانية القائمة على “الكرامة” و”الأخلاق” و”العدالة” و”الحقوق المدنية”، إلى جانب الحد من التوترات والنزاعات الاجتماعية. ولا يمكن التغاضي عن أن العدالة هي قلب الحقوق المدنية وأدواتها ومؤسساتها، ومن المهم جدًّا الإشارة إلى ذلك بشكل مستقل.
ثانيًا: تحقيق مستوى جيد من الأرضيات المادية والمعنوية المساهمة في التقدم والكمال والارتقاء الروحي بأفراد المجتمع وإزالة الكثير من العوائق التي تحول دون ذلك. كما يمكن القول بأن أثمن الرؤى المستقبلية للحضارة الإسلامية الحديثة تُعنَى بتوفير هذه الأرضيات. فكل ما في الحضارة الإسلامية يسعى في النهاية إلى توفير هذه الفرصة، وبالتالي، لا تتساوى هذه الرؤية بالقيمة والمستوى مع سائر الرؤى.
ثالثًا: توفر طريق تحقيق الازدهار في المجتمع والاستفادة الصحيحة من المصادر والقدرات التي وهبها الله تعالى للبشر دون إهدارها أو تدمير المحيط البيئي.
رابعًا: توفیر مستوى معقول من الرفاهية لأفراد المجتمع، وتقديم تسهيلات لهم والحد من الفقر والحرمان بشكل جاد. ومن الواضح بالتأكيد أن الرفاهية في المجتمع الإسلامي لا تجتمع مع الانغماس في الترف وعبادة الدنيا والغفلة عن الآخرة.
خامسًا: ظهور قسم مناسب من الطاقات الروحية البشرية في طريق النمو والكمال المعنوي ضمن إطار الثقافة والفن والأدب والفكر دون تعارض مع الجوانب المادية للتقدم وبناء الحضارة. ومن الجدير بالذكر أنه حين تُوضَعُ الثقافة والفن والأدب والفكر في المسار الصحيح، فسوف تصبح الحياة المادية خالية من التوجه المادي للبشر وشبههم بالآلات، وما إلى ذلك، ولن يتوقف الأمر عند ذلك بل سيساهم في وضع الإنسان على طريق التطور والارتقاء الروحي أيضًا.
سادسًا: توفير مستوى مناسب من السلام والتعايش السلمي والإنسانية في دائرة العلاقات الدولية للحضارة الإسلامية الحديثة والحد بشكل جاد من فرض السلطة وهيمنة المجتمعات الملحدة والمادية على المجتمع الإسلامي صاحب الحضارة.
النتيجة
بناء على ما تقدم ذكرُه في المواضيع أعلاه، يمكن الإشارة إلى ثمانية بنود أساسية كنتيجة وهي:
أولًا: يجب اعتبار الدور الأهم للثورة الإسلامية يتمثل في استعادة الإيمان بالذات والذي غاب بشكل كامل عن المجتمع الإيراني منذ عهد الصفويين.
ثانيًا: إن للتطورات العلمية والتقنية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال العقود الأخيرة دور استثنائي في تحويل هدف بناء الحضارة الإسلامية المشكوكِ بتحقيقِه إلى فكرة يمكن تحقيقها في العصر الراهن.
ثالثًا: إن وضع الغرب الحالي (كونه المنافس الأساسي للحضارة الإسلامية) وجوده على مسار الانحدار والتراجع أتاح فرصةً قيمةً لبناء الحضارة الإسلامية الحديثة.
رابعًا: رغم أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هيأت القدرات اللازمة التي تخولها من لعب دور محوري في ولادة الحضارة الإسلامية الحديثة إلا أن هذه الحضارة لن تتكامل بمعزل عن ارتباطها بالمسلمين والتكافل والتلاحم معهم.
خامسًا: أظهر تأسيس جبهة المقاومة ونجاحها الباهر في تغيير معادلات نظام الهيمنة في جنوب غرب آسيا إمكانية التعاون الإبداعي للعالم الإسلامي في إيجاد الحضارة الإسلامية الحديثة والتحول العالمي.
سادسًا: نظرًا للتعريف الذي قُدِّمَ عن الحضارة الإسلامية الحديثة وخصائصها، يمكن التصور بأن لبناء الحضارة الإسلامية الحديثة ثماني مراحل أساسية. كما أن بناءها يتطلب توفر أرضيات وأدوات محددة يجب تأمينها بالتدريج.
سابعًا: إن للحضارة الإسلامية الحديثة وهي حضارة تتناسب مع عصر غيبة المعصوم (ع) حدودٌ واضحة مع الحضارات العلمانية، ومن الممكن تقديم تصور عن رؤيتها المستقبلية وإيضاحه.
ثامنًا: يتطلب تشكيل الحضارة الإسلامية الحديثة بشدة تقوية العقلانية الإسلامية وبخاصة على الساحة العملية.
[1]. وهي قوات التعبئة الشعبية التابعة للحرس الثوري في إيران، والذي يتبع بدوره لسلطة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. المترجم
[2]. انظر: الإمام الخميني، صحيفة النور، الجزء3، الصفحة 369 و 408-411.
[3]. انظر: المصدر نفسه، الجزء1، الصفحة 301.
[4]. انظر: المصدر نفسه، الصفحة 374.
[5]. انظر: المصدر نفسه، الجزء6، الصفحة 343.
[6]. ومن الجدير بالذكر، أنّ الموقف الشامل والحضاري للإمام من فئة الاستعمار، والمواجهة الشاملة والحضارية مع الغرب في شخصية الإمام وموقفه، يمكن أن نجد أمثلة لها في المواضع والجمل التالية: “الغرب لديه كل شيء استعماري. لديها طبّ استعماري. ثقافة استعمارية. كلّ شيء استعماري. إنّها تصدّر إلى ما تسميه بالدول المتخلفة، ما هو مناسب لها، بالشكل الذي تبقى فيه تلك الدول تابعة لها. إنّهم يريدون منّا أن نكون تابعين، والأشياء التي يعطونها لنا هي الأشياء التي تجعلنا نعتمد عليهم. هم لا يريدون لنا الاستقلال. لا يريدون لنا أن نستقّل ثقافيًّا. لا يريدون أن نستقلّ فكريًّا.”الإمام الخميني، صحيفة الإمام، الجزء12، الصفحة 4-6”.
[7]. انظر: محمد تقي السبحاني، “در آمدی بر جریان شناسی اندیشه دینی در ایران معاصر”، نقد ونظر، العدد 45-46، 1386، الصفحة 266.
[8]. أي “أمر النار بيدك”. المترجم
[9]. وهو اختصار لحصيلة المفاوضات بين إيران ومجموعة الدول الخمس زائد واحد (أمريكا، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين، بالإضافة إلى ألمانيا) التي تولت المباحثات مع إيران بشأن برنامجها النووي. المترجم.
[10]. وقد أكّد سماحته في لقاء مع وزير الخارجية الإيراني وممثلين سياسيين إيرانيين في الخارج عام 1378 (1999)، على أهمية موضوع الحوار مع الحضارات.
المقالات المرتبطة
تقرير الجلسة الثانية من أعمال المؤتمر الخامس للتجديد والاجتهاد الفكري
الجلسة الصباحية الثانية فحملت عنوان: نطاق أطروحة الثورة وتجلياتها، ترأستها الإعلامية بثينة عليق. وعن “العلاقة بين أطروحة الثورية وقيام
تقرير الجلسة الأولى من أعمال المؤتمر الخامس للتجديد والاجتهاد الفكري
تابع مؤتمر التجديد والاجتهاد الفكري الخامس أعمال جلساته في مركز الإمام الخميني- طريق المطار والمنعقد تحت رعاية الأمين العام
دور الإعلام المقاوم
اتهم الإعلام المقاوم بأنّه إعلام مذهبيّ، دينيّ، هل هذا صحيح؟ هل يمكن إخفاء هذا الانتماء العقائدي؟