التاريخ الوطني والعروبي للكنيسة القبطية المصرية تاريخ حافل ووطنية صادقة

التاريخ الوطني والعروبي للكنيسة القبطية المصرية تاريخ حافل ووطنية صادقة

تمهيد المقال

بعد الثورة/ الانتفاضة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011، عاشت مصر حالة من فوضى غير مسبوقة في تاريخها، بعد تصاعد نفوذ تيارات الإسلام السياسي، حيث أُحرقت الكنائس.

وعادت آلام الإرهاب في التسعينيات، لأن الإرهاب تصاعد ضد المسيحيين، خاصة في محافظات أسيوط وقنا وسوهاج في الصعيد جنوب مصر، وخلال فترة ما بعد الثورة عام 2011، أحرقت 83 كنيسة وقتل العشرات في كل مكان.

وعندما غضب الإخوة الأقباط، قام البابا “تواضروس” بتهدئة الغاضبين قائلًا لهم: (وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن)، وضرب لهم أمثلة أن الإرهاب التكفيري لم يقتل المسيحيين وحدهم، لكنهم قتلوا الشيخ “حسن شحاته” ورفاقه، لأنهم من شيعة أهل البيت، كما قتلوا 305 مصليًّا صوفيًّا في مدينة “بئر العبد” في شمال سيناء، فهدأت نفوس الشباب القبطي الثائر.

وتلك هي الرؤية التي نادى بها البابا الراحل شنودة الثالث قال: (مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا، يعيش في داخلنا، مصر هذه نحبها الحب كله ونحرص على سمعتها كل الحرص في الداخل وفى الخارج أيضًا، ونبذل كل جهدنا لكي تكون صورة مشرقة في كل مكان، جميلة عند كل شعوب العالم، تليق بعبارة الكتاب المقدس التي قال فيها الله مبارك شعبي مصر.. مصر هي أغنيتنا الحلوة، ومصر هذه هي وطننا الذي قال الكتاب عن بعض البلاد كجنة الله كأرض مصر.. إننا نصلى باستمرار في صلواتنا الخاصة، وأيضًا في صلواتنا الكنسية لأن الكنيسة تعلمنا باستمرار أن نذكر رئيس الدولة في كل قداس ونذكر أيضًا صحبه والعاملين معه، محبة الرئيس بالنسبة لنا عقيدة وأيضًا علاقة شخصية).

تلك هي الرؤية القبطية المصرية، رؤية وطنية وعروبية، ورفض البابا أن يزور الأقباط القدس الشريف إلا مع الإخوة المسلمين، وقال أيضًا إن الصهيونية عدو المسيحية، وما زال هذا القرار ساريًا حتى الآن.

لم يكن غرض الإرهاب التكفيري الوهابي هو الإخوة المسيحيين فقط، لكنهم يريدون إشعال الفتنة الطائفية بين عنصري الأمة المصرية، ومن ثم إشاعة الفوضى في ربوع الدولة المصرية، هذا هو المقصود، وهو أمر يتفق مع الرؤية الصهيونية والاستكبار العالمي، فلم يشهد تاريخ مصر فتنة طائفية طوال تاريخها، ولكنهم يحاولون دون ملل.

وخلال التسعينيات من القرن الماضي خطب البابا شنودة في شباب غاضب، وقال لهم إن الإرهاب يقتل المسلمين أكثر من الأقباط، يكفي أنهم قتلوا رئيس الدولة السادات، وقتلوا المفكر فرج فودة، واعتدوا على الأديب نجيب محفوظ، وهو نفس ما ذكرناه عن البابا تواضروس، وهو ما يؤكد وطنية المسيحيين المصريين بصورة عامة.

هذا يقودنا للحديث عن الكنيسة القبطية في التاريخ والواقع.

تاريخ الكنيسة الحافل… وعصر الشهداء

تعتبر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية أقدم الكنائس في العالم، فقد دخلت المسيحية مصر في منتصف القرن الأول الميلادي، مع دخول القديس مرقس الإسكندرية، وفي عام 65 م تأسست أول كنيسة قبطية في مصر، أي منذ أن كرّز بها القديس مرقس، صاحب ثاني الأناجيل الأربعة، وتعتبره الكنيسة البابا الأول في تاريخها، والبابا الحالي “تواضروس الثاني” هو البابا رقم 118.

عرفت مصر مبكرًا الرهبنة وبناء الأديرة، مثل: دير سانت كاترين في سيناء – الكنيسة المعلقة –  دير وادي النطرون- دير المحرق في الصعيد، وقام الرهبان الأوائل بتحديد مسار إحياء مسيرة العائلة المقدسة، عندما هربت العذراء بالمسيح (ع) ومعهما يوسف النجار من بطش الوالي وهيرودوس ملك اليهودية، وهذا المسار هو الذي تعتمده الدولة لمسيرة العائلة المقدسة.

ومن المدهش أن العائلة المقدسة هربت إلى مصر، رغم أن مصر كانت ولاية رومانية مثلها مثل فلسطين، أي أنها تحت عيون الرومان، ولكن المشهور هو أن المصريين ساعدوا العذراء والمسيح وأخفوهم وتنقلوا بهم من بلد إلى بلد، إلى أن عادوا إلى فلسطين من جديد، بعد أن قضوا حوالي ثلاث سنوات.

ولقد تحمل المصريون ظلم الدولة الرومانية الوثنية، فلاقى المسيحيون في أواخر القرن الثالث الميلادي الاضطهاد على يد الإمبراطور الروماني دقلديانوس. (284 – 305)، استشهد خلالها أكثر من مليون شخص، قتل هؤلاء دفاعًا عن دينهم، لم يستثنوا النساء والأطفال، منهم القديسة دميانة ومعها 50 فتاة عذراء، ما زالت رفتاهم موجودة في البراري الشمالية في مدينة (بلقاس) شمال القاهرة.

وبسبب هذه المجزرة أطلق المصريون عليه عصر الشهداء.

واتخذ القبط من السنة التي اعتلى فيها دقلديانوس العرش (عام 284 م) بداية للتقويم القبطي، ونحن الآن عام 1738 قبطي، وما زال الفلاحون المصريون يعتمدون على الشهور القبطية في مواسم الزراعة، هي بالترتيب: (1 توت- 2 بابه- 3 هاتور- 4 كهيك- 5 طوبة- 6 أمشير- 7 برمهات- 8 برمودة- 9 بشنس- 10 بؤونة- 11 أبيب- 12 مسرى) – أيام النسئ 5 أو 6 أيام لتتفق الشهور مع السنة الشمسية، وهو التقويم المصري القديم، وتم اعتماده من الآباء والباباوات والكهنة بشرط أن يبدأ منذ عصر الشهداء حتى اليوم، وككل اسم للشهور القبطية مستمد من اسم مصري قديم.

وتبدأ السنة القبطية عادة يوم 11 أو 12 سبتمبر/أيلول من كل عام ويطلقون عليه (عيد النيروز) في بداية الخريف أو الاعتدال الثاني من العام.

وكان من نتائج عصر الشهداء انتشار نزعة الزهد بين المسيحيين والتي نتج عنها قيام الرهبنة وإنشاء الأديرة العديدة في جميع أنحاء مصر، خاصة دير وادي النطرون، جنوب غرب الإسكندرية، والذي يُعتبر المكان الأمثل الذي يعيش فيه الرهبان، ومنهم يأتي الباباوات.

ثورة البشموريين

البشموريون هم المصريون الذين كانوا يعيشون في الدلتا شمال مصر بين فرعي نهر النيل (فرع دمياط، وفرع رشيد)، ومنهما انطلقت أكبر ثورة في التاريخ القبطي في العصر الإسلامي.

بعد أن فتح المسلمون مصر، كان معظم الولاة يستبدون بالمصريين عمومًا، المسلم والمسيحي على السواء وهو استبداد أموي عباسي مشهور، وحاول القبط الوصول للخليفة في دمشق أو بغداد، ولم ينصفهم أحد، فحدثت أكبر ثورة في تاريخ مصر الإسلامي.

في عام 831م، نشبت الثورة البشمورية الكبرى (البشمور باللغة المصرية القديمة = الفلاح) في أشد موجتها.

كانت الولايات التابعة للدولة العباسية عمومًا في حالة ثورة، فثار الأقباط والمسلمون بجانب البشموريين، وأعلنوا التمرد والعصيان العام في أنحاء البلاد، ورفضوا دفع الضرائب والجزية للعباسيين، ولأن الخليفة المأمون يعرف قوة بأس البشموريين، أرسل أخوه المعتصم في البداية لإخماد الثورة ومعه أربعة آلاف جندي، وحين هزم البشموريين جيش المأمون، أرسل جيشًا آخر بقيادة “الأفشين” قائد الجيش العباسي، وفشل أيضًا وانهزم أمام البشموريين الذين كانوا يزدادون قوة وعزيمة على إكمال ثورتهم حتى النفس الأخير، لأنهم لم يثقوا في العباسيين وأنهم لا يوفون بأمانة وعودهم، وأنهم كسروا كل عهود لهم، ما دفع المأمون لأن يزحف بنفسه على رأس قوة عسكرية أكبر ليخمد ثورة المصريين.

وكاد ثوار مصر بمسيحييها ومسلميها أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن المأمون لجأ لطرقه الملتوية وبمنطق “فرّق تسُدْ” المشهورة للقضاء على ثورة المصريين البشموريين، فاستدعى “الأنبا ديونيسيوس البطريرك” (الأنبا = المقدس) ومعه الأنبا “يوساب الأول” بطريرك الأقباط، وقام بالضغط عليهم وتهديدهم أن يساعدونه لإخماد ثورة البشمور، ويصدروا مرسومًا رسميًّا للشعب أن يستسلموا ويخضعوا للولاة وللدولة، فبدأ تأييد الشعب المسيحيين والمسلمين لمساندة البشموريين تضعف، رغم عناد البشموريين وتصديهم وحدهم لجيش المأمون، ولكن استطاع المأمون أن يهزم البشموريين في النهاية، وكانت آخر الثورات المصرية، حتى هلّ العصر الحديث، خاصة بعد أن صارت الأغلبية للمسلمين، ومنذ العصر الفاطمي، نسي الأقباط لغتهم وصاروا عربًا باللسان، مصريون بالهوية.

المواقف الوطنية للأقباط في العصر الحديث

كما ذكرنا في البداية، إن الكنيسة المصرية الأرثوذكسية (كلمة أرثوذكسية = المستقيم أو الصحيح)، أولى كنائس العالم، فقد دخلت المسيحية مصر منذ دخول القديس أو الحواري مرقس، وتشرف الكنيسة المصرية على المسيحيين في مصر وإثيوبيا، ونظريًّا بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية هو بابا الأرثوذكس في العالم.

خلال حكم محمد علي أرسل قيصر روسيا عام 1805 مندوبًا إلى مصر وقابل البابا “بطرس السابع” (1809- 1852 )؛ وهو البطريرك الـ 109 من بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، وعرض على البطريرك أن يتولى قيصر روسيا حماية الأقباط، لأن الروس والبلقان يتبعون الأرثوذكسية، ولكنها أرثوذكسية تختلف في جوهر العقيدة مع الأرثوذكسية المصرية، وهو خارج عن موضوع مقالنا.

المهم أن البابا كان أكثر حكمة إذ رفض العرض.

سأله البابا “هل مليككم يحيا إلى الأبد؟”.

فأجابه المندوب “لا يا سيدي الأب… بل يموت كما يموت سائر البشر”.

فقال البابا: “إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت، وأما نحن فنعيش تحت رعاية مليك لا يموت وهو الله”.

دُهش مندوب القيصر الروسي، فقابل محمد علي، الذي سأله “ما أكثر شيء أعجبك فى مصر، فذكر أن أكثر شيء أعجبه هو أنه التقى بطريرك الأقباط، وحكى المندوب لمحمد علي عن موقف البابا بطرس من الحماية الأجنبية”.

فرح محمد علي من موقفه، وقام بزيارة البابا بطرس في ذلك اليوم، وقال له: “لقد رفعت اليوم من شأن بلادك فليكن لك مقام محمد علي”.

وتكررت تلك المواقف الوطنية للمسيحيين، فلقد حاول “اللورد كرومر” المندوب السامي البريطاني بعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 تطبيق السياسة البريطانية الشهيرة “فرق تسد”، وطلب حماية بريطانيا للمسيحيين، ولكن لا أحد استجاب له، فلم يتمكن “كرومر” من تطبيقها في مصر، ووصل به اليأس إلى درجة أن قال: “أنا لا أستطيع التفرقة بين المصري المسلم من المصري المسيحي، إلا عندما يدخل شخص المسجد ويدخل الثاني الكنيسة”.

الكنيسة في الثورة الشعبية الكبرى 1919

شارك المسيحيون مع المسلمين في ثورة 1919. ولم تكن مشاركة رمزية، بل مشاركة حقيقية واسعة، أسهم فيها الأقباط مع المسلمين، وكانت المرة الأولى التي يسهم فيها الأقباط منذ ثورة البشموريين، لأنها كانت ثورة ضد الاحتلال البريطاني لمصر.

ومن دلائل الوحدة الوطنية أن قام الشيخ “مصطفى القاياتي” بالخطابة في الكاتدرائية القبطية، وخطب “القمص سرجيوس” من فوق منبر الجامع الأزهر، وهو موقف لم يحدث من قبل أو من بعد،  وخلاصة القول: أن اشتهر شعار (عاش الهلال مع الصليب)، وكان مكرم عبيد يقول “أنا مسيحي الديانة إسلامي الحضارة” و”الإسلام وطني والمسيحية ديني”، ومكرم عبيد من رموز الثورة الشعبية الكبرى عام 1919 مع زعيم الثورة “سعد زغلول”.

ومن المواقف الوطنية للأقباط كثيرة، أحدهم هو “سينوت حنا” ( ١٨٧٤/١٩٣٠) إحدى الشخصيات العظيمة الفريدة في الحركة الوطنية المصرية.

كان يركب سيارة بجوار الزعيم مصطفى النحاس في إحدى جولاته في مدينة المنصورة وتحيط بهم الجماهير في شارع العباسي بالمنصورة يوم 8 يوليو/تموز 1930، وكان يشعر أن محاولة تدبر لاغتيال النحاس باشا، وعندما لمح أحد المواطنين يندفع لطعن النحاس بالسلاح في ظهره دافع عنه، وتلقى هو الطعنة التي وجهت إلى النحاس، ولقد كان تأثير الطعنة قويًّا أدّت إلى وفاته.

الكنيسة بعد ثورة يوليو/ تموز عام 1952

دام الوفاق بين المسلمين والمسيحيين خلال عهد الرئيس “جمال عبد الناصر”، وساهمت الدولة المصرية بنصف تكاليف الكاتدرائية الكبرى للأقباط عام 1968، وذلك بمقرها في حي “العباسية” في القاهرة، وهي المقر البابوي حتى اليوم.

ولكن مع منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فتح الرئيس الراحل “أنور السادات” باب مصر للوهابيين التكفيريين، فحدث ما ذكرناه في مقدمة المقال من حرق كنائس وتهجير مسيحيين من بلادهم وقراهم، والمطلوب كان فتنة طائفية تخدم المشروع الصهيوني.

وفشل المشروع التكفيري الوهابي، حيث لا تقتصر وطنية الكنيسة القبطية في مصر على الباباوات والكهنة وباقي رجال الدين، ولكنه انتشر بصورة تلقائية مع المواطنين، الذين أصهروا مع المسلمين ومع العروبة بشكل عام.

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الكنيسة القبطية المصريةالقبطيةالكنيسة

المقالات المرتبطة

جدليّة النصّ والواقع في تأويليّة الشهيد الصدر

هناك بين الآيات والسور، اتخذ الشهيد الصدر موطن تأمّلاته وتدبّراته ليصوغ أفكاره ومنهجه التأويليّ الخاص.

الـقَــبّــالاه (مذهب التأويلات الباطنية)

يعتبر التلمود هو المصدر الرئيسي الذي تستقي منه حياة اليهود في شرق أوروبا شرائعها ونظم حياتها التعليمية والدينية والاجتماعية،

الروحانيّة وعلاقتها بالأخلاق (9)*

الأخلاق هي مجموعةٌ من الصفات الراسخة في النفس، والتي توجب صدور أفعالٍ تناسبها بدون الحاجة إلى التأمّل والتفكّر، كما تُكسب السلوك والحياة صبغةً خاصّةً ونمطًا خاصًّا.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<